في وداع الله يا اماي جاري فوري

تحميل المصخف بصيغه

  القرآن الكريم وورد word doc icon تحميل سورة العاديات مكتوبة pdfتحميل المصحف الشريف بصيغة pdf تحميل القرآن الكريم مكتوب بصيغة وورد

الاثنين، 24 أكتوبر 2022

ج13.وج14.محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي

 

 

 ج13. كتاب : النكت والعيون أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي

وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)

قوله تعالى : { وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى } فيه خمسة أقاويل :
أحدها : نجوم القرآن إذا نزلت لأنه كان ينزل نجوماً ، قاله مجاهد .
الثاني : أنها الثريا ، رواه ابن أبي نجيح ، لأنهم كانوا يخافون الأمراض عند طلوعها .
الثالث : أنها الزهرة ، قاله السدي ، لأن قوماً من العرب كانوا يعبدونها .
الرابع : أنها جماعة النجوم ، قاله الحسن ، وليس بممتنع أن يعبر عنها بلفظ الواحد كما قال عمر بن أبي ربيعة :
أحسن النجم في السماء الثريا ... والثريا في الأرض زين النساء
الخامس : أنها النجوم المنقضة ، وسببه أن الله تعالى لما أراد بعث محمد صلى الله عليه وسلم رسولاً ، كثر انقضاض الكواكب قبل مولده ، فذعر أكثر العرب منها ، وفزعوا إلى كاهن لهم ضرير كان يخبرهم بالحوادث ، فسألوه عنها ، فقال انظروا البروج الاثني عشر ، فإن انقض منها شيء ، فهو ذهاب الدنيا ، وإن لم ينقض منها شيء ، فسيحدث في الدنيا أمر عظيم ، فاستشعروا ذلك ، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان هو الأمر العظيم الذي استشعروه ، فأنزل الله تعالى : { وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى } أي ذلك النجم الذي هوى ، هو لهذه النبوة التي حدثت .
وفي قوله تعالى { إِذَا هَوى } ستة أقاويل :
أحدها : النجوم إذا رقي إليها الشياطين ، قاله الضحاك .
الثاني : إذا سقط .
الثالث : إذا غاب .
الرابع : إذا ارتفع .
الخامس : إذا نزل .
السادس : إذا جرى ، ومهواها جريها ، لأنها لا تفتر في جريها في طلوعها وغروبها ، وهذا قول أكثر المفسرين .
وهذا قسم ، وعلى القول الخامس في انقضاض النجوم خبر .
{ مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى } يعني : محمداً صلى الله عليه وسلم ، وفيه وجهان :
أحدهما : ما ضل عن قصد الحق ولا غوى في اتباع الباطل .
الثاني : ما ضل بارتكاب الضلال ، وما غوى بأن خاب سعيه ، وألفى الخيبة كما قال الشاعر :
فمن يلق خيراً يحمد الناس أمره ... ومن يغو لا يعدم على الغي لائماً
أي : من خاب في طلبه لامه الناس ، وهذا جواب القسم على قول الأكثرين ، قال مقاتل : وهي أول سورة أعلنها رسول الله بمكة .
{ وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى } فيه وجهان :
أحدهما : وما ينطق عن هواه ، وهو ينطق عن أمر الله ، قاله قتادة .
الثاني : ما ينطق بالهوى والشهوة ، إن هو إلا وحي يوحى بأمر ونهي من الله تعالى له .
{ إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى } أي يوحيه الله إلى جبريل ويوحيه جبريل إليه .
عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18)

{ عَلَّمَهُ شَدِيدٌ الْقُوَى } يعني : جبريل في قول الجميع .
{ ذو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى } فيه خمسة أوجه :
أحدها : ذو منظر حسن ، قاله ابن عباس .
الثاني : ذو غناء ، قاله الحسن .
الثالث : ذو قوة ، قاله مجاهد وقتادة ، ومن قول خفاف بن ندبة :
إني امرؤ ذو مرة فاستبقني ... فيما ينوب من الخطوب صليب
الرابع : ذو صحة في الجسم وسلامة من الآفات ، ومن قول امرىء القيس :
كنت فيهم أبداً ذا حيلة ... محكم المرة مأمون العقد
الخامس : ذو عقل ، قاله ابن الأنباري ، قال الشاعر :
قد كنت عند لقاكم ذا مرة ... عندي لكل مخاصم ميزانه
وفي قوله { فَاسْتَوَى } خمسة أوجه :
أحدها : فاستوى جبريل في مكانه ، قاله سعيد بن جبير .
الثاني : قام جبريل على صورته التي خلق عليها لأنه كان يظهر له قبل ذلك في صورة لا رجل . حكى ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير جبريل على صورته إلا مرتين : أما واحدة ، فإنه سأله أن يراه في صورته فسد الأفق . وأما الثانية ، فإنه كان معه حين صعد ، وذلك قوله { وَهُوَ بِاْلأُفُقِ الأَعْلَى } .
الثالث : فاستوى القرآن في صدره ، وفيه على هذا وجهان :
أحدهما : فاعتدل في قوته .
الثاني : في رسالته .
الرابع : يعني : فارتفع ، وفيه على هذا وجهان :
أحدهما : أنه جبريل ارتفع إلى مكانه .
الثاني : أنه النبي صلى الله عليه وسلم ، ارتفع بالمعراج .
{ وَهُوَ بِلأُفُقِ الأَعْلَى } فيه قولان :
أحدهما : أنه جبريل حين رأى النبي صلى الله عليه وسلم بالأفق الأعلى ، قاله السدي .
الثاني : أنه النبي صلى الله عليه وسلم رأى جبريل بالأفق الأعلى ، قاله عكرمة . وفي الأفق الأعلى ثلاثة أقاويل :
أحدها : هو مطلع الشمس ، قاله مجاهد .
الثاني : هو الأفق الذي يأتي منه النهار ، قاله قتادة ، يعني طلوع الفجر .
الثالث : هو أفق السماء وهو جانب من جوانبها ، قاله ابن زيد ، ومنه قول الشاعر :
أخذنا بآفاق السماء عليكم ... لنا قمراها والنجوم والطوالع
{ ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى } فيه قولان :
أحدهما : أنه جبريل ، قاله قتادة .
الثاني : أنه الرب ، قاله ابن عباس .
وقوله { فَتَدَلَّى } فيه وجهان :
أحدهما : تعلق فيما بين والسفل لأنه رآه منتصباً مرتفعاً ثم رآه متدلياً ، قاله ابن بحر .
الثاني : معناه قرب ، ومنه قوله تعالى : { وَتُدلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ } أي تقربوها إليهم ، وقال الشاعر :
أتيتك لا أدلي بقربى قريبة ... إليك ولكني بجودك واثق
وقيل فيه تقديم وتأخير ، وتقديره : ثم تدلى فدنا ، قاله ابن الأنباري .
{ فَكَانَ قَابَ قَوْسَينِ أَوْ أَدْنَى } فيه أربعة أقاويل :
أحدها : قيد قوسين ، قاله قتادة والحسن .
الثاني : أنه بحيث الوتر من القوس ، قاله مجاهد .
الثالث : من مقبضها إلى طرفها ، قاله عبد الحارث .
الرابع : قدر ذراعين ، قاله السدي ، فيكون القاب عبارة عن القدر ، والقوس عبارة عن الذراع .

ثم اختلفوا في المعنى بهذا الداني على ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه جبريل من ربه ، قاله مجاهد وهو قول ابن عباس .
الثاني : أنه محمد صلى الله عليه وسلم من ربه ، قاله محمد بن كعب .
الثالث : أنه جبريل من محمد صلى الله عليه وسلم .
{ فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَآ أَوْحَى } في عبده الموحى إليه قولان :
أحدهما : أنه جبريل عليه السلام أوحى إليه ما يوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قالته عائشة ، والحسن ، وقتادة .
الثاني : أنه محمد صلى الله عليه وسلم أوحي إليه على لسان جبريل ، قاله ابن عباس والسدي .
{ مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى } في الفؤاد قولان :
أحدهما : أنه أراد صاحب الفؤاد فعبر عنه بالفؤاد لأنه قطب الجسد وقوام الحياة .
الثاني : أنه أرد نفس الفؤاد لأنه محل الاعتقاد وفيه قولان :
أحدهما : معناه ما أوهمه فؤداه ما هو بخلافه كتوهم السراب ماء ، فيصير فؤاده بتوهم المحال كالكاذب له ، وهو تأويل من قرأ { مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ } بالتخفيف .
الثاني : معناه ما أنكر قلبه ما رأته عينه ، وهو تأويل من قرأ { كَذَّبَ } بالتشديد .
وفي الذي رأى خمسة أقاويل :
أحدها : رأى ربه بعينه ، قاله ابن عباس .
الثاني : في المنام ، قاله السدي .
الثالث : أنه بقلبه روى محمد بن كعب قال : قلنا يا رسول الله [ هل رأيت ربك ] ؟ قال : « رَأَيْتُهُ بِفُؤَادِي مَرَّتَيْنِ » ثم قرأ : { مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى } .
الرابع : أنه رأى جلاله ، قاله الحسن ، وروى أبو العالية قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « رَأَيتُ نَهْرَاً وَرَأَيتُ وَرَاءَ النَّهْرِ حَجَاباً ورَأَيتُ وَرَاءَ الحِجَابِ نُوراً لَمْ أَرَ غَيَرَ ذَلِكَ » .
الخامس : أنه رأى جبريل على صورته مرتين ، قاله ابن مسعود .
{ أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أفتجادلونه على ما يرى ، قاله إبراهيم .
الثاني : أفتجادلونه على ما يرى ، وهو مأثور .
الثالث : أفتشككونه على ما يرى ، قاله مقاتل .
{ وَلَقَدْ رَءَاهُ نَزْلَةً أُخْرَى } يعني أنه رأى ما رآه ثانية بعد أُولى ، قال كعب : إن الله تعالى قسم كلامه ورؤيته بين محمد وموسى عليهما السلام ، فرآه محمد مرتين ، وكلمه موسى مرتين .
{ عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَى } روي فيها خبران .
أحدهما : ما روى طلحة بن مصرف عن مرة عن ابن مسعود قال : لما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم انتهى إلى سدرة المنتهى وهي في السماء السادسة ، وإليها ينتهي ما يعرج من الأرواح فيقبض منها ، وإليها ينتهي ما يهبط به من فوقها فيقبض منها الخبر .
الثاني : ما رواه معمر عن قتادة عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « رُفِعَتْ لِيَ سِدْرَةُ الْمُنتَهَى فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ ، ثَمَرُهَا مِثْلُ قِلاَلِ هَجْرٍ ، وَوَرَقُهَا مِثْلُ آذَانِ الفِيَلَةِ ، يَخْرُجُ مِن سَاقِهَا نَهْرَانِ ظَاهِرَانِ وَنَهْرَانِ بِاطِنَانِ ، قُلْتُ : يَا جِبْرِيلُ مَا هَذَا؟ قَالَ : أَمَّا النَّهْرَانِ البَاطِنَانِ فَفِي الجَنَّةِ ، وَأَمَّا النَّهْرانِ الظَّاهِرَانِ فَالنِّيلُ وَالفُرَاتُ » .

وفي سبب تسميتها سدرة المنتهى خمسة أوجه :
أحدها : لانه ينتهي علم الأنبياء إليها ، ويعزب علمهم عما وراءها ، قاله ابن عباس .
الثاني : لأن الأعمال تنتهي إليها وتقبض منها ، قاله الضحاك .
الثالث : لانتهاء الملائكة والنبيين إليها ووقوفهم عندها ، قاله كعب .
الرابع : لأنه ينتهي إليها كل من كان على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنهاجه ، قاله الربيع بن أنس .
الخامس : لأنه ينتهي إليها كل ما يهبط من فوقها ويصعد من تحتها ، قاله ابن مسعود .
{ عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى } فيه قولان :
أحدهما : جنة المبيت والإقامة ، قاله علي ، وأبو هريرة .
الثاني : أنها منزل الشهداء ، قاله ابن عباس ، وهي عن يمين العرش وفي ذكر جنة المأوى وجهان على ما قدمناه في سدرة المنتهى :
أحدهما : أن المقصود بذكرها تعريف موضعها بأنه عند سدرة المنتهى ، قاله الجمهور .
{ إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن الذي يغشاها فراش من ذهب ، قاله ابن مسعود ورواه مرفوعاً .
الثاني : أنهم الملائكة ، قاله ابن عباس .
الثالث : أنه نور رب العزة ، قاله الضحاك .
فإن قيل لم اختيرت السدرة لهذا الأمر دون غيرها من الشجر؟ قيل : لأن السدرة تختص بثلاثة أوصاف : ظل مديد ، وطعم لذيذ ، ورائحة ذكية ، فشابهت الإيمان الذي يجمع قولاً وعملاً ونية ، فظلها بمنزلة العمل لتجاوزه ، وطعمها بمنزلة النية لكمونه ، ورائحتها بمنزلة القول لظهوره .
{ مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى } في زيغ البصر ثلاثة أوجه؛ أحدها : انحرافه .
الثاني : ذهابه ، قاله ابن عباس .
الثالث : نقصانه ، قاله ابن بحر .
وفي طغيانه ثلاثة أوجه :
أحدها : ارتفاعه عن الحق .
الثاني : تجاوزه للحق ، قاله ابن عباس .
الثالث : زيادته ، ويكون معنى الكلام أنه رأى ذلك على حقه وصدقه من غير نقصان عجز عن إدراكه ، ولا زيادة توهمها في تخليه ، قاله ابن بحر .
{ لَقَدْ رَأَى مِنْ ءَايَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : ما غشي السدرة من فراش الذهب ، قاله ابن مسعود .
الثاني : أنه قد رأى جبريل وقد سد الأفق بأجنحته ، قاله ابن مسعود أيضاً .
الثالث : ما رأه حين نامت عيناه ونظر بفؤاده ، قاله الضحاك .
أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23) أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى (25) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26)

{ أَفَرَءيْتُمُ اللاَّت وَالْعُزَّى } أما اللات فقد كان الأعمش يشددها ، وسائر القراء على تخفيفها ، فمن خففها فلهم فيها قولان :
أحدهما : أنه كان صنماً بالطائف زعموا أن صاحبه كان يلت عليه السويق لأصحابه ، قاله السدي .
الثاني : أنه صخرة يلت عليها السويق بين مكة والطائف ، قاله عكرمة . وأما من شددها فلهم فيها قولان :
أحدهما : أنه كان رجلاً يلت السويق على الحجر فلا يشرب منه أحد إلا سمن معبوده ، ثم مات فقلبوه على قبره ، قاله ابن عباس ، ومجاهد .
الثاني : أنه كان رجلاً يقوم على آلهتهم ويلت لهم السويق بالطائف قاله السدي ، وقيل إنه عامر بن ظرب العدواني ثم اتخذوا قبره وثناً معبوداً ، قال الشاعر :
لا تنصروا اللات إن الله مهلكها ... وكيف ينصركم من ليس ينتصر .
وأما { الْعُزَّى } ففيه قولان :
أحدهما : أنه صنم كانوا يعبدونه ، قاله الجمهور .
الثاني : أنها شجرة كان يعلق عليها ألوان العهن تعبدها سليم ، وغطفان ، وجشم ، قال مقاتل : وهي سمرة ، قاله الكلبي : هي التي بعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد حتى قطعها ، وقال أبو صالح : بل كانت نخلة يعلق عليها الستور والعهن .
وقيل في اللات والعزى قول ثالث : أنهما كانا بيتين يعبدهما المشركون في الجاهلية ، فاللات بيت كان بنخلة يعبده كفار قريش ، والعزى بيت كان بالطائف يعبده أهل مكة والطائف .
{ وَمَنَوةَ الثَّالِثَةَ الأَخْرَى } فيه أربعة أقاويل :
أحدها : أنه كان صنماً بقديد بين مكة والمدينة ، قاله أبو صالح .
الثاني : أنه بيت كان بالمسلك يعبده بنو كعب .
الثالث : أنها أصنام من حجارة كانت في الكعبة يعبدونها .
الرابع : أنه وثن كانوا يريقون عنده الدماء يتقربون بذلك إليه ، وبذلك سميت منى لكثرة ما يراق بها من الدماء .
وإنما قال : مناة الثالثة الأخرى ، لأنها كانت مرتبة عند المشركين في التعظيم بعد اللات والعزى ، وروى سعيد بن جبير وأبو العالية الرياحي أنه لما نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم { أَفََرأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى } الآية . ألقى الشيطان على لسانه تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهم ترتجى ، وفي رواية أبي العالية : وشفاعتهم ترتضى ومثلهم لا ينسى ، ففرح المشركون وقالوا : قد ذكر آلهتنا ، فنزل جبريل فقال : أعرض عليّ ما جئتك به فعرض عليه ، فقال : لم آتك أنا بهذا وهذا من الشيطان ، فأنزل الله : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُوْلٍ وَلاَ نَبِّيٍ إلاَّ إذا تََمَنَّى ألْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ } .
{ أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنْثَى } حيث جعلوا الملائكة بنات الله .
{ تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى } فيه أربعة أقاويل :
أحدها : قسمة عوجاء ، قاله مجاهد .
الثاني : قسمة جائرة ، قاله قتادة .
الثالث : قسمة منقوصة ، قاله سفيان وأكثر أهل اللغة ، قال الشاعر :
فإن تنأى عنا ننتقصك وإن تقم ... فقسمك مضئوز وأنفك راغم
ومعنى مضئوز أي منقوص .
الرابع : قسمة مخالفة ، قاله ابن زيد .
{ أَمْ لِلإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى } فيه وجهان :
أحدهما : من البنين أن يكونوا له دون البنات .
الثاني : من النبوة أن تكون فيه دون غيره .
{ فَلِلَّهِ الأخِرَةُ وَالأُولَى } فيه وجهان :
أحدهما : يعني أنه أقدر من خلقه ، فلو جاز أن يكون له ولد - كما نسبه إليه المشركون حين جعلوا له البنات دون البنين وتعالى عن ذلك علواً كبيراً - لكان بالبنين أحق منهم .
الثاني : أنه لا يعطي النبوة من تمناها ، وإنما يعطيها من اختاره لها لأنه مالك السموات والأرض .
إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى (27) وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى (30) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32)

{ الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَآئِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ الَّلمَمَ } أما كبائر الإثم ففيها . خمسة أقاويل؛
أحدها : أنه الشرك بالله ، حكاه الطبري .
الثاني : أنه ما زجر عنه بالحد ، حكاه بعض الفقهاء .
الثالث : ما لا يكفر إلا بالتوبة ، حكاه ابن عيسى .
الرابع : ما حكاه شرحبيل عن ابن مسعود قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكبائر فقال : « أن تدعو لله نداً وهو خلقك وأن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك وأن تزاني حليلة جارك »
الخامس : ما روى سعيد بن جبير أن رجلاً سأل ابن عباس عن الكبائر أسبع هي؟ قال : إلى سبعمائة أقرب منها إلى سبعة ، لا كبيرة مع استغفار ولا صغيرة مع إصرار ، فكأنه يذكر أن كبائر الإثم ما لم يستغفر منه .
وأما الفواحش ففيها قولان :
أحدهما : أنها جميع المعاصي .
الثاني : أنها الزنى . وأما اللمم المستثنى ففيه ثمانية أقاويل :
أحدها : إلا اللمم الذي ألموا به في الجاهلية من الإثم والفواحش فإنه معفو عنه في الإسلام ، قاله ابن زيد بن ثابت .
الثاني : هو أن يلم بها ويفعلها ثم يتوب منها ، قاله الحسن ومجاهد .
الثالث : هو أن يعزم على المواقعة ثم يرجع عنها مقلعاً وقد روى عمرو بن دينار عن عطاء عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
إِنْ تَغْفِرِ اللَّهُمْ تغفر جَمَّاً ... وَأَي عَبْدٍ لَّكَ لاَ أَلَمَّا
الرابع : أن اللمم ما دون الوطء من القبلة والغمزة والنظرة والمضاجعة ، قاله ابن مسعود ، روى طاووس عن ابن عباس قال : ما رأيت أشبه باللمم من قول أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : « كَتَبَ اللَّهُ عَلَى كلِّ نَفْسٍ خَطَّهَا مِن الزّنَى أَدْرَكَ ذَلِكَ لاَ مَحَالَةَ ، فَزِنَى الْعَيْنَينِ النَّظَرُ وَزِنَى الِلَّسَانِ المَنطِقُ وَهِيَ النَّفْسُ تُمَنّي وَتَشْتَهِى ، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوُ يُكَذِّبُه »
الخامس : أن اللمم الصغائر من الذنوب .
السادس : أن اللمم ما لم يجب عليه حد في الدنيا ولم يستحق عليه في الآخرة عذاب ، قاله ابن عباس ، وقتادة .
السابع : أن اللمم النظرة الأولى فإن عاد فليس بلمم ، قاله بعض التابعين ، فجعله ما لم يتكرر من الذنوب ، واستشهد بقول الشاعر :
وما يستوي من لا يرى غير لمة ... ومن هو ناو غيرها لا يريمها
والثامن : أن اللمم النكاح ، وهذا قول أبي هريرة .
وذكر مقاتل بن سليمان أن هذه الآية نزلت في رجل كان يسمى نبهان التمار كان له حانوت يبيع فيه تمراً ، فجاءته امرأة تشتري منه تمراً ، فقال لها : إن بداخل الدكان ما هو خير من هذا ، فلما دخلت راودها عن نفسها ، فأبت وانصرفت ، فندم نبهان وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ما من شيء يصنعه الرجل إلا وقد فعلته إلا الجماع ، فقال :

« لَعَلَّ زَوْجَهَا غَازٍ » فنزلت هذه الآية .
{ وَهُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ } يعني أنشأ آدم .
{ وَإذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ في بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ } قال مكحول : في بطون أمهاتنا فسقط منا من سقط ، وكنا فيمن بقي ، ثم صرنا يفعة فهلك منا من هلك ، وكنا فيمن بقي ، ثم صرنا شباباً فهلك منا من هلك وكنا فيمن بقي ، ثم صرنا شيوخاً لا أبالك فما بعد هذا تنتظر؟
{ فَلاَ تُزَكُّواْ أَنفُسَكُمْ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : يعني لا تمادحوا ، قاله ابن شوذب .
الثاني : لا تعملوا بالمعاصي وتقولوا نعمل بالطاعة ، قاله ابن جريج . الثالث : إذا عملت خيراً فلا تقل عملت كذا وكذا .
ويحتمل رابعاً : لا تبادلوا قبحكم حسناً ومنكركم معروفاً .
ويحتمل خامساً : لا تراؤوا بعملكم المخلوقين لتكونوا عندهم أزكياء .
{ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى } قال الحسن : قد علم الله كل نفس ما هي عاملة وما هي صانعة وإلى ما هي صائرة .
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى (34) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41)

{ أَفَرَءَيْتَ الَّذِي تَولَّى } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه العاص بن وائل السهمي ، قاله السدي .
الثاني : أنه الوليد بن المغيرة المخزومي ، قاله مجاهد ، كان يأتي النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر رضي الله عنه يسمع ما يقولان ثم يتولى عنهما .
الثالث : أنه النضر بن الحارث أعطى خمس قلائص لفقير من المهاجرين حين ارتد عن دينه وضمن له أن يتحمل مأثم رجوعه ، قاله الضحاك .
{ وَأعْطَى قَلِيلاً وَأَكْدَى } فيه أربعة أوجه :
أحدها : أنه أعطى قليلاً من نفسه بالاستمتاع ثم أكدى بالانقطاع ، قاله مجاهد .
الثاني : أطاع قليلاً ثم عصى ، قاله ابن عباس .
الثالث : أعطى قليلاً من ماله ثم منع ، قاله الضحاك .
الرابع : أعطى بلسانه وأكدى بقلبه ، قاله مقاتل .
وفي { أَكْدَى } وجهان :
أحدهما : قطع ، قاله الأخفش .
الثاني : منع ، قاله قطرب .
{ أَعِندَهُ عِلْمُ الْغَيبِ فَهُوَ يَرَى } فيه وجهان :
أحدهما : معناه أعلم الغيب فرأى أن ما سمعه باطل .
الثاني : أنزل عليه القرآن فرأى ما صنعه حقاً ، قاله الكلبي .
ويحتمل ثالثاً : أعلم أن لا بعث ، فهو يرى أن لا جزاء .
{ وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى } فيه سبعة أقاويل :
أحدها : وفّى عمل كل يوم بأربع ركعات في أول النهار ، رواه الهيثم عن أبي أمامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
الثاني : أن يقول كلما أصبح وأمسى { فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِيْنَ تُمْسُونَ وَحِيْنَ تُصْبِحُونَ } الآية . رواه سهل بن معاذ عن أنس عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم .
الثالث : وفيما أمر به من طاعة ربه ، قاله ابن عباس .
الخامس : { أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } لأنه كان بين نوح وإبراهيم يؤخذ الرجل بجريرة ابنه وأبيه فأول من خالفهم إبراهيم ، قاله الهذيل .
السادس : أنه ما أُمر بأمر إلا أداه ولا نذر إلا وفاه ، وهذا معنى قول الحسن .
السابع : وفَّى ما امتحن به من ذبح ابنه وإلقائة في النار وتكذيبه .
وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى (47) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى (48) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى (49) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى (50) وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (53) فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى (55)

{ وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمنتَهَى } يحتمل وجهين :
أحدهما : إلى إعادتكم لربكم بعد موتكم يكون منتهاكم .
{ وَأَنَّهُ هُوَ أضْحَكَ وَأَبْكَى } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : قضى أسباب الضحك والبكاء .
الثاني : أنه أراد بالضحك السرور ، وبالبكاء الحزن .
والثالث : أنى خلق قوتي الضحك والبكاء ، فإن الله ميز الإنسان بالضحك والبكاء من بين سائر الحيوان ، فليس في سائر الحيوان ما ضحك ويبكي غير الإنسان ، وقيل إن القرد وحده يضحك ولا يبكي ، وإن الإبل وحدها تبكي ولا تضحك .
ويحتمل وجهاً رابعاً : أن يريد بالضحك والبكاء النعم والنقم .
{ وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا } فيه خمسة أوجه :
أحدها : قضى أسباب الموت والحياة .
الثاني : خلق الموت والحياة كما قال تعالى : { هُوَ الَّذِي خَلَقَ الْمَوتَ وَالْحَيَاةَ } قاله ابن بحر .
الثالث : أن يريد بالحياة الخصب وبالموت الجدب .
الرابع : أمات بالمعصية وأحيا بالطاعة .
الخامس : أمات الآباء وأحيا الأبناء .
ويحتمل سادساً : أن يريد به أنام وأيقظ .
{ مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى } وجهان :
أحدهما : إذا تخلق وتقدر ، قاله الأخفش .
الثاني : إذا نزلت في الرحم ، قاله الكلبي .
{ وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى } فيه ثمانية تأويلات :
أحدها : أغنى بالكفاية وأقنى بالزيادة ، وهو معنى قول ابن عباس .
الثاني : أغنى بالمعيشة وأقنى بالمال ، قاله الضحاك .
الثالث : أغنى بالمال وأقنى بأن جعل لهم قنية ، وهي أصول الأموال ، قاله أبو صالح .
الرابع : أغنى بأن مَوّل وأقنى بأن حرم ، قاله مجاهد .
الخامس : أغنى نفسه وأفقر خلقه إليه ، قاله سليمان التيمي .
السادس : أغنى من شاء وأفقر من شاء ، قاله ابن زيد .
السابع : أغنى بالقناعة وأقنى بالرضا ، قاله سفيان .
الثامن : أغنى عن أن يخدم وأقنى أن يستخدم ، وهذا معنى قول السدي .
ويحتمل تاسعاً : أغنى بما كسبه [ الإنسان ] في الحياة وأقنى بما خلفه بعد الوفاة مأخوذ من اقتناء المال وهو استبقاؤه .
{ وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى } والشعرى نجم يضيء وراء الجوزاء ، قال مجاهد : تسمى هوزم الجوزاء ، ويقال إنه الوقاد ، وإنما ذكر أنه رب الشعرى وإن كان رباً لغيره لأن العرب كانت تعبده فأعلموا أن الشعرى مربوب وليس برب .
واختلف فيمن كان يعبده فقال السدي : كانت تعبده حمير وخزاعة وقال غيره : أول من عبده أبو كبشة ، وقد كان من لا يعبدها من العرب يعظمها ويعتقد تأثيرها في العالم ، قال الشاعر :
مضى أيلول وارتفع الحرور ... وأخبت نارها الشعرى العبور
{ وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الأُولَى } فيهم قولان :
أحدهما : أن عاد الأولى عاد بن إرم ، وهم الذين أهلكوا بريح صرصر عاتية ، وعاداً الآخرة قوم هود .
الثاني : أن عاداً الأولى قوم هود والآخرة قوم كانوا بحضرموت ، قاله قتادة .
{ وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى } والمؤتفكة المنقلبة بالخسف ، قاله محمد بن كعب : هي مدائن قوم لوط وهي خمسة : صبغة وصغيرة وعمرة ودوماً وسدوم وهي العظمى ، فبعث الله عليهم جبريل فاحتملها بجناحه ثم صعد بها حتى أن أهل السماء يسمعون نباح كلابهم وأصوات دجاجهم ثم كفأها على وجهها ثم أتبعها بالحجارة كما قال تعالى : { وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حَجَارةً مِن سِجِّيْلٍ } قال قتادة : كانوا أربعة آلاف ألف .

{ أَهْوَى } يحتمل وجهين : أحدهما : أن جبريل أهوى بها حين احتملها حتى جعل عاليها سافلها .
الثاني : أنهم أكثر ارتكاباً للهوى حتى حل بهم ما حل من البلاء .
{ فَعَشَّاهَا مَا غَشَّى } يعني المؤتفكة ، وفيما غشاها قولان :
أحدهما : جبريل حين قلبها .
الثاني : الحجارة حتى أهلكها .
{ فَبِأَيِّ ءَالآءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى } وهذا خطاب للمكذب أي فبأي نعم ربك تشك فيما أولاك وفيما كفاك .
وفي قوله : { فَغَشَّاهَا } وجهان :
أحدهما : ألقاها .
الثاني : غطاها .
هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى (56) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ (58) أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62)

{ هَذا نَذِيرٌ مِّنَ النُّذُرِ الأُولَى } فيه قولان :
أحدهما : أن محمداً نذير الحق أنذر به الأنبياء قبله ، قاله ابن جريج .
الثاني : أن القرآن نذير بما أنذرت به الكتب الأولى ، قاله قتادة .
ويحتمل قولاً ثالثاً : أن هلاك من تقدم ذكره من الأمم الأولى نذير لكم .
{ أَزِفَتِ الأزِفَةُ } أي اقتربت الساعة ودنت القيامة ، وسماها آزفة لقرب قيامها عنده .
{ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ } أي من يكشف ضررها .
{ أَفَمِنَ هَذا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ } فيه وجهان :
أحدهما : من القرآن في نزوله من عند الله .
الثاني : من البعث والجزاء وهو محتمل .
{ وَتَضْحَكُونَ وَلاَ تَبْكُونَ } فيها وجهان :
أحدهما : تضحكون استهزاء ولا تبكون انزجاراً .
الثاني : تفرحون ولا تحزنون ، وهو محتمل .
{ وَأَنْتُم سَامِدُونَ } فيه تسعة تأويلات :
أحدها : شامخون كما يخطر البعير شامخاً ، قاله ابن عباس .
الثاني : غافلون ، قاله قتادة .
الثالث : معرضون ، قاله مجاهد .
الرابع : مستكبرون ، قاله السدي .
الخامس : لاهون لاعبون ، قاله عكرمة .
السادس : هو الغناء ، كانوا إذا سمعوا القرآن تغنوا ، وهي لغة حمير ، قاله أبو عبيدة .
السابع : أن يجلسوا غير مصلين ولا منتظرين قاله علي رضي الله عنه .
الثامن : واقفون للصلاة قبل وقوف الإمام ، قاله الحسن ، وفيه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خرج والناس ينتظرونه قياماً فقال : ما لي أراكم سامدين .
التاسع؛ خامدون قاله المبرد ، قال الشاعر :
رمى الحدثان نسوة آل حرب ... بمقد سمدن له سموداً
{ فَاسْجُدُواْ لِلَّهِ وَأعْبُدُواْ } فيه وجهان :
أحدهما : أنه سجود تلاوة القرآن ، قال ابن مسعود ، وفيه دليل على أن في المفصل سجوداً .
الثاني : أنه سجود الفرض في الصلاة .
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (5)

قوله تعالى : { اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ } أي دنت وقربت ، قال الشاعر :
قد اقتربت لو كان في قرب دارها ... جداء ولكن قد تضر وتنفع
والمراد بالساعة القيامة ، وفي تسميتها بالساعة وجهان :
أحدهما : لسرعة الأمر فيها .
الثاني : لمجيئها في ساعة من يومها .
وروى طارق بن شهاب عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَلاَ يَزْدَادُ النَّاسُ عَلَى الدُّنْيَا إلاَّ حِرْصاً وَلاَ تَزْدَادُ مِنْهُمْ إِلاَّ بُعْداً » .
{ وَانشَقَّ الْقَمَرُ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : معناه وضح الأمر وظهر والعرب تضرب مثلاً فيما وضح أمره ، قال الشاعر :
أقيموا بني أمي صدور مطيكم ... فإني إلى قوم سواكم لأميل
فقد حمت الحاجات والليل مقمر ... وشدت لطيات مطايا وأرحل
والثاني : أن انشقاق القمر هو انشقاق الظلمة عنه بطلوعه في أثنائها كما يسمى الصبح فلقاً لانفلاق الظلمة عنه ، وقد يعبر عن انفلاقه بانشقاقه ، كما قال النابغة الجعدي :
فلما أدبروا ولهم دوي ... دعانا عند شق الصبح داعي
الثالث : أنه انشقاق القمر على حقيقة انشقاقه .
وفيه على هذا التأويل قولان :
أحدهما : أنه ينشق بعد مجيء الساعة وهي النفخة الثانية ، قاله الحسن ، قال : لأنه لو انشق ما بقي أحد إلا رأه لأنها آية والناس في الآيات سواء .
الثاني : وهو قول الجمهور وظاهر التنزيل أن القمر انشق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن سأله عمه حمزة بن عبد المطلب حين أسلم غضباً لسب أبي جهل لرسول الله ، أن يريه آية يزداد بها يقيناً في إيمانه ، وروى مجاهد عن أبي معمر عن أبي مسعود قال : رأيت القمر منشقاً شقتين بمكة قبل مخرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، شقة على أبي قبيس ، وشقة على السويدا فقالوا : سحر القمر ، فنزلت { اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَ الْقَمَرُ } .
{ وَإِن يَرَوْاْ ءَايَةً يُعْرِضُواْ } فيه وجهان :
أحدهما : أنه أراد أي آية روأها أعرضوا عنها ولم يعتبروا بها ، وكذلك ذكرها بلفظ التنكير دون التعريف ، قاله ابن بحر .
الثاني : أنه عنى بالآية انشقاق القمر حين رأوه .
{ وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ } فيه خمسة أوجه :
أحدها : أن معنى مستمر ذاهب ، قاله أنس وأبو عبيدة .
الثاني : شديد ، مأخوذ من إمرار الحبل ، وهو شدة فتله ، قاله الأخفش والفراء .
الثالث : أنه يشبه بعضه بعضاً .
الرابع : أن المستمر الدائم ، قال امرؤ القيس :
ألا إنما الدنيا ليال وأعصر ... وليس على شيء قويم بمستمر
أي بدائم .
الخامس : أي قد استمر من الأرض إلى السماء ، قاله مجاهد .
{ وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : يوم القيامة .
الثاني : كل أمر مستقر في أن الخير لأهل الخير ، والشر لأهل الشر ، قاله قتادة .
الثالث : أن كل أمر مستقر حقه من باطله .

الرابع : أن لكل شيء غاية ونهاية في وقوعه وحلوله ، قاله السدي .
ويحتمل خامساً ، أن يريد به دوام ثواب المؤمن وعقاب الكافر .
{ وَلَقْدْ جَآءَهُم مِّنَ الأَنْبَآءِ } فيه وجهان :
أحدهما : أحاديث الأمم الخالية ، قاله الضحاك .
الثاني : القرآن .
{ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ } أي مانع من المعاصي .
ويحتمل وجهين :
أحدهما : أنه النهي .
الثاني : أنه الوعيد .
{ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ } قاله السدي : هي الرسالة والكتاب .
ويحتمل أن يكون الوعد والوعيد .
ويحتمل قوله : { بَالِغَةٌ } وجهين :
أحدهما : بالغة في زجركم .
الثاني : بالغة من الله إليكم ، فيكون على الوجه الأول من المُبَالَغَةِ ، وعلى الوجه الثاني من الإبْلاَغ .
{ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ } أي فما يمنعهم التحذير من التكذيب .
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (8)

{ مّهْطِعِينَ إلَى الدَّاعِ } فيه ستة تأويلات :
أحدها : معناه : مسرعين ، قاله أبو عبيدة ، ومنه قول الشاعر :
بدجلة دارهم ولقد أراهم ... بدجلة مهطعين إلى السماع
الثاني : معناه : مقبلين ، قاله الضحاك .
الثالث : عامدين ، قاله قتادة .
الرابع : ناظرين ، قاله ابن عباس .
الخامس : فاتحين آذانهم إلى الصوت ، قاله عكرمة .
السادس : قابضين ما بين أعينهم ، قاله تميم .
{ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ } يعني يوم القيامة ، لما ينالهم فيه من الشدة .
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17)

{ فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ السَّمَآءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ } فيه وجهان :
أحدهما : أن المنهمر الكثير ، قاله السدي ، قال الشاعر :
أعيني جودا بالدموع الهوامر ... على خير باد من معد وحاضر
الثاني : أنه المنصب المتدفق ، قاله المبرد ، ومنه قول امرىء القيس :
راح تمرية الصبا ثم انتحى ... فيه شؤبوب جنوب منهمر
وفي فتح أبواب السماء قولان :
أحدهما : أنه فتح رتاجها وسعة مسالكها .
الثاني : أنها المجرة وهي شرج السماء ومنها فتحت بماء منهمر ، قاله علي .
{ فَالْتَقَى الْمَآءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ } فيه وجهان :
أحدهما : فالتقى ماء السماء وماء الأرض على مقدار لم يزد أحدهما على الآخر ، حكاه ، ابن قتيبة .
الثاني : قدر بمعنى قضي عليهم ، قاله قتادة ، وقدر لهم إذا كفروا أن يغرقوا .
{ وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحِ وَدُسُرٍ } أي السفينة ، وفي الدسر أربعة أقاويل :
أحدها : المعاريض التي يشد بها عرض السفينة ، قاله مجاهد .
الثاني : أنها المسامير دسرت بها السفينة ، أي شدت ، قاله ابن جبير وابن زيد .
الثالث : صدر السفينة الذي يضرب الموج ، قاله عكرمة ، لأنها تدسر الماء بصدرها ، أي تدفعه .
الرابع : أنها طرفاها ، وأصلها ، قاله الضحاك .
{ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا } فيه أربعة أوجه :
أحدها : بمرأى منا .
الثاني : بأمرنا ، قاله الضحاك .
الثالث : بأعين أوليائنا من الملائكة الموكلين بحفظها .
الرابع : بأعين الماء التي أتبعناها في قوله : { وَفَجَّرْنَا الأرْضَ عُيُوناً } ، وقيل : إنها تجري بين ماء الأرض والسماء ، وقد كان غطاها عن أمر الله سبحانه .
{ جَزَآءً لِمَن كَانَ كُفِرَ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : لكفرهم بالله ، قاله مجاهد ، وابن زيد .
والثاني : جزاء لتكذيبهم ، قاله السدي .
الثالث : مكافأة لنوح حين كفره قومه أن حمل ذات ألواح ودسر .
{ وَلَقَدْ تّرَكْنَاهَآ ءَايَةً } فيها وجهان :
أحدها : الغرق .
الثاني : السفينة روى سعيد عن قتادة أن الله أبقاها بباقردي من أرض الجزيرة عبرة وآية حتى نظرت إليها أوائل هذه الأمة .
وفي قوله : { فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } ثلاثة أقاويل :
أحدها : يعني فهل من متذكر ، قاله ابن زيد .
الثاني : فهل من طالب خير فيعان عليه ، قاله قتادة .
الثالث : فهل من مزدجر عن معاصي الله ، قاله محمد بن كعب .
{ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : معناه سهلنا تلاوته على إهل كل لسان ، وهذا أحد معجزاته ، لأن الأعجمي قد يقرأه ويتلوه كالعربي .
الثاني : سهلنا علم ما فيه واستنباط معانيه ، قاله مقاتل .
الثالث : هونا حفظه فأيسر كتاب يحفظ هو كتاب الله ، قاله الفراء .
كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22)

{ إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : باردة ، قاله قتادة ، والضحاك .
الثاني : شديدة الهبوب ، قاله ابن زيد .
الثالث : التي يسمع لهبوبها كالصوت ، ومنه قول الشاعر :
. . . . . . . . . . . . . . . ... باز يصرصر فوق المرقب العالي
{ فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِّرٍ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : يوم عذاب وهلاك .
الثاني : لأنه كان يوم الأربعاء .
الثالث : لأنه كان يوماً بارداً ، قال الشنفرى :
وليلة نحس يصطلي القوس ربها ... وأقطعه اللاتي بها ينبل
يعني أنه لشدة بردها يصطلي بقوسه وسهامه التي يدفع بها عن نفسه . وفي { مُسْتَمِرٍ } وجهان :
أحدهما : الذاهب .
الثاني : الدائم .
كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (24) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26) إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32)

{ إِنَّا إِذاً لَّفِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ } فيه خمسة تأويلات :
أحدها : أن السعر الجنون ، قاله ابن كامل .
الثاني : العناء ، قاله قتادة .
الثالث : الافتراق ، قاله السدي .
الرابع : التيه ، قاله الضحاك .
الخامس : أنه جمع سعر وهو وقود النار ، قاله ابن بحر وابن عيسى .
وعلى هذا التأويل في قولهم ذلك وجهان :
أحدهما : أنهم قالوه لعظم ما نالهم أن يتبعوا رجلاً واحداً منهم ، كما يقول الرجل إذا ناله خطب عظيم : أنا في النار .
الثاني : أنهم لما أوعدوا على تكذيبه ومخالفته بالنار ردوا مثل ما قيل لهم إنّا لو اتبعنا رجلاً مثلنا واحداً كنا إذاً في النار .
{ بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن الأشر هو العظيم الكذب ، قاله السدي .
الثاني : أنه البطر ، ومنه قول الشاعر :
أشرتم بلبس الخز لما لبستم ... ومن قبل لا تدرون من فتح القرى
الثالث : أنه المتعدي إلى منزلة لا يستحقها . { إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَة فِتْنَةً لَّهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ } أما الاصطبار فهو الافتعال من الصبر وأصل الطاء تاء أبدلت بطاء ليكون اللفظ أسهل مخرجاً ويعذب مسمعاً . وروى أبو الزبير عن جابر قال : لما نزلنا الحجر فغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تبوك ، قال : « أَيُّهَا النَّاسُ لاَ تَسْأَلُوا عَن هَذِهِ الآياتِ [ هؤلاء ] قَوْمُ صَالِحٍ سَأَلُوا نَبِيَّهُم أَن يَبْعَثَ اللَّهُ لَهُم آيَةً ، فَبَعَثَ اللَّهُ لَهُم نَاقَةً فَكَانَتْ تَرِدُ مِن ذَلَكِ الفَجَ فَتَشْرَبُ مَاءَهُم يَوْمَ وُرُودِهَا وَيَحْلِبُونَ مِنْهَا مِثْلَ الَّذِي كَانُوا يَشْرَبُونَ مِنْهَا يَوْمَ غِبِّهَا وَيَصْدِرُونَ عَن ذَلِكَ ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى : { وَنَبِئّهُمْ أَنَّ الْمَآءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُم } » الآية .
وفيه وجهان :
أحدهما : أن الناقة تحضر الماء يوم ورودهم ، وتغيب عنهم يوم ورودها ، قاله مقاتل .
الثاني : أن ثمود يحضرون الماء يوم غبها فيشربون ، ويحضرون اللبن يوم وردها فيحلبون .
{ فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ } فيه قولان :
أحدهما : انه أحمر إرم وشقيها ، قاله قتادة ، وقد ذكره زهير في شعره فقال :
فتنتج لكم غلمان أشأم كلهم ... كأحمر عاد ثم ترضع فتفطم
الثاني : أنه قدار بن سالف ، قاله محمد بن إسحاق ، وقد ذكره الأفوه في شعره :
أو بعده كقدار حين تابعه ... على الغاوية أقوام فقد بادوا
{ فَتَعَاطَى } فيه وجهان :
أحدهما : أن معناه بطش بيده ، قاله ابن عباس .
الثاني : معناه تناولها وأخذها ، ومنه قول حسان بن ثابت :
كلتاهما حلب العصير فعاطني ... بزجاجة أرخاهما للمفصل
{ فَعَقَرَ } قال محمد بن إسحاق : كَمَنَ لها قدار في أصل شجرة على طريقها فرماها بسهم فانتظم به عضلة ساقها ، ثم شد عليها بالسيف فكشف عرقوبها فخرت ورغت رغاءة واحدة تحدر سقبها [ من بطنها وانطلق سقبها ] حتى اتى صخرة في رأس الجبل فرغا ثم لاذ بها ، فأتاهم صالح ، فلما رأى الناقة قد عقروها بكى ثم قال : انتهكتم حرمة الله فأبشروا بعذاب الله .

قال ابن عباس : وكان الذي عقرها رجل أحمر أزرق أشقر أكشف أقفى .
{ فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ } فيه خمسة أقاويل :
أحدهما : يعني العظام المحترقة ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنه التراب الذي يتناثر من الحائط وتصيبه الريح ، فيحتظر مستديراً ، قاله سعيد بن جبير .
الثالث : أنها الحظار البالية من الخشب إذا صار هشيماً ، ومنه قول الشاعر :
أثرت عجاجة كدخان نار ... تشب بغرقد بال هشيم
قاله الضحاك .
الرابع : أنه حشيش قد حظرته الغنم فأكلته ، وهو مروي عن ابن عباس أيضاً
الخامس : أن الهشيم اليابس من الشجر الذي فيه شوك والمحتظر الذي تحظر به العرب حول ماشيتها من السباع ، قاله ابن زيد ، وقال الشاعر :
ترى جيف المطي بجانبيه ... كان عظامها خشب الهشيم
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (37) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40)

{ إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً } فيه خمسة أوجه :
أحدها : أن الحصب الحجارة التي رموا بها من السماء ، والحصباء هي الحصى وصغار الأحجار .
الثاني : أن الحاصب الرمي بالأحجار وغيرها ، ولذلك تقول العرب لما تسفيه الريح حاصباً ، قال الفرزدق :
مستقبلين شمال الشام تضربنا ... بحاصب كنديف القطن منثور
الثالث : أن الحاصب السحاب الذي حصبهم .
الرابع : أن الحاصب الملائكة الذين حصبوهم .
الخامس : أن الحاصب الريح التي حملت عليهم الحصباء .
{ إِلاَّ ءَالَ لُوطٍ } يعني ولده ومن آمن به .
{ نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ } والسحر هو ما بين آخر الليل وطلوع الفجر ، وهو في كلام العرب اختلاط سواد آخر الليل ببياض أول النهار لأن هذا الوقت يكون مخاييل الليل ومخاييل النهار .
{ وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ } يعني ضيف لوط وهم الملائكة الذين نزلوا عليه في صورة الرجال ، وكانوا على أحسن صورهم ، فراودوا لوطاً عليهم طلباً للفاحشة .
{ فَطَمَسْنَآ أَعْيُنَهُمْ } والطمس محو الأثر ومنه طمس الكتاب إذا محي ، وفي طمس أعينهم وجهان :
أحدهما : أنهم اختفوا عن أبصارهم حتى لم يروهم ، مع بقاء أعينهم ، قاله الضحاك .
الثاني : أعينهم طمست حتى ذهبت أبصارهم وعموا فلم يروهم ، قاله الحسن ، وقتادة .
{ فَذُوقُواْ عَذَابِي وَنُذُرِ } فيه وجهان :
أحدهما : أنه وعيد بالعذاب الأدنى ، قاله الضحاك .
الثاني : أنه تقريع بما نالهم من عذاب العمى الحال ، وهو معنى قول الحسن ، وقتادة .
وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42) أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46)

{ أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَئِكُمْ } يعني أكفاركم خير من كفار من تقدم من الأمم الذين أهلكوا بكفرهم .
{ أَمْ لَكُم بَرَآءَةٌ فِي الزُّبُرِ } يعني في الكتب السالفة براءة من الله تعالى أنكم ليس تهلكون كما أهلكوا ، ومنه قول الشاعر :
وترى منها رسوماً قد عفت ... مثل خط اللام في وحي الزبر
{ أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ } يعني بالعدد والعدة ، وقد كان من هلك قبلهم أكثر عدداً وأقوى يداً ، ويحتمل انتصارهم وجهين :
أحدهما : [ لأنفسهم بالظهور ] .
الثاني : لآلهتهم بالعبادة .
فرد الله عليهم فقال : { سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيْوَلُّونَ الدُّبُرَ } يعني كفار قريش وذلك يوم بدر ، وهذه معجزة أوعدهم الله بها فحققها ، وفي ذلك يقول حسان :
ولقد وليتم الدبر لنا ... حين سال الموت من رأس الجبل
{ بَلِ الْسَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ } يعني القيامة .
{ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ } يحتمل وجهين :
أحدهما : أن موقف الساعة أدهى وأمر من موقف الدنيا في الحرب التي تولون فيها الدبر .
الثاني : أن عذاب الساعة أدهى وأمر من عذاب السيف في الدنيا .
وفي قوله { أدْهَى } وجهان :
أحدهما : أخبث .
الثاني : أعظم .
{ وَأَمَرُّ } فيه وجهان :
أحدهما : معناه أشد لأن المرارة أشد الطعوم .
الثاني : معناه أنفذ ، مأخوذ من نفوذ المرارة فيما خالطته .
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)

{ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } روى إسماعيل بن زياد عن محمد بن عباد عن أبي هريرة أن مشركي قريش أتوا النبي صلى الله عليه وسلم يخاصمونه في القدر ، فنزلت .
{ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } فيه وجهان :
أحدهما : على قدر ما أردنا من غير زيادة ولا نقصان ، قاله ابن بحر .
الثاني : بحكم سابق وقضاء محتوم ، ومنه قول الراجز :
وقدر المقدر الأقدارا . ... { وَمَآ أَمْرُنْآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بَالْبَصَرِ } يعني أن ما أردناه من شيء أمرنا به مرة واحدة ولم نحتج فيه إلى ثانية ، فيكون ذلك الشيء مع أمرنا به كلمح البصر في سرعته من غير إبطاء ولا تأخير .
{ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ } فيه وجهان :
أحدهما : أن المستطر المكتوب ، قاله الحسن وعكرمة وابن زيد ، لأنه مسطور .
الثاني : أنه المحفوظ ، قاله قتادة .
{ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن النهر أنهار الماء ، والخمر ، والعسل ، واللبن ، قاله ابن جريج .
الثاني : أن النهر الضياء والنور ، ومنه النهار ، قاله محمد بن إسحاق ، ومنه قول الراجز :
لولا الثريدان هلكنا بالضمر ... ثريد ليل وثريد بالنهر
الثالث : أنه سعة العيش وكثرة النعيم ، ومنه اسم نهر الماء ، قاله قطرب .
{ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِند مَلِيكٍ مّقْتَدِرِ } فيه وجهان :
أحدهما : مقعد حق لا لغو فيه ولا تأثيم .
الثاني : مقعد صدق لله وعد أولياءه به ، والمليك والملك واحد ، وهو الله كما قال ابن الزبعري :
يا رسول المليك إن لساني ... راتق ما فتقت إذا أنابوا
ويحتمل ثالثاً : أن المليك مستحق الملك ، والملك القائم بالملك والمقتدر بمعنى القادر .
ويحتمل وصف نفسه بالاقتدار ها هنا وجهين :
أحدهما : لتعظيم شأن من عنده من المتقين لأنهم عند المقتدر أعظم قدراً ، وأعلى مجزاً .
الثاني : ليعلموا أنه قادر على حفظ ما أنعم به عليهم ودوامه لهم ، والله أعلم .
الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6) وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9) وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10) فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (12) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13)

قوله تعالى { الرَّحْمَنُ } فيه قولان :
أحدهما : أنه اسم ممنوع لا يستطيع الناس أن ينتحلوه ، قاله الحسن ، وقطرب .
الثاني : أنه فاتحة ثلاث سور إذا جمعن كن اسماً من أسماء الله تعالى : { الر } و { حم } و { ن } فيكون مجموع هذه { الرَّحْمَنُ } ، قاله سعيد بن جبير ، وابن عباس .
{ عَلَّمَ الْقُرْءانَ } فيه وجهان :
أحدهما : علمه النبي صلى الله عليه وسلم حتى أداه إلى جميع الناس .
الثاني : سهل تعلمه على جميع الناس .
{ خَلَقَ الإِنسَانَ } فيه قولان :
أحدهما : يعني آدم ، قاله الحسن وقتادة .
الثاني : أنه أراد جميع الناس وإن كان بلفظ واحد ، وهو قول الأكثرين .
{ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ } لأنه بالبيان فُضِّل على جميع الحيوان ، وفيه ستة تأويلات :
أحدها : أن البيان الحلال والحرام ، قاله قتادة .
الثاني : الخير والشر ، قاله الضحاك ، والربيع بن أنس .
الثالث : المنطق والكلام ، قاله الحسن .
الرابع : الخط ، وهو مأثور .
الخامس : الهداية ، قاله ابن جريج .
السادس : العقل لأن بيان اللسان مترجم عنه .
ويحتمل سابعاً : أن يكون البيان ما اشتمل على أمرين : إبانة ما في نفسه ومعرفة ما بين له .
وقول ثامن لبعض أصحاب الخواطر : خلق الإنسان جاهلاً به ، فعلمه السبيل إليه .
{ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ } فيه خمسة أوجه :
أحدها : يعني بحساب ، قاله ابن عباس ، والحسبان مصدر الحساب ، وقيل : جمعه .
الثاني : معنى الحسبان هذه آجالها ، فإذا انقضى الأجل كانت القيامة ، قاله السدي .
الثالث : أنه يقدر بهما الزمان لامتياز النهار بالشمس والليل بالقمر ولو استمر أحدهما فكان الزمان ليلاً كله أو نهاراً كله لما عرف قدر الزمان ، قاله ابن زيد .
الرابع : يدوران ، وقيل إنهما يدوران في مثل قطب الرحى ، قاله مجاهد .
الخامس : معناه يجريان بقدر .
{ وَالنَّجْمُ وَالْشَّجَرُ يَسْجُدَانِ } في النجم قولان :
أحدهما : نجم السماء ، وهو موحد والمراد به جميع النجوم ، قاله مجاهد .
الثاني : أن النجم النبات الذي قد نجم في الأرض وانبسط فيها ، ليس له ساق ، والشجر ما كان على ساق ، قاله ابن عباس .
وفي سجودهما خمسة أقاويل :
أحدها : هو سجود ظلهما ، قاله الضحاك . الثاني : هو ما فيهما من الصنعة والقدرة التي توجب السجود والخضوع ، قاله ابن بحر .
الثالث : أن سجودهما دوران الظل معهما ، كما قال تعالى : { يتفيأ ظلاله } ، قاله الزجاج .
الرابع : أن سجود النجم أفوله ، وسجود الشجر إمكان الإجتناء لثمارها .
الخامس : أن سجودهما أنهما يستقبلان الشمس إذا أشرقت ثم يميلان معها إذا انكسر الفيء ، قاله الفراء .
{ وَالسَّمَآءَ رَفَعَهَا } يعني على الأرض .
{ وَوَضَعَ الْمِيزَانَ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه الميزان ذو اللسان ليتناصف به الناس في الحقوق ، قاله الضحاك .
الثاني : أن الميزان الحكم .
الثالث : قاله قتادة ، ومجاهد ، والسدي : أنه العدل ، ومنه قول حسان :
ويثرب تعلم أنا بها ... إذا التبس الأمر ميزانها

{ أَلاَّ تَطْغُواْ فِي الْمِيزَانِ } وفي الميزان ما ذكرناه من الأقاويل :
أحدها : أنه العدل وطغيانه الجور ، قاله مجاهد .
الثاني : أنه ميزان الأشياء الموزونات وطغيانه البخس ، قاله مقاتل ، وقال ابن عباس : يا معشر الموالي وليتم أمرين بهما هلك الناس قبلكم : المكيال والميزان .
الثالث : أنه الحكم ، وطغيانه التحريف .
{ وَأقِيمُواْ الْوَزْنَ بَالْقِسْطِ } أي بالعدل ، قال مجاهد : القسط : العدل .
{ وَلاَ تُخْسِرُواْ الْمِيزَانَ } أي لا تنقصوه بالبخس قيل : إنه المقدار : فالجور إن قيل : إنه العدل ، والتحريف إن قيل : الحكم .
وفي وجه رابع : أنه ميزان حسناتكم يوم القيامة .
{ وَالأرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ } أي بسطها ووطأها للأنام ليستقروا عليها ويقتاتوا منها .
وفي الأنام ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنهم الناس ، قاله ابن عباس ، وفيه قول بعض الشعراء في رسول الله صلى الله عليه وسلم :
مبارك الوجه يستسقى الغمام به ... ما في الأنام له عدل ولا خطر
الثاني : أن الأنام الإنس والجن ، قاله الحسن .
الثالث : أن الأنام جميع الخلق من كل ذي روح ، قاله مجاهد ، وقتادة والسدي ، سمي بذلك لأنه ينام ، قال الشاعر :
جاد الإله أبا الوليد ورهطه ... رب الأنام وخصه بسلام
{ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأَكمَامِ } فيه أربعة أقاويل :
أحدها : أن ذات الأكمام النخل ، وأكمامها ليفها الذي في أعناقها ، قاله الحسن .
الثاني : أنه رقبة النخل التي تكمم فيه طلعاً ، ومنه قول الشاعر :
وذات أثارة أكلت عليها ... نباتاً في أكمتة قفار
الثالث : أنه الطلع المكمم الذي هو كمام الثمرة ، قاله ابن زيد .
الرابع : أن معنى ذات الأكمام أي ذوات فضول على كل شيء ، قاله ابن عباس .
{ وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالْرَّيْحَانُ } أما الحب فهو كل حب خرج من أكمامها كالبر والشعير .
وأما العصف ففيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : تبن الزرع وورقه الذي تعصفه الريح ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنه الزرع إذا اصفر ويبس .
الثالث : أنه حب المأكول منه ، قاله الضحاك ، كما قال تعالى : { كَعَصْفٍ مَأكُولٍ } .
وأما الريحان ففيه خمسة أوجه :
أحدها : أنه الرزق ، قاله مجاهد ، وسعيد بن جبير ، والسدي ، والعرب تقول : خرجنا نطلب ريحان الله أي رزقه ، ويقال سبحانك وريحانك أي رزقك ، وقال النمر بن تولب :
سلام الإله وريحانه ... ورخيته وسماء درر
قاله الضحاك ، ورخيته هي لغة حِمْيَر .
الثاني : أن الريحان الزرع الأخضر الذي لم يسنبل ، قاله ابن عباس .
الثالث : أنه الريحان الذي يشم ، قاله الحسن ، والضحاك ، وابن زيد .
الرابع : أن العصف الورق الذي لا يؤكل والريحان هو الحب المأكول ، قاله الكلبي .
{ فَبِأَيِّ ءَالآءِ رَبِّكُمْا تُكّذِّبَانِ } في الآلاء قولان :
أحدهما : أنها النعم ، وتقديره فبأي نعم ربكما تكذبان ، قاله ابن عباس ، ومنه قول طرفة :
كامل يجمع الآلاء الفتى ... بيديه سيد السادات خصم
الثاني : أنها القدرة ، وتقدير الكلام فبأي قدرة ربكما تكذبان ، قاله ابن زيد ، والكلبي .
وفي قوله ربكما إشارة إلى الثقلين الإنس والجن في قول الجميع .

وقد روى محمد بن المنكدر عن جابر قال : قرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة الرحمن حتى ختمها ثم قال : « مِا لِي أَرَاكُم سُكُوتاً؟! الجِنُّ أَحْسَنُ مِنكُم رَداً ، كُنتُ كُلَّمَا قَرأَتُ عَلَيهِم الأَيةَ { فَبَأَيِّ ءَالآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } قَالُوا : وَلاَ بِشَيءٍ مِن نِّعَمِكَ رَبَّنَا نُكّذِّبُ فَلَكَ الْحَمْدُ » .
وتكرارها في هذه السورة لتقرير النعم التي عددها ، فقررهم عند كل نعمة منها ، كما تقول للرجل أما أحسنت إليك حين وهبت إليك مالاً؟ أما أحسنت إليك حين بنيت لك داراً ، ومنه قول مهلهل بن ربيعة يرثي أخاه كليباً :
على أن ليس عدلاً من كليب ... إذا ما ضيم جيران المجير
على أن ليس عدلاً من كليب ... إذا خرجت مخبأة الخدور
خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (16) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (18) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (20) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (23) وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (24) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (25)

{ خَلَقَ الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَاْلْفَخَّارِ } فيه خمسة أقاويل :
أحدها : أنه الطين المختلط برمل ، قاله ابن عباس .
الثاني : انه الطين الرطب الذي إذا عصرته بيدك خرج الماء من بين أصابعك ، وهذا مروي عن عكرمة .
الثالث : أنه الطين اليابس الذي تسمع له صلصلة ، قاله قتادة .
الرابع : انه الطين الأجوف الذي إذا ضرب بشيء صلّ وسُمِع له صوت .
الخامس : أنه الطين المنتن ، قاله الضحاك ، مأخوذ من قولهم صلَّ اللحم إذا أنتن .
والمخلوق من صلصال كالفخار هو آدم عليه السلام .
قال عبد الله بن سلام : خلق الله آدم من تراب من طين لازب ، فتركه كذلك أربعين سنة ، ثم صلصله كالفخار أربعين سنة ، ثم صوره فتركه جسداً لا روح فيه أربعين سنة ، فذلك مائة وعشرون سنة ، كل ذلك والملائكة تقول سبحان الذي خلقك ، لأمر ما خلقك .
{ وَخَلَقَ الْجَآنَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارِ } فيه خمسة أقاويل :
أحدها : أنه لهب النار ، قاله ابن عباس .
الثاني : خلط النار ، قاله أبو عبيدة .
الثالث : أنه [ اللهب ] الأخضر والأصفر [ والأحمر ] الذي يعلو النار إذا أوقدت ويكون بينها وبين الدخان ، قاله مجاهد .
الرابع : أنها النار المرسلة التي لا تمتنع ، قاله المبرد .
الخامس : أنها النار المضطربة التي تذهب وتجيء ، وسمي مارجاً لاضطرابه وسرعة حركته .
وفي الجان المخلوق من مارج من نار قولان :
أحدهما : أنه أبوالجن ، قاله أبو فروة يعقوب عن مجاهد .
الثاني : أنه إبليس ، وهو قول مأثور .
وفي النار التي خلق من مارجها ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها من النار الظاهرة بين الخلق ، قاله الأكثرون .
الثاني : من نار تكون بين الجبال من دون السماء وهي كالكلة الرقيقة ، قاله الكلبي .
الثالث : من نار دون الحجاب ومنها هذه الصواعق وترى خلق السماء منها ، قاله الفراء .
{ رَبُّ الْمَشْرِقْينِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ } فيها ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن المشرقين مشرق المشس في الشتاء والصيف ، والمغربين مغرب الشمس في الشتاء والصيف ، قاله ابن عباس .
الثاني : أن المشرقين مشرق الشمس والقمر ، والمغربين مغربهما .
الثالث : أن المشرقين الفجر والشمس ، والمغربين الشمس والغسق وأغمض سهل بن عبد الله بقول رابع : ان المشرقين مشرق القلب واللسان ، والمغربين مغرب القلب واللسان .
{ مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ } أما البحران ففيهما خمسة أوجه :
أحدهما : أنه بحر السماء وبحر الأرض ، قاله ابن عباس .
الثاني : بحر فارس والروم ، قاله الحسن ، وقتادة .
الثالث : أنه البحر المالح والأنهار العذبة ، قاله ابن جريج .
الرابع : أنه بحر المشرق وبحر المغرب يلتقي طرفاهما .
الخامس : انه بحر اللؤلؤ وبحر المرجان .
وأما { مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ } ففيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : تفريق البحرين ، قاله ابن صخر .
الثاني : إسالة البحرين ، قاله ابن عباس .
الثالث : استواء البحرين ، قاله مجاهد .
وأصل المرج ، الإهمال كما تمرج الدابة في المرج .
{ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبغِيَانِ } في البزخ الذي بينهما أربعة أقاويل :
أحدها : أنه حاجز ، قاله ابن عباس .

الثاني : أنه عرض الأرض ، قاله مجاهد .
الثالث : أنه ما بين السماء والأرض ، قاله عطية ، والضحاك .
الرابع : أنه الجزيرة التي نحن عليها وهي جزيرة العرب ، قاله الحسن ، وقتادة .
وفي قوله : { لاَّ يَبْغِيَانِ } ثلاثة أقاويل :
أحدها : لا يختلطان لا يسيل العذب على المالح ولا المالح على العذب ، قاله الضحاك .
الثاني : لا يبغي أحدهما على صاحبه فيغلبه ، قاله مجاهد ، وقتادة .
الثالث : لا يبغيان أن يلتقيا ، قاله ابن زيد ، وتقدير الكلام ، مرج البحرين يلتقيان لولا البرزخ الذي بينهما أن يلتقيا .
وقال سهل : البحران طريق الخير وطريق الشر ، والبرزخ الذي بينهما التوفيق والعصمة .
{ يَخْرُجُ مِنْهُمَا الَّلؤلُؤ وَالْمَرْجَانُ } وفي المرجان أربعة أقاويل :
أحدها : عظام اللؤلؤ وكباره ، وقاله علي وابن عباس ، ومنه قول الأعشى :
من كل مرجانة في البحر أخرجها ... تيارها ووقاها طينة الصدف
الثاني : أنه صغار اللؤلؤ ، قاله الضحاك وأبو رزين .
الثالث : أنه الخرز الأحمر كالقضبان ، قاله ابن مسعود .
الرابع : أنه الجوهر المختلط ، مأخوذ من مرجت الشيء إذا خلطته وفي قوله : { يَخْرُجُ مِنْهُمَا } وجهان :
أحدهما : ان المراد أحدهما وإن عطف بالكلام عليهما .
الثاني : أنه خارج منهما على قول ابن عباس أنهما بحر السماء وبحر الأرض ، لأن ماء السماء إذا وقع على صدف البحر انعقد لؤلؤاً ، فصار خرجاً منهما .
وفيه وجه ثالث : أن العذب والمالح قد يلتقيان فيكون العذب كاللقاح للمالح فنسب إليهما كما نسب الولد إلى الذكر والأنثى وإن ولدته الأنثى ، ولذلك قيل إنه لا يخرج اللؤلؤ إلا من موضع يلتقي فيه العذب والمالح .
{ وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنشَئَاتُ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلاَمِ } أما الجواري فهي السفن واحدتها جارية سميت بذلك لأنها تجري في الماء بإذن الله تعالى ، والجارية هي المرأة الشابة أيضاً سميت بذلك لأنه يجري فيها ماء الشباب .
وأما المنشآت ففيها خمسة أوجه :
أحدها : أنها المخلوقات ، قاله قتادة مأخوذ من الإنشاء .
الثاني : أنها المحملات ، قاله مجاهد .
الثالث : أنها المرسلات ، ذكره ابن كامل .
الرابع : المجريات ، قاله الأخفش .
الخامس : أنها ما رفع قلعه منها وهي الشرع فهي منشأة ، وما لم يرفع ليست بمنشأة ، قاله الكلبي .
وقرأ حمزة { الْمُنشَئَاتُ } بكسر الشين ، وفي معناه على هذه القراءة وجهان :
أحدهما : البادئات ، قاله ابن إسحاق والجارود بن أبي سبرة .
الثاني : أنها يكثر نشأً بجريها وسيرها في البحر كالأعلام ، قاله ابن بحر .
وفي قوله : { كَالأَعْلاَمِ } وجهان :
أحدهما : يعني الجبال سميت بذلك لارتفاعها كارتفاع الأعلام ، قاله السدي . قالت الخنساء :
وإن صخراً لتأتم الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار
الثاني : أن الأعلام القصور ، قاله الضحاك .
{ يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَواتِ وَالأَرْضِ } فيه قولان :
أحدهما : يسألونه الرزق لأهل الأرض فكانت المسألتان جميعاً من أهل السماء وأهل الأرض ، لأهل الأرض ، قاله ابن جريج وروته عائشة مرفوعاً .
الثاني : أنهم يسألونه القوة على العبادة ، قاله ابن عطاء ، وقيل إنهم يسألونه لأنفسهم الرحمة ، قاله أبو صالح .
قال قتادة : لا استغنى عنه أهل السماء ولا أهل الأرض ، قال الكلبي : وأهل السماء يسألونه المغفرة خاصة لأنفسهم ولا يسألونه الرزق ، وأهل الأرض يسألونه المغفرة والرزق .
كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (28) يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (30)

{ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ } فيه قولان :
أحدهما : أنه أراد شأنه في يومي الدنيا والآخرة ، قال ابن بحر : الدهر كله يومان : أحدهما : مدة أيام الدنيا ، والآخر يوم القيامة ، فشأنه سبحانه في أيام الدنيا الابتلاء والاختبار بالأمر ، والنهي ، والإحياء ، والأمانة ، والإعطاء ، والمنع ، وشأنه يوم القيامة الجزاء ، والحساب ، والثواب ، والعقاب .
والقول الثاني : أن المراد بذلك الإخبار عن شأنه في كل يوم من أيام الدنيا .
وفي هذا الشأن الذي أراده في أيام الدنيا قولان :
أحدهما : من بعث من الأنبياء في كل زمان بما شرعه لأمته من شرائع الدين وكان الشأن في هذا الموضع هو الشريعة التي شرعها كل نبي في زمانه ويكون اليوم عبارة عن المدة .
القول الثاني : ما يحدثه الله في خلقه من تبدل الأحوال وإختلاف الأمور ، ويكون اليوم عبارة عن الوقت .
روى مجاهد عن عبيد بن عمير قال : كل يوم هو في شأن ، يجيب داعياً ، ويعطي سائلاً ، ويفك عانياً ، ويتوب على قوم ، ويغفر لقوم .
وقال سويد بن غفلة : كل يوم هو في شأن ، هو يعتق رقاباً ، ويعطي رغاباً ، ويحرم عقاباً .
وقد روى أبو الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « { كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ } مِن شَأَنِهِ أَن يَغْفِرَ ذَنباً ، وَيَفْرِجَ كَرْباً ، وَيَرَفَعَ قَوماً ، وَيَضَعَ آخَرِينَ »
سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (31) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (32) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ (35) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (36)

{ سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلاَنِ } فيه وجهان :
أحدهما : أي لنقومن عليكم على وجه التهديد .
الثاني : سنقصد إلى حسابكم ومجازاتكم على أعمالكم وهذا وعيد لأن الله تعالى لا يشغله شأن عن شأن ، وقال جرير :
الآن وقد فرغت إلى نمير ... فهذا حين كنت لها عذاباً
أي قصدت لهم ، والثقلان الإنس والجن سموا بذلك لأنهم ثقل على الأرض .
{ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقطَارِ السَّمَواتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُواْ لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ } فيه وجهان :
أحدهما : إن استطعتم أن تعلموا ما في السموات والأرض فاعلموا ، لن تعلموه إلا بسلطان ، قاله عطية العوفي .
الثاني : إن استطعتم أن تخرجوا من جوانب السموات والأرض هرباً من الموت فانفذوا ، قاله الضحاك .
{ لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : يعني إلا بحجة ، قاله مجاهد ، قاله ابن بحر : والحجة الإيمان .
الثاني : لا تنفذون إلا بمُلْك وليس لكم مُلْك ، قاله قتادة .
الثالث : معناه لا تنفذون إلا في سلطانه وملكه ، لأنه مالك السموات والأرض وما بينهما ، قاله ابن عباس .
{ يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ } فيه أربعة أقاويل :
أحدها : أن الشواظ لهب النار ، قاله ابن عباس ، ومنه قول أمية بن أبي الصلت يهجو حسان بن ثابت :
يمانياً يظل يشد كيراً ... وينفخ دائباً لهب الشواظ
[ فأجابه حسان فقال ] :
همزتك فاختضعت بذل نفسٍ ... بقافية تأجج كالشواظ
الثاني : أنه قطعة من النار فيها خضرة ، قاله مجاهد .
الثالث : أنه الدخان ، رواه سعيد بن جبير ، قال رؤبة بن العجاج :
إن لهم من وقعنا أقياظا ... ونار حرب تسعر الشواظا
الرابع : أنها طائفة من العذاب ، قاله الحسن .
وأما النحاس ففيه أربعة أقاويل :
أحدها : أنه الصفر المذاب على رؤوسهم ، قاله مجاهد ، وقتادة .
الثاني : أنه دخان النار ، قاله ابن عباس ، قال النابغة الجعدي :
كضوء سراج السلي ... ط لم يجعل الله فيه نحاساً
الثالث : أنه القتل ، قاله عبد الله بن أبي بكرة .
الرابع : أنه نحس لأعمالهم ، قاله الحسن .
فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (40) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (41) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (42) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (45)

{ فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَآءُ } يعني يوم القيامة .
{ فَكَانَتْ وَرْدَةً } فيه وجهان :
أحدهما : وردة البستان ، وهي حمراء ، وقد تختلف ألوانها لكن الأغلب من ألوانها الحمرة ، وبها يضرب المثل في لون الحمرة ، قال عبد بني الحسحاس :
فلو كنت ورداً لونه لعشقتني ... ولكن ربي شانني بسواديا
كذلك تصير السماء يوم القيامة حمراء كالورد ، قاله ابن بحر .
الثاني : أنه أراد بالوردة الفرس الورد يكون في الربيع أصفر وفي الشتاء أغبر ، فشبه السماء يوم القيامة في اختلاف ألوانها بالفرس الورد ، لاختلاف ألوانه ، قاله الكلبي والفراء .
وفي قوله : { كَالدِّهَانِ } خمسة أوجه :
أحدها : يعني خالصة ، قاله الضحاك .
الثاني : صافية ، قاله الأخفش .
الثالث : ذات ألوان ، قاله الحسن .
الرابع : صفراء كلون الدهن ، وهذا قول عطاء الخراساني ، وأبي الجوزاء .
الخامس : الدهان أديم الأرض الأحمر ، قاله ابن عباس ، قال الأعشى :
وأجرد من فحول الخيل طرف ... كأن على شواكله دهانا
وزعم المتقدمون أن أصل لون السماء الحمرة ، وأنها لكثرة الحوائل وبعد المسافة ترى بهذا اللون الأزرق ، وشبهوا ذلك بعروق البدن هي حمراء كحمرة الدم وترى بالحائل زرقاء ، فإن كان هذا صحيحاً فإن السماء لقربها من النواظر يوم القيامة وارتفاع الحواجز ترى حمراء لأنه أصل لونها .
{ فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنْبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ } فيه خمسة أقاويل :
أحدها : كانت المسألة قبل ، ثم ختم على أفواههم وتكلمت أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون ، قاله قتادة .
الثاني : أنه لا يسألهم هل عملتم كذا وكذا ، قاله ابن عباس .
الثالث : لا يسأل الملائكة عنهم لأنهم قد رفعوا أعمالهم في الدنيا ، قاله مجاهد .
الرابع : أنه لا يسأل بعضهم بعضاً عن حاله لشغل كل واحد منهم بنفسه ، وهذا مروي عن ابن عباس أيضاً .
الخامس : أنهم في يوم تبيض فيه وجوه وتسود فيه وجوه فهم معروفون بألوانهم فلم يسأل عنهم ، قاله الفراء .
{ يَطُوفَونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ ءَانٍ } قال قتادة : يطوفون مرة بين الحميم ، ومرة بين الجحيم ، والجحيم النار ، والحميم الشراب .
وفي قوله تعالى : { ءَانٍ } ثلاثة أوجه :
أحدها : هو الذي انتهى حره وحميمه ، قاله ابن عباس وسعيد بن جبير والسدي ، ومنه قول النابغة الذبياني :
وتخضب لحية غدرت وخانت ... بأحمر من نجيع الجوف آن
أي حار .
الثاني : أنه الحاضر ، قاله محمد بن كعب .
الثالث : أنه الذي قد آن شربه وبلغ غايته ، قاله مجاهد .
وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (47) ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (48) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (49) فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ (50) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (51) فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (52) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (53)

{ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } وفي الخائف مقام ربه ثلاثة أقاويل :
أحدها : من خاف مقام ربه بعد أداء الفرائض ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنه يهم بذنب فيذكر مقام ربه فيدعه ، قاله مجاهد .
الثالث : أن ذلك نزل في أبي بكر رضي الله عنه خاصة حين ذكر ذات يوم الجنة حين أزلفت ، والنار حين برزت ، قاله عطاء وابن شوذب .
قال الضحاك : بل شرب ذات يوم لبناً على ظمأ فأعجبه ، فسأل عنه فأُخْبِر أنه من غير حل ، فاستقاءه ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إليه ، فقال : « رَحِمَكَ اللَّهُ لَقَدْ أُنزِلَتْ فِيكَ آيَةٌ » وتلا عليه هذه الآية .
وفي مقام ربه قولان :
أحدهما : هو مقام بين يدي العرض والحساب .
الثاني : هو قيام الله تعالى بإحصاء ما اكتسب من خير وشر .
وفي هاتين الجنتين أربعة أوجه :
أحدها : جنة الإنس وجنة الجان ، قاله مجاهد .
الثاني : جنة عدن ، وجنة النعيم ، قاله مقاتل .
الثالث : أنهما بستانان من بساتين الجنة ، وروي ذلك مرفوعاً لأن البستان يسمى جنة .
الرابع : أن إحدى الجنتين منزله ، والأخرى منزل أزواجه وخدامه كما يفعله رؤساء الدنيا .
ويحتمل خامساً : أن إحدى الجنتين مسكنه ، والأخرى بستانه .
ويحتمل سادساً : أن إحدى الجنتين أسافل القصور ، والأخرى أعاليها .
{ ذَوَاتَا أَفْنَانٍ } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : ذواتا ألوان ، قاله ابن عباس .
الثاني : ذواتا أنواع من الفاكهة ، قاله الضحاك .
الثالث : ذواتا أتا وسَعَةٍ ، قاله الربيع بن أنس .
الرابع : ذواتا أغصان ، قاله الأخفش وابن بحر .
والأفنان جمع واحده فنن كما قال الشاعر :
ما هاج سوقك من هديل حمامة ... تدعوا على فنن الغصون حماما
تدعو أبا فرخين صادف ضارياً ... ذا مخلبين من الصقور قطاما
مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (55) فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (59) هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (61)

{ مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ } فيه وجهان :
أحدهما : أن بطائنها يريد به ظواهرها ، قاله قتادة .
والعرب تجعل البطن ظهراً فيقولون هذا بطن السماء وظهر السماء .
الثاني : أنه أراد البطانة دون الظهارة ، لأن البطانة إذا كانت من إستبرق وهي أدون من الظاهرة دل على أن الظهارة فوق الإستبرق ، قاله الكلبي .
وسئل عباس فما الظواهر؟ قال : إنما وصف لكم بطائنها لتهتدي إليه قلوبكم فأما الظواهر فلا يعلمها إلا الله .
{ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ } فأما الجنا فهو الثمر ، ومنه قول الشاعر :
هذا جناي وخياره فيه ... إذ كل جان يده إلى فيه
وفي قوله : { دَانٍ } وجهان :
أحدهما : داني لا يبعد على قائم ولا على قاعد ، قاله مجاهد .
الثاني : أنه لا يرد أيديهم عنها بُعد ولا شوك ، قاله قتادة .
{ فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ } قال قتادة : قصر طرفهن على أزواجهن ، لا يسددن النظر إلى غيرهم ، ولا يبغين بهم بدلاً .
{ لَمْ يَطْمَثهنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : لم يمسسهن ، قال أبو عمرو : الطمث المس ، وذلك في كل شيء يمس .
الثاني : لم يذللهن إنس قبلهم ولا جان ، والطمث : التذليل ، قاله المبرد .
الثالث : لم يُدْمِهُنَّ يعني إنس ولا جان ، وذلك قيل للحيض طمث ، قال الفرزدق :
دفعن إليَّ لم يطمثن قبلي ... وهن أصح من بيض النعام
وفي الآية دليل على أن الجن تغشى كالإنس
. { هَلْ جَزَآءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : هل جزاء الطاعة إلا الثواب .
الثاني : هل جزاء الإحسان في الدنيا إلا الإحسان في الآخرة ، قاله ابن زيد .
الثالث : هل جزاء من شهد أن لا إله إلا الله إلا الجنة ، قاله ابن عباس .
الرابع : هل جزاء التوبة إلا المغفرة ، قاله جعفر بن محمد الصادق .
ويحتمل خامساً : هل جزاء إحسان الله عليكم إلا طاعتكم له .
وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (63) مُدْهَامَّتَانِ (64) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (65) فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (66) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (67) فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (69) فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (71) حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ (76) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (77) تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (78)

{ وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ } فيه وجهان :
أحدهما : أي أقرب منهما جنتان .
الثاني : أي دون صفتهما جنتان .
وفيها ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن الجنات الأربع لمن خاف مقام ربه ، قال ابن عباس : فيكون في الأوليين النخل والشجر ، وفي الأخريين الزرع والنبات وما انبسط .
الثاني : أن الأوليين من ذهب للمقربين ، والأخريين من وَرِقٍ لأصحاب اليمين ، قاله ابن زيد .
الثالث : أن الأوليين للسابقين ، والأخريين للتابعين ، قاله الحسن .
قال مقاتل : الجنتان الأوليان جنة عدن وجنة النعيم والأخريان جنة الفردوس وجنة المأوى ، وفي الجنات الأربع جنان كثيرة .
ويحتمل رابعاً : أن يكون من دونهما جنتان لأتباعه ، لقصور منزلتهم عن منزلته ، إحدهما للحور العين ، والأخرى للولدان المخلدين ، لتميز بهما الذكور عن الإناث .
{ مُدْهَآمَّتَانِ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أي خضراوان ، قاله ابن عباس .
الثاني : مسودتان ، قاله مجاهد ، مأخوذ من الدهمة وهي السواد ، ومنه سمي سود الخيل دهماً .
الثالث : [ خضروان من الرّي ] ناعمتان ، قاله قتادة .
{ فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدهما : ممتلئتان لا تنقطعان ، قاله الضحاك .
الثاني : جاريتان ، قاله الفراء .
الثالث : فوّارتان ، وذكر في الجنتين الأوليين عينين تجريان ، وذكر في الأخريين عينين نضاختين ، والجري أكثر من النضخ .
وبماذا هما نضاختان؟ فيه أربعة أوجه :
أحدها : بالماء ، قاله ابن عباس .
الثاني : بالمسك والعنبر ، قاله أنس .
الثالث : بالخير والبركة ، قاله الحسن ، والكلبي .
الرابع : بأنواع الفاكهة ، قاله سعيد بن جبير .
{ فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ } يعني الجنات الأربع ، وفي الخيرات قراءتان إحداهما بالتخفيف ، وفي المراد بها قولان :
أحدهما : الخير والنعم المستحسنة .
الثاني : خيرات الفواكه والثمار ، وحسان في المناظر والألوان .
والقرءة الثانية بالتشديد ، وفي المراد بها قولان :
أحدهما : مختارات .
الثاني : ذوات الخير وفيهن قولان :
أحدهما : أنهن الحور المنشآت في الآخرة .
الثاني : أنهن النساء المؤمنات الفاضلات من أهل الدنيا .
وفي تسميتهن خيرات أربعة أوجه :
أحدها : لأنهن خيرات الأخلاق حسان الوجوه ، قاله قتادة وروته أم سلمة مرفوعاً :
الثاني : لأنهن عذارى أبكاراً ، قاله أبو صالح .
الثالث : لأنهن مختارات .
الرابع : لأنهن خيرات صالحات ، قاله أبو عبيدة .
{ حُوْرٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : مقصورات الطرف على أزواجهن فلا يبغين بهم بدلاً ، ولا يرفعن طرفاً إلى غيرهم من الرجال ، قاله مجاهد .
الثاني : المحبوسات في الحجال لَسْنَ بالطوافات في الطرق ، قاله ابن عباس .
الثالث : المخدرات المصونات ، ولا متعطلات ولا متشوِّفات ، قاله زيد بن الحارث ، وأبو عبيدة .
الرابع : أنهن المسكنات في القصور ، قاله الحسن .
ويحتمل خامساً : أن يريد بالمقصورات البيض ، مأخوذ من قصارة الثوب الأبيض ، لأن وقوع الفرق بين المقصورات والقاصرات يقتضي وقوع الفرق بينهما في التأويل :
وفي الخيام ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن الخيام هي البيوت ، قاله ابن بحر .
الثاني : أنها خيام تضرب لأهل الجنة خارج الجنة كهيئة البداوة ، قاله سعيد بن جبير .

الثالث : أنها خيام في الجنة تضاف إلى القصور .
روى ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « الخِيَامُ الدُّرُّ المُجَوَّفُ » .
روي عن أسماء بنت يزيد الأشهلية أنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إننا معشر النساء محصورات مقصورات قواعد بيوتكم وحوامل أولادكم ، فهل نشارككم في الأجر؟ فقال عليه السلام : « نَعَم إِذَا أَحْسَنْتُنَّ تَبَعُّلَ أَزَوَاجِكُنَّ وَطَلَبْتُنَّ مَرْضاتُهُم » .
{ مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ } فيه ستة تأويلات :
أحدها : أن الرفرف المحبس المطيف ببسطه ، قاله ابن كامل .
الثاني : فضول الفرش والبسط ، قاله ابن عباس .
الثالث : أنها الوسائد ، قاله الحسن وعاصم الجحدري .
الرابع : أنها الفرش المرتفعة ، مأخوذ من الرف .
الخامس : أنها المجالس يتكئون على فضولها .
السادس : رياض الجنة ، قاله ابن جبير .
{ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ } فيه أربعة أقاويل :
أحدها : أنها الطنافس المخملية ، قاله الحسن .
الثاني : الديباج ، قاله مجاهد .
الثالث : أنها ثياب في الجنة لا يعرفها أحد ، قاله مجاهد [ أيضاً ] .
الرابع : أنها ثياب الدنيا تنسب إلى عبقر .
وفي عبقري قولان :
أحدهما : أنه سيد القوم ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في عمر رضي الله عنه : « فَلَمْ أَرَ عَبْقَرِياً مِنَ النَّاسِ يَفْري فَرِيَّةُ » فنسبه إلى أرفع الثياب لاختصاصه
. الثاني : أرض عبقر .
وفي تسميتها بذلك قولان :
أحدهما : لكثرة الجن فيها .
الثاني : لكثرة رملها ويكون المراد بذلك أنها تكون مثل العبقري لأن ما ينسج بعبقر لا يكون في الجنة إذا قيل إن عبقر اسم أرض .
{ تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ } فيه وجهان :
أحدهما : معناه ثبت اسم ربك ودام .
الثاني : أن ذكر اسمه يمن وبركة ، ترغيباً في مداومة ذكره .
{ ذِي الْجَلاَلِ وَالإكْرَامِ } في { ذِي الْجَلاَلِ } وجهان :
أحدهما : أنه الجليل .
الثاني : أنه المستحق للإجلال والإعظام .
وفي { الإكْرَامِ } وجهان :
أحدهما : الكريم .
الثاني : ذو الإكرام لمن يطيعه .
إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3) إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (6) وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12)

قوله تعالى { إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ } فيها ثلاثة أقاويل :
أحدها : الصيحة ، قاله الضحاك .
الثاني : الساعة وقعت بحق فلم تكذب ، قاله السدي .
الثالث : أنها القيامة ، قاله ابن عباس ، والحسن .
وسميت الواقعة لكثرة ما يقع فيها من الشدائد .
{ لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذَِبَةٌ } فيها أربعة أوجه :
أحدها : ليس لها مردود ، قاله ابن عباس .
الثاني : لا رجعة فيها ولا مشورة ، قاله قتادة .
الثالث : ليس لها مكذب من مؤمن ولا من كافر ، قاله ابن كامل .
الرابع : ليس الخبر عن وقوعها كذباً .
{ خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : تخفض رجالاً كانوا في الدنيا مرتفعين ، وترفع رجالاً كانوا في الدنيا مخفوضين ، قاله محمد بن كعب .
الثاني : خفضت أعداء الله في النار ، ورفعت أولياء الله في الجنة ، قاله عمر بن الخطاب .
الثالث : خفضت الصوت فأسمعت الأدنى ، ورفعت فأسمعت الأقصى ، قاله عكرمة .
ويحتمل رابعاً : أنها خفضت بالنفخة الأولى من أماتت ، ورفعت بالنفخة الثانية من أحيت .
{ إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجّاً } فيه قولان :
أحدهما : رجفت وزلزلت ، قاله ابن عباس ، قاله رؤبة بن العجاج :
أليس يوم سمي الخروجا ... أعظم يوم رجه رجوجاً
يوماً يرى مرضعة خلوجاً ... الثاني : أنها ترج بما فيها كما يرج الغربال بما فيه ، قاله الربيع بن أنس فيكون تأويلها على القول الأول أنها ترج بإماتة ما على ظهرها من الأحياء ، وتأويلها على القول الثاني أنها ترج لإخراج من في بطنها من الموتى .
{ وَبُسَّتِ الْجِبَالَ بَسّاً } فيه خمسة أقاويل :
أحدها : سالت سيلاً ، قاله مجاهد .
الثاني : هدت هداً ، قاله عكرمة ،
الثالث : سيرت سيراً ، قاله محمد بن كعب ، ومنه قول الأغلب العجلي :
نحن بسسنا بأثر أطاراً ... أضاء خمساً ثمت سارا
الرابع : قطعت قطعاً ، قاله الحسن . .
الخامس : إنها بست كما يبس السويق أي بلت ، البسيسة هي الدقيق يلت ويتخذ زاداً ، قال لص من غطفان :
لا تخبزا خبزاً وبسا بسا ... ولا تطيلا بمناخ حبسا
{ فَكَانَتْ هَبَآءً مُّنبَثّاً } فيه أربعة أقاويل :
أحدها : أنه رهج الغبار يسطع ثم يذهب ، فجعل الله أعمالهم كذلك ، قاله علي .
الثاني : أنها شعاع الشمس الذي من الكوة ، قاله مجاهد .
الثالث : أنه الهباء الذي يطير من النار إذا اضطربت ، فإذا وقع لم يكن شيئاً ، قاله ابن عباس .
الرابع : أنه ما يبس من ورق الشجر تذروه الريح ، قاله قتادة .
وفي المنبث ثلاثة أوجه :
أحدها : المتفرق ، قاله السدي .
الثاني : المنتشر .
الثالث : المنثور .
{ وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاَثَةً } يعني أصنافاً ثلاثة ، قال عمر بن الخطاب : اثنان في الجنة وواحد في النار .
وفيهما وجهان :
أحدهما : ما قاله ابن عباس أنها التي في سورة الملائكة : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا } .
الثاني : ما رواه النعمان بن بشير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :

« وكنتم أزوجاً ثلاثة » الآية .
ويحتمل جعلهم أزواجاً وجهين :
أحدهما : أن ذلك الصنف منهم مستكثر ومقصر ، فصار زوجاً .
الثاني : أن في كل صنف منهم رجالاً ونساء ، فكان زوجاً .
{ فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَآ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ } فيهم خمسة تأويلات :
أحدها : أن أصحاب الميمنة الذين أخذوا من شق آدم الأيمن ، وأصحاب المشأمة الذين أخذوا من شق آدم الأيسر ، قاله زيد بن أسلم .
الثاني : أن أصحاب الميمنة من أوتي كتابه بيمينه ، وأصحاب المشأمة من أوتي كتابه بيساره ، قاله محمد بن كعب .
الثالث : أن أصحاب الميمنة هم أهل الحسنات ، وأصحاب المشأمة هم أهل السيئات ، قاله ابن جريج .
الرابع : أن أصحاب الميمنة الميامين على أنفسهم ، وأصحاب المشأمة المشائيم على أنفسهم ، قاله الحسن .
الخامس : أن أصحاب الميمنة أهل الجنة ، وأصحاب المشأمة أهل النار ، قاله السدي .
وقوله : { وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَآ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ } لتكثير ما لهم من العقاب .
{ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُوْلِئِكَ الْمُقَرَّبُونَ } فيهم خمسة أقاويل :
أحدها : أنهم الأنبياء ، قاله محمد بن كعب .
الثاني : أنهم الاسبقون إلى الإيمان من كل أمة ، قاله الحسن ، وقتادة .
الثالث : أنهم الذين صلوا إلى القبلتين ، قاله ابن سيرين .
الرابع : هم أول الناس رواحاً إلى المساجد وأسرعهم خفوفاً في سبيل الله ، قاله عثمان بن أبي سوادة .
الخامس : أنهم أربعة : منهم سابق أمة موسى وهو حزقيل مؤمن آل فرعون ، وسابق أمة عيسى وهو حبيب النجار صاحب أنطاكية ، وسابقان من أمة محمد صلى الله عليه وسلم وهما : أبو بكر وعمر ، قاله ابن عباس .
ويحتمل سادساً : أنهم الذي أسلموا بمكة قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وبالمدينة قبل هجرته إليهم لأنهم سبقوا بالإسلام قبل زمان الرغبة والرهبة .
وفي تكرار قوله تعالى : { وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ } قولان :
أحدهما : السابقون في الدنيا إلى الإيمان ، السابقون في الآخرة إلى الجنة هم المقربون ، قاله الكلبي .
الثاني : يحتمل أنهم المؤمنون بالأنبياء في زمانهم ، وسابقوهم بالايمان هم المقربون المقدمون منهم .
ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (19) وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26)

{ ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنهم الجماعة ، ومنه قول الشاعر :
ولست ذليلاً في العشيرة كلها ... تحاول منها ثلة لا يسودها
الثاني : الشطر وهو النصف ، قاله الضحاك .
الثالث : أنها الفئة ، قاله أبو عبيدة ، ومنه قول دريد بن الصمة :
ذريني أسير في البلاد لعلني ... ألاقي لبشر ثلة من محارب
وفي قوله تعالى : { مِّنَ الأَوََّلِينَ } قولان :
أحدهما : أنهم أَصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، قاله أبو بكرة .
الثاني : أنهم قوم نوح ، قاله الحسن .
{ وَقَلِيلٌ مِّنَ الأَخرِينَ } فيه قولان :
أحدهما : أنهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، قاله الحسن .
الثاني : أنهم الذين تقدم إسلامهم قبل أن يتكاملوا ، روى أبو هريرة أنه لما نزلت { ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَلِينَ وَقَلِيلٌ مِّنَ الأخِرِينَ } شق ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت { ثلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مَّنَ الأخِرِينَ } فقال عليه السلام : « إِنِّي لأرْجُو أَنْ تَكُونُوا رُبْعَ أَهْلَ الْجَنَّةِ بَلْ ثُلُتَ أَهْلِ الجَنَّةِ بَلْ أَنتُم نِصْفَ أَهْلِ الجَنَّةِ وَتُقَاسِمُونَهُم فِي النِّصْفِ الثَّانِي » .
{ عَلَى سُرُرٍ مَّوضُونَةٍ } يعني الأسرة ، واحدها سرير ، سميت بذلك لأنها مجلس السرور .
وفي الموضونة أربعة أوجه :
أحدها : أنها الموصولة بالذهب ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنها المشبكة النسج ، قاله الضحاك ، ومنه قول لبيد :
إن يفزعوا فسرا مع موضونة ... والبيض تبرق كالكواكب لامها
الثالث : أنها المضفورة ، قاله أبو حرزة يعقوب بن مجاهد ، ومنه وضين الناقة وهو البطان العريض المضفور من السيور .
الرابع : أنها المسندة بعضها إلى بعض .
{ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ } الولدان : جمع وليد وهم الوصفاء .
وفي قوله تعالى : { مُّخَلَّدُونَ } قولان :
أحدهما : [ مسورون ] بالأسورة ، [ مقرطون ] بالأقراط ، قاله الفراء ، قال الشاعر :
ومخلدات باللجين كأنما ... أعجازهن أقاوز الكثبان
الثاني : أنهم الباقون على صغرهم لا يموتون ولا يتغيرون ، قاله الحسن ، ومنه قول امرىء القيس :
وهل ينعمن إلا سعيد مخلد ... قليل الهموم ما يبيت بأوجال
ويحتمل ثالثاً : أنهم الباقون معهم لا يبصرون عليهم ولا ينصرفون عنهم بخلافهم في الدنيا .
{ بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ } فيهما قولان :
أحدهما : أن الأكواب : التي ليس لها عُرى ، قاله الضحاك .
الثاني : أن الأكواب : مدورة الأفواه ، والأباريق : التي يغترف بها ، قاله قتادة ، قال الشاعر :
فعدوا عليّ بقرقف ... ينصب من أكوابها
{ وَكَأَسٍ مِّن مَّعِينٍ } والكأس اسم للإناء إذا كان فيه شراب ، والمعين الجاري من ماء أو خمر ، غير أن المراد به في هذا الموضوع الخمر ، وصف الخمر بأنه الجاري من عينه بغير عصر كالماء المعين .
{ لاَّ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : معناه لا يمنعون منها ، قاله أبو حرزة يعقوب بن مجاهد .
الثاني : لا يفرّقون عنها ، حكاه ابن قتيبة ، واستشهد عليه بقول الراجز :
صد عنه فانصدع . ... الثالث : لا ينالهم من شربها وجع الرأس وهو الصداع ، قاله ابن جبير ، وقتادة ، ومجاهد ، والسدي .

وفي قوله تعالى : { وَلاَ يُنزِفُونَ } أربعة أوجه :
أحدها : لا تنزف عقولهم فيسكرون ، قاله ابن زيد ، وقتادة .
الثاني : لا يملون ، قاله عكرمة .
الثالث : لا يتقيئون ، قاله يحيى بن وثاب .
الرابع : وهو تأويل من قرأ بكسر الزاي لا يفنى خمرهم ، ومنه قول الأبيرد :
لعمري لئن أنزفتم أو صحوتم ... لبئس الندامى أنتم آل أبجرا
وروى الضحاك عن ابن عباس قال : في الخمر أربع خصال : السكر ، والصداع ، والقيء ، والبول ، وقد ذكر الله خمر الجنة فنزهها عن هذه الخصال .
{ وَحُورٌ عِينٌ } والحور البيض سمين لبياضهن ، وفي العين وجهان :
أحدهما : أنهن كبار الأعين ، كما قال الشاعر :
إذا كبرت عيون من النساء ... ومن غير النساء فهن عين
الثاني : أنهن اللاتي سواد أعينهن حالك ، وبياض أعينهن نقي ، كما قال الشاعر :
إذا ما العين كان بها احورار ... علامتها البياض على السواد
{ كَأَمْثَالِ اللؤْلُؤِ الْمَكْنُُونِ } فيه وجهان :
أحدهما : في نضارتها وصفاء ألوانها .
الثاني : أنهن كأمثال اللؤلؤ في تشاكل أجسادهن في الحسن من جميع جوانبهن ، كما قال الشاعر :
كأنما خلقت في قشر لؤلؤة ... فكل أكنافها وجه لمرصاد
{ لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : لا يسمعون في الجنة باطلاً ولا كذباً ، قاله ابن عباس .
الثاني : لا يسمعون فيها خُلفاً ، أي لا يتخالفون عليها كما يتخالفون في الدنيا ، ولا يأثمون بشربها ، كما يأثمون في الدنيا ، قاله الضحاك .
الثالث : لا يسمعون فيها شتماً ولا مأثماً ، قاله مجاهد .
يحتمل رابعاً : لا يسمعون مانعاً لهم منها ، ولا مشنعاً لهم على شربها .
{ إِلاَّ قِيلاً سَلاَماً سَلاَماً } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : لكن يسمعون قولاً ساراً وكلاماً حسناً .
الثاني : لكن يتداعون بالسلام على حسن الأدب وكريم الأخلاق .
الثالث : يعني قولاً يؤدي إلى السلامة .
ويحتمل رابعاً : أن يقال لهم هنيئاً .
وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا (37) لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40)

{ وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَآ أَصْحَابُ الْيَمِينِ } فيه ستة أقاويل :
أحدها : أنهم أصحاب الحق ، قاله السدي .
الثاني : أنهم دون منزلة المقربين ، قاله ميمون بن مهران .
الثالث : أنهم من أعطي كتابه بيمينه ، قاله يعقوب بن مجاهد .
الرابع : أنهم التابعون بإحسان ممن لم يدرك الأنبياء من الأمم ، قاله الحسن .
الخامس : ما رواه أسباط عن السدي : أن الله تعالى مسح ظهر آدم فمسح صفحة ظهره اليمنى فأخرج ذرية كهيئة الذر بيضاء فقال لهم ادخلوا الجنة ولا أبالي ، ومسح صفحة ظهره اليسرى فأخرج ذرية كهيئة الذر سوداء ، فقال لهم ادخلوا النار ولا أبالي ، فذلك هو قوله تعالى : { وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ } ، وقوله : { وَأصْحَابُ الْشِّمَالِ } .
السادس : ما رواه جعفر بن محمد عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أصحاب اليمين الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً ثم تابوا بعد ذلك وأصلحوا . »
{ فِي سِدْرٍ مَّخضُودٍ } والسدر النبق ، وفي مخضود ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه اللين الذي لا شوك فيه ، قاله عكرمة ، وقال غيره لا عجم لنبقه ، يقال خضدت الشجرة إذا حذقت شوكها .
الثاني : أنه الموقر حملاً ، قاله مجاهد .
الثالث : المدلاة الأغصان ، وخص السدر بالذكر لأن ثمره أشهى الثمر إلى النفوس طمعاً وألذه ريحاً .
{ وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن الطلح الموز ، قاله ابن عباس ، وابو سعيد الخدري ، وأبو هريرة ، والحسن ، وعكرمة .
الثاني : أنها شجرة تكون باليمن وبالحجاز كثيراً تسمى طلحة ، قاله عبد الله بن حميد ، وقيل إنها من أحسن الشجر منظراً ، ليكون بعض شجرهم مأكولاً وبعضه منظوراً ، قال الحادي :
بشرها دليلها وقالا ... غداً ترين الطلح والأحبالا
الثالث : أنه الطلع ، قاله علي ، وحكى أنه كان يقرأ : { وَطَلْعٍ مَّنضُودٍ } ، وفي المنضود قولان :
أحدهما : المصفوف ، قاله السدي .
الثاني : المتراكم ، قاله مجاهد .
{ وَظِلٍ مَّمْدُودٍ } أي دائم .
ويحتمل ثانياً : أنه التام .
{ وَمَآءٍ مَّسْكُوبٍ } أي منصب في غير أخدود .
ويحتمل آخر : أنه الذي ينسكب عليهم من الصعود والهبوط بخلاف الدنيا ، قال الضحاك : من جنة عدن إلى أهل الخيام .
{ وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لاَّ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ } يحتمل وجهين :
أحدهما : لا مقطوعة بالفناء ولا ممنوعة من اليد بشوك أو بعد .
وفيه وجه ثالث : لا مقطوعة بالزمان ولا ممنوعة بالأشجار .
{ وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ } فيها قولان :
أحدهما : أنها الحشايا المفروشة للجلوس والنوم ، مرفوعة بكثرة حشوها زيادة في الاستمتاع بها .
الثاني : أنهم الزوجات لأن الزوجة تسمى فراشاً ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : « الوَلَدُ لِلْفرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الحَجَرُ » قاله ابن بحر . فعلى هذا يحتمل وجهين :
أحدهما : مرفوعات في القلوب لشدة الميل إليهن .
الثاني : مرفوعات عن الفواحش والأدناس .
{ إِنَّآ أَنشَأناهُنَّ إِنشَآءً } يعني نساء أهل الدنيا ، وفي إنشائهن في الجنة قولان :
أحدهما : يعني إنشاءهن في القبور ، قاله ابن عباس .

الثاني : إعادتهن بعد الشمط والكبر صغاراً أبكاراً ، قاله الضحاك ، وروته أم سلمة مرفوعاً :
{ فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً } فيه قولان :
أحدهما : عذارى بعد أن كن غير عذارى ، قاله يعقوب بن مجاهد .
الثاني : لا يأتيها إلا وجدها بكراً ، قاله ابن عباس .
ويحتمل ثالثاً : أبكاراً من الزوجات ، وهن الأوائل لأنهن في النفوس أحلى والميل إليهن أقوى ، كما قال الشاعر :
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى ... فصادف قلباً فارغاً فتمكنا
قوله تعالى { عُرُباً أَتْرَاباً } فيه سبعة تأويلات :
أحدها : أن العرب المنحبسات على أزواجهن المتحببات إليهم ، قاله سعيد بن جبير ، والكلبي .
الثاني : أنهن المتحببات من الضرائر ليقفن على طاعته ويتساعدن على إشاعته ، قاله عكرمة .
الثالث : الشكلة بلغة أهل مكة ، والغنجة بلغة أهل المدينة ، قاله ابن زيد ، ومنه قول لبيد :
وفي الخباء عروب غير فاحشة ... ريا الروادف يعشى دونها البصر
الرابع : هن الحسنات الكلام ، قاله ابن زيد . [ أيضاً ] .
الخامس : أنها العاشقة لزوجها لأن عشقها له يزيده ميلاً إليها وشغفاً بها .
السادس : أنها الحسنة التبعُّل ، لتكون ألذ استمتاعاً .
السابع : ما رواه جعفر بن محمد عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « عُرُباً كَلاَمُهُنَّ عَرَبِّي »
{ أَتْراباً } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : يعني أقران ، قاله عطية .
وقال الكلبي : على سن واحدة ثلاث وثلاثين سنة ، يقال في النساء أتراب ، وفي الرجال أقران ، وأمثال ، وأشكال ، قاله مجاهد .
الثالث : أتراب في الأخلاق لا تباغض بينهن ولا تحاسد ، قاله السدي .
وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56)

{ وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ } فيه قولان :
أحدهما الدخان ، قاله أبو مالك .
الثاني : أنها نار سوداء ، قاله ابن عباس .
{ لاَّ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ } فيه وجهان :
أحدهما : لا بارد المدخل ، ولا كريم المخرج ، قاله ابن جريج .
الثاني : لا كرامة فيه لأهله .
ويحتمل ثالثاً : أن يريد لا طيب ولا نافع .
{ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرفِينَ } فيه وجهان :
أحدهما : منعمين ، قاله ابن عباس .
الثاني : مشركين ، قاله السدي .
ويحتمل وصفهم بالترف وجهين :
أحدهما : التهاؤهم عن الإعتبار وشغلهم عن الإزدجار .
الثاني : لأن عذاب المترف أشد ألماً .
{ وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه الشرك بالله ، قاله الحسن ، والضحاك ، وابن زيد .
الثاني : الذنب العظيم الذي لا يتوبون منه ، قاله قتادة ، ومجاهد .
الثالث : هو اليمين الموس ، قاله الشعبي .
ويحتمل رابعاً : أن يكون الحنث العظيم نقض العهد المحصن بالكفر .
{ فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ } فيه أربعة أقاويل :
أحدها : أنها الأرض الرملة التي لا تروى بالماء ، وهي هيام الأرض ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنها الإبل التي يواصلها الهيام وهو داء يحدث عطشاً فلا تزال الإبل تشرب الماء حتى تموت ، قاله عكرمة ، والسدي ، ومنه قول قيس بن الملوح :
يقال به داء الهيام أصابه ... وقد علمت نفسي مكان شفائياً
الثالث : أن الهيم الإبل الضوال لأنها تهيم في الأرض لا تجد ماءً فإذا وجدته فلا شيء أعظم منها شرباً .
الرابع : أن شرب الهيم هو أن تمد الشرب مرة واحدة إلى أن تتنفس ثلاث مرات ، قاله خالد بن معدان ، فوصف شربهم الحميم بأنه كشرب الهيم لأنه أكثر شرباً فكان أزيد عذاباً .
{ هَذَا نُزْلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ } أي طعامهم وشرابهم يوم الجزاء ، يعني في جهنم .
نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (62)

{ نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلاَ تُصَدِّقُونَ } يحتمل وجهين :
أحدهما : نحن خلقنا رزقكم أفلا تصدقون أن هذا طعامكم .
الثاني : نحن خلقناكم فلولا تصدقون أننا بالجزاء : بالثواب والعقاب اردناكم .
{ أَفَرَءَيْتُم مَّا تُمْنُونَ } يعني نطفة المني ، قال الفراء ، يقال أمنى يمني ومنى يمني بمعنى واحد .
ويحتمل عندي أن يختلف معناهما فيكون أمنى إذا أنزل عن جماع ، ومني إذا عن احتلام .
وفي تسمية المني منياً وجهان :
أحدهما : لإمنائه وهو إراقته .
الثاني : لتقديره ومنه المناء الذي يوزن به فإنه مقدار لذلك فكذلك المني مقدار صحيح لتصوير الخلقة .
{ ءَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ } يحتمل وجهين :
أحدهما : أي نحن خلقنا من المني المهين بشراً سوياً ، فيكون ذلك خارجاً مخرج الإمتنان .
الثاني : أننا خلقنا مما شاهدتموه من المني بشراً فنحن على خلق ما غاب من إعادتكم أقدر ، فيكون ذلك خارجاً مخرج البرهان ، لأنهم على الوجه الأول معترفون ، وعلى الوجه الثاني منكرون .
{ نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمْ الْمَوْتَ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : قضينا عليكم بالموت .
الثاني : كتبنا عليكم الموت .
الثالث : سوينا بينكم الموت .
فإذا قيل بالوجه الأول بمعنى قضى ففيه وجهان :
أحدهما قضى بالفناء ثم الجزاء .
الثاني : ليخلف الأبناء الآباء .
وإذا قيل بالوجه الثاني أنه بمعنى كتبنا ففيه وجهان :
أحدهما : كتبنا مقداره فلا يزيد ولا ينقص ، قاله ابن عيسى .
الثاني : كتبنا وقته فلا يتقدم عليه ولا يتأخر ، قاله مجاهد .
وإذا قيل بالوجه الثالث أنه بمعنى سوينا ففيه وجهان :
أحدهما : سوينا بين المطيع والعاصي .
الثاني : سوينا بين أهل السماء وأهل الأرض ، قاله الضحاك .
{ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ } فيه وجهان :
أحدهما : وما نحن بمسبوقين على ما قدرنا بينكم الموت حتى لا تموتوا .
الثاني : وما نحن بمسبوقين على أن تزيدوا في مقداره وتؤخروه عن وقته .
والوجه الثاني : أنه ابتداء كلام يتصل به ما بعده من قوله تعالى : { عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئِكُم فِي مَا لاَ تَعْلَمُونَ } فعلىهذا في تأويله وجهان :
أحدهما : لما لم نسبق إلى خلق غيركم كذلك لا نعجز عن تغيير أحوالكم بعد موتكم .
الثاني : كما لم نعجز عن خلق غيركم كذلك لا نعجز عن تغيير أحوالكم بعد موتكم كما لم نعجز عن تغييرها في حياتكم .
فعلى هذا التأويل يكون في الكلام مضمر محذوف ، وعلى التأويل الأول يكون جميعه مظهراً .
أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)

{ أَفَرَءَيْتُمْ مَّا تَحْرُثُونَ } الآية . فأضاف الحرث إليهم والزرع إليه تعالى لأن الحرث فعلهم ويجري على اختيارهم ، والزرع من فعل الله وينبت على إختياره لا على إختيارهم ، وكذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم : « لاَ يَقُولَنَّ أَحَدُكُم زَرَعْتُ وَلَكِن لِيَقُلْ حَرَثْتُ » .
وتتضمن هذه الآية أمرين :
أحدهما : الإمتنان عليهم بأن أنبت زرعهم حتى عاشوا به ليشكروه على نعمته عليهم .
الثاني : البرهان الموجب للإعتبار بأنه لما أنبت زرعهم بعد تلاشي بذوره وإنتقاله إلى إستواء حاله ، [ من العفن إلى الترتيب ] حتى صار زرعاً أخضر ، ثم جعله قوياً مشتداً أضعاف ما كان عليه ، فهو بإعادة من مات أحق وعليه أقدر ، وفي هذا البرهان مقنع لذوي الفطر السليمة .
ثم قول تعالى { لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً } يعني الزرع ، والحطام الهشيم الهالك الذي لا ينتفع به ، فنبه بذلك على أمرين :
أحدهما : ما أولاهم من النعم في زرعهم إذ لم يجعله حطاماً ليشكروه .
الثاني : ليعتبروا بذلك في أنفسهم ، كما أنه يجعل الرزع حطاماً إذا شاء كذلك يهلكهم إذا شاء ليتعظوا فينزجروا .
{ فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ } بعد مصير الزرع حطاماً ، وفيه أربعة أوجه :
أحدها : تندمون ، وهو قول الحسن وقتادة ، ويقال إنها لغة عكل وتميم .
الثاني : تحزنون ، قاله ابن كيسان .
الثالث : تلاومون ، قاله عكرمة .
الرابع : تعجبون ، قاله ابن عباس . وإذا نالكم هذا في هلاك زرعكم كان ما ينالكم في هلاك أنفسكم أعظم .
{ إِنَّا لَمُغْرَمُونَ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : لمعذبون ، قاله قتادة ، ومنه قول ابن المحلم :
وثقت بأن الحفظ مني سجية ... وأن فؤادي مبتلى بك مغرم
الثاني : مولع بنا ، قاله عكرمة ، ومنه قول النمر بن تولب :
سلا عن تذكره تكتما ... وكان رهيناً بها مغرماً
أي مولع .
الثالث : محرومون من الحظ ، قاله مجاهد ، ومنه قول الشاعر :
يوم النسار ويوم الجفا ... ركانا عذاباً وكانا غراماً
{ أَفَرَءَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ } أي تستخرجون بزنادكم من شجر أو حديد أو حجر ، ومنه قول الشاعر :
فإن النار بالزندين تورى ... وإن الشر يقدمه الكلام
{ ءَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَآ } أي أخذتم أصلها .
{ أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ } يعني المحدثون .
{ نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً } فيه وجهان :
أحدهما : تذكرة لنار [ الآخرة ] الكبرى ، قاله قتادة .
الثاني : تبصرة للناس من الظلام ، قاله مجاهد .
{ وَمَتَاعاً لِّلْمُقْوينَ } فيه خمسة أقاويل :
أحدها : منفعة للمسافرين قاله الضحاك ، قال الفراء : إنما يقال للمسافرين إذا نزلوا القِيّ وهي الأرض القفر التي لا شيء فيها .
الثاني : المستمتعين من حاضر ومسافر ، قاله مجاهد .
الثالث : للجائعين في إصلاح طعامهم ، قاله ابن زيد .
الرابع : الضعفاء والمساكين ، مأخوذ من قولهم قد أقوت الدار إذا خلت من أهلها ، حكاه ابن عيسى .
والعرب تقول قد أقوى الرجل إذا ذهب ماله ، قال النابغة :
يقوى بها الركب حتى ما يكون لهم ... إلا الزناد وقدح القوم مقتبس
الخامس : أن المقوي الكثير المال ، مأخوذ من القوة فيستمتع بها الغني والفقير .
فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80) أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82)

{ فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ الْنُّجُومِ } فيه وجهان :
أحدهما : أنه إنكار أن يقسم الله بشيء من مخلوقاته ، قال الضحاك : إن الله لا يقسم بشىء من خلقه ولكنه استفتاح يفتتح به كلامه .
الثاني : أنه يجوز أن يقسم الخالق بالمخلوقات تعظيماً من الخالق لما أقسم به من مخلوقاته .
فعلى هذا في قوله : { فَلاَ أُقْسِمُ } وجهان :
أحدهما : أن « لا » صلة زائدة ، ومعناه أقسم .
الثاني : أن قوله : { فَلاَ } راجع إلى ما تقدم ذكره ، ومعناه فلا تكذبوا ولا تجحدوا ما ذكرته من نعمة وأظهرته من حجة ، ثم استأنف كلامه فقال : { أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ } .
وفيها ستة أقاويل :
أحدها : أنها مطالعها ومساقطها ، قاله مجاهد .
الثاني : إنتشارها يوم القيامة وإنكدارها ، قاله الحسن .
الثالث : أن مواقع النجوم السماء ، قاله ابن جريج .
الرابع : أن مواقع النجوم الأنواء التي كان أهل الجاهلية إذا مطروا قالوا : مطرنا بنوء كذا ، قاله الضحاك ، ويكون قوله : { فلا أقسم } مستعملاً على حقيقته في نفي القسم بها .
الخامس : أنها نجوم القرآن أنزلها الله من اللوح المحفوظ من السماء العليا إلى السفرة الكرام الكاتبين في السماء الدنيا ، فنجمه السفرة على جبريل عشرين ليلة ، ونجمه جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم عشرين سنة ، فهو ينزله على الأحداث في أمته ، قاله ابن عباس والسدي .
السادس : أن مواقع النجوم هو محكم القرآن ، حكاه الفراء عن ابن مسعود .
{ وَإِنَّهُ قَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ } فيه قولان :
أحدهما : أن القرآن قسم عظيم ، قاله ابن عباس .
الثاني : أن الشرك بآياته جرم عظيم ، قاله ابن عباس ، والضحاك .
ويحتمل ثالثاً : أن ما أقسم الله به عظيم .
{ إِنَّهُ لَقُرْءَانٌ } يعني أن هذا القرآن كريم ، وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها : كريم عند الله .
الثاني : عظيم النفع للناس .
الثالث : كريم بما فيه من كرائم الأخلاق ومعالي الأمور .
ويحتمل أيضاً رابعاً : لأنه يكرم حافظه ويعظم قارئه .
{ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ } وفيه أربعة أقاويل :
أحدها : أنه كتاب في السماء وهو اللوح المحفوظ ، قاله ابن عباس ، وجابر بن زيد .
الثاني : التوراة والإنجيل فيهما ذكر القرآن وذكر من ينزل عليه ، قاله عكرمة .
الثالث : أنه الزبور .
الرابع : أنه المصحف الذي في أيدينا ، قاله مجاهد ، وقتادة .
وفي { مَّكْنُونٍ } وجهان :
أحدهما : مصون ، وهو معنى قول مجاهد .
الثاني : محفوظ عن الباطل ، قاله يعقوب بن مجاهد .
ويحتمل ثالثاً : أن معانيه مكنونة فيه .
{ لاَّ يَمَسَّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ } تأويله يختلف بإختلاف الكتاب ، فإن قيل : إنه كتاب في السماء ففي تأويله قولان :
أحدهما : لا يمسه في السماء إلا الملائكة المطهرون ، قاله ابن عباس ، وسعيد بن جبير .
الثاني : لا ينزله إلا الرسل من الملائكة إلى الرسل من الأنبياء ، قاله زيد بن أسلم .
وإن قيل إنه المصحف الذي في أيدينا ففي تأويله ستة أقاويل :
أحدها : لا يمسه بيده إلا المطهرون من الشرك ، قاله الكلبي .

الثاني : إلا المطهرون من الذنوب والخطايا قاله الربيع بن أنس .
الثالث : إلا المطهرون من الأحداث والأنجاس ، قاله قتادة . الرابع : لا يجد طعم نفعه إلا المطهرون أي المؤمنون بالقرآن ، حكاه الفراء .
الخامس : لا يمس ثوابه إلا المؤمنون ، رواه معاذ عن النبي صلى الله عليه وسلم .
السادس : لا يلتمسه إلا المؤمنون ، قاله ابن بحر .
{ أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنتُم مُّدْهِنُونَ } يعني بهذا الحديث القرآن الذي لا يمسه إلا المطهرون .
وفي قوله مدهنون أربعة تأويلات :
أحدها : مكذبون ، قاله ابن عباس .
الثاني : معرضون ، قاله الضحاك .
الثالث : ممالئون الكفار على الكفر به ، قاله مجاهد .
الرابع : منافقون في التصديق به حكاه ابن عيسى ، ومنه قول الشاعر :
لبعض الغشم أبلغ في أمور ... تنوبك من مداهنة العدو
{ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُم إِنَّكُم تُكَذِّبُونَ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه الإستسقاء بالأنواء وهو قول العرب مطرنا بنوء كذا ، قاله ابن عباس ورواه علي بن أبي طالب عن النبي صلى الله عليه وسلم .
الثاني : الاكتساب بالسحر ، قاله عكرمة .
الثالث : هو أن يجعلوا شكر الله على ما رزقهم تكذيب رسله والكفر به ، فيكون الرزق الشكر ، وقد روي عن علي أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ : { وَتَجْعَلُونَ شُكْرَكُم أَنَّكُم تُكَذِّبُونَ } .
ويحتمل رابعاً : أنه ما يأخذه الأتباع من الرؤساء على تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم والصد عنه .
فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87)

{ فَلَوْلاَ إِن كُنْتُم غَيْرَ مَدِينِينَ } فيه سبعة تأويلات :
أحدها : غير محاسبين ، قاله ابن عباس .
الثاني : غير مبعوثين ، قاله الحسن .
الثالث : غير مصدقين ، قاله سعيد بن جبير .
الرابع : غير مقهورين ، قاله ميمون بن مهران .
الخامس : غير موقنين ، قاله مجاهد .
السادس : غير مجزيين بأعمالكم ، حكاه الطبري .
السابع : غير مملوكين ، قاله الفراء .
{ تَرْجِعُونَهَآ } أي ترجع النفس بعد الموت إلى الجسد إن كنتم صادقين أنكم غير مذنبين .
فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)

{ فَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ } فيهم وجهان :
أحدهما : أنهم أهل الجنة ، قاله يعقوب بن مجاهد .
الثاني : أنهم السابقون ، قاله أبو العالية .
{ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ } في الرَّوْح ثمانية تأويلات :
أحدها : الراحة ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنه الفرح ، قاله ابن جبير .
الثالث : أنه الرحمة ، قاله قتادة .
الرابع : أنه الرخاء ، قاله مجاهد .
الخامس : أنه الرَوح من الغم والراحة من العمل ، لأنه ليس في الجنة غم ولا عمل ، قاله محمد بن كعب .
السادس : أنه المغفرة ، قاله الضحاك .
السابع : التسليم ، حكاه ابن كامل .
الثامن : ما روى عبد الله بن شقيق عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ { فَرُوُحٌ } بضم الراء ، وفي تأويله وجهان :
أحدهما : بقاء روحه بعد موت جسده .
الثاني : ما قاله الفراء أن تأويله حياة لا موت بعدها في الجنة .
وأما الريحان ففيه ستة تأويلات :
أحدها : أنه الإستراحة عند الموت ، قاله ابن عباس .
الثاني : الرحمة ، قاله الضحاك .
الثالث : أنه الرزق ، قاله ابن جبير .
الرابع : أنه الخير ، قاله قتادة .
الخامس : أنه الريحان المشموم يُتَلَقَّى به العبد عند الموت ، رواه عبد الوهاب .
السادس : هو أن تخرج روحه ريحانة ، قال الحسن .
واختلف في محل الرَوْح على خمسة أقوال .
أحدها : عند الموت .
الثاني : قبره ما بين موته وبعثه .
الثالث : الجنة زيادة على الثواب والجزاء ، لأنه قرنه بذكر الجنة فاقتضى أن يكون فيها .
الرابع : أن الروح في القبر ، والريحان في الجنة .
الخامس : أن الروح لقلوبهم ، والريحان لنفوسهم ، والجنة لأبدانهم .
{ وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَسَلاَمٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ } فيه وجهان :
أحدهما : أنه سلامته من الخوف وتبشيره بالسلامة .
الثاني : أنه يحيا بالسلام إكراماً ، فعلى هذا في محل السلام ثلاثة أقاويل :
أحدها : عند قبض روحه في الدنيا يسلم عليه ملك الموت ، قاله الضحاك .
الثاني : عند مساءلته في القبر ، يسلم عليه منكر ونكير .
الثالث : عند بعثه في القيامة تسلم عليه الملائكة قبل وصوله إليها .
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3)

قوله تعالى { سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَواتِ وَالأَرْضِ } في هذا التسبيح ثلاثة أوجه :
أحدها : يعني أن خلق ما في السموات والأرض يوجب تنزيهه عن الأمثال والأشباه .
الثاني : تنزيه الله قولاً مما أضاف إليه الملحدون ، وهو قول الجمهور .
الثالث : أنه الصلاة ، سميت تسبيحاً لما تتضمنه من التسبيح ، قاله سفيان ، والضحاك .
فقوله : { سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ } يعني الملائكة وما فيهن من غيرهم وما في الأرض يعني في الحيوان والجماد ، وقد ذكرنا في تسبيح الجماد وسجوده ما أغنى عن الإعادة .
{ وَهُوَ الْعَزِيزُ } في انتصاره ، { الْحَكِيمُ } في تدبيره .
{ هُوَ الأَوَّلُ وِالأخِرُ } يريد بالأول أنه قبل كل شيء لقدمه ، وبالآخر لأنه بعد كل شيء لبقائه .
{ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : الظاهر فوق كل شيء لعلوه ، والباطن إحاطته بكل شيء لقربه ، قاله ابن حيان .
الثاني : أنه القاهر لما ظهر وبطن كما قال تعالى : { فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ ءَامَنُوا عَلَى عَدُوِّهِم فََأصْبَحُواْ ظَاهِرِينَ } .
الثالث : العالم بما ظهر وما بطن .
{ وَهُوَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٍ } يعني بالأول والآخر والظاهر والباطن .
ولأصحاب الخواطر في ذلك ثلاثة أوجه :
أحدها : الأول في ابتدائه بالنعم ، والآخر في ختامه بالإحسان ، والظاهر في إظهار حججه للعقول ، والباطن في علمه ببواطن الامور .
الثاني : الأول بكشف أحوال الآخرة حين ترغبون فيها ، والآخر بكشف أحوال الدنيا حين تزهدون فيها ، والظاهر على قلوب أوليائه حين يعرفونه ، والباطن على قلوب أعدائه حين ينكرونه .
الثالث : الأول قبل كل معلوم ، والآخر بعد كل مختوم ، والظاهر فوق كل مرسوم ، والباطن محيط بكل مكتوم .
هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (6)

{ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ } قال مقاتل : من مطر ، وقال غيره : من مطر وغير مطر .
{ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا } قال مقاتل : من نبات وغير نبات .
{ وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَآءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا } قال مقاتل : من الملائكة ، وقال غيره : من ملائكة وغير ملائكة .
ويحتمل وجهاً آخر : ما يلج في الأرض من بذر ، وما يخرج منها من زرع ، وما ينزل من السماء من قضاء ، وما يعرج فيها من عمل ، ليعلموا إحاطة علمه بهم فيما أظهروه أو ستروه ، ونفوذ قضائه فيهم بما أرادوه أو كرهوه .
{ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُم } فيه وجهان :
أحدهما : علمه معكم أينما كنتم حيث لا يخفى عليه شيء من أعمالكم ، قاله مقاتل .
والثاني : قدرته معكم أينما كنتم حيث لا يعجزه شيء من أموركم .
آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (9) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11) يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12)

{ وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ } تحتمل هذه النفقة وجهين :
أحدهما : أن تكون الزكاة المفروضة .
والثاني : أن يكون غيرها من وجوه الطاعات .
وفي { ما جَعَلَكْم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ } قولان :
أحدهما : يعني مما جعلكم معمرين فيه بالرزق ، قاله مجاهد .
الثاني : مما جعلكم مستخلفين فيه بوراثتكم له عمن قبلكم ، قاله الحسن .
ويحتمل ثالثاً : مما جعلكم مستخلفين على القيام بأداء حقوقه .
{ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ } يحتمل وجهين :
أحدهما : معناه ولله ملك السموات والأرض .
الثاني : أنهما راجعان إليه بانقباض من فيهما كرجوع الميراث إلى المستحق .
{ لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ } فيه قولان :
أحدهما : لا يستوي من أسلم من قبل فتح مكة وقاتل ومن أسلم بعد فتحها وقاتل ، قاله ابن عباس ، ومجاهد .
الثاني : يعني من أنفق ماله في الجهاد وقاتل ، قاله قتادة .
وفي هذا الفتح قولان :
أحدهما : فتح مكة ، قاله زيد بن أسلم .
الثاني : فتح الحديبية ، قاله الشعبي ، قال قتادة : كان قتالان أحدهما أفضل من الأخر ، وكانت نفقتان إحداهما أفضل من الأخرى ، كان القتال والنفقة قبل فتح مكة أفضل من القتال والنفقة بعد ذلك .
{ وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى } فيه قولان :
أحدهما : أن الحسنى الحسنة ، قاله مقاتل .
الثاني : الجنة ، قاله مجاهد .
ويحتمل ثالثاً : أن الحسنى القبول والجزاء .
{ مَّن ذَا الَّذِي يُقْرضُ اللَّه قَرْضاً حَسَناً } فيه خمسة أقاويل :
أحدها : أن القرض الحسن هو أن يقول : سبحان الله والحمد لله ولا حول ولا قوة إلا بالله والله أكبر ، رواه سفيان عن ابن حيان .
الثاني : أنه النفقة على الأهل ، قاله زيد بن أسلم .
الثالث : أنه التطوع بالعبادات ، قاله الحسن .
الرابع : أنه عمل الخير ، والعرب تقول لي عند فلان قرض صدق أو قرض سوء ، إذا فعل به خيراً أو شراً ، ومنه قول الشاعر :
وتجزي سلاماً من مقدم قرضها ... بما قدمت أيديهم وأزلت
الخامس : أنه النفقة في سبيل الله ، قاله مقاتل بن حيان .
وفي قوله : { حَسَناً } وجهان :
أحدهما : طيبة بها نفسه ، قاله مقاتل .
الثاني : محتسباً لها عند الله ، قاله الكلبي ، وسمي قرضاً لاستحقاق ثوابه ، قاله لبيد :
وإذا جوزيت قرضاً فاجزه ... إنما يجزى الفتى ليس الجمل
وفي تسميته { حَسَناً } وجهان :
أحدهما : لصرفه في وجوه حسنة .
الثاني : لأنه لا مَنَّ فيه ولا أذى .
{ فَيُضَاعِفَهُ لَهُ } فيه وجهان :
أحدهما : فيضاعف القرض لأن جزاء الحسنة عشر أمثالها .
الثاني : فيضاعف الثواب تفضلاً بما لا نهاية له .
{ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : لم يتذلل في طلبه . الثاني : لأنه كريم الخطر .
الثالث : أن صاحبه كريم .
فلما سمعها أبو الدحداح تصدق بحديقة فكان أول من تصدق بعد هذه الآية .
وروى سعيد بن جبير أن اليهود أتت النبي صلى الله عليه وسلم عند نزول هذه الآية ، فقالوا يا محمد ، أفقير ربك يسأل عباده القرض؟ فأنزل الله { لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَولَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ } الآية .

{ يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم } وفي نورهم ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه ضياء يعطيهم الله إياه ثواباً وتكرمة ، وهذا معنى قول قتادة .
الثاني : أنه هداهم الذي قضاه لهم ، قاله الضحاك .
الثالث : أنه نور أعمالهم وطاعتهم .
قال ابن مسعود : ونورهم على قدر أعمالهم يمرون على الصراط منهم مَن نوره مثل النخلة ، وأدناهم نوراً مَن نوره على إبهام رجله يوقد تارة ويطفأ أخرى .
وقال الضحاك : ليس أحد يعطى يوم القيامة نوراً ، فإذا انتهوا إلى الصراط أطفىء نور المنافقين ، فلما رأى ذلك المؤمنون أشفقوا أن ينطفىء نورهم كما طفىء نور المنافقين ، فقالوا : { رَبَّنَآ أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا } .
وفي قوله : { بَيْنَ أَيْدِيهِمْ } وجهان :
أحدهما : ليستضيئوا به على الصراط ، قاله الحسن .
والثاني : ليكون لهم دليلاً إلى الجنة ، قاله مقاتل .
وفي قوله : { بِأَيْمَانَهِم } في الصدقات والزكوات وسبل الخير .
الرابع : بإيمانهم في الدنيا وتصديقهم بالجزاء ، قاله مقاتل .
قوله تعالى { بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ } فيه وجهان :
أحدهما : أن نورهم هو بشراهم بالجنات .
الثاني : هي بشرى من الملائكة يتلقونهم بها في القيامة ، قاله الضحاك .
يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15)

{ يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ } الآية . قال ابن عباس وأبو أمامة : يغشى الناس يوم القيامة ظلمة أظنها بعد فصل القضاء ، ثم يعطون نوراً يمشون فيه .
وفي النور قولان :
أحدهما : يعطاه المؤمن بعد إيمانه دون الكافر .
الثاني : يعطاه المؤمن والمنافق ، ثم يسلب نور المنافق لنفاقه ، قاله ابن عباس .
فيقول المنافقون والمنافقات حين غشيتهم الظلمة .
{ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ } حين أعطوا النور الذي يمشون فيه :
{ انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ } أي انتظروا ، ومنه قول عمرو بن كلثوم :
أبا هند فلا تعجل علينا ... وأنظرنا نخبرك اليقينا
{ قِيلَ ارْجِعُواْ وَرَآءَكُمْ فَالْتَمِسُواْ نُوراً } فيه قولان :
أحدهما : ارجعوا إلى الموضع الي أخذنا منه النور فالتمسوا منه نوراً .
الثاني : ارجعو فاعملوا عملاً يجعل الله بين أيديكم نوراً .
ويحتمل في قائل هذا القول وجهان :
أحدهما : أن يقوله المؤمنون لهم .
الثاني : أن تقوله الملائكة لهم .
{ فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه حائط بين الجنة والنار ، قاله قتادة .
الثاني : أنه حجاب في الأعراف ، قاله مجاهد .
الثالث : أنه سور المسجد الشرقي ، [ بيت المقدس ] قاله عبد الله بن عمرو بن العاص .
{ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبلِهِ الْعَذَابُ } فيه قولان :
أحدهما : أن الرحمة التي في باطنه الجنة ، والعذاب الذي في ظاهره جهنم ، قاله الحسن .
الثاني : أن الرحمة التي في باطنه : المسجد وما يليه ، والعذاب الذي في ظاهره : وادي جهنم يعني بيت المقدس ، قاله عبد الله بن عمرو بن العاص .
ويحتمل ثالثاً : أن الرحمة التي في باطنه نور المؤمنين ، والعذاب الذي في ظاهره ظلمة المنافقين .
وفيمن ضرب بينهم وبينه بهذا السور قولان :
أحدهما : أنه ضرب بينهم وبين المؤمنين الذي التمسوا منهم نوراً ، قاله الكلبي ومقاتل .
الثاني : أنه ضرب بينهم وبين النور بهذا السور حتى لا يقدروا على التماس النور .
{ يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ } يعني نصلي مثلما تصلون ، ونغزو مثلما تغزون ، ونفعل مثلما تفعلون .
{ قَالُواْ بَلَى وَلَكِنَكُم فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : بالنفاق ، قاله مجاهد .
الثاني : بالمعاصي ، قاله أبو سنان .
الثالث : بالشهوات ، رواه أبو نمير الهمداني .
{ وَتَرَبَّصْتُمْ } فيه تأويلان :
أحدهما : بالحق وأهله ، قاله قتادة .
الثاني : وتربصتم بالتوبة ، قاله أبو سنان .
{ وَارْتَبْتُمْ } يعني شككتم في أمر الله .
{ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : خدع الشيطان ، قاله قتادة .
الثاني : الدنيا ، قاله ابن عباس .
الثالث : سيغفر لنا ، قاله أبو سنان .
الرابع : قولهم اليوم وغداً .
{ حَتَّى جَآءَ أَمْرُ اللَّهِ } فيه قولان :
أحدهما : الموت ، قاله أبو سنان .
الثاني : إلقاؤهم في النار ، قاله قتادة .
{ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُوْرُ } فيه وجهان :
أحدهما : الشيطان ، قاله عكرمة .
الثاني : الدنيا ، قاله الضحاك .
أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17)

{ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ } وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها نزلت في قوم موسى عليه السلام قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه وسلم ، قاله ابن حيان .
الثاني : في المنافقين آمنوا بألسنتهم وكفروا بقلوبهم ، قاله الكلبي .
الثالث : أنها في المؤمنين من أمتنا ، قاله ابن عباس وابن مسعود ، والقاسم بن محمد .
ثم اختلف فيها على ثلاثة أقاويل :
أحدها : ما رواه أبو حازم عن عون بن عبد الله عن ابن مسعود قال : ما كان بين أن أسلمنا وبين أن عوتبنا بهذه الآية إلا أربع سنين ، فجعل ينظر بعضنا إلى بعض ويقول ما أحدثنا . قال الحسن : يستبطئهم وهم أحب خلقه إليه .
الثاني : ما رواه قتادة عن ابن عباس أن الله استبطأ قلوب المهاجرين فعاتبهم على رأس ثلاثة عشرة سنة ، فقال تعالى : { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ } الآية .
الثالث : ما رواه المسعودي عن القاسم قال : مل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة فقالوا يا رسول الله حدثنا ، فأنزل الله تعالى : { نَحنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسنَ الْقَصَصِ } ثم ملوا مرة فقالوا : حدثنا يا رسول الله ، فأنزل الله { أَلَمْ يَأنِ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ } .
قال شداد بن أوس : كان يروى لنا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « أَوَّلُ مَا يُرْفَعُ مِنَ النَّاسِ الخُشُوعُ » . ومعنى قوله : { أَلَمْ يَأْنِ } ألم يحن ، قال الشاعر :
ألم يأن لي يا قلب أن اترك الجهلا ... وأن يحدث الشيب المبين لنا عقلا
وفي { أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُم لِذِكْر اللَّهِ } ثلاثة تأويلات :
أحدها : أن تلين قلوبهم لذكر الله .
الثاني : أن تذل قلوبهم من خشية الله .
الثالث : أن تجزع قلوبهم من خوف الله .
وفي ذكر الله ها هنا وجهان :
أحدهما : أنه القرآن ، قاله مقاتل .
الثاني : أنه حقوق الله ، وهو محتمل .
{ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : القرآن ، قاله مقاتل .
الثاني : الحلال والحرام ، قاله الكلبي .
الثالث : يحتمل أن يكون ما أنزل من البينات والهدى .
{ اعلموا أن الله يحيى الأرض بعد موتها } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : يلين القلوب بعد قسوتها ، قاله صالح المري .
الثاني : يحتمل أنه يصلح الفساد .
الثالث : أنه مثل ضربه لإحياء الموتى . روى وكيع عن أبي رزين قال : قلت يا رسول الله كيف يحيى الله الأرض بعد موتها؟ فقال : « يَا أَبَا رُزَينَ أَمَا مَرَرْتَ بِوَادٍ مُمْحَلٍ ثُمَّ مَرَرْتَ بِهِ يَهْتَزُّ خَضْرَةً؟ قال : بلى ، قَالَ كَذَلِكَ يُحْيي اللَّهُ المَوتَى » .
إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (19)

{ إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ } فيه وجهان :
أحدهما : المصدقين لله ورسوله .
الثاني : المتصدقين بأموالهم في طاعة الله .
{ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أَوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ } أي المؤمنون بتصديق الله ورسله .
{ وَالشُّهَدَآءُ عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ } فيه قولان :
أحدهما : أن الذين آمنوا بالله ورسله هم الصديقون وهم الشهداء عند ربهم ، قاله زيد بن أسلم .
الثاني : أن قوله : { أَوْلئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ } كلام تام .
وقوله : { وَالشُّهَدَآءُ عِنَدَ رَبِّهِمْ } كلام مبتدأ وفيهم قولان :
أحدهما : أنهم الرسل يشهدون على أممهم بالتصديق والتكذيب ، قاله الكلبي .
الثاني : أنهم أمم الرسل يشهدون يوم القيامة .
وفيما يشهدون به قولان :
أحدهما يشهدون على أنفسهم بما عملوا من طاعة ومعصية ، وهذا معنى قول مجاهد .
الثاني : يشهدون لأنبيائهم بتبليغ الرسالة إلى أممهم ، قاله الكلبي .
وقال مقاتل قولاً ثالثاً : أنهم القتلى في سبيل الله لهم أجرهم عند ربهم يعني ثواب أعمالهم .
{ وَنُورُهُمْ } فيه وجهان :
أحدهما : نورهم على الصراط .
الثاني : إيمانهم في الدنيا ، حكاه الكلبي .
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20) سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21)

{ اعْلَمُواْ أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ } فيه وجهان :
أحدهما : أكل وشرب ، قاله قتادة .
الثاني : أنه على المعهود من اسمه ، قال مجاهد : كل لعب لهو .
ويحتمل تأويلاً ثالثاً : أن اللعب ما رغَّب في الدنيا ، واللهو ما ألهى عن الآخرة .
ويحتمل رابعاً : أن اللعب الاقتناء ، واللهو النساء .
{ وَزِينَةٌ } يحتمل وجهين :
أحدهما : أن الدنيا زينة فانية .
الثاني : أنه كل ما بوشر فيها لغير طاعة .
{ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ } يحتمل وجهين :
أحدهما : بالخلقة والقوة .
الثاني : بالأنساب على عادة العرب في التنافس بالآباء .
{ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ } لأن عادة الجاهلية أن تتكاثر بالأموال والأولاد ، وتكاثر المؤمنين بالإيمان والطاعات .
ثم ضرب لهم مثلاً بالزرع { كَمَثَلٍ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمََّ يَهِيْجُ } بعد خضرة .
{ فَتَرَاهُ مُصْفَرَّاً ثُمَّ حُطَاماً } بالرياح الحطمة ، فيذهب بعد حسنه ، كذلك دنيا الكافر .
{ سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّنْ رَبِّكُمْ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : النبي صلى الله عليه وسلم ، قاله أبو سعيد .
الثاني : الصف الأول ، قاله رباح بن عبيد .
الثالث : إلى التكبيرة الأولى مع الإمام ، قاله مكحول .
الرابع : إلى التوبة : قاله الكلبي .
{ وَجَنَةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَآءِ } ترغيباً في سعتها ، واقتصر على ذكر العرض دون الطول لما في العرض من الدلالة على الطول ، ولأن من عادة العرب أن تعبر عن سعة الشيء بعرضه دون طوله ، قال الشاعر :
كأن بلاد الله وهي عريضة ... على الخائف المطلوب حلقة خاتم .
{ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مِن يَشَآءُ } فيه وجهان :
أحدهما : الجنة ، قاله الضحاك . الثاني : الدين ، قاله ابن عباس .
وفي { مَن يَشَآءُ } قولان :
أحدهما : من المؤمنين ، إن قيل إن الفضل الجنة .
الثاني : من جيمع الخلق ، إن قيل إنه الدين .
مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24)

{ مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ } فيه وجهان :
أحدهما : الجوائح في الزرع والثمار .
الثاني : القحط والغلاء .
{ وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : في الدين ، قاله ابن عباس .
الثاني : الأمراض والأوصاب ، قاله قتادة .
الثالث : إقامة الحدود ، قاله ابن حبان .
الرابع : ضيق المعاش ، وهذا معنى رواية ابن جريج .
{ إِلاَّ فِي كِتَابٍ } يعني اللوح المحفوظ .
{ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا } قال سعيد بن جبير : من قبل أن نخلق المصائب ونقضيها .
{ لِكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ } فيه وجهان :
أحدهما : من الرزق الذي لم يقدر لكم ، قاله ابن عباس ، والضحاك .
الثاني : من العافية والخصب الذي لم يقض لكم ، قاله ابن جبير .
{ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ ءَاتَاكُمْ } فيه وجهان :
أحدهما : من الدنيا ، قاله ابن عباس .
الثاني : من العافية والخصب ، وهذا مقتضى قول ابن جبير .
وروى عكرمة عن ابن عباس في قوله : { لِكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ ءَاتَاكُمْ } قال : ليس أحد إلا وهو يحزن ويفرح ، ولكن المؤمن يجعل مصيبته صبراً ، والخير شكراً .
{ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ } فيه خمسة تأويلات :
أحدها : الذين يبخلون يعني بالعلم ، ويأمرون الناس بالبخل بألا يعلموا الناس شيئاً ، قاله ابن جبير .
الثاني : أنهم اليهود بخلوا بما في التوارة من ذكر محمد صلى الله عليه وسلم ، قاله الكلبي ، والسدي .
الثالث : أنه البخل بأداء حق الله من أموالهم ، قاله زيد بن أسلم .
الرابع : أنه البخل بالصدقة والحقوق ، قاله عامر بن عبد الله الأشعري .
الخامس : أنه البخل بما في يديه ، قال طاووس .
وفرق أصحاب الخواطر بين البخيل والسخي بفرقين :
أحدهما : أن البخيل الذي يلتذ بالإمساك ، والسخي الذي يلتذ بالعطاء .
الثاني : أن البخيل الذي يعطي عند السؤال ، والسخي الذي يعطي بغير سؤال .
لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25)

{ وَأنزَلْنَا الْحَدِيدَ } فيه قولان :
أحدهما : أن الله أنزله مع آدم . روى عكرمة عن ابن عباس قال : ثلاث أشياء نزلت مع آدم : الحجر الأسود ، كان أشد بياضاً من الثلج ، وعصا موسى وكانت من آس الجنة ، طولها عشرة أذرع مثل طول موسى ، والحديد ، أنزل معه ثلاثة أشياء : السندان والكلبتان والميقعة وهي المطرقة .
الثاني : أنه من الأرض غير منزل من السماء ، فيكون معنى قوله :
{ وَأَنزَلْنَا } محمولاً على أحد وجهين :
أحدهما : أي أظهرناه .
الثاني : لأن أصله من الماء المنزل من السماء فينعقد في الأرض جوهره حتى يصير بالسبك حديداً .
{ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ } فيه وجهان :
أحدهما : لأن بسلاحه وآلته تكون الحرب التي هي بأس شديد .
الثاني : لأن فيه من خشية القتل خوفاً شديداً .
{ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } يحتمل وجهين :
أحدهما : ما تدفعه عنهم دروع الحديد من الأذى وتوصلهم إلى الحرب والنصر .
الثاني : ما يكف عنهم من المكروه بالخوف عنه .
وقال قطرب : البأس السلاح ، والمنفعة الآلة .
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (26) ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (27)

{ . . وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رأْفَةً وَرَحْمَةً } يحتمل وجهين :
أحدهما : أن الرأفة اللين ، والرحمة الشفقة .
الثاني : أن الرأفة تخفيف الكل ، والرحمة تحمل الثقل .
{ وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا } فيه قراءتان :
إحداهما : بفتح الراء وهي الخوف من الرهب .
الثانية : بضم الراء وهي منسوبة إلى الرهبان ومعناه أنهم ابتدعوا رهبانية ابتدؤوها .
وسبب ذلك ما حكاه الضحاك : [ أنهم ] بعد عيسى ارتكبوا المحارم ثلاثمائة سنة فأنكرها عليهم من كان على منهاج عيسى فقتلوهم ، فقال قوم بقوا بعدهم : نحن إذا نهيناهم قتلونا ، فليس يسعنا المقام بينهم ، فاعتزلوا النساء واتخذوا الصوامع ، فكان هذا ما ابتدعوه من الرهبانية التي لم يفعلها من تقدمهم وإن كانوا فيها محسنين .
{ مَا كتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ } أي لم تكتب عليهم وفيها ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها رفض النساء واتخاذ الصوامع ، قاله قتادة .
الثاني : أنها لحوقهم بالجبال ولزومهم البراري ، وروي فيه خبر مرفوع .
الثالث : أنها الانقطاع عن الناس والانفراد بالعبادة .
وفي الرأفة والرحمة التي جعلها في قلوبهم وجهان :
[ الأول ] : أنه جعلها في قلوبهم بالأمر بها والترغيب فيها .
الثاني : جعلها بأن خلقها فيهم وقد مدحوا بالتعريض بها .
{ مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَآءَ رَضْوَانِ اللَّهِ } أي لم تكتب عليهم قبل ابتداعها ولا كتبت بعد ذلك عليهم .
الثاني : أنهم تطوعوا بها بابتداعها ، ثم كتبت بعد ذلك عليهم ، قاله الحسن .
{ فَمَا رَعَوْهَا حِقَّ رِعَايَتِهَا } فيه وجهان :
أحدهما : أنهم ما رعوها لتكذيبهم بمحمد .
الثاني : بتبديل دينهم وتغييرهم فيه قبل مبعث الرسول الله صلى الله عليه وسلم ، قاله عطية العوفي .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)

{ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَءَامِنُواْ بِرَسُولِهِ } معناه يا أيها الذين آمنوا بموسى وعيسى آمنوا بمحمد .
{ يُؤْتِكُم كِفْلَينِ مِن رَّحْمَتِهِ } فيه وجهان :
أحدهما : أن أحد الأجرين لإيمانهم بمن تقدم من الأنبياء ، والآخر لإيمانهم بمحمد صلى الله عليه وسلم ، قاله ابن عباس .
الثاني : أن أحدهما : أجر الدنيا ، والآخر أجر الآخرة ، قاله ابن زيد .
ويحتمل ثالثاً : أن أحدهما أجر اجتناب المعاصي ، والثاني أجر فعل الطاعات .
ويحتمل رابعاً : أن أحدهما أجر القيام بحقوق الله والثاني أجر القيام بحقوق العباد .
{ وَيَجْعَلَ لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ } فيه قولان :
أحدهما : أنه القرآن ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنه الهدى ، قاله مجاهد .
ويحتمل ثالثاً : أنه الدين المتبوع في مصالح الدنيا وثواب الآخرة . وقد روى أبو بريدة بن أبي موسى الأشعري عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « ثَلاَثَةٌ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَينِ : رَجُلٌ آمَنَ بِالكِتَابِ الأَوَّلِ وَالْكِتَابِ الآخِرِ ، وَرَجُلٌ كَانَتْ لَه أَمَةٌ فَأَدَّبَهَا وَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهَا ثُمَّ أَعْتَقَهَا فَتَزَوَّجَهَا ، وَعَبْدٌ مَمْلُوكٌ أَحْسَنَ عِبَادَةَ رَبِّهِ وَنَصَحَ لَسَيِّدِهِ » .
{ لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ } قال الأخفش : معناه ليعلم أهل الكتاب وأن « لا » صلة زائدة وقال الفراء : لأنْ لا يعلم أهل الكتاب و « لا » صلة زائدة في كلام دخل عليه جحد .
{ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّن فَضْلِ اللَّهِ } فيه وجهان :
أحدهما : من دين الله وهو الإسلام قاله مقاتل .
الثاني : من رزق الله ، قاله الكلبي .
وفيه ثالث : أن الفضل نعم الله التي لا تحصى .
قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1)

قوله تعالى : { قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها } وهي خولة بنت ثعلبة ، وقيل بنت خويلد ، وليس هذا بمختلف لأن أحدهما أبوها والآخر جدها ، فنسبت إلى كل واحد منهما . وزوجها أوس بن الصامت . قال عروة : وكان امرأً به لمم فأصابه بعض لممه فظاهر من امرأته ، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم تستفتيه في ذلك .
{ وتشتكي إلى الله } فيه وجهان :
أحدهما : تستغيث بالله .
والثاني : تسترحم الله . وروى الحسن أنها قالت : يا رسول الله قد نسخ الله سنن الجاهلية وإن زوجي ظاهر مني ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ما أوحي إليّ في هذا شيء » فقالت : يا رسول الله أوحي إليك في كل شيء وطوي عنك هذا؟ فقال : « هو ما قلت لك » فقالت : إلى الله أشكو لا إلى رسوله ، فأنزل الله تعالى : { قد سمع الله قول التي تجادلك } الآية . وقرأ ابن مسعود : { قَد سَّمِعَ } .
قالت عائشة : تبارك الله الذي أوعى سمعه كل شيء ، سمع كلام خولة بنت ثعلبة وأنا في ناحية البيت ما أسمع بعض ما تقول ، وهي تقول : يا رسول الله أكل شبابي وانقطع ولدي ونثرت له بطني حتى إذا كبرت سني ظاهر مني اللهم إني أشكو إليك ، فما برحت حتى نزل جبريل بهذه الأية .
{ والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير } والمحاورة مراجعة الكلام ، قال عنترة :
لو كان يدري ما المحاورة اشتكى ... ولكان لو علم الكلام مكلمي .
{ الذين يظاهرون منكم من نسائهم } الظهار قول الرجل لامرأته .
أنت عليّ كظهر أمي ، سمي ظهاراً لأنه قصد تحريم ظهرها عليه ، وقيل : لأنه قد جعلها عليه كظهر أمه ، وقد كان في الجاهلية طلاقاً ثلاثاً لا رجعة فيه ولا إباحة بعده فنسخه الله إلى ما استقر عليه الشرع من وجوب الكفارة فيه بالعود .
الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4)

ثم قال : { . . ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم } تكذيباً من الله تعالى لقول الرجل لامرأته : أنت علي كظهر أمي .
{ وإنهم ليقولون منكراً من القول وزوراً } يعني بمنكر القول الظاهر ، وبالزور كذبهم في جعل الزوجات أمهات .
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (5) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7)

{ إن الذين يحادُّون الله ورسوله } فيه وجهان :
أحدهما : يعادون الله ورسوله ، قاله مجاهد .
الثاني : يخالفون الله ورسوله ، قاله الكلبي .
وفي أصل المحادة وجهان :
أحدهما : أن تكون في حد يخالف حد صاحبك ، قاله الزجاج .
الثاني : أنه مأخوذ من الحديد المعد للمحادة .
{ كبتوا كما كبت الذين من قبلهم } فيه أربعة أوجه :
أحدها : [ أخزوا ] كما أخزي الذين من قبلهم ، قاله قتادة .
الثاني : معناه أهلكوا كما أهلك الذين من قبلهم ، قاله الأخفش وأبو عبيدة .
الثالث : لعنوا كما لعن الذين من قبلهم ، قاله السدي ، وقيل هي بلغة مذحج
الرابع : ردوا مقهورين .
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10)

{ ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى } النجوى السرار ، ومن ذلك قول جرير :
من النفر البيض الذين إذا انتجوا ... أقرت بنجواهم لؤي بن غالب
والنجوى مأخوذة من النجوة وهي ما له ارتفاع وبعد ، لبعد الحاضرين عنه ، وفيها وجهان :
أحدهما : أن كل سرار نجوى ، قاله ابن عيسى .
الثاني : أن السرار ما كان بن اثنين ، والنجوى ما كان بين ثلاثة ، حكاه سراقة .
وفي المنهي عنه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنهم اليهود ، كانوا يتناجون بما بين المسلمين ، فنهوا عن ذلك ، قاله مجاهد .
الثاني : أنهم المنافقون ، قاله الكلبي .
الثالث : أنهم المسلمون .
روى أبو سعيد الخدري قال : كنا ذات ليلة نتحدث إذ خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : « ما هذه النجوى ألم تنهوا عن النجوى » .
فقلنا تبنا إلى الله يا رسول الله إنا كنا في ذكر المسيح يعني الدَّجال فرَقاً منه ، فقال : « ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي منه؟ قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : الشرك الخفي أن يقوم الرجل يعمل لمكان الرجل » .
{ وإذا جاءوك حيوك بما لم يحيك به الله } كانت اليهود إذا دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا : السام عليك ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يرد عليهم فيقول : { وعليكم } ويروى أن عائشة حين سمعت ذلك منهم قالت : وعليكم السام والذام ، فقال عليه السلام : « إن الله لا يحب الفحش والتفحش » .
وفي السام الذي أرادوه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه الموت ، قاله ابن زيد .
الثاني : أنه السيف .
الثالث : أنهم أرادوا بذلك أنكم ستسأمون دينكم ، قاله الحسن ، وكذا من قال هو الموت لأنه يسأم الحياة .
وحكى الكلبي أن اليهود كانوا إذا رد النبي صلى الله عليه وسلم جواب سلامهم قالوا : لو كان هذا نبياً لاستجيب له فينا قوله وعليكم ، يعني السام وهو الموت وليس بنا سامة وليس في أجسادنا فترة ، فنزلت فيهم { ويقولون في أنفسهم ولولا يعذبنا الله بما نقول } الآية .
وفي قوله تعالى : { إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين ءامنوا } وجهان :
أحدهما : ما كان يتناجى به اليهود والمنافقون من الأراجيف بالمسلمين .
الثاني : أنها الأحلام التي يراها الإنسان في منامه فتحزنه .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11)

{ يَأيها الذين ءامنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس . . } فيه أربعة أوجه :
أحدها : مجلس النبي صلى الله عليه وسلم خاصة إذا جلس فيه قوم تشاحوا بأمكنتهم على من يدخل عليهم أن يؤثروه بها أو يفسحوا له فيها ، فأمروا بذلك قاله مجاهد .
الثاني : أنه في مجالس صلاة الجمعة ، قاله مقاتل .
الثالث : أنها في مجالس الذكر كلها ، قاله قتادة .
الرابع : أن ذلك في الحرب والقتال ، قاله الحسن .
{ . . . وإذا قيل انشزوا فانشزوا } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : معناه وإذا قيل لكم انهضوا إلى القتال فانهضوا ، قاله الحسن .
الثاني : إذا دعيتم إلى الخير فأجيبوا ، قاله قتادة .
الثالث : إذا نودي للصلاة فاسعوا إليها ، قاله مقاتل بن حيان .
الرابع : أنهم كانوا إذا جلسوا في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أطالوا ليكون كل واحد منهم هو الآخر عهداً به ، فأمرهم الله أن ينشزوا إذا قيل لهم انشزوا ، قاله ابن زيد .
ومعنى { تفسحوا } توسعوا . وفي { انشزوا } وجهان :
أحدهما : معناه قوموا ، قاله ابن قتيبة .
الثاني : ارتفعوا ، مأخوذ من نشز الأرض وهو ارتفاعها .
وفيما أمروا أن ينشزوا إليه ثلاثة أوجه :
أحدها : إلى الصلاة ، قاله الضحاك .
الثاني : إلى الغزو ، قاله مجاهد .
الثالث : إلى كل خير ، قاله قتادة .
{ يرفع الله الذين ءامنوا منكم } يعني بإيمانه على من ليس بمنزلته في الإيمان .
{ والذين أوتوا العلم درجات } على من ليس بعالم .
ويحتمل هذا وجهين :
أحدهما : أن يكون إخباراً عن حالهم عند الله في الآخرة .
الثاني : أن يكون أمراً يرفعهم في المجالس التي تقدم ذكرها لترتيب الناس فيها بحسب فضائلهم في الدين والعلم .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (13)

{ يأيها الذين ءامنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة } اختلف في سببها على ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن المنافقين كانا يناجون النبي صلى الله عليه وسلم بما لا حاجة لهم به ، فأمرهم الله بالصدقة عند النجوى ليقطعهم عن النجوى ، قاله ابن زيد .
الثاني : أنه كان قوم من المسلمين يستخلون النبي صلى الله عليه وسلم ويناجونه فظن بهم قوم من المسلمين أنهم ينتقصونهم في النجوى ، فشق عليهم ذلك ، فأمرهم الله تعالى بالصدقة عند النجوى ليقطعهم عن استخلائه ، قاله الحسن .
الثالث : قاله ابن عباس وذلك أن المسلمين أكثروا المسائل على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شقوا عليه ، فأراد الله أن يخفف عن نبيه ، فلما قال ذلك كف كثير من الناس عن المسألة .
وقال مجاهد : لم يناجه إلا عليٌّ قدّم ديناراً فتصدق به ، فسأله عن عشر خصال ، ثم نزلت الرخصة .
{ ءأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات } قال علي : ما عمل بها أحد غيري حتى نسخت ، وأحسبه [ قال ] وما كانت إلا ساعة ، وقال ابن حبان : كان ذلك ليالي عشراً .
وقال ابن سليمان : ناجاه عليّ بدينار باعه بعشرة دراهم في عشر كلمات كل كلمة بدرهم . وناجاه آخر من الأنصار بآصع وكلمه كلمات ، ثم نسخت بما بعدها .
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (16) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19)

{ ألم تر إلى الذين تولوا قوماً غضب الله عليهم } يعني المنافقين تولوا قوماً غضب الله عليهم هم اليهود .
{ ما هم منكم } لأجل نفاقهم .
{ ولا منهم } لخروجهم بيهوديتهم .
{ ويحلفون على الكذب } أنهم لم ينافقوا .
{ وهم يعلمون } أنهم منافقون .
{ اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله فلهم عذاب مهين } فيه قولان :
أحدهما : قاله السدي .
الثاني : عن سبيل الله في قتلهم بالكفر لما أظهروه من النفاق .
ويحتمل ثالثاً : صدوا عن الجهاد ممايلة لليهود .
{ استحوذ عليهم الشيطان } فيه قولان :
أحدهما : قوي عليهم .
الثاني : أحاط بهم ، قاله المفضل .
وفيه ثالث : أنه غلب واستولى عليهم في الدنيا .
{ فأنساهم ذكر الله } يحتمل ذكر الله ها هنا وجهين :
أحدهما : أوامره في العمل بطاعته .
الثاني : زواجره في النهي عن معصيته .
ويحتمل ما أنساهم من ذكره وجهين :
أحدهما : بالغفلة عنها .
الثاني : بالشرك بها .
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)

{ لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : من حارب الله ورسوله ، قاله قتادة والفراء .
الثاني : من خالف الله ورسوله ، قاله الكلبي .
الثالث : من عادى الله ورسوله ، قاله مقاتل .
{ ولو كانوا ءاباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم } اختلف فيمن نزلت هذه الآية فيه على ثلاثة أقاويل :
أحدها : ما قاله ابن شوذب : نزلت هذه الآية في أبي عبيدة بن الجراح قتل أباه الجراح يوم بدر ، جعل يتصدى له ، وجعل أبو عبيدة يحيد عنه ، فلما أكثر قصد إليه أبو عبيدة فقتله .
وروى سعيد بن عبد العزيز عن عمر بن الخطاب أنه قال : لو كان أبو عبيدة حياً لاستخاره ، قال سعيد : وفيه نزلت هذه الآية .
وفيه وجهان :
أحدهما : أنه خارج مخرج النهي للذين آمنوا أن يوادوا من حادّ الله ورسوله .
الثاني : أنه خارج مخرج الصفة لهم والمدح بأنهم لا يوادون من حادّ الله ورسوله ، وكان هذا مدحاً .
{ أولئك كتب في قلوبهم الإيمان } فيه أربعة أوجه :
أحدها : معناه جعل في قلوبهم الإيمان وأثبته ، قال السدي ، فصار كالمكتوب .
الثاني : كتب في اللوح المحفوظ أن في قلوبهم الإيمان .
الثالث : حكم لقلوبهم بالإيمان .
الرابع : أنه جعل في قلوبهم سمة للإيمان على أنهم من أهل الإيمان ، حكاه ابن عيسى .
{ وأيدهم بروح منه } فيه خمسة أوجه :
أحدها : أعانهم برحمته ، قاله السدي .
الثاني : أيدهم بنصره حتى ظفروا .
الثالث : رغبهم في القرآن حتى ءامنوا .
الرابع : قواهم بنور الهدى حتى صبروا .
الخامس : قواهم بجبريل يوم بدر .
{ رضي الله عنهم } يعني في الدنيا بطاعتهم .
{ ورضوا عنه } فيه وجهان :
أحدهما : رضوا عنه في الآخرة بالثواب .
الثاني : رضوا عنه في الدنيا بما قضاه عليهم فلم يكرهوه .
{ أولئك حزب الله } فيهم وجهان :
أحدهما : انهم من عصبة الله فلا تأخذهم لومة لائم .
الثاني : أنهم أنصار حقه ورعاة خلقه وهو محتمل .
القول الثاني : ما روى ابن جريج أن هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق وقد سمع أباه أبا قحافة يسب النبي صلى الله عليه وسلم فصكه أبو بكر صكة فسقط على وجهه ، فقال ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : « أو فعلته؟ لا تعد إليه يا أبا بكر » .
فقال والله لو كان السيف قريباً مني لضربته به ، فنزلت هذه الآية .
القول الثالث : ما حكى الكلبي ومقاتل أن هذه الآية نزلت في حاطب بن أبي بلتعة وقد كتب إلى أهل مكة ينذرهم بمسير رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم عام الفتح .
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2) وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (3) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (4) مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5)

قوله تعالى : { هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب } يعني يهود بني النضير .
{ من ديارهم } يعني من منازلهم .
{ لأول الحشر } أجلاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد رجوعه من أُحد إلى أذرعات الشام ، وأعطى كل ثلاثة بعيراً يحملون عليه ما استقل إلا السلاح ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد عاهدهم حين هاجر إلى المدينة أن لا يقاتلوا معه ولا عليه ، فكفوا يوم بدر لظهور المسلمين ، وأعانوا المشركين يوم أحد حين رأوا ظهورهم على المسلمين ، فقتل رئيسهم كعب بن الأشرف ، قتله محمد بن مسلمة غيلة . ثم سار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فحاصرهم ثلاثاً وعشرين ليلة محارباً حتى أجلاهم عن المدينة .
في قوله : { لأول الحشر } ثلاثة أوجه :
أحدها : لأنهم أول من أجلاه النبي صلى الله عليه وسلم من اليهود ، قاله ابن حبان .
الثاني : لأنه اول حشرهم ، لأنهم يحشرون بعدها إلى أرض المحشر في القيامة ، قاله الحسن . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما أجلى بني النضير قال لهم « امضوا فهذا أول الحشر وأنا على الأثر . »
الثالث : أنه أول حشرهم لما ذكره قتادة أنه يأتي عليهم بعد ذلك من مشرق الشمس نار تحشرهم إلى مغربها تبيت معهم إذ باتوا [ وتقيل معهم حيث قالوا ] وتأكل منهم من تخلف .
{ ما ظننتم أن يخرجوا } يعني من ديارهم لقوتهم وامتناعهم .
{ وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله } أي من أمر الله .
{ فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا } فيه وجهان :
أحدهما : لم يحتسبوا بأمر الله .
الثاني : قاله ابن جبير والسدي : من حيث لم يحتسبوا بقتل ابن الأشرف .
{ وقذف في قلوبهم الرعب } فيه وجهان :
أحدهما : لخوفهم من رسول الله .
الثاني : بقتل كعب بن الأشرف .
{ يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين } فيه خمسة أوجه :
أحدها : بأيديهم بنقض الموادعة ، وأيدي المؤمنين بالمقاتلة ، قاله الزهري .
الثاني : بأيديهم في تركها ، وأيدي المؤمنين في إجلائهم عنها ، قاله أبو عمرو ابن العلاء .
الثالث : بأيديهم في إخراب دواخلها وما فيها لئلا يأخذها المسلمون ، وبأيدي المؤمنين في إخراب ظواهرها ليصلوا بذلك إليهم .
قال عكرمة : كانت منازلهم مزخرفة فحسدوا المسلمين أن يسكنوها فخربوها من داخل ، وخربها المسلمون من خارج .
الرابع : معناه : أنهم كانوا كلما هدم المسلمون عليهم من حصونهم شيئاً نقضوا من بيوتهم ما يبنون به من حصونهم ، قاله الضحاك .
الخامس : أن تخريبهم بيوتهم أنهم لما صولحوا على حمل ما أقلته إبلهم جعلوا ينقضون ما أعجبهم من بيوتهم حتى الأوتار ليحملوها على إبلهم ، قاله عروة بن الزبير ، وابن زيد .
وفي قوله : { يخربون } قراءتان : بالتخفيف ، وبالتشديد ، وفيهما وجهان :
أحدهما : أن معناهما واحد وليس بينهما فرق .

الثاني : أن معناهما مختلف .
وفي الفرق بينهما وجهان :
أحدهما : أن من قرأ بالتشديد أراد إخرابها بأفعالهم ، ومن قرأ بالتخفيف أراد إخرابها بفعل غيرهم قاله أبو عمرو .
الثاني : أن من قرأ بالتشديد أراد إخرابها بهدمهم لها . وبالتخفيف أراد فراغها بخروجهم عنها ، قاله الفراء .
ولمن تعمق بغوامض المعاني في تأويل ذلك وجهان :
أحدهما : يخربون بيوتهم أي يبطلون أعمالهم بأيديهم ، يعني باتباع البدع ، وأيدي المؤمنين في مخالفتهم .
{ ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء } فيه وجهان :
أحدهما : يعني بالجلاء الفناء { لعذبهم في الدنيا } بالسبي .
والثاني : يعني بالجلاء الإخراج عن منازلهم { لعذبهم في الدنيا } يعني بالقتل ، قاله عروة .
والفرق بين الجلاء والإخراج - وإن كان معناهما في الإبعاد واحد - من وجهين :
أحدهما : أن الجلاء ما كان مع الأهل والولد ، والإخراج قد يكون مع بقاء الأهل والولد .
الثاني : أن الجلاء لا يكون إلا لجماعة ، والإخراج يكون لجماعة ولواحد .
{ ما قطعتم من لينة أو تكرتموها قائمة على أصولها فبإذن الله } وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزل على حصون بني النضير وهي البويرة حين نقضوا العهد بمعونة قريش عليه يوم أحد قطع المسلمون من نخلهم وأحرقوا ست نخلات ، وحكى محمد بن إسحاق أنهم قطعوا نخلة وأحرقوا نخلة ، وكان ذلك عن إقرار رسول الله صلى الله عليه وسلم أو بأمره ، إما لإضعافهم بها أو لسعة المكان بقطعها ، فشق ذلك عليهم فقالوا وهم يهود أهل كتاب : يا محمد ألست تزعم أنك نبي تريد الإصلاح؟ أفمن الصلاح حرق الشجر وقطع النخل؟ وقال شاعرهم سماك اليهودي :
ألسنا ورثنا كتاب الحكيم ... على عهد موسى ولم نصدف
وانتم رعاء لشاء عجاف ... بسهل تهامة والأخيف
ترون الرعاية مجداً لكم ... لدي كل دهر لكم مجحف
فيا أيها الشاهدون انتهوا ... عن الظلم والمنطق المؤنف
لعل الليالي وصرف الدهور ... يدلن عن العادل المنصف
بقتل النضير وإجلائها ... وعقر النخيل ولم تقطف
فأجابه حسان بن ثابت رضي الله عنه :
هم أوتوا الكتاب فضيعوه ... وهم عمي عن التوارة يور
كفرتم بالقرآن وقد أتيتم ... بتصديق الذي قال النذير
وهان على سراة بني لؤي ... حريق بالبويرة مستطير
ثم إن المسلمين جل في صدورهم ما فعلوه ، فقال بعضهم : هذا فساد ، وقال آخرون منهم عمر بن الخطاب : هذا مما يجزي الله به أعداءه وينصر أولياءه فقالوا يا رسول الله هل لنا فيما قطعنا من أجر؟ وهل علينا فيما تركنا من وزر؟ فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم حتى أنزل الله تعالى : { وما قطعتم من لينة } الآية . وفيه دليل على أن كل مجتهد مصيب .
وفي اللينة خمسة أقاويل :
أحدها : النخلة من أي الأصناف كانت ، قاله ابن حبان .
الثاني : أنها كرام النخل ، قاله سفيان .
الثالث : أنها العجوة خاصة ، قاله جعفر بن محمد وذكر أن العتيق والعجوة كانا مع نوح في السفينة ، والعتيق الفحل ، وكانت العجوة أصل الإناث كلها ولذلك شق على اليهود قطعها .
الرابع : أن اللينة الفسيلة لأنها ألين من النخلة ، ومنه قول الشاعر :
غرسوا لينها بمجرى معين ... ثم حفوا النخيل بالآجام
الخامس : أن اللينة جميع الأشجار للينها بالحياة ، ومنه قول ذي الرمة :
طراق الخوافي واقع فوق لينة ... ندى ليلة في ريشه يترقرق
قال الأخفش : سميت لينة اشتقاقاً من اللون لا من اللين .
وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7)

{ وما أفاء الله على رسوله منهم } يعني ما رده اللَّه على رسوله من أموال بني النضير .
{ فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب } والإيجاف الإيضاع في السير وهو الإسراع ، والركاب : الإبل ، وفيهما يقول نصيب :
ألارب ركب قد قطعت وجيفهم ... إليك ولولا أنت لم توجف الركب
{ ولكن الله يسلط رسله على من يشاء } ذلك أن مال الفيء هو المأخوذ من المشركين بغير قتال ولا إيجاف خيل ولا ركاب ، فجعل الله لرسوله أن يضعه حيث يشاء لأنه واصل بتسليط الرسول عليهم لا بمحاربتهم وقهرهم . فجعل الله ذلك طعمة لرسوله خالصاً دون الناس ، فقسمه في المهاجرين إلا سهل بن حنيف وأبا دجانة فإنهما ذكرا فقراً فأعطاهما .
{ كيلا يكون دولة بين الأغنياء منكم } يقال دولة بالضم وبالفتح وقرىء بهما ، وفيهما قولان :
أحدهما : أنهما واحد ، قاله يونس ، والأصمعي .
الثاني : أن بينهما فرقاً ، وفيه أربعة أوجه :
أحدها : أنه بالفتح الظفر في الحرب ، وبالضم الغنى عن فقر ، قاله أبو عمرو ابن العلاء .
الثاني : أنه بالفتح في الأيام ، وبالضم في الأموال ، قاله عبيدة .
الثالث : أن بالفتح ما كان كالمستقر ، وبالضم ما كان كالمستعار ، حكاه ابن كامل .
الرابع : أنه بالفتح الطعن في الحرب ، وبالضم أيام الملك وأيام السنين التي تتغير ، قاله الفراء ، قال حسان :
ولقد نلتم ونلنا منكم ... وكذاك الحرب أحياناً دول
{ وما ءاتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } فيه أربعة أوجه :
أحدها : يعني ما أعطاكم من مال الفيء فاقبلوه ، وما منعكم منه فلا تطلبوه ، قاله السدي .
الثاني : ما آتاكم الله من مال الغنيمة فخذوه ، وما نهاكم عنه من الغلو فلا تفعلوه ، قاله الحسن .
الثالث : وما آتاكم من طاعتي فافعلوه ، وما نهاكم عنه من معصيتي فاجتنبوه ، قاله ابن جريج .
الرابع : أنه محمول على العموم في جميع أوامره ونواهيه لأنه لا يأمر إلا بصلاح ولا ينهى إلا عن فساد .
وحكى الكلبي أنها نزلت في رؤساء المسلمين قالوا فيما ظهر عليه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من أموال المشركين ، يا رسول الله صفيك والربع ودعنا والباقي فهكذا كنا نفعل في الجاهلية وأنشدوه :
لك المرباع منها والصفايا ... وحكمك والنشيطة والفضول .
فأنزل الله هذه الآية .
لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)

{ للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم } يعني بالمهاجرين من هاجر عن وطنه من المسليمن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في دار هجرته وهي المدينة خوفاً من أذى قومه ورغبة في نصرة نبيّه فهم المقدمون في الإسلام على جميع أهله .
{ يبتغون فضلاً من الله ورضواناً } يعني فضلاً من عطاء الله في الدنيا ، ورضواناً من ثوابه في الآخرة .
ويحتمل وجهاً ثانياً : أن الفضل الكفاية ، والرضوان القناعة .
وروى علي بن رباح اللخمي أن عمر بن الخطاب خطب بالجابية فقال : من أراد أن يسأل عن الفرائض فليأت زيد بن ثابت ، ومن أراد أن يسأل عن الفقة فليأت معاذ بن جبل ، ومن أراد أن يسأل عن المال فليأتني فإن الله تعالى جعلني خازناً وقاسماً ، إني بادىء بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم فمعطيهن ، ثم بالمهاجرين الأولين أنا وأصحابي أخرجنا من مكة من ديارنا وأموالنا .
قال قتادة : لأنهم اختاروا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم على ما كانت من شدة ، حتى ذكر لنا أن الرجل كان يعصب على بطنه الحجر ليقيم صلبه من الجوع ، وكان الرجل يتخذ الحفيرة في الشتاء ما له دثار غيرها .
{ والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم } ويكون على التقديم والتأخير ومعناه تبوءوا الدار من قبلهم والإيمان .
الثاني : أن الكلام على ظاهره ومعناه أنهم تبوءوا الدار والإيمان قبل الهجرة إليهم يعني بقبولهم ومواساتهم بأموالهم ومساكنهم .
{ يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا } فيه وجهان :
أحدهما : غيرة وحسداً على ما قدموا به من تفضيل وتقريب ، وهو محتمل .
الثاني : يعني حسداً على ما خصوا به من مال الفيء وغيره فلا يحسدونهم عليه ، قاله الحسن .
{ ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة } يعني يفضلونهم ويقدمونهم على أنفسهم ولو كان بهم فاقة وحاجة ، ومنه قول الشاعر :
أما الربيع إذا تكون خصاصة ... عاش السقيم به وأثرى المقتر
وفي إيثارهم وجهان :
أحدهما : أنهم آثروا على أنفسهم بما حصل من فيىء وغنيمة حتى قسمت في المهاجرين دونهم ، قاله مجاهد ، وابن حيان .
روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم على المهاجرين ما أفاء الله من النضير ونفل من قريظة على أن يرد المهاجرون على الأنصار ما كانوا أعطوهم من أموالهم فقالت الأنصار بل نقيم لهم من أموالنا ونؤثرهم بالفيء ، فأنزل الله هذه الآية .
الثاني : أنهم آثروا المهاجرين بأموالهم وواسوهم بها .
روى ابن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم : « إن إخوانكم تركوا الأموال والأولاد وخرجوا إليكم » فقالوا : أموالنا بينهم قطائع ، فقال : « أو غير ذلك » ؟ فقالوا : وما ذاك يا رسول الله؟ فقال :

« هم قوم لا يعرفون العمل فتكفونهم وتقاسمونهم التمر » يعني مما صار إليهم من نخيل بني النضير ، قالوا نعم يا رسول الله .
{ ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون } فيه ثماينة أقاويل :
أحدها : أن هذا الشح هو أن يشح بما في أيدي الناس يحب أن يكون له ولا يقنع ، قاله ابن جريج وطاووس .
الثاني : أنه منع الزكاة ، قاله ابن جبير .
الثالث : يعني هوى نفسه ، قاله ابن عباس .
الرابع : أنه اكتساب الحرام ، روى الأسود عن ابن مسعود أن رجلاً أتاه فقال : إني أخاف أن أكون قد هلكت ، قال وما ذاك؟ قال سمعت الله عز وجل يقول :
{ ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون } وأنا رجل شحيح لا أكاد أخرج من يدي شيئاً فقال ابن مسعود : ليس ذلك بالشح الذي ذكره الله تعالى في القرآن ، إنما الشح الذي ذكره الله في القرآن أن تأكل مال أخيك ظلماً ولكن ذلك البخل ، وبئس الشيء البخل .
الخامس : أنه الإمساك عن النفقة ، قاله عطاء .
السادس : أنه الظلم ، قاله ابن عيينة .
السابع : أنه أراد العمل بمعاصي الله ، قاله الحسن .
الثامن : أنه أراد ترك الفرائض وانتهاك المحارم ، قاله الليث .
وفي الشح والبخل قولان :
أحدهما : أن معناهما واحد .
الثاني : أنهما يفترقان وفي الفرق بينهما وجهان :
أحدهما : أن الشح أخذ المال بغير حق ، والبخل أن يمنع من المال المستحق ، قاله ابن مسعود .
الثاني : أن الشح بما في يدي غيره ، والبخل بما في يديه ، قاله طاووس .
{ والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا } فيهم قولان :
أحدهما : أنهم الذين هاجروا بعد ذلك ، قاله السدي والكلبي .
الثاني : أنهم التابعون الذين جاءوا بعد الصحابة ثم من بعدهم إلى قيام الدنيا هم الذين جاءوا من بعدهم ، قاله مقاتل .
وروى مصعب بن سعد قال : الناس على ثلاثة منازل ، فمضت منزلتان وبقيت الثالثة : فأحسن ما أنتم عليه أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت .
وفي قولهم : { اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان } وجهان :
أحدهما : أنهم أمروا أن يستغفروا لمن سبق من هذه الأمة ومن مؤمني أهل الكتاب . قالت عائشة : فأمروا أن يستغفروا لهم فسبّوهم .
الثاني : أنهم أمروا أن يستغفروا للسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار .
{ ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين ءامنوا } الآية . في الغل وجهان :
أحدهما : الغش ، قاله مقاتل .
الثاني : العداوة ، قاله الأعمش .
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (12) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (13) لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (15) كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16) فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (17)

{ بأسهم بينهم شديد } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه اختلاف قلوبهم حتى لا يتفقوا على أمر واحد ، قاله السدي .
الثاني : أنه وعيدهم للمسلمين لنفعلن كذا وكذا ، قاله مجاهد .
{ تحسبهم جيمعاً } فيه قولان :
أحدهما : أنهم اليهود .
الثاني : أنهم المنافقون واليهود ، قاله مجاهد .
{ وقلوبهم شتى } يعني مختلفة متفرقة ، قال الشاعر :
إلى الله أشكو نية شقت العصا ... هي اليوم شتى وهي بالأمس جمع
وفي قراءة ابن مسعود « وَقُلُوبُهُمْ أَشَتُّ » بمعنى أشد تشتيتاً ، أي أشد اختلافاً .
وفي اختلاف قلوبهم وجهان :
أحدهما : لأنهم على باطل ، والباطل مختلف ، والحق متفق .
الثاني : أنهم على نفاق ، والنفاق اختلاف .
وقوله تعالى : { كمثل الذين من قبلهم قريباً } الآية . فيه أربعة أقاويل :
أحدها : أنهم كفار قريش يوم بدر ، قاله مجاهد .
الثاني : أنهم قتلى بدر ، قاله السدي ، ومقاتل .
الثالث : أنهم بنو النضير الذين أجلوا من الحجاز إلى الشام ، قاله قتادة .
الرابع : أنهم بنو قريظة ، كان قبلهم إجلاء بني النضير .
{ ذاقوا وبال أمرهم } بأن نزلوا على حكم سعد [ بن معاذ ] فحكم فيهم بقتل مقاتليهم وسبي ذراريهم ، قاله الضحاك . وفيه وجهان :
أحدهما : في تجارتهم .
الثاني : في نزول العذاب بهم .
{ كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر } فيه قولان :
أحدهما : أنه مثل ضربه الله الكافر في طاعته للشيطان ، وهو عام في الناس كلهم ، قاله مجاهد .
الثاني : أنها خاصة في سبب خاص صار به المثل عاماً ، وذلك ما رواه عطية العوفي عن ابن عباس أن راهباً كان في بني إسرائيل يعبد الله فيحسن عبادته ، وكان يؤتى من كل أرض يسأل عن الفقه وكان عالماً ، وأن ثلاثة إخوة كانت لهم أخت من أحسن النساء مريضة ، وأنهم أرادوا سفراً فكبر عليهم أن يذروها ضائعة ، فجعلوا يأتمرون فيما يفعلون ، فقال أحدهم : ألا أدلكم على من تتركونها عنده؟ فقال له من؟ فقال : راهب بني إسرائيل ، وإن مات قام عليها ، وإن عاشت حفظها حتى ترجعوا إليه ، فعمدوا إليه وقالوا : إنا نريد السفر وإنا لا نجد أحداً أوثق في أنفسنا منك ولا آمن علينا غيرك ، فاجعل أختنا عندك فإنها ضائعة مريضة ، فإن ماتت فقم عليها ، وإن عاشت فاحفظها حتى نرجع ، فقال : أكفيكم إن شاء الله ، وإنهم انطلقوا ، فقام عليها وداواها حتى برئت فلم يزل به الشيطان يزين له حتى وقع عليها وحبلت ، ثم تقدم منه الشيطان فزين له قتلها وقال : إن لم تفعل افتضحت ، فقتلها .
فلما عاد إخوتها سألوه عنها فقال : ماتت فدفنتها ، قالوا أحسنت ، فجعلوا يرون في المنام أن الراهب قتلها وأنها تحت شجرة كذا ، فعمدوا إلى الشجرة فوجدوها قد قتلت ، فأخذوه ، فقال له الشيطان : أنا الذي زينت لك قتلها بعد الزنى فهل لك أن أنجيك وتطيعني؟ قال : نعم ، قال فاسجد لي سجدة واحدة ، فسجد ثم قتل ، فذلك قوله تعالى : { كمثل الشيطان } فكذا المنافقون وبنو النضير مصيرهم إلى النار .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19) لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20)

{ يأيها الذين ءامنوا اتقوا الله } روى معن أو عون ابن مسعود أن رجلاً أتاه فقال : اعهد لي ، فقال : إذا سمعت الله يقول : { يأيها الين ءامنوا } فأرعها سمعك فإنه خير تؤمر به أو شر تنهى عنه .
وفي هذه التقوى وجهان :
أحدهما : اجتناب المنافقين .
الثاني : هو اتقاء الشبهات .
{ ولتنظر نفس ما قدمت لغد } قال ابن زيد : ما قدمت من خير أو شر .
{ لغد } يعني يوم القيامة والأمس : الدنيا . قال قتادة : إن ربكم قدم الساعة حتى جعلها لغد .
{ واتقوا الله } في هذه التقوى وجهان :
أحدهما : أنها تأكيد للأولى .
والثاني : أن المقصود بها مختلف وفيه وجهان :
أحدهما : أن الأولى التوبة مما مضى من الذنوب ، والثانية اتقاء المعاصي في المستقبل .
الثاني : أن الأولى فيما تقدم لغد ، الثانية فيما يكون منكم .
{ إن الله خبير بما تعملون } فيه وجهان :
أحدهما : أن الله خبير بعملكم .
الثاني : خبير بكم عليم بما يكون منكم ، وهو معنى قول سعيد بن جبير .
{ ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم } فيه أربعة أوجه :
أحدها : نسوا الله أي تركوا أمر الله ، فأنساهم أنفسهم أن يعملوا لها خيراً ، قاله ابن حبان .
الثاني : نسوا حق الله فأنساهم حق أنفسهم ، قاله سفيان .
الثالث : نسوا الله بترك شكره وتعظيمه فأنساهم أنفسهم بالعذاب أن يذكر بعضهم بعضاً ، حكاه ابن عيسى .
الرابع : نسوا الله عند الذنوب فأنساهم أنفسهم عند التوبة ، قاله سهل .
ويحتمل خامساً : نسوا الله في الرخاء فأنساهم أنفسهم في الشدائد .
{ أولئك هم الفاسقون } فيه تأويلان :
أحدهما : العاصون : قاله ابن جبير .
الثاني : الكاذبون ، قاله ابن زيد .
{ لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة } يحتمل وجهين :
أحدهما : لا يستوون في أحوالهم ، لأن أهل الجنة في نعيم ، وأهل النار في عذاب .
الثاني : لا يستوون عند الله ، لأن أهل الجنة من أوليائه ، وأهل النار من أعدائه .
{ أصحاب الجنة هم الفائزون } فيه وجهان :
أحدهما : المقربون المكرمون .
الثاني : الناجون من النار ، قاله ابن حبان .
لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)

{ لو أنزلنا هذا القرءآن على جبل } يحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون خطاباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم إننا لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لما ثبت له بل انصدع من نزوله عليه ، وقد أنزلناه عليك وثبتناك له ، فيكون ذلك امتناناً عليه أن ثبته لما لا تثبت له الجبال .
الثاني : أنه خطاب للأمة ، وأن الله لو أنذر بهذا القرآن الجبال لتصدعت من خشية الله ، والإنسان أقل قوة وأكثر ثباتاً ، فهو يقوم بحقه إن أطاع ، ويقدرعلى رده إن عصى ، لأنه موعود بالثواب ومزجور بالعقاب .
وفيه قول ثالث : إن الله تعالى ضربه مثلاً للكفار أنه إذا نزل هذا القرآن على جبل خشع لوعده وتصدع لوعيده ، وأنتم أيها المقهروون بإعجازه لا ترغبون في وعده ولا ترهبون من وعيده .
{ هو الله الذي لا إله إلا هو } كان جابر بن زيد يرى أن اسم الله الأعظم هو الله ، لمكان هذه الآية .
{ عالم الغيب والشهادة } فيه أربعة أقاويل :
أحدها : عالم السر والعلانية ، قاله ابن عباس .
الثاني : عالم ما كان وما يكون .
الثالث : عالم ما يدرك وما لا يدرك من الحياة والموت والأجل والرزق .
الرابع : عالم بالآخرة والدنيا ، قاله سهل .
{ هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس } في { القدوس } أربعة أوجه :
أحدها : أنه المبارك ، قاله قتادة ، ومنه قول رؤبة :
دعوت رب العزة القدوسا ... دعاء من لا يقرع الناقوسا
الثاني : أنه الطاهر ، قاله وهب ، ومنه قول الراجز :
قد علم القدوس مولى القدوس . ... الثالث : أنه اسم مشتق من تقديس الملائكة ، قاله ابن جريج ، وقد روي أن من تسبيح الملائكة سبوح قدوس رب الملائكة والروح .
الرابع : معناه المنزه عن القبائح لاشتقاقه من تقديس الملائكة بالتسبيح فصار معناهما واحد .
وأما { السلام } فهو من أسمائه تعالى كالقدوس ، وفيه وجهان :
أحدهما : أنه مأخوذ من سلامته وبقائه ، فإذا وصف المخلوق بمثله قيل سالم وهو في صفة الله سلام ، ومنه قول أمية بن أبي الصلت :
سلامك ربنا في كل فجر ... بريئاً ما تعنتك الذموم
الثاني : أنه مأخوذ من سلامة عباده من ظلمه ، قاله ابن عباس .
[ وفي { المؤمن } ثلاثة أوجه : أحدها : الذي يؤمن أولياءه من عذابه ] الثاني : أنه مصدق خلقه في وعده ، وهو معنى قول ابن زيد .
الثالث : أنه الداعي إلى الإيمان ، قاله ابن بحر .
وأما { المهيمن } فهو من أسمائه أيضاً ، وفيه خمسة أوجه :
أحدها : معناه الشاهد على خلقه بأعمالهم ، وعلى نفسه بثوابهم ، قاله قتادة ، والمفضل ، وأنشد قول الشاعر :
شهيد عليَّ الله أني أحبها ... كفى شاهداً رب العباد المهيمن
والثاني : معناه الأمين ، قاله الضحاك .
الثالث : المصدق ، قاله ابن زيد .
الرابع : أنه الحافظ ، حكاه ابن كامل ، وروي أن عمر بن الخطاب قال : إني داع فهيمنوا ، أي قولوا آمين حفظنا الدعاء ، لما يرجى من الإجابة .

الخامس : الرحيم ، حكاه ابن تغلب واستشهد بقول أمية بن أبي الصلت :
مليك على عرش السمآء مهيمن ... لعزته تعنو الوجوه وتسجد
{ العزيز } هو القاهر ، وفيه وجهان :
أحدهما : العزيز في امتناعه .
الثاني : في انتقامه .
{ الجبار } فيه أربعة أوجه :
أحدها : معناه العالي العظيم الشأن في القدرة والسلطان .
الثاني : الذي جبر خلقه على ما شاء ، قاله أبو هريرة ، والحسن ، وقتادة .
الثالث : أنه الذي يجبر فاقة عباده ، قاله واصل بن عطاء .
الرابع : أنه الذي يذل له من دونه .
{ المتكبر } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : المتكبر عن السيئات ، قاله قتادة .
الثاني : المستحق لصفات الكبر ، والتعظيم ، والتكبر في صفات الله مدح ، وفي صفات المخلوقين ذم .
الثالث : المتكبر عن ظلم عباده .
{ هو الله الخالق } فيه وجهان :
أحدهما : أنه المحدِث للأشياء على إرادته .
الثاني : أنه المقدر لها بحكمته .
{ الْبَارِىءُ } فيه وجهان :
أحدهما : المميز للخلق ، ومنه قوله : برئت منه ، إذا تميزت منه .
الثاني : المنشىء للخلق ، ومنه قول الشاعر :
براك الله حين براه غيثاً ... ويجري منك أنهاراً عذاباً
{ المصور } فيه وجهان :
أحدهما : لتصوير الخلق على مشيئته .
الثاني : لتصوير كل جنس على صورته . فيكون على الوجه الأول محمولاً على ابتداء الخلق بتصوير كل خلق على ما شاء من الصور . وعلى الوجه الثاني يكون محمولاً على ما استقر من صور الخلق ، فيحدث خلق كل جنس على صورته وفيه على كلا الوجهين دليل على قدرته .
ويحتمل وجهاً ثالثاً : أن يكون لنقله خلق الإنسان وكل حيوان من صورة إلى صورة ، فيكون نطفة ثم علقة ثم مضغة إلى أن يصير شيخاً هرماً ، كما قال النابغة :
الخالق البارىء المصور في ال ... أرحام ماء حتى يصير دماً
{ له الأسماء الحسنى } فيه وجهان :
أحدهما : أن جميع أسمائه حسنى لاشتقاقه من صفاته الحسنى .
الثاني : أن له الأمثال العليا ، قاله الكلبي .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3)

قوله تعالى : { يأيها الذين ءامنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء } سبب نزولها أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أرد التوجه إلى مكة أظهر أنه يريد خيبر ، وكتب حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة أن النبي صلى الله عليه وسلم خارج إليهم وأرسل مع امرأة ذكر أنها سارة مولاة لبني عبد المطلب ، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ، فأنفذ علياً وأبا مرثد ، وقيل عمر بن الخطاب ، وقيل الزبير رضي الله عنهم ، وقال لهما ، اذهبا إلى روضة خاخ فإنكم ستلقون بها امرأة معها كتاب فخذاه وعودا ، فأتيا الموضع فوجداها والكتاب معها ، فأخذاه وعادا ، فإذا هو كتاب حاطب فقال عمر : ائذن لي يا رسول الله أضرب عنقه فقد خان الله ورسوله فقال صلى الله عليه وسلم قد شهد بدراً ، فقالوا : بلى ولكنه قد نكث وظاهر أعداءك عليك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فلعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم إني بما تعملون خبير . ففاضت عينا عمر وقال : الله ورسوله أعلم [ ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاطب ] ما حملك على ما صنعت؟ فقال : يا رسول الله كنت امرأ مصلقاً من قريش وكان لي بها مال فكتبت إليهم بذلك ، والله يا رسول الله إني لمؤمن بالله ورسوله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم صدق حاطب فلا تقولوا له إلآ خيراً . فنزلت هذه الآية والتي بعدها .
وفي قوله تعالى : { تسرون إليهم بالمودة } وجهان :
أحدهما : تعلمونهم سراً أن بينكم وبينهم مودة .
الثاني : تعلمونهم سراً بأحوال النبي صلى الله عليه وسلم بمودة بينكم وبينهم .
قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6)

{ قد كانت لكم أسوة حسنة } ذكر الكلبي والفراء أنه أراد حاطب بن أبي بلتعة ، وفيها وجهان :
أحدهما : سنة حسنة ، قاله الكلبي .
الثاني : عبرة حسنة ، قاله ابن قتيبة .
{ في إبراهيم والذين معه } من المؤمنين .
{ إذ قالوا لقومهم } يعني من الكفار .
{ إنا برءاء منكم ومما تعبدون من دون الله } فتبرؤوا منهم فهلا تبرأت أنت يا حاطب من كفار أهل مكة ولم تفعل ما فعلته من مكاتبتهم وإعلامهم .
ثم قال : { كفرنا بكم } يحتمل وجهين :
أحدهما : كفرنا بما آمنتم به من الأوثان .
الثاني : بأفعالكم وكذبنا بها .
{ وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك . . . } فيه وجهان :
أحدهما : تأسوا بإبراهيم في فعله واقتدوا به إلا في الاستغفار لأبيه فلا تقتدوا به فيه ، قاله قتادة .
الثاني : معناه إلا إبراهيم فإنه استثنى أباه من قومه في الاستغفار له ، حكاه الكلبي .
{ ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا } فيه تأويلان :
أحدهما : معناه لا تسلطهم علينا فيفتنونا ، قاله ابن عباس .
الثاني : لا تعذبنا بأيديهم ولا بعذاب من عندك فنصير فتنة لهم فيقولوا لو كانوا على حق ما عذبوا ، قاله مجاهد ، وهذا من دعاء إبراهيم عليه السلام .
عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7) لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)

{ عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة } فيهم قولان :
أحدهما : أهل مكة حين أسلموا عام الفتح فكانت هي المودة التي صارت بينهم وبين المسلمين ، قاله ابن زيد .
الثاني : أنه إسلام أبي سفيان .
وفي مودته التي صارت منه قولان :
أحدهما : تزويج النبي صلى الله عليه وسلم بأم حبيبة بنت أبي سفيان فكانت هذه مودة بينه وبين أبي سفيان ، قاله مقاتل .
الثاني : أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل أبا سفيان على بعض اليمن فلما قبض رسول الله أقبل فلقي ذا الخمار مرتداً ، فقاتله فكان أول من قاتل في الردة وجاهد عن الدين ، فكانت هذه المودة ، قاله الزهيري .
{ لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين } الآية . فيهم أربعة أوجه :
أحدها : أن هذا في أول الأمر عند موادعة المشركين ، ثم نسخ بالقتال ، قاله ابن زيد .
الثاني : أنهم خزاعة وبنو الحارث بن عبد مناف كان لهم عهد فأمر الله أن يبروهم بالوفاء ، قاله مقاتل .
الثالث : أنهم النساء والصبيان لأنهم ممن لم يقاتل ، فأذن الله تعالى ببرهم ، حكاه بعض المفسرين .
الرابع : ما رواه عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه أن أبا بكر رضي الله عنه طلق امرأته قتيلة في الجاهلية وهي أم أسماء بنت أبي بكر ، فقدمت عليهم في المدة التي كانت فيها المهادنة بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين كفار قريش ، فأهدت إلى أسماء بنت أبي بكر قرطاً وأشياء ، فكرهت أن تقبل منها حتى أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له ، فأنزل الله هذه الآية .
{ وتقسطوا إليهم } فيه وجهان :
أحدهما : يعني وتعدلوا فيهم ، قاله ابن حبان فلا تغلوا في مقاربتهم ، ولا تسرفوا في مباعدتهم .
الثاني : معناه أن تعطوهم قسطاً من أموالكم ، حكاه ابن عيسى .
ويحتمل ثالثاً : أنه الإنفاق على من وجبت نفقته منهم ، ولا يكون اختلاف الدين مانعاً من استحقاقها .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11)

{ يأيها الذين ءامنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن } لأنه يعلم بالامتحان ظاهر إيمانهن والله يعلم باطن إيمانهن ، ليكون الحكم عليهن معتبراً بالظاهر وإن كان معتبراً بالظاهر والباطن .
والسبب في نزوله هذه الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم هادن قريشاً عام الحديبة فقالت قريش على أن ترد علينا من جاءك منا ، ونرد عليك من جاءنا منك ، فقال على أن أرد عليكم من جاءنا منكم ولاتردوا علينا من جاءكم منا ممن اختار الكفر على الإيمان ، فقعد الهدنة بينه وبينهم على هذا إلى أن جاءت منهم امرأة مسلمة وجاؤوا في طلبها ، واختلف فيها على أربعة أقاويل :
أحدها : أنها أميمة بنت بشر كانت عند ثابت بن الدحداحة ففرت منه وهو يومئذ كافر ، فتزوجها سهل بن حنيف فولدت له عبد الله ، قاله يزيد بن أبي حبيب .
الثاني : أنها سعيدة زوج صيفي بن الراهب مشرك من أهل مكة ، قاله مقاتل .
الثالث : أنها أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ، وهذا قول كثير من أهل العلم .
الرابع : أنها سبيعة بنت الحارث الأسلمية جاءت مسلمة بعد فراغ النبي صلى الله عليه وسلم من كتاب الهدنة في الحديبية ، فجاء زوجها واسمه مسافر وهو من قومها في طلبها ، فقال يا محمد شرطت لنا رد النساء ، وطين الكتاب لم يجف ، وهذه امرأتي فارددها عليّ ، حكاه الكلبي .
فلما طلب المشركون رد من أسلم من النساء منع الله من ردهن بعد امتحان إيمانهن بقوله تعالى : { فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار } واختلف أهل العلم هل دخل النساء في عقد الهدنة لفظاً أو عموماً :
فقالت طائفة منهم قد كان شرط ردهن في عقد الهدنة لفظاً صريحاً ، فنسخ الله ردهن من العقد ومنع منه ، وأبقاه في الرجال على ما كان ، وهذا يدل على أن للنبي صلى الله عليه وسلم أن يجتهد برأيه في الأحكام ولكن لا يقره الله تعالى على خطأ .
وقالت طائفة من أهل العلم : لم يشترط ردهن في العقد لفظاً وإنما أطلق العقد في رد من أسلم ، فكان ظاهر العموم اشتماله عليهن مع الرجال ، فبين الله خروجهن عن العموم ، وفرق بينهن وبين الرجال لأمرين :
أحدهما : أنهن ذوات فروج يحرمن عليهم .
الثاني : أنهن أرأف قلوباً وأسرع تقلباً منهم .
فأما المقيمة على شركها فمردودة عليهم ، وقد كانت من أرادت منهن إضرار زوجها قالت سأهاجر إلى محمد فلذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بامتحانهن .
واختلف فيما كان يمتحنهن به على ثلاثة أقويل :
أحدها : ما رواه ابن عباس أنه كان يمتحنها بأن تحلف بالله أنها ما خرجت من بغض زوجها ولا رغبة من أرض إلى أرض ولا التماس دينا ولا عشقاً لرجل منا ، وما خرجت إلا حباً لله ولرسوله .

والثاني : بأن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، قاله عطية العوفي .
الثالث : بما بينه الله في السورة من قوله تعالى : { يأيها النبي إذا جاءك المؤمنات } فهذا معنى قوله : { فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن } يعني بما في قلوبهن بعد امتحانهن .
{ فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هنّ حل لهم ولا هم يحلون لهن } يعني أن المؤمنات محرمات على المشركين من عبدة الأوثان ، والمرتدات محرمات على المسلمين .
ثم قال تعالى : { وءاتوهم ما أنفقوا } يعني بما أنفقوا مهور من أسلم منهن إذا سأل ذلك أزواجهن ، وفي دفع ذلك إلى أهلهن من غير أزواجهن قولان :
ثم قال تعالى : { ولا جناح عليكم أن تنكحوهن } يعني المؤمنات اللاتي أسلمن غير أزواج مشركين ، أباح الله نكاحهن للمسلمين إذا انقضت عدتهن أو كن غير مدخول بهن .
{ إذا ءاتيتموهن أجورهن } يعني مهورهن .
{ ولا تمسكوا بعصم الكوافر } فيه وجهان :
أحدهما : أن العصمة الجمال قاله ابن قتيبة .
الثاني : العقد ، قاله الكلبي .
فإذا أسلم الكافر عن وثنية لم يمسك بعصمتها ولم يقم نكاحها رغبة فيها أو في قومها ، فإن الله قد حرم نكاحها عليه والمقام عليها ما لم تسلم في عدتها .
فروى موسى بن طلحة بن عبيد الله عن أبيه أنه قال : لما نزلت هذه الآية طلقت أروى بنت ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب ، وطلق عمر بن الخطاب قريبة بنت أبي أمية بن المغيرة فتزوجها بعده معاوية بن سفيان في الشرك ، وطلق أم كلثوم بنت أبي جرول الخزاعية أم عبد الله بن عمر فتزوجها بعده خالد ابن سعيد بن العاص في الإسلام .
{ واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا } يعني أن للمسلم إذا ارتدت زوجته إلى المشركين من ذوي العهد المذكور أن يرجع عليه بمهر زوجته كما ذكرنا وأن للمشرك أن يرجع بمهر زوجته إذا أسلمت فإن لم يكن بيننا وبينهم عهد شرط فيه الرد فلا يرجع .
ولا يجوز لمن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأئمة أن يشرط في عقد الهدنة رد من أسلم لأن الرسول كان على وعد من الله بفتح بلادهم ودخولهم في الإسلام طوعاً وكرهاً فجاز له ما لم يجز لغيره .
{ وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار } الآية . والمعنى أن من فاتته زوجته بارتدادها إلى أهل العهد المذكور ولم يصل إلى مهرها منهم ثم غنمهم المسلمون ردوا عليه مهرها .
وفي المال الذي يرد منه هذا المهر ثلاثة أقاويل :
أحدها : من أموال غنائمهم لاستحقاقها عليهم ، قاله ابن عباس .
الثاني : من مال الفيء ، قاله الزهري .
الثالث : من صداق من أسلمن منهن عن زوج كافر ، وهو مروي عن الزهري أيضاً . وفي قوله تعالى : { فعاقبتم } ثلاثة تأويلات :
أحدها : معناه غنمتم لأخذه من معاقبة الغزو ، قاله مجاهد والضحاك .
الثاني : معناه فأصبتم من عاقبة من قتل أو سبي ، قاله سفيان .
الثالث : عاقبتم المرتدة بالقتل فلزوجها مهرهامن غنائم المسلمين ، قاله ابن بحر .
وهذا منسوخ لنسخ الشرط الذي شرطه رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم بالحديبية ، وقال عطاء بل حكمها ثابت .
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)

{ يأيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئاً } وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة عام الفتح وبايعة الرجال جاءت النساء بعدهم للبيعة فبايعهن .
واختلف في بيعته لهن على ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه جلس على الصفا [ ومعه عمر أسفل منه ] فأمره أن يبايع النساء ، قاله مقاتل .
الثاني : أنه أمر أميمة أخت خديجة خالة فاطمة بنت رسول الله بعد أن بايعته ، أن تبايع النساء عنه ، قاله محمد بن المنكدر عن أميمة .
الثالث : أنه بايعهن بنفسه وعلى يده ثوب قد وضعه على كفه ، قاله عامر الشعبي .
وقيل بل وضع قعباً فيه ماء وغمس فيه يده وأمرهن فغمسن أيديهن ، فكانت هذه بيعة النساء .
فإن قيل فما معنى بيعتهن ولسن من أهل الجهاد فتؤخذ عليهن البيعة كالرجال؟
قيل : كانت بيعته لهن تعريفاً لهن بما عليهن من حقوق الله تعالى وحقوق أزواجهن لأنهن دخلن في الشرع ولم يعرفن حكمه فبينه لهن ، وكان أول ما أخذه عليهن أن لا يشركن بالله شيئاً توحيداً له ومنعاً لعبادة غيره .
{ ولا يسرقن } فروى أن هند بنت عتبة كانت متنكرة عند أخذ البيعة على النساء خيفة من رسول الله صلى الله عليه وسلم لما صنعته بحمزة وأكلها كبده ، فقالت حين سمعته في أخذ البيعة عليهن يقول : { لا يسرقن } والله إني لا أصيب من أبي سفيان إلا قوتنا ما أدري أيحل لي أم لا ، فقال أبو سفيان : ما أصبت مما مضى أو قد بقي فهو لك حلال ، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفها فقال : « أنت هند »؟ فقالت عفا اللَّه عما سلف .
ثم قال : { ولا يزنين } فقالت هند يا رسول الله أو تزني الحرة؟
ثم قال : { ولا يقتلن أولادهن } لأن العرب كانت تئد البنات ، فقالت هند : أنت قتلتهم يوم بدر ، وأنت وهم أبصر .
وروى مقاتل أنها قالت : ربيناهم صغاراً وقتلتوهم كباراً فأنتم وهم أعلم ، فضحك عمر بن الخطاب حتى استلقى .
{ ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه السحر ، قاله ابن بحر .
الثاني : المشي بالنميمة والسعي في الفساد .
والثالث : وهو قول الجمهور ألا يلحقن بأزواجهن غير أولادهن لأن الزوجة كانت تلتقط ولداً وتلحقه بزوجها ولداً ، ومعنى { يفترينه بين أيديهن } ما أخذته لقيطاً ، { وأرجلهن } ما ولدته من زنى ، وروي أن هنداً لما سمعت ذلك قالت : والله إن البهتان لأمر قبيح ، وما تأمر إلا بالأرشد ومكارم الأخلاق .
ثم قال : { ولا يعصينك في معروف } فيه أربعة أوجه :
أحدها : أن المعروف ها هنا الطاعة لله ولرسوله ، قاله ميمون بن مهران .
الثاني : ما رواه شهر بن حوشب عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا يعصينك في معروف قال : هو النوح .
الثالث : أن من المعروف ألا تخمش وجهها ولا تنشر شعرها ولا تشق جيباً ولا تدعو ويلاً ، قاله أسيد بن أبي أسيد .
الرابع : أنه عام في كل معروف أمر الله ورسوله به ، قاله الكلبي .
فروي أن هنداً قالت عند ذلك : ما جلسنا في مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعطيك من شيء وهذا دليل على أن طاعة الولاة إنما تلزم في المعروف المباح دون المنكر المحظور .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (13)

{ يأيها الذين ءامنوا لا تتولوا قوماً غضب الله عليهم } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنهم اليهود ، قاله مقاتل .
الثاني : أنهم اليهود والنصارى ، قاله ابن مسعود .
الثالث : جميع الكفار ، قاله مجاهد .
{ قد يئسوا من الأخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور } فيه أربعة أوجه :
أحدها : يئسوا من ثواب الآخرة كما يئس الكفار مِنْ بعث مَنْ في القبور ، قاله ابن عباس .
الثاني : قد يئسوا من ثواب الآخرة كما يئس أصحاب القبور بعد المعاينة من ثواب الآخرة لأنهم تيقنوا العذاب ، قاله مجاهد .
الثالث : قد يئسوا من البعث والرجعة كما يئس منها من مات منهم وقبر .
الرابع : يئسوا أن يكون لهم في الآخرة خير كما يئسوا أن ينالهم من أصحاب القبور خير .
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4)

قوله تعالى : { يأيها الذين ءامنوا لم تقولون ما لا تفعلون } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها نزلت في قوم قالوا : لو عملنا أحب الأعمال إلى الله لسارعنا إليه ، فلما نزل فرض الجهاد تثاقلوا عنه ، قاله ابن عباس ومجاهد .
الثاني : أنها نزلت في قوم كان يقول الرجال منهم : قاتلت ولم يقاتل ، وطعنت ، ولم يطعن ، وضربت ، ولم يضرب وصبرت ، ولم يصبر ، وهذا مروي عن عكرمة .
الثالث : أنها نزلت في المنافقين كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم ولأصحابه إن خرجتم وقاتلتم خرجنا معكم وقاتلنا فلما خرجوا نكصوا عنهم وتخلفوا .
وهذه الآية وإن كان ظاهرها الإنكار لمن قال ما لا يفعل فالمراد بها الإنكار لمن لم يفعل ما قال ، لأن المقصود بها القيام بحقوق الالتيام دون إسقاطه .
{ إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً } مصطفين صفوفاً كالصلاة ، لأنهم إذا اصطفوا مثلاً صفين كان أثبت لهم وأمنع من عدوهم . قال سعيد بن جبير :
هذا تعليم من الله للمؤمنين .
{ كأنهم بنيان مرصوص } فيه وجهان :
أحدهما : أن المرصوص الملتصق بعضه إلى بعض لا ترى فيه كوة ولا ثقباً لأن ذلك أحكم في البناء من تفرقه وكذلك الصفوف ، قاله ابن جبير ، قال الشاعر :
وأشجر مرصوص بطين وجندل ... له شرفات فوقهن نصائب
والثاني : أن المرصوص المبني بالرصاص ، قاله الفراء ، ومنه قول الراجز :
ما لقي البيض من الحرقوص ... يفتح باب المغلق المرصوص
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5) وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6)

{ فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم } وفي الزيغ وجهان :
أحدهما : أنه العدول ، قاله السدي .
الثاني : أنه الميل ، إلا أنه لا يستعمل إلا في الزيغ عن الحق دون الباطل .
ويحتمل تأويله وجهين :
أحدهما : فلما زاغوا عن الطاعة أزاغ الله قلوبهم عن الهداية .
الثاني : فلما زاغوا عن الإيمان أزاغ قلوبهم عن الكلام .
وفي المعِنيّ بهذا الكلام ثلاثة أقاويل :
أحدها : المنافقون .
الثاني : الخوارج ، قاله مصعب بن سعيد عن أبيه .
الثالث : أنه عام .
{ ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد } وهذه البشرى من عيسى تتضمن أمرين :
أحدهما : تبليغ ذلك إلى قومه ليؤمنوا به عند مجيئه ، وذلك لا يكون منه بعد إعلام الله له بذلك إلا عن أمر بتبليغ ذلك إلى أمته .
الثاني : ليكون ذلك من معجزات عيسى عند ظهور محمد صلى الله عليه وسلم ، وهذا يجوز أن يقتصر عيسى فيه على إعلام الله له بذلك دون أمره بالبلاغ .
وفي تسمية الله له بأحمد وجهان :
أحدهما : لأنه من أسمائه فكان يسمى أحمد ومحمداً قال حسان :
صلى الإله ومن يحف بعرشه ... والطيبون على المبارك أحمد
الثاني : أنه مشتق من اسمه محمود ، فصار الاشتقاق اسماً ، كما قال حسان :
وشق له من اسمه ليجله ... فذو العرش محمود وهذا محمد
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
« اسمي في التوراة أحيد لأني أحيد أمتي عن النار ، واسمي في الزبور الماحي محا الله بي عبادة الأصنام ، واسمي في الإنجيل أحمد ، واسمي في القرآن محمد لأني محمود في أهل السماء والأرض . »
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9)

{ ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب وهو يدعى إلى الإسلام } فيهم قولان :
أحدهما : أنهم الكفار والمنافقون ، قاله ابن جريج .
الثاني : أنه النضر وهو من بني عبد الدار قال إذا كان يوم القيامة شفعت لي العزى واللات ، فأنزل الله هذه الآية ، قاله عكرمة .
{ يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم } الآية . والإطفاء هو الإخماد ، ويستعملان في النار ، ويستعاران فيما يجري مجراها من الضياء والنور .
والفرق بين الإطفاء والإخماد من وجه وهو أن الإطفاء يستعمل في القليل والكثير ، والإخماد يستعمل في الكثير دون القليل ، فيقال أطفأت السراج ولا يقال أخمدت السراج .
وفي { نور الله } ها هنا خمسة أقاويل :
أحدها : القرآن ، يريدون إبطاله بالقول ، قاله ابن زيد .
الثاني : أنه الإسلام ، يريدون دفعه بالكلام ، قاله السدي .
الثالث : أنه محمد صلى الله عليه وسلم يريدون هلاكه بالأراجيف ، قاله الضحاك .
الرابع : أنه حجج الله ودلائله ، يريدون إبطالها بإنكارهم وتكذبيهم ، قاله ابن بحر .
الخامس : أنه مثل مضروب ، أي من أرد إطفاء نور الشمس بفيه فوجده مستحيلاً ممتنعاً فكذلك من أراد إبطال الحق ، حكاه ابن عيسى .
وسبب نزول هذه الآية ما حكاه عطاء عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم أبطأ عليه الوحي أربعين يوماً ، فقال كعب بن الأشرف :
يا معشر اليهود ابشروا فقد أطفأ الله نور محمد فيما كان ينزل عليه ، وما كان الله ليتم أمره ، فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك ، فأنزل الله هذه الآية ، ثم اتصل الوحي بعدها .
{ ليظهره على الدين كله } الآية . وفي الإظهار ثلاثة أقاويل :
أحدها : الغلبة على أهل الأديان .
الثاني : العلو على الأديان .
الثالث : العلم بالأديان من قولهم قد ظهرت على سره أي علمت به .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14)

{ وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب } وهذا من الله لزيادة الترغيب ، لأنه لما وعدهم بالجنة على طاعته وطاعة رسوله علم أن منهم من يريد عاجل النصر لقاء رغبة في الدنيا ولقاء تأييد الدين فوعدهم بما يقوي به الرغبة فقال : { وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب } يعني فتح البلاد عليه وعليهم ، وقد أنجز الله وعده في كلا الأمرين من النصر والفتح .
وفي قوله : { قريب } وجهان :
أحدهما : أنه راجع إلى ما يحبونه أنه نصر من الله وفتح قريب .
الثاني : أنه إخبار من الله بأن ما يحبونه من ذلك سيكون قريباً ، فكان كما أخبر لأنه عجل لهم الفتح والنصر .
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)

{ يسبح لله ما في السموات وما في الأرض الملك القدوس العزيز الحكيم }
{ هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلوا عليهم ءاياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين } .
{ بعث في الأميين رسولاً منهم } يعني في العرب ، وفي تسميتهم أميين قولان : أحدهما : لأنه لم ينزل عليهم كتاب ، قاله ابن زيد .
الثاني : لأنهم لم يكونوا يكتبون ولا كان فيهم كاتب ، قاله قتادة .
ثم فيهم قولان :
أحدهما : أنهم قريش خاصة لأنها لم تكن تكتب حتى تعلم بعضها في آخر الجاهلية من أهل الحيرة .
الثاني : أنهم جميع العرب لأنه لم يكن لهم كتاب ولا كتب منهم إلا قليل ، قاله المفضل .
فلو قيل : فما وجه الامتنان بأن بعث نبياً أمياً؟
فالجواب عنه ثلاثة أوجه :
احدها : لموافقته ما تقدمت بشارة الأنبياء به .
الثاني : لمشاكلة حاله لأحوالهم ، فيكون أقرب إلى موافقتهم .
الثالث : لينتفي عنه سوء الظن في تعلمه ما دعا إليه من الكتب التي قرأها والحكم التي تلاها .
{ يتلوا عليهم ءاياته } يعني القرآن .
{ ويزكيهم } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : يجعلهم أزكياء القلوب بالإيمان ، وهو معنى قول ابن عباس .
الثاني : يطهرهم من الكفر والذنوب ، قاله ابن جريج ومقاتل .
الثالث : يأخذ زكاة أعمالهم ، قاله السدي .
{ ويعلمهم الكتاب } فيه ثلاثة تلأويلات :
أحدها : أنه القرآن ، قاله الحسن .
الثاني : أنه الخط بالقلم ، قاله ابن عباس ، لأن الخط إنما فشا في العرب بالشرع لما أمروا بتقييده بالخط .
الثالث : معرفة الخير والشر كما يعرفونه بالكتاب ليفعلوا الخير ويكفوا عن الشر ، وهذا معنى قول محمد بن إسحق .
{ والحكمة } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : أن الحكمة السنة ، قاله الحسن .
الثاني : أنه الفقه في الدين ، وهو قول مالك بن أنس .
الثالث : أنه الفهم والاتعاظ ، قاله الأعمش .
{ وءاخرين منهم لما يلحقوا بهم } أي ويعلم آخرين ويزكيهم ، وفيه أربعة أقاويل :
أحدها : أنهم المسلمون بعد الصحابة ، قاله ابن زيد .
الثاني : أنهم العجم بعد العرب ، قاله الضحاك وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « رأيت في منامي غنماً سوداً تتبعها غنم عفر » فقال أبو بكر : يا رسول الله تلك العرب يتبعها العجم ، فقال : « كذلك عبرها لي الملك » .
الثالث : أنهم الملوك أبناء الأعاجم ، قاله مجاهد .
الرابع : أنهم الأطفال بعد الرجال . ويحتمل خامساً : أنهم النساء بعد الرجال .
{ ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء } فيها ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها النبوة التي خص الله بها رسوله هي فضل الله يؤتيه من يشاء ، قاله مقاتل .
الثاني : الإسلام الذي آتاه الله من شاء من عباده ، قاله الكلبي .
الثالث : ما روي أنه قيل يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالأجور ، فأمر ذوي الفاقة بالتسبيح والتحميد والتكبير بدلاً من التصدق بالأموال ، ففعل الأغنياء مثل ذلك ، فقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : « ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهَ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ » قاله أبو صالح .
ويحتمل خامساً : أنه انقياد الناس إلى تصديقه صلى الله عليه وسلم ودخولهم في دينه ونصرته .
مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5) قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6) وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)

{ قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم } يحتمل أربعة أوجه :
أحدها : معناه تفرون من الداء بالدواء فإنه ملاقيكم بانقضاء الأجل .
الثاني : تفرون من الجهاد بالقعود فإنه ملاقيكم بالوعيد .
الثالث : تفرون منه بالطيرة من ذكره حذراً من حلوله فإنه ملاقيكم بالكره والرضا .
الرابع : إنه الموت الذي تفرون أن تتمنوه حين قال تعالى : { فتمنوا الموت } .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10)

{ يا أيها الذين ءامنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله } في السعي إليها أربعة أقاويل :
أحدها : النية بالقلوب ، قاله الحسن .
الثاني : أنه العمل لها ، كما قال تعالى : { إن سعيكم لشتى } قاله ابن زيد .
الثالث : أنه إجابة الداعي ، قاله السدي .
الرابع : المشي على القدم من غير إسراع ، وذكر أن عمر وابن مسعود كانا يقرآن { فامضوا إلى ذكر الله } .
وفي ذكر الله ها هنا ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها موعظة الإمام في الخطبة ، قاله سعيد بن المسيب .
الثاني : أنها الوقت ، حكاه السدي .
الثالث : أنه الصلاة ، وهو قول الجمهور .
وكان اسم يوم الجمعة في الجاهلية العروبة ، لأن أسماء الأيام في الجاهلية كانت غير هذه الأسماء ، فكانوا يسمون يوم الأحد أوّل ، والأثنين أهون ، والثلاثاء جبار ، والأربعاء دبار ، والخميس مؤنس ، والجمعة عروبة ، والسبت شيار ، وأنشدني بعض أهل الأدب :
أؤمل أن أعيش وإن يومي ... بأوّل أو أهون أو جبار
أو التالي دبار أو فيومي ... يمؤنس أو عروبة أو شيار
وأول من سماه يوم الجمعة كعب بن لؤي بن غالب لاجتماع قريش فيه إلى كعب ، وقيل بل سمي في الإسلام لاجتماع الناس فيه للصلاة .
{ وذروا البيع } منع الله منه عند صلاة الجمعة وحرمه في وقتها على ما كان مخاطباً بفرضها . وفي وقت التحريم قولان :
أحدهما : أنه بعد الزوال [ إلى ما ] بعد الفراغ منها ، قاله الضحاك .
الثاني : من وقت أذان الخطبة إلى الفراغ من الصلاة ، قاله الشافعي رحمه الله فأما الأذان الأول فمحدث ، فعله عثمان بن عفان ليتأهب الناس به لحضور الخطبة عند اتساع المدينة وكثرة أهلها ، وقد كان عمر أمر أن يؤذن في السوق قبل المسجد ليقوم الناس عن بيوعهم ، فإذا اجتمعوا أذن في المسجد ، فجعله [ عثمان ] آذانين في المسجد ، وليس يحرم البيع بعده وقبل الخطبة ، فإن عقد في هذا الوقت المحرم بيع لم يبطل البيع وإن كان قد عصى الله ، لأن النهي مختص بسبب يعود إلى العاقدين دون العقد ، وأبطله ابن حنبل تمسكاً بظاهر النهي .
{ ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون } يعني أن الصلاة خير لكم من البيع والشراء لأن الصلاة تفوت بخروج وقتها ، والبيع لا يفوت .
{ فإذا قضيت الصلاة } يعني أُدّيتْ .
{ فانتشروا في الأرض } حكي عن عراك بن مالك أنه كان إذا صلى الجمعة انصرف فوقف على باب المسجد فقال : اللهم إني أجبت دعوتك وصليت فرضيتك وانتشرت كما أمرتني فارزقني من فضلك وأنت خير الرازقين .
{ وابتغوا من فضل الله } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : الرزق من البيع والشراء ، قاله مقاتل والضحاك .
الثاني : العمل في يوم السبت ، قاله جعفر بن محمد .
الثالث : ما رواه أبو خلف عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله ، قال : ليس بطلب الدنيا لكن من عيادة مريض وحضور جنازة وزيارة أخ في الله . »
وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)

{ وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفَضُّوا إليها وتركوك قائماً } روى سالم عن جابر قال : أقبلت عير ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني في الخطبة فانفتل الناس إليها وما بقي غير اثني عشر رجلاً ، فنزلت هذه الآية .
وذكر الكلبي أن الذي قدم بها دحية بن خليفة الكلبي من الشام عند مجاعة وغلاء سعر ، وكان معه جميع ما يحتاج إليه من بُر ودقيق وغيره فنزل عند أحدار الزيت وضرب الطبل ليؤذن الناس بقدومه ، وكانوا في خطبة الجمعة ، فانفضوا إليها ، وبقي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية رجال ، فقال تعالى : { وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها }
والتجارة من أموال التجارات .
وفي اللهو ها هنا أربعة أوجه :
أحدها : يعني لعباً ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنه الطبل ، قاله مجاهد .
الثالث : أنه المزمار ، قاله جابر .
الرابع : الغناء .
{ وتركوك قائماً } يعني في خطبته ، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « والذي نفسي بيده لو ابتدرتموها حتى لا يبقى معي أحد لسال الوادي بكم ناراً ، » وإنما قال تعالى :
{ انفضوا إليها } ولم يقل إليهما ، لأن غالب انفضاضهم كان للتجارة دون اللهو . وقال الأخفش : في الكلام تقدير وتأخير ، وتقديره وإذا رأوا تجارة انفضوا إليها أو لهواً ، وكذلك قرأ ابن مسعود .
وفي { انفضوا } وجهان :
أحدهما : ذهبوا .
الثاني : تفرقوا .
فمن جعل معناه ذهبوا أراد التجارة ، ومن جعل معناه تفرقوا أراد عن الخطبة وهذا أفصح الوجهين ، قاله قطرب ، ومنه قول الشاعر :
انفض جمعهم عن كل نائرة ... تبقى وتدنس عرض الواجم الشبم
{ قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة } يحتمل وجهين :
أحدهما : ما عند الله من ثواب صلاتكم خير من لذة لهوكم وفائدة تجارتكم .
الثاني : ما عند الله من رزقكم الذي قسمت لكم خير مما أصبتموه انفضاضكم من لهوكم وتجارتكم .
{ والله خير الرازقين } يحتمل وجهين :
أحدهما : أن الله سبحانه خير من رَزَق وأعطى .
الثاني : ورزق الله خير الأرزاق .
إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3) وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4)

قوله تعالى : { إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله } سئل حذيفة ابن اليمان عن المنافق فقال : الذي يصف الإسلام ولا يعمل به ، وهم اليوم شر منهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأنهم كانوا يكتمونه وهم اليوم يظهرونه .
{ قالوا نشهد إنك لرسول الله } يعني نحلف ، فعبر عن الحلف بالشهادة لأن كل واحد من الحلف والشهادة إثبات لأمر مغيب ، ومنه قول قيس بن ذريح :
وأشهد عند الله أني أحبها ... فهذا لها عندي فما عندها ليا
ويحتمل ثانياً : أن يكون ذلك محمولاً على ظاهره أنهم يشهدون أن محمداً رسول الله اعترافاً بالإيمان ونفياً للنفاق عن أنفسهم ، وهو الأشبه .
وسبب نزول هذه الأية ما روى أسباط عن السدي أن عبد الله بن أبي بن سلول كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة وفيها أعراب يتبعون الناس ، وكان ابن أبي يصنع لرسول الله صلى الله عليه وسلم في كل يوم طعاماً ، فاستقى أعرابي ماء في حوض عمله من أحجار ، فجاء رجل من أصحاب ابن ابي بناقة ليسقيها من ذلك الماء فمنعه الأعرابي واقتتلا فشجه الاعرابي ، فأتى الرجل إلى عبد الله [ بن أبي ] ودمه يسيل على وجهه ، فحزنه ، فنافق عبد الله وقال : ما لهم رد الله أمرهم إلى تبال ، وقال لأصحابه : لا تأتوا محمداً بالطعام حتى يتفرق عنه الأعراب ، فسمع ذلك زيد بن أرقم وكان حدثاً ، فأخبر عمه ، فأتى عمه رسول الله صلى الله عليه وسلم فحدثه ، فبعث إلى ابن أبيّ وكان من أوسم الناس وأحسنهم منطقاً ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلف : والذي بعثك بالحق ما قلت من هذا شيئاً ، فصدقه فأنزل الله هذه الآية .
{ والله يعلم إنك لرسوله } أي إن نافق من نافقك من علم الله بأنك رسوله فلا يضرك .
ثم قال : { والله يشهد إن المنافقين لكاذبون } يحتمل وجهين :
أحدهما : والله يقسم إن المنافقين لكاذبون في أيمانهم .
الثاني : معناه والله يعلم أن المنافقين لكاذبون فيها .
{ اتخذوا أيمانهم جنة } والجنة : الغطاء المانع من الأذى ، ومنه قول الأعشى ميمون .
إذا أنت لم تجعل لعرضك جنة ... من المال سار الذم كل مسير
وفيه وجهان :
أحدهما : من السبي والقتل ليعصموا بها دماءهم وأموالهم ، قاله قتادة .
الثاني : من الموت ألاَّ يُصلَّى عليهم ، فيظهر على جميع المسلمين نفاقهم ، وهذا معنى قول السدي .
ويحتمل ثالثاً : جنة تدفع عنهم فضيحة النفاق .
{ فصدوا عن سبيل الله } فيه وجهان :
أحدهما : عن الإسلام بتنفير المسلمين عنه .
الثاني : عن الجهاد بتثبيطهم المسلمين وإرجافهم به وتميزهم عنهم ، قال عمر بن الخطاب : ما أخاف عليكم رجلين : مؤمناً قد استبان إيمانه وكافر قد استبان كفره ، ولكن أخاف عليكم منافقاً يتعوذ بالإيمان ويعمل بغيره .

{ وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم } يعني حسن منظرهم وتمام خلقهم .
{ وإن يقولوا تسمع لقولهم } يعني لحسن منطقهم وفصاحة كلامهم .
ويحتمل ثانياً : لإظهار الإسلام وذكر موافقتهم .
{ كأنهم خشب مسندة } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه شبههم بالنخل القيام لحسن منظرهم .
الثاني : [ شبههم ] بالخشب النخرة لسوء مخبرهم .
الثالث : أنه شبههم بالخشب المسندة لأنهم لا يسمعون الهدى ولا يقبلونه ، كما لا تسمعه الخشب المسندة ، قاله الكلبي ، وقوله : { مسندة } لأنهم يستندون إلى الإيمان لحقن دمائهم .
{ يحسبون كل صيحة عليهم } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنهم لِوَجَلهم وخبثهم يحسبون كل صيحة يسمعونها - حتى لو دعا رجل صاحبه أو صاح بناقته - أن العدو قد اصطلم وأن القتل قد حَلَّ بهم ، قاله السدي .
الثاني : { يحسبون كل صيحة عليهم } كلام ضميره فيه ولا يفتقر إلى ما بعده ، وتقديره : يحسبون كل صيحة عليهم أنهم قد فطن بهم وعلم فقال : { هم العدو فاحذرهم } وهذا معنى قول الضحاك .
الثالث : يحسبون كل صيحة يسمعونها في المسجد أنها عليهم ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر فيها بقتلهم ، فهم أبداً وجلون ثم وصفهم الله بأن قال : { هم العدو فاحذرهم } حكاه عبد الرحمن بن أبي حاتم .
وفي قوله : { فاحذرهم } وجهان :
أحدهما : فاحذر أن تثق بقولهم وتميل إلى كلامهم .
الثاني : فاحذر ممايلتهم لأعدائك وتخذيلهم لأصحابك .
{ قاتلهم الله } فيه وجهان :
أحدهما : معناه لعنهم الله ، قاله ابن عباس وأبو مالك .
والثاني : أي أحلهم الله محل من قاتله عدو قاهر ، لأن الله تعالى قاهر لكل معاند ، حكاه ابن عيسى .
وفي قوله : { أني يؤفكون } أربعة أوجه :
أحدها : معناه يكذبون ، قاله ابن عباس .
الثاني : معناه يعدلون عن الحق ، قاله قتادة .
الثالث : معناه يصرفون عن الرشد ، قاله الحسن .
الرابع : معناه كيف يضل عقولهم عن هذا ، قاله السدي .
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8)

{ وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله } الآية .
روى سعيد بن جبير أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل منزلاً لم يرتحل منه حتى يصلي فيه ، فلما كانت غزوة تبوك بلغة أن ابن أُبَيّ قال : لئن رجعنا إلى المدينة لِيُخرجَنَّ الأعزُّ منها الأذلَّ ، فارتحل قبل أن ينزل آخرُ الناس ، وقيل لعبد الله بن أُبيّ : ائت النبي صلى الله عليه وسلم حتى يستغفر لك ، فلوى رأسه ، وهذا معنى قوله : { لوَّوْا رؤوسَهم } إشارة إليه وإلى أصحابه ، أي حركوها ، وأعرضوا يمنة ويسرة إلى غير جهة المخاطب ينظرون شزراً .
ويحتمل قولاً ثانيا : أن معنى قوله { يستغفر لكم رسول الله } يستتيبكم من النفاق لأن التوبة استغفار .
وفيما فعله عبد الله بن أبيّ حين لوى رأسه وجهان :
أحدهما : أنه فعل ذلك استهزاء وامتناعاً من فعل ما دعي إليه من إتيان الرسول للاستغار له ، قاله قتادة .
الثاني : أنه لوى رأسه بمعنى ماذا قلت ، قاله مجاهد .
{ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ } فيه وجهان :
أحدهما : يمتنعون ، قال الشاعر :
صدَدْتِ الكاسَ عنا أُمَّ عمرو ... وكان الكأسُ مجراها اليمينا
الثاني : يعرضون ، قال الأعشى :
صَدَّقَ هُرَيْرةُ عنّا ما تُكَلِّمنا ... جَهْلاً بأُمّ خُلَيْدٍ حبل من تصل
وفيما يصدون عنه وجهان :
أحدهما : عما دُعوا إليه من استغفار الرسول صلى الله عليه وسلم .
الثاني : عن الإخلاص للإيمان .
{ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ } فيه وجهان :
أحدهما : متكبرون .
الثاني : ممتنعون .
{ هم الذين يقولون لا تُنفِقوا على مَنْ عِندَ رسولِ الله } الآية يعني عبد الله بن أُبيّ وأصحابه ، وسببه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد انكفائه من غزاة بني المصطلق في شعبان سنة ست نزل على ماء المريسيع ، فتنازع عليه جهجاه ، وكان مسلماً وهو رجل من غفار ، ورجل يقال له سنان ، وكان من أصحاب عبد الله بن أُبي ، فلطمه جهجاه ، فغضب له عبد الله بن أُبيّ وقال : يا معاشر الأوس والخزرج ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قال القائل : سمّن كلبك يأكلك ، أوطأنا هذا الرجلَ ديارنا وقاسمْناهم أموالَنا ولولانا لانفضوا عنه ، ما لهم ، رد الله أمرهم إلى جهجاه ، لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعزّ منها الأذل ، فسمعه زيد بن أرقم وكان غلاماً ، فأعاده على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعتذر له قومه ، فأنزل الله هذه الآية والتي بعدها .
{ ولله خزائن السموات والأرض } فيه وجهان :
أحدهما : خزائن السموات : المطر ، وخزائن الأرضين : النبات .
الثاني : خزائن السموات : ما قضاه ، وخزائن الأرضين : ما أعطاه .
وفيه لأصحاب الخواطر ( ثالث ) : أن خزائن السموات : الغيوب ، وخزائن الأرض القلوب .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11)

{ يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أمْوالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : أنه عنى بذكر الله [ الصلاة ] المكتوبة ، قاله عطاء .
الثاني : أنه أراد فرائض الله التي فرضها من صلاة وغيرها ، قاله الضحاك .
الثالث : أنه طاعة اللَّه في الجهاد ، قاله الكلبي .
الرابع : أنه أراد الخوف من اللَّه عند ذكره .
{ وَأَنفِقُوا مما رَزَقْناكُم } فيه وجهان :
أحدهما : أنها الزكاة المفروضة من المال ، قاله الضحاك .
الثاني : أنها صدقة التطوع ورفد المحتاج ومعونة المضطر .
{ ولَن يُؤخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إذا جاءَ أَجَلُها } يحتمل وجهين :
أحدهما : لن يؤخرها عن الموت بعد انقضاء الأجل ، وهو أظهرهما .
الثاني : لن يؤخرها بعد الموت وإنما يعجل لها في القبر .
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (4)

قوله تعالى : { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فْمِنكُمْ كَافِرٌ } بأنه خلقه { وَمِنْكُم مُّؤمنٌ } بأنه خلقه ، قاله الزجاج .
الثاني : فمنكم كافر به وإن أقرّ به ، ومنكم مؤمن به .
قال الحسن : وفي الكلام محذوف وتقديره : فمنكم كافر ومنكم مؤمن ومنكم فاسق ، فحذفه لما في الكلام من الدليل عليه .
وقال غيره : لا حذف فيه لأن المقصود به ذكر الطرفين .
{ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ } يحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون بالقول .
الثاني : بإحكام الصنعة وصحة التقدير .
وذكر الكلبي ثالثاً : أن معناه خلق السموات والأرض للحق .
{ وَصَوَّرَكُمْ } فيه وجهان :
أحدهما : يعني آدم خلقه بيده كرامة له ، قاله مقاتل .
الثاني : جميع الخلق لأنهم مخلوقون بأمره وقضائه .
{ فأحْسَنَ صُوَرَكم } أي فأحكمها .
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (5) ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6)

{ . . . . فقالوا أَبَشَرٌ يَهْدونَنا } يعني أن الكفار قالوا ذلك استصغاراً للبشر أن يكونوا رسلاً من اللَّه إلى أمثالهم ، والبشر والإنسان واحد في المعنى ، وإنما يختلفان في اشتقاق الاسم ، فالبشر مأخوذ من ظهور البشرة ، وفي الإنسان وجهان :
أحدهما : مأخوذ من الإنس .
والثاني : من النسيان .
{ فَكَفَروا } يعني بالرسل { وَتَوَلَّوْا } يعني عن البرهان .
{ واستغنى اللَّه } فيه وجهان :
أحدهما : بسلطانه عن طاعة عباده ، قاله مقاتل .
الثاني : واستغنى اللَّه بما أظهره لهم من البرهان وأوضحه لهم من البيان من زيادة تدعو إلى الرشد وتقود إلى الهداية .
{ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ } في قوله { غَنِيٌّ } وجهان :
أحدهما : غني عن صدقاتكم ، قاله البراء بن عازب .
الثاني : عن عملكم ، قاله مقاتل .
وفي { حميد } وجهان :
أحدهما : يعني مستحمداً إلى خلقه بما ينعم به عليهم ، وهو معنى قول عليّ .
الثاني : إنه مستحق لحمدهم .
وحكي عن ابن عباس فيه ثالث : معناه يحب من عباده أن يحمدوه .
زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10)

{ زَعَمَ الذين كَفَروا } قال شريح زعموا كُنْيةُ الكذب .
{ يومَ يَجْمَعُكم ليومِ الجمْعِ } يعني يوم القيامة ، ومن تسميته بذلك وجهان :
أحدهما : لأنه يجمع فيه بين كل نبي وأمته .
الثاني : لأنه يجمع فيه بين الظالمين والمظلومين .
ويحتمل ثالثاً : لأنه يجمع فيه بين ثواب أهل الطاعة وعقاب أهل المعاصي .
{ ذلك يومُ التغابُنِ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه من أسماء يوم القيامة ، ومنه قول الشاعر :
وما أَرْتجي بالعيش من دارِ فُرْقةٍ ... ألا إنما الراحاتُ يوم التغابنِ
الثاني : لأنه غبن فيه أهل الجنة أهل النار ، قال الشاعر :
لعمرك ما شيءٌ يفوتُك نيلُه ... بغبْنٍ ولكنْ في العقول التغابنُ
الثالث : لأنه يوم غَبَنَ فيه المظلومُ الظالمَ ، لأن المظلوم كان في الدنيا مغبوناً فصار في الآخرة غابناً .
ويحتمل رابعاً : لأنه اليوم الذي أخفاه اللّهُ عن خَلْقه ، والغبن الإخفاء ومنه الغبن في البيع لاستخفائه ، ولذلك قيل مَغابِن الجسد لما خفي منه .
مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (12) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13)

{ ما أصابَ مِنْ مُّصيبةٍ } من نفس أو مالٍ أو قول أو فعل يقتضي همّاً أو يوجب عقاباً عاجلاً أو آجلاً .
{ إلا بإذْنِ اللَّهِ } فيه وجهان :
أحدهما : إلا بأمر اللَّه .
الثاني : إلا بحكم اللَّه تسليماً لأمره وانقياداً لحكمه .
{ ومَن يُؤْمِن باللَّه يَهْدِ قلبَهُ } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : معناه يهدي قلبه اللَّه تعالى .
الثاني : أنه يعلم أنه من عند اللَّه ويرضى ويسلّم ، قاله بشر .
الثالث : أن يسترجع فيقول : إنّا للَّه وإنا إليه راجعون .
الرابع : هو إذا ابتلي صبر ، وإذا أنعم عليه شكر وإذا ظُلم غفر ، قاله الكلبي .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)

{ يا أيها الذين آمنوا إنّ مِنْ أزْواجِكم وأَوْلادِكم عَدوّاً لكم }
فيه خمسة أقاويل :
أحدها : أنه أراد قوماً أسلموا بمكة فأرادوا الهجرة فمنعهم أزواجهم وأولادهم منها وثبطوهم عنها ، فنزل ذلك فيهم؛ قاله ابن عباس .
الثاني : من أزواجكم وأولادكم من لا يأمر بطاعة اللَّه ولا ينهى عن معصيته ، قاله قتادة . الثالث : أن منهم من يأمر بقطيعة الرحم ومعصية الرب ، ولا يستطيع مع حبه ألاّ يطيعه ، وهذا من العداوة؛ قاله مجاهد .
وقال مقاتل بن سليمان : نبئت أن عيسى عليه السلام قال : من اتخذ أهلاً ومالاً وولداً كان للدنيا عبداً .
الرابع : أن منهم من هو مخالف للدين ، فصار بمخالفة الدين عدواً ، قاله ابن زيد .
الخامس : أن من حملك منهم على طلب الدنيا والاستكثار منها كان عدواً لك ، قاله سهل .
وفي قوله { فاحذروهم } وجهان :
أحدهما : فاحذروهم على دينكم؛ قاله ابن زيد .
الثاني : على أنفسكم ، وهو محتمل .
{ وإن تعْفُوا وتَصْفَحُوا وتَغْفِرُوا } الآية . يريد بالعفو عن الظالم ، وبالصفح عن الجاهل ، وبالغفران للمسيء .
{ فإنّ اللَّه غفورٌ } للذنب { رحيم } بالعباد ، وذلك أن من أسلم بمكة ومنعه أهله من الهجرة فهاجر ولم يمتنع قال :
لئن رجعت لأفعلنّ بأهلي ولأفعلنّ ، ومنهم من قال : لا ينالون مني خيراً أبداً ، فلما كان عام الفتح أُمِروا بالعفو والصفح عن أهاليهم ، ونزلت هذه الآية فيهم . { إنما أموالكم وأولادكم فتنة } فيه وجهان :
أحدهما : بلاء ، قاله قتادة .
الثاني : محنة ، ومنه قول الشاعر :
لقد فتن الناس في دينهم ... وخلّىّ ابنُ عفان شرّاً طويلاً
وفي سبب افتتانه بهما وجهان :
أحدهما : لأنه يلهو بهما عن آخرته ويتوفر لأجلهما على دنياه .
الثاني : لأنه يشح لأجل أولاده فيمنع حق اللَّه من ماله ، لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : « الولد مبخلة محزنة مجبنة » .
{ والله عنده أجْرٌ عظيمٌ } قال أبو هريرة والحسن وقتادة وابن جبير : هي الجنة .
ويحتمل أن يكون المراد بذلك أن يكون أجرهم في الآخرة أعظم من منفعتهم بأموالهم وأولادهم في الدنيا ، فلذلك كان أجره عظيماً .
{ فاتّقوا الله ما اسْتطعتم } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : يعني جهدكم ، قاله أبو العالية .
الثاني : أن يطاع فلا يعصى ، قاله مجاهد .
الثالث : أنه مستعمل فيما يرجونه به من نافلة أو صدقة ، فإنه لما نزل قوله تعالى : { اتّقوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ } اشتد على القوم فقاموا حتى ورمت عراقيبهم وتقرحت جباههم ، فأنزل الله تعالى ذلك تخفيفاً { فاتقوا الله ما استطعتم } فنسخت الأولى ، قاله ابن جبير .
ويحتمل إن لم يثبت هذا النقل أن المكْرَه على المعصية غير مؤاخذ بها لأنه لا يستطيع اتقاءها .

{ واسْمَعوا } قال مقاتل : كتاب الله إذا نزل عليكم .
{ وأطيعوا } الرسول فيما أمركم أو نهاكم ، قال قتادة : عليها بويع النبي صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة .
{ وأنفِقوا خيْراً لأنفُسِكم } فيه ثلاثة أوجه :
أحدهما : هي نفقة المؤمن لنفسه ، قاله الحسن .
الثاني : في الجهاد ، قاله الضحاك .
الثالث : الصدقة ، قاله ابن عباس .
{ ومَن يُوقَ شُحَّ نفسِهِ فأولئك هم المفلِحونَ } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : هوى نفسه ، قاله ابن أبي طلحة .
الثاني : الظلم ، قاله ابن عيينة .
الثالث : هو منع الزكاة ، قال ابن عباس : من أعطى زكاة ماله فقد وقاه الله شح نفسه .
{ إن تُقْرِضوا اللَّهَ قرْضاً حَسَناً } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : النفقة في سبيل اللَّه ، قاله عمر رضي اللَّه عنه .
الثاني : النفقة على الأهل ، قاله زيد بن أسلم .
الثالث : أنه قول سبحان اللَّه والحمد للَّه ولا إله إلا اللَّه واللَّه أكبر ، رواه ابن حبان .
وفي قوله { حَسَناً } وجهان محتملان :
أحدهما : أن تطيب بها النفس .
الثاني : أن لا يكون بها ممتناً .
{ يُضاعفْه لكم } فيه وجهان :
أحدهما : بالحسنة عشر أمثالها ، كما قال تعالى في التنزيل .
الثاني : إلى ما لا يحد من تفضله ، قاله السدي .
{ ويَغْفِرْ لكم } يعني ذنوبكم .
{ واللَّهُ شكورٌ حليمٌ } فيه وجهان :
أحدهما : أن يشكر لنا القليل من أعمالنا وحليم لنا في عدم تعجيل المؤاخذة بذنوبنا .
الثاني : شكور على الصدقة حين يضاعفها ، حليم في أن لا يعجل بالعقوبة من [ تحريف ] الزكاة عن موضعها ، قاله مقاتل .
{ عالِمُ الغَيْبِ والشهَادةِ } يحتمل وجهين :
أحدهما : السر والعلانية .
الثاني : الدنيا والآخرة .
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1)

قوله تعالى { يا أيها النبي إذا طَلّقْتُمُ النّساءَ } الآية . هذا وإن كان خطاباً للنبي صلى الله عليه وسلم [ فهو شامل لأمته فروى قتادة عن أنس قال : « طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حفصة رضي الله عنها فأتت أهلها فأنزل الله تعالى عليه : { يا أيها النبي إذا طلقتم النساءَ فطلِّقوهُنَّ لعدَّتهنَّ } وقيل له راجعها فإنها قوّأمة صوّامة ، وهي من أزواجك في الجنة » . ] { لعدتهن } يعني في طهر من غير جماع ، وهو طلاق السنة .
وفي اعتبار العدد في طلاق السنة قولان :
أحدهما : أنه معتبر وأن من السنة أن يطلق في كل قرء واحدة ، فإن طلقها ثلاثاً معاً في قرء كان طلاق بدعة ، وهذا قول أبي حنيفة ومالك رحمهما الله .
الثاني : أنه غير معتبر ، وأن السنة في زمان الطلاق لا في عدده ، فإن طلقها ثلاثاً في قرء كان غير بدعة ، قاله الشافعي رحمه الله ، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ : فطلّقوهن لقُبُلِ عدّتهن . وإن طلقها حائضاً أو طهر جماع كان بدعة ، وهو واقع ، وزعم طائفة أنه غير واقع لخلاف المأذون فيه فأما طلاق الحامل وغير المدخول بها والصغيرة واليائسة والمختلعة فلا سنة فيه ولا بدعة .
ثم قال تعالى : { وأَحْصُوا العِدَّةَ } يعني في المدخول بها ، لأن غير المدخول بها لا عدة عليها وله أن يراجعها فيما دون الثلاث قبل انقضاء العدة ، ويكون بعدها كأحد الخطاب ، ولا تحل له في الثلاث إلا بعد زوج .
{ واتَّقوا اللَّهَ ربَّكم } يعني في نساءكم المطلقات .
{ لا تُخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن } يعني في زمان عدّتهن ، لوجود السكنى لهن .
{ إلاَّ أنْ يأتِينَ بفاحشَةٍ مُبَيِّنَةٍ } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : أن الفاحشة يعني الزنا ، والإخراج هو إخراجها لإقامة الحد ، قاله ابن عمر والحسن ومجاهد .
والثاني : أنه البذاء على أحمائها ، وهذا قول عبد الله بن عباس والشافعي .
الثالث : كل معصية للَّه ، وهذا مروي عن ابن عباس أيضاً .
الرابع : أن الفاحشة خروجهن ، ويكون تقدير الآية : إلا أن يأتين بفاحشة مبينة بخروجهن من بيوتهن ، قاله السدي .
{ وتلك حُدودُ اللَّهِ } يعني وهذه حدود اللَّه ، وفيها ثلاثة أوجه :
أحدها : يعني طاعة اللَّه ، قاله ابن عباس .
الثاني : سنَّة اللَّه وأمره ، قاله ابن جبير .
الثالث : شروط اللَّه ، قاله السدّي .
{ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدودَ اللَّهِ } فيه تأويلان :
أحدهما : من لم يرض بها ، قاله ابن عباس .
الثاني : من خالفها ، قاله ابن جبير .
{ فقدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } فيه وجهان :
أحدهما : فقد ظلم نفسه في عدم الرضا ، باكتساب المأثم .
الثاني : في وقوع الطلاق في غير الطهر للشهور لتطويل هذه العدة والإضرار بالزوجة .
{ لا تدري لعلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْد ذلك أَمْراً } يعني رجعة ، في قول جميع المفسرين إن طلق دون الثلاث .
فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)

{ فإذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } يعني قاربْن انقضاء عدتهن .
{ فأمْسِكُوهُنَّ بمعروفٍ } يعني بالإمساك الرجعة .
وفي قوله { بمعروف } وجهان :
أحدهما : بطاعة اللَّه في الشهادة ، قاله مقاتل .
الثاني : أن لا يقصد الإضرار بها في المراجعة تطويلاً لعدتها . { أو فارِقوهنَّ بمعروفٍ } وهذا بأن لا يراجعها في العدة حتى تنقضي في منزلها .
{ وأشْهِدوا ذَوَيْ عَدْلٍ منكم } يعني على الرجعة في العدة ، فإن راجع من غير شهادة ففي صحة الرجعة قولان للفقهاء .
{ ومن يتّقِ اللَّهَ يَجْعَل له مَخْرَجاً } فيه سبعة أقاويل :
أحدها : أي ينجيه من كل كرب في الدنيا والآخرة ، قاله ابن عباس .
الثاني : أن المخرج علمه بأنه من قبل اللَّه ، فإن اللَّه هو الذي يعطي ويمنع ، قاله مسروق .
الثالث : أن المخرج هو أن يقنعه اللَّه بما رزقه ، قاله عليّ بن صالح .
الرابع : مخرجاً من الباطل إلى الحق ، ومن الضيق إلى السعة ، قاله ابن جريج .
الخامس : ومن يتق اللَّه بالطلاق يكن له مخرج في الرجعة في العدة ، وأن يكون كأحد الخطاب بعد العدة ، قاله الضحاك .
والسادس : ومن يتق اللَّه بالصبر عند المصيبة يجعل له مخرجاً من النار إلى الجنة ، قاله الكلبي .
السابع : أن عوف بن مالك الأشجعي أُسِر ابنُه عوف ، فأتى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فشكا إليه ذلك مع ضر أصابه ، فأمره أن يكثر من قول لا حول ولا قوة إلا باللَّه ، فأفلت ابنه من الأسر وركب ناقة للقوم ومر في طريقه بسرح لهم فاستاقه ، ثم قدم عوف فوقف على أبيه يناديه وقد ملأ الأقبال إبلاً ، فلما رآه أتى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فأخبره وسأله عن الإبل فقال : اصنع بها ما أحببت وما كنت صانعاً بمالك ، فنزلت هذه الآية { وَمَن يتق الّلَّه يجعل له مخرجاً } الآية ، فروى الحسن عن عمران بن حصين قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من انقطع إلى اللَّه كفاه اللَّه كل مؤونة ورزقه اللَّه من حيث لا يحتسب ، ومن انقطع إلى الدنيا وكله اللَّه إليها » .
{ إنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ } قال مسروق : إن اللَّه قاض أمره فيمن توكل عليه وفيمن لم يتوكل عليه ، إلا أنَّ مَنْ توكّل يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجراً .
{ قد جَعَل اللَّه لكل شيء قدْراً } فيه ثلاثة أوجه :
أحدهما : - يعني وقتاً وأجلاً ، قاله مسروق .
الثاني : منتهى وغاية ، قاله قطرب والأخفش .
الثالث : مقداراً واحداً ، فإن كان من أفعال العباد كان مقدراً بأوامر اللّه ، وإن كان من أفعال اللَّه ففيه وجهان :
أحدهما : بمشيئته .
الثاني : أنه مقدر بمصلحة عباده .
وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4) ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (5)

{ واللائي يَئِسْنَ مِن المحيْض مِن نِسائِكُمْ إن ارْتَبْتُمْ فعِدَّتُهُنَّ ثلاثةُ أَشْهُرٍ } في الريبة ها هنا قولان :
أحدهما : إن ارتبتم فيهن بالدم الذي يظهر منهن لكبرهن فلم تعرفوا أحيض هو أم استحاضة ، فعدتهن ثلاثة أشهر ، قاله مجاهد والزهري .
الثاني : إن ارتبتم بحكم عِددهن فلم تعلموا بماذا يعتددن ، فعدتهن ثلاثة أشهر .
روى عمر بن سالم عن أبيّ بن كعب قال : قلت : يا رسول اللَّه إنّ ناساً من أهل المدينة لما نزلت الآيات التي في البقرة في عدة النساء قالوا : لقد بقي من عدة النساء عدد لم يذكرن في القرآن الصغار والكبار اللاتي قد انقطع عنهن الحيض وذوات الحمل ، فأنزل اللَّه : { اللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر } .
{ واللائي لم يَحِضْنَ } يعني كذلك عدتهن ثلاثة أشهر ، فجعل لكل قرء شهراً ، لأنها تجمع في الأغلب حيضاً وطهراً .
{ وأُولاتُ الأحْمالِ أَجلُهنَّ أَن يَضَعْنَ حَملَهُنَّ } فكانت عدة الحامل وضع حملها في الطلاق والوفاة .
{ ومَن يتّقِ اللَّهَ يَجْعَل له مِنْ أمْرِه يُسْراً } فيه وجهان :
أحدهما : من يتقه في طلاق السنة يجعل له من أمره يسراً في الرجعة ، قاله الضحاك .
الثاني : من يتق اللَّه في اجتناب معاصيه يجعل له من أمره يسراً في توفيقه للطاعة ، وهذا معنى قول مقاتل .
أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7)

{ أسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِن وُجْدِكم } يعني سكن الزوجة مستحق على زوجها مدة نكاحها وفي عدة طلاقها بائناً كان أو رجعياً .
وفي قوله : { من وجدكم } أربعة أوجه :
أحدهما : من قوتكم ، قاله الأعمش .
الثاني : من سعيكم ، قاله الأخفش .
الثالث : من طاقتكم ، قاله قطرب .
الرابع : مما تجدون ، قاله الفراء ، ومعانيها متقاربة . { ولا تُضارُّوهُنّ لِتُضَيِّقُوا عليهنّ } فيه قولان :
أحدهما : في المساكن ، قاله مجاهد .
الثاني : لتضيقوا عليهن في النفقة ، قاله مقاتل . مقاتل ، فعلى قول مجاهد أنه التضييق في المسكن فهو عام في حال الزوجية وفي كل عدة ، لأن السكنى للمعتدة واجبة في كل عدة في طلاق يملك فيه الرجعة أو لا يملك .
وفي وجوبه في عدة الوفاة قولان؛
وعلى قول مقاتل أنه التضييق في النفقة فهو خاص في الزوجة وفي المعتدة من طلاق رجعي .
وفي استحقاقها للمطلقة البائن قولان :
أحدهما : لا نفقة للبائن في العدة ، وهو مذهب مالك والشافعي رحمهما اللَّه . الثاني : لها النفقة ، وهو مذهب أبي حنيفة رحمه اللَّه .
{ وإن كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فأنفِقوا عليهنّ حتى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } وهذا في نفقة المطلقة الحامل لأنها واجبة لها مدة حملها في قول الجميع سواء كان طلاقاً بائناً أم رجعياً ، وإنما اختلفوا في وجوب النفقة لها هل استحقته بنفسها إن كانت بائناً أو بحملها على قولين .
{ فإن أَرْضَعْنَ لكم فآتوهُن أُجورَهُنّ } وهذا في المطلقة إذا أرضعت فلها على المطلق أجرة رضيعها لأن نفقته ورضاعه واجب على أبيه دونها ، ولا أجرة لها إن كانت على نكاحه .
{ وائْتَمِروا بَيْنكم بمعْروف } فيه وجهان :
أحدهما : قاله السدي .
الثاني : تراضوا يعني أبوي الولد يتراضيان بينهما إذا وقعت الفرقة بينهما بمعروف في أجرتها على الأب ورضاعها للولد .
{ وإن تعاسرتم } فيه وجهان :
أحدهما : تضايقتم وتشاكستم ، قاله ابن قتيبة .
الثاني : اختلفتم .
{ فسترضعُ له أخرى } واختلافهما نوعان :
أحدهما : في الرضاع .
الثاني : في الأجر .
فإن اختلفا في الرضاع فإن دعت إلى إرضاعه فامتنع الأب مكِّنت منه جبراً ، وإن دعاها الأب إلى إرضاعه فامتنعت ، فإن كان يقبل ثدي غيرها لم تجبر على إرضاعه ويسترضع له غيرها ، وإن كان لا يقبل ثدي غيرها أجبرت على إراضاعه بأجر مثلها . وإن اختلفا في الأجر فإن دعت إلى أجر مثلها وامتنع الأب إلا تبرعاً فالأم أَوْلى بأجر المثل إذا لم يجد الأب متبرعاً .
وإن دعا الأب إلى أجر المثل وامتنعت الأم شططاً فالأب أولى به ، فإذا أعسر الأب بأجرتها أخذت جبراً برضاع ولدها .
{ . . . لا يُكلِّفُ اللَّه نفساً إلا ما آتاها } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : لا يكلف اللَّه الأب نفقة المرضع إلا بحسب المكنة ، قاله ابن جبير .
الثاني : لا يكلفه اللَّه أن يتصدق ويزكي وليس عنده مال مصدق ولا مزكى ، قاله ابن زيد .
الثالث : أنه لا يكلفه فريضة إلا بحسب ما أعطاه اللَّه من قدرته ، وهذا معنى قول مقاتل .
{ سيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسراً } يحتمل وجهين :
أحدهما : يعني بعد ضيق سعة .
الثاني : بعد عجز قدرة .
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (8) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (11)

{ قد أنزلَ اللَّهُ إليكم ذِكْراً* رَسولاً } الذكر القرآن ، وفي الرسول قولان :
أحدهما : جبريل ، فيكونان جميعاً ، منزلين ، قاله الكلبي .
الثاني : أنه محمد صلى الله عليه وسلم ، فيكون تقدير الكلام : قد أنزل اللَّه إليكم ذكراً وبعث إليكم رسولاً .
{ يتلوا عليكم آيات اللَّه } يعني القرآن ، قال الفراء : نزلت في مؤمني أهل الكتاب .
{ مُبَيِّناتٍ ليُخْرِجَ الذين آمَنوا وَعمِلوا الصالِحَاتِ مِن الظُّلُماتِ إلى النُّورِ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : من ظلمة الجهل إلى نور العلم .
الثاني : من ظلمة المنسوخ إلى ضياء الناسخ .
الثالث : من ظلمة الباطل إلى ضياء الحق .
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)

{ اللَّهُ الذي خَلَقَ سَبْعَ سَمواتٍ } لا اختلاف بينهم في السموات السبع أنها سماء فوق سماء .
ثم قال { ومِنَ الأرْضِ مثْلَهنّ } يعني سبعاً ، واختلف فيهن على قولين :
أحدهما : وهو قول الجمهور أنها سبع أرضين طباقاً بعضها فوق بعض ، وجعل في كل أرض من خلقه من شاء ، غير أنهم تقلّهم أرض وتظلهم أخرى ، وليس تظل السماء إلا أهل الأرض العليا التي عليها عالمنا هذا ، فعلى هذا تختص دعوة الإسلام بأهل الأرض العليا ولا تلزم من غيرها من الأرضين وإن كان فيها من يعقل من خلق مميز .
وفي مشاهدتهم السماء واستمداد الضوء منها قولان :
أحدهما : أنهم يشاهدون السماء من كل جانب من أرضهم ويستمدون الضياء منها وهذا قول من جعل الأرض مبسوطة .
والقول الثاني : أنهم لا يشاهدون السماء وإن اللَّه خلق لهم ضياء يستمدونه ، وهذا قول من جعل الأرض كالكرة .
القول الثاني : حكاه الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنها سبع أرضين منبسطة ليس بعضها فوق بعض ، تفرق بينهن البحار وتظل جميعن السماء ، فعلى هذا إن لم يكن لأحد من أهل هذه الأرض وصول للأخرى اختصت دعوة الإسلام بأهل هذه الأرض ، وإن كان لقوم منهم وصول إلى أرض أخرى احتمل أن تلزمهم دعوة الإسلام عند إمكان الوصول إليهم لأن فصل البحار إذا أمكن سلوكها لا يمنع من لزوم ما عم حكمه ، واحتمل ألا تلزمهم دعوة الإسلام لأنها لو لزمت لكان النص بها وارداً ولكان الرسول بها مأموراً ، واللَّه أعلم بصحة ما استأثر بعلمه وصواب ما اشبته على خلقه .
ثم قال تعالى { يتنَزَّلُ الأمْرُ بَيْنَهُنَّ } فيه وجهان :
أحدهما : الوحي ، قاله مقاتل ، فعلى هذا يكون قوله { بينهن } أشارة إلى ما بين هذه الأرض العليا التي هي أدناها وبين السماء السابعة التي هى أعلاها .
الوجه الثاني : أن المراد بالأمر قضاء اللَّه وقدره ، وهو قول الأكثرين ، فعلى هذا يكون المراد بقوله « بينهن » الإشارة إلى ما بين الأرض السفلى التي هي أقصاها وبين السماء السابعة التي هي أعلاها .
ثم قال { لِيْعَلموا أنَّ اللَّهَ على كل شىءٍ قديرٌ } لأن من قدر على هذا الملك العظيم فهو على ما بينهما من خلقه أقدر ، ومن العفو والانتقام أمكنْ ، وإن استوى كل ذلك في مقدوره ومكنته .
{ وأنَّ اللَّه قد أحاط بكل شىءٍ عِلْماً } أوجب التسليم بما تفرد به من العلم كما أوجب التسليم بما تفرد به من القدرة ، ونحن نستغفر اللَّه من خوض فيما اشتبه وفيما التبس وهو حسب من استعانه ولجأ إليه .
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4) عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5)

قوله تعالى : { يا أيها النبيُّ لم تُحرِّمُ ما أحَلَّ اللَّهُ لَكَ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدهاه : أنه أراد بذلك المرأة التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يقبلها ، قاله ابن عباس .
والثاني : أنه عسل شربه النبي صلى الله عليه وسلم عند بعض نسائه ، واختلف فيها فروى عروة عن عائشة أنه شربه عند حفصة وروى ابن أبي مليكة عن ابن عباس أنه شربه عند سودة . وروى أسباط عن السدي أنه شربه عند أم سلمة ، فقال يعني نساؤه عدا من شرب ذلك عندها : إنا لنجد منك ريح المغافير ، وكان يكره أن يوجد منه الريح ، وقلن له : جَرَسَتْ نحلة العُرفُط ، فحرّم ذلك على نفسه ، وهذا قول من ذكرنا .
الثالث : أنها مارية أم إبراهيم خلا بها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في بيت حفصة بنت عمر وقد خرجت لزيارة أبيها ، فلما عادت وعلمت عتبت على النبي صلى الله عليه وسلم فحرمها على نفسه أرضاء لحفصة ، وأمرها أن لا تخبر أحداً من نسائه ، فأخبرت به عائشة لمصافاة كانت بينهما وكانت تتظاهران على نساء النبي صلى الله عليه وسلم أي تتعاونان ، فحرّم مارية وطلق حفصة واعتزل سائر نسائه تسعة وعشرين يوماً ، وكان جعل على نفسه أن يُحرّمهن شهراً ، فأنزل اللَّه هذه الآية ، فراجع حفصة واستحل مارية وعاد إلى سائر نسائه ، قاله الحسن وقتادة والشعبي ومسروق والكلبي وهو ناقل السيرة .
واختلف من قال بهذا ، هل حرّمها على نفسه بيمين آلى بها أم لا ، على قولين :
أحدهما : أنه حلف يميناً حرّمها بها ، فعوتب في التحريم وأُمر بالكفارة في اليمين ، قاله الحسن وقتادة والشعبي .
الثاني : أنه حرّمها على نفسه من غير يمين ، فكان التحريم موجباً لكفارة اليمين ، قاله ابن عباس .
{ قد فَرَضَ اللَّهُ لكم تَحِلَّةَ أيْمانِكم } فيه وجهان :
أحدهما : قد بيّن اللّه لكم المخرج من أيمانكم .
الثاني : قد قدر اللّه لكم الكفارة في الحنث في أيمانكم .
{ وإذْ أسَرًّ النبيُّ إلى بَعْضِ أزْاجِهِ حَديثاً } فيه قولان :
أحدهما : أنه أسَرَّ إلى حفصة تحريم ما حرمه على نفسه ، فلما ذكرته لعائشة وأطلع اللَّه نبيه على ذلك عرّفها بعض ما ذكرت ، وأعرض عن بعضه ، قاله السدي .
الثاني : أسرّ إليها تحريم مارية ، وقال لها : اكتميه عن عائشة وكان يومها منه ، وأُسِرّك أن أبا بكر الخليفة من بعدي ، وعمر الخليفة من بعده ، فذكرتها لعائشة ، فلما أطلع اللَّه نبيه { عرّف بعضه وأعرض عن بعض } فكان الذي عرف ما ذكره من التحريم ، وكان الذي أعرض عنه ما ذكره من الخلافة لئلا ينتشر ، قاله الضحاك . وقرأ الحسن : « عَرَف بعضه » بالتخفف ، وقال الفراء : وتأويل قوله : عرف بعضه بالتخفيف أي غضب منه وجازى عليه ، { إن تَتوبا إلى اللَّهِ فَقدْ صَغَتْ قلوبُكما } يعني بالتوبة اللتين تظاهرتا وتعاونتا من نساء النبي صلى الله عليه وسلم على سائرهن وهما عائشة وحفصة .

وفي « صغت » ثلاثة أقاويل :
أحدها : يعني زاغت ، قاله الضحاك .
الثاني : مالت ، قاله قتادة ، قال الشاعر :
تُصْغِي القلوبُ إلى أَغَرَّ مُبارَكٍ ... مِن نَسْلِ عباس بن عبد المطلب
والثالث : أثمت ، حكاه ابن كامل .
وفيما أوخذتا بالتوبة منه وجهان :
أحدهما : من الإذاعة والمظاهرة .
الثاني : من سرورهما بما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم من التحريم ، قاله ابن زيد .
{ وإن تَظَاهَرا عليه } عين تعاونا على معصية رسول الله صلى الله عليه وسلم .
{ فإن الله هو مولاه } يعني وليه { وجبريل } يعني وليه أيضاً .
{ وصالحُ المؤمنين } فيهم خمسة أقاويل :
أحدها : أنهم الأنبياء ، قاله قتادة وسفيان .
الثاني : أبو بكر وعمر ، قال الضحاك وعكرمة : لأنهما كانا أبوي عائشة وحفصة وقد كانا عونا له عليهما .
الثالث : أنه عليّ .
الرابع : أنهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، قاله السدي .
الخامس : أنهم الملائكة ، قاله ابن زيد .
ويحتمل سادساً : أن صالح المؤمنين من وقى دينه بدنياه .
{ والملائكةُ بعَدَ ذلك ظهيرٌ } يعني أعواناً للنبي صلى الله عليه وسلم ، ويحتمل تحقيق تأويله وجهاً ثانياً : أنهم المستظهر بهم عند الحاجة اليهم .
{ عَسى ربُّه إن طَلّقكُنّ أَن يُبدِلَه أَزْواجاً خيراً مِنكُنَّ } أما نساؤه فخير نساء الأمَّة .
وفي قوله { خَيْراً مِّنكُنَّ } ثلاثة أوجه :
أحدها : يعني أطوع منكن .
والثاني : أحب إليه منكن .
والثالث : خيراً منكن في الدنيا ، قاله السدي .
{ مَسْلِماتٍ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : يعني مخلصات ، قاله ابن جبير ونرى ألا يستبيح الرسول إلا مسلمة .
الثاني : يقمن الصلاة ويؤتين الزكاة كثيراً ، قاله السدي .
الثالث : معناه مسلمات لأمر اللَّه وأمر رسوله ، حكاه ابن كامل .
{ مؤمناتٍ } يعني مصدقات بما أُمرْن به ونُهين عنه .
{ قانتاتٍ } فيه وجهان :
أحدهما : مطيعات .
الثاني : راجعات عما يكرهه اللَّه إلى ما يحبه .
{ تائباتٍ } فيه وجهان :
أحدهما : من الذنوب ، قاله السدي .
الثاني : راجعات لأمر الرسول تاركات لمحاب أنفسهن .
{ عابداتٍ } فيه وجهان :
أحدهما : عابدات للَّه ، قاله السدي .
الثاني : متذللات للرسول بالطاعة ، ومنه أخذ اسم العبد لتذلله ، قاله ابن بحر .
{ سائحاتٍ } فيه وجهان :
أحدهما : صائمات ، قاله ابن عباس والحسن وابن جبير .
قال ابن قتيبة : سمي الصائم سائحاً لأنه كالسائح في السفر بغير زاد .
وقال الزهري : قيل للصائم سائح لأن الذي كان يسيح في الأرض متعبداً لا زاد معه كان ممسكاً عن الأكل ، والصائم يمسك عن الأكل ، فلهذه المشابهة سمي الصائم سائحاً ، وإن أصل السياحة الاستمرار على الذهاب في الأرض كالماء الذي يسيح ، والصائم مستمر على فعل الطاعة وترك المشتهى ، وهو الأكل والشرب والوقاع .

وعندي فيه وجه آخر وهو أن الإنسان إذا امتنع عن الأكل والشرب والوقاع وسد على نفسه أبواب الشهوات انفتحت عليه أبواب الحكم وتجلت له أنوار المتنقلين من مقام إلى مقام ومن درجة إلى درجة فتحصل له سياحة في عالم الروحانيات .
الثاني : مهاجرات لأنهن بسفر الهجرة سائحات ، قاله زيد بن أسلم .
{ ثَيّباتٍ وأبْكاراً } أما الثيب فإنما سميت بذلك لأنها راجعة إلى زوجها إن أقام معها ، أو إلى غيره إن فارقها ، وقيل لأنها ثابَتْ إلى بيت أبويها ، وهذا أصح لأنه ليس كل ثيّب تعود إلى زوج .
وأما البكر فهي العذراء سميت بكراً لأنها على أول حالتها التي خلقت بها .
قال الكلبي : أراد بالثيب مثل آسية امرأة فرعون ، والبكر مثل مريم بنت عمران .
روى خداش عن حميد عن أنس قال عمر بن الخطاب : وافقت ربي في ثلاث ، قلت : يا رسول اللَّه لو اتخذت مقام إبراهيم مصلى ، وقلت : يا رسول اللَّه إنك يدخل إليك البرُّ والفاجر فلو حجبت أمهات المؤمنين ، فأنزل اللَّه آية الحجاب ، وبلغني عن أمهات المؤمنين شىء [ فدخلت عليهن فقلت ] : لتَكُفُّنّ عن رسول اللَّه أو ليبدلنه اللًَّه أزوجاً خيراً منكن حتى دخلت على إحدى أمهات المؤمنين فقالت : يا عمر أما في رسول اللَّه ما يعظ نساءه حتى تعظهن أنت ، فأمسكت فأنزل اللَّه تعالى : { عسى ربُّه إن طلّقكنّ } الآية .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8)

{ يا أيها الذين آمَنوا قُوا أَنفُسَكم وأهْليكم ناراً } قال خيثمة : كل شيء في القرآن يا أيها الذين آمنوا ففي التوراة يا أيها المساكين .
وقال ابن مسعود : إذا قال اللَّه يا أيها الذين آمنوا فارعها سمعك فإنه خير تؤمر به أو شر تنهى عنه .
وقال الزهري : إذا قال اللَّه تعالى : يا أيها الذين آمنوا افعلوا ، فالنبي منهم .
ومعنى قوله : { قوا أنفسكم وأهليكم ناراً } أي اصرفوا عنها النار ، ومنه قول الراجز :
ولو توقى لوقاه الواقي ... وكيف يوقى ما الموت لاقي
وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها : معناه قوا أنفسكم ، وأهلوكم فليقوا أنفسهم ناراً ، قاله الضحاك .
الثاني : قوا أنفسكم ومروا أهليكم بالذكر والدعاء حتى يقيكم اللَّه بهم ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس .
الثالث : قوا أنفسكم بأفعالكم ، وقوا أهليكم بوصيتكم ، قاله علي وقتادة ومجاهد .
وفي الوصية التي تقيهم النار ثلاثة أقاويل :
أحدها : يأمرهم بطاعة اللَّه وينهاهم عن معصيته ، قاله قتادة .
الثاني : يعلمهم فروضهم ويؤدبهم في دنياهم ، قاله علي .
الثالث : يعلمهم الخير ويأمرهم به ، ويبين لهم الشر ، وينهاهم عنه .
قال مقاتل : حق ذلك عليه في نفسه وولده وعبيده وإمائه .
{ وَقودها الناسُ والحجارةُ } في ذكر الحجارة مع الناس ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها الحجارة التي عبدوها ، حتى يشاهدوا ما أوجب مصيرهم إلى النار ، وقد بين اللّه ذلك في قوله { إنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّم } .
الثاني : أنها حجارة من كبريت وهي تزيد في وقودها النار وكان ذكرها زيادة في الوعيد والعذاب ، قاله ابن مسعود ومجاهد .
الثالث : أنه ذكر الحجارة ليعلموا أن ما أحرق الحجارة فهو أبلغ في إحراق الناس .
روى ابن أبي زائدة قال : بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية { يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم } الآية ، وعنده بعض أصحابه ، ومنهم شيخ فقال الشيخ : يا رسول الله حجارة جهنم كحجارة الدنيا؟ فقال والذي نفسي بيده لصخرة من جهنم أعظم من جبال الدنيا كلها ، فوقع الشيخ مغشياً عليه ، فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على فؤاده فإذا هو حي ، فقال : يا شيخ قل لا إله إلا اللَّه ، فقال بها ، فبشره بالجنة ، فقال أصحابه : يا رسول اللَّه أمِن بيننا؟ قال : نعم لقول اللَّه تعالى : { ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد } .
{ عليها ملائكة غِلاظٌ شدادٌ } يعني غلاظ القلوب ، شداد الأفعال وهم الزبانية .
{ لا يعْصُون اللّه ما أمرهم } أي لا يخالفونه في أمره من زيادة أو نقصان .
{ ويَفْعلون ما يُؤْمَرونَ } يعني في وقته فلا يؤخرونه ولا يقدمونه .
{ يا أيها الذين آمنوا تُوبوا إلى اللَّه تَوْبةً نَصوحاً } فيه خمسة تأويلات :
أحدهها : أن التوبة النصوح هي الصادقة الناصحة ، قاله قتادة .

الثاني : أن النصوح أن يبغض الذنب الذي أحبه ويستغفر منه إذا ذكره ، قاله الحسن .
الثالث : أن لا يثق بقبولها ويكون على وجل منها .
الرابع : أن النصوح هي التي لا يحتاج معها إلى توبة .
الخامس : أن يتوب من الذنب ولا يعود إليه أبداً ، قاله عمر بن الخطاب .
وهي على هذه التأويلات مأخوذة من النصاحة وهي الخياطة .
وفي أخذها منها وجهان :
أحدهما : لأنها توبة قد أحكمت طاعته وأوثقتها كما يحكم الخياط الثوب بخياطته وتوثيقه .
الثاني : لأنها قد جمعت بينه وبين أولياء اللَّه وألصقته بهم كما يجمع الخياط الثوب ويلصق بعضه ببعض .
ومنهم من قرأ نُصوحاً بضم النون ، وتأويلها على هذه القراءة توبةَ نُصْح لأنفسكم ، ويروي نعيم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن الله تعالى أشد فرحاً بتوبة عبده من أحدكم بضالَّته يجدها بأرض فلاة عليها زاده وسقاؤه
» .
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10)

{ يا أيها النبيُّ جاهِدِ الكُفّارَ والمنافقين واغْلُظْ عليهم } أما جهاد الكفار فبالسيف ، وأما جهاد المنافقين ففيه أربعة أوجه :
أحدها : أنه باللسان والقول ، قاله ابن عباس والضحاك .
الثاني : بالغلظة عليهم كما ذكر اللَّه ، قاله الربيع بن أنس .
الثالث : بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه ، وليقابلهم بوجه مكفهر ، قاله ابن مسعود .
الرابع : بإقامة الحدود عليهم ، قاله الحسن .
{ ضَرَبَ اللَّهُ مَثلاً للذين كَفَروا امرأةَ نُوحٍ وامرأةَ لُوطٍ كانتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادنا صالحْينِ فخانتاهما }
في خيانتهما أربعة أوجه :
أحدها : أنهما كانتا كافرتين ، فصارتا خائنتين بالكفر ، قاله السدي .
الثاني : منافقتين تظهران الإيمان وتستران الكفر ، وهذه خيانتهما قال ابن عباس : ما بغت امرأة نبي قط ، إنما كانت خيانتهما في الدين .
الثالث : أن خيانتهما النميمة ، إذا أوحى اللَّه تعالى إليهما [ شيئاً ] أفشتاه إلى المشركين ، قاله الضحاك .
الرابع : أن خيانة امرأة نوح أنها كانت تخبر الناس أنه مجنون ، وإذا آمن أحد به أخبرت الجبابرة به ، وخيانة امرأة لوط أنه كان إذا نزل به ضيف دخّنت لِتُعْلِم قومها أنه قد نزل به ضيف ، لما كانوا عليه من إتيان الرجال .
قال مقاتل : وكان اسم امرأة نوح والهة ، واسم امرأة لوط والعة .
وقال الضحاك عن عائشة أن جبريل نزل على النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره أن اسم امرأة نوح واعلة ، واسم امراة لوط والهة .
{ فلم يُغْنِيا عنهما مِنَ اللَّهِ شيئاً } أي لم يدفع نوح ولوط مع كرامتهما على الله عن زوجتيهما لما عصتا شيئاً من عذاب اللَّه ، تنبيهاً بذلك على أن العذاب يُدفع بالطاعة دون الوسيلة .
قال يحيى بن سلام : وهذا مثل ضربه اللَّه ليحذر به حفصة وعائشة حين تظاهرتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم ضرب لهما مثلاً بامرأة فرعون ومريم ابنة عمران ترغيباً في التمسك بالطاعة .
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12)

{ وضَربَ اللَّهُ مَثلاً للذينَ آمنوا امرأةَ فِرْعونَ } قيل اسمها آسية بنت مزاحم .
{ إذْ قالت رَبِّ ابْنِ لي عندك بيتاً في الجنة } قال أبو العالية : اطّلع فرعون على إيمان امرأته فخرج على الملأ فقال لهم : ما تعلمون من آسية بنت مزاحم؟ فأثنوا عليها ، فقال لهم : فإنها تعبد ربّاً غيري ، فقالوا له : اقتلْها ، فأوتد لها أوتاداً فشد يديها ورجليها ، فدعت آسية ربها فقالت : « رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة » الآية ، فكشف لها الغطاء فنظرت إلى بيتها في الجنة ، فوافق ذلك حضور فرعون ، فضحكت حين رأت بيتها في الجنة ، فقال فرعون : ألا تعجبون من جنونها ، فعذبها وهي تضحك وقُبض روحها .
وقولها : { وَنَجِّني مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِه } فيه قولان :
أحدهما : الشرك .
الثاني : الجماع ، قاله ابن عباس .
{ وَنجِّني من القوم الظالمين } فيهم قولان :
أحدهما : أنهم أهل مصر ، قاله الكلبي .
الثاني : القبط ، قاله مقاتل .
{ ومريمَ ابنَةَ عِمرانَ التي أحْصَنَتْ فَرْجَهَا } قال المفسرون :
إنه أراد بالفرج الجيب لأنه قال { فنفخنا فيه مِن رُوحنا } وجبريل إنما نفخ في جيبها ، ويحتمل أن تكون أحصنت فرجها ونفخ الروح في جيبها .
{ وصَدَّقَتْ بكلماتِ رَبِّها وكُتُبِه } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن « كلمات ربها » الإنجيل ، و « كتبه » التوراة والزبور .
الثاني : أن « كلمات ربها » قول جبريل حين نزل عليها { إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاماً زكياً } ، { وكتبه } الإنجيل الذي أنزله من السماء ، قاله الكلبي .
الثالث : أن « كلمات ربها » عيسى ، و « كتبه » الإنجيل ، قاله مقاتل .
{ وكانت من القانتين } أي من المطيعين في التصديق .
الثاني : من المطيعين في العبادة .
تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5)

قوله عز وجل : { تباركَ الذي بيدِهِ المُلْكُ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن التبارُك تفاعُل من البركة ، قاله ابن عباس . وهو أبلغ من المبارك لاختصاص اللَّه بالتبارك واشتراك المخلوقين في المبارك .
الثاني : أي تبارك في الخلق بما جعل فيهم من البركة ، قاله ابن عطاء .
الثالث : معناه علا وارتفع ، قاله يحيى بن سلام .
وفي قوله « الذي بيده الملك » وجهان :
أحدهما : ملك السموات والأرض في الدنيا والآخرة .
الثاني : ملك النبوة التي أعزّ بها من اتبعه وأذل بها من خالفه ، قاله محمد بن إسحاق .
{ وهو عَلى كُلِّ شَىْءٍ قَديرٌ } من إنعام وانتقام .
{ الذي خَلَقَ الموتَ والحياةَ } يعني الموت في الدنيا ، والحياة في الآخرة .
قال قتادة : كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول : « » إن اللَّه أذل بني آدم بالموت ، وجعل الدنيا دار حياة ثم دار موت ، وجعل الآخرة دار جزاء ثم دار بقاء « .
الثاني : أنه خلق الموت والحياة جسمين ، فخلق الموت في صورة كبش أملح ، وخلق الحياة في صورة فرس [ أنثى بلقاء ] ، وهذا مأثور حكاه الكلبي ومقاتل .
{ لِيَبْلُوكم أيُّكم أَحْسَنُ عَمَلاً } فيه خمسة تأويلات :
أحدها : أيكم أتم عقلاً ، قاله قتادة .
الثاني : أيكم أزهد في الدنيا ، قاله سفيان .
الثالث : أيكم أورع عن محارم اللَّه وأسرع إلى طاعة اللَّه ، وهذا قول مأثور . الرابع : أيكم للموت أكثر ذِكْراً وله أحسن استعداداً ومنه أشد خوفاً وحذراً ، قاله السدي .
الخامس : أيكم أعرف بعيوب نفسه .
ويحتمل سادساً : أيكم أرضى بقضائه وأصبر على بلائه .
{ الذي خَلَقَ سَبْعَ سمواتٍ طِباقاً } فيه وجهان :
أحدهما : أي متفق متشابه ، مأخوذ من قولهم هذا مطابق لهذا أي شبيه له ، قاله ابن بحر .
الثاني : يعني بعضهن فوق بعض ، قال الحسن : وسبع أرضين بعضهن فوق بعض ، بين كل سماء وأرض خلق وأمر .
{ ما تَرَة في خَلْق الرحمنِ من تفاوُتٍ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : من اختلاَف ، قاله قتادة ، ومنه قول الشاعر :
متفاوتات من الأعنة قطّباً ... حتى وفي عشية أثقالها .
الثاني : من عيب ، قاله السدي .
الثالث : من تفرق ، قاله ابن عباس .
الرابع : لا يفوت بعضه بعضاً ، قاله عطاء بن أبي مسلم .
قال الشاعر :
فلستُ بمُدْركٍ ما فاتَ مِنِّي ... بِلَهْفَ وَلاَ بِليْتَ ولا لَو أنِّي
{ فارْجِع البَصَرَ } قال قتادة : معناه فانظر إلى السماء .
{ هل تَرَى من فُطور } فيه أربعة أوجه :
أحدها : من شقوق ، قاله مجاهد والضحاك .
الثاني : من خلل ، قاله قتادة .
الثالث : من خروق قاله السدي .
الرابع : من وهن ، قاله ابن عباس .

{ ثم ارْجع البَصَرَ كَرّتَيْنِ } أي انظر إلى السماء مرة بعد أخرى .
ويحتمل أمره بالنظر مرتين وجهين :
أحدهما : لأنه في الثانية أقوى نظراً وأحدّ بصراً .
الثاني : لأنه يرى في الثانية من سير كواكبها واختلاف بروجها ما لا يراه من الأولى فيتحقق أنه لا فطور فيها .
وتأول قوم بوجه ثالث : أنه عنى بالمرتين قلباً وبصراً .
{ ينْقَلِبْ إليك البَصَرُ خَاسئاً وهو حَسيرٌ } أي يرجع إليك البصر لأنه لا يرى فطوراً فيرتد .
وفي « خاسئاً » أربعة أوجه :
أحدها : ذليلاً ، قاله ابن عباس .
الثاني : منقطعاً ، قاله السدي .
الثالث : كليلاً ، قاله يحيى بن سلام .
الرابع : مبعداً ، قاله الأخفش مأخوذ من خسأت الكلب إذا أبعدته .
وفي « حسير » ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه النادم ، ومنه قول الشاعر :
ما أنا اليوم على شيء خلا ... يا ابنة القَيْنِ تَولّى بحَسيرْ
الثاني : أنه الكليل الذي قد ضعف عن إدراك مرآه ، قاله ابن عباس ومنه قول الشاعر :
مَنْ مدّ طرْفاً إلى ما فوق غايته ... ارتدَّ خَسْآنَ مِنه الطّرْفُ قد حَسِرا
والثالث : أنه المنقطع من الإعياء ، قاله السدي ، ومنه قول الشاعر :
والخيلُ شُعثٌ ما تزال جيادها ... حَسْرى تغادرُ بالطريق سخالها
وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11)

{ إذا أُلقُوا فيها } يعني الكفار ألقوا في جهنم .
{ سمعوا لها شهيقاً } فيه قولان :
أحدهما : أن الشهيق من الكفار عند إلقائهم في النار .
الثاني : أن الشهيق لجهنم عند إلقاء الكفار فيها ، قال ابن عباس : تشهق إليهم شهقة البغلة للشعير ثم تزفر زفرة لا يبقى أحد إلا خاف .
وفي الشهيق ثلاثة أوجه :
أحدها : أن الشهيق في الصدور ، قاله الربيع بن أنس .
الثاني : أنه الصياح ، قاله ابن جريج .
الثالث : أن الشهيق هو آخر نهيق الحمار ، والزفير مثل أول نهيق الحمار ، وقيل إن الزفير من الحلق ، والشهيق من الصدر .
{ وهي تفورُ } أي تغلي ، ومنه قول الشاعر :
تركتم قِدْرَكم لا شيىءَ فيها ... وقِدْرُ القوم حاميةٌ تفورُ
{ تكادُ تَمَيّزُ مِنَ الغَيْظِ . . . } فيه وجهان :
أحدهما : تنقطع ، قاله سعيد بن جبير .
الثاني : تتفرق ، قاله ابن عباس والضحاك .
وقوله « من الغيط » فيه ها هنا وجهان :
أحدهما : أنه الغليان ، قال الشاعر :
فيا قلب مهلاً وهو غضبان قد غلا ... من الغيظ وسط القوم ألا يثبكا
الثاني : أنه الغضب ، يعني غضباً على أهل المعاصي وانتقاماً للَّه منهم .
{ ألمْ يأتِكم نَذيرٌ } فيه وجهان :
أحدهما : أن النذر من الجن ، والرسل من الإنس ، قاله مجاهد .
الثاني : أنهم الرسل والأنبياء ، واحدهم نذير ، قاله السدي .
{ فسُحْقاً لأصحاب السّعيرٍ } فيه وجهان :
أحدهما : فبعداً لأصحاب السعير يعني جهنم ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنه وادٍ من جهنم يسمى سحقاً ، قاله ابن جبير وأبو صالح ، وفي هذا الدعاء إثبات لاستحقاق الوعيد .
إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)

{ إنّ الذين يَخْشَوْنَ ربَهم بالغَيْبِ } فيه ستة أوجه :
أحدها : أن الغيب اللَّه تعالى وملائكته ، قاله أبو العالية .
الثاني : الجنة والنار ، قاله السدي .
الثالث : أنه القرآن ، قاله زر بن حبيش .
الرابع : أنه الإسلام لأنه يغيب ، قاله إسماعيل بن أبي خالد .
الخامس : أنه القلب ، قاله ابن بحر .
السادس : أنه الخلوة إذا خلا بنفسه فذكر ذنبه استغفر ربه ، قاله يحيى بن سلام .
{ لهم مغْفرةٌ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : بالتوبة والاستغفار .
الثاني : بخشية ربهم بالغيب .
الثالث : لأنهم حلّوا باجتناب الذنوب محل المغفور له .
{ وأجرٌ كبيرٌ } يعني الجنة .
ويحتمل وجهاً آخر : أنه العفو عن العقاب ومضاعفة الثواب .
{ هو الذي جَعَلَ لكم الأرْضَ ذَلولاً } يعني مذللة سهلة .
حكى قتادة عن أبي الجلد : أن الأرض أربعة وعشرون ألف فرسخ ، فللسودان اثنا عشر [ ألفاً ] ، وللروم [ ثمانية آلاف ] ، وللفرس ثلاثة آلاف وللعرب ألف . { فامْشُوا في مَنَاكِبِها } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : في جبالها ، قاله ابن عباس وقتادة وبشير بن كعب .
الثاني : في أطرفاها وفجاجها ، قاله مجاهد والسدي .
الثالث : في طرفها .
ويحتمل رابعاً : في منابت زرعها وأشجارها ، قاله الحسن .
{ وكُلوا مِن رِزْقِهِ } فيه وجهان :
أحدهما : مما أحله لكم ، قاله الحسن .
الثاني : مما أنبته لكم ، قاله ابن كامل .
{ وإليه النشور } أي البعث .
أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19)

{ أأمِنتُم مَنْ في السماءِ } فيه وجهان :
أحدهما : أنهم الملائكة ، قاله ابن بحر .
الثاني : يعني أنه اللَّه تعالى ، قاله ابن عباس .
{ أنْ يَخْسِفَ بكم الأرضَ فإذا هي تمورُ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : تتحرك ، قاله يحيى .
الثاني : تدور ، قاله قطرب وابن شجرة .
الثالث : تسيل ويجري بعضها في بعض ، قاله مجاهد ، ومنه قول الشاعر :
رَمَيْن فأقصدْن القلوب ولن ترى ... دماً مائراً إلا جرى في الخيازم
أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27)

{ أفمن يْمشيِ مُكِبّاً على وَجْهِه أهْدَى } هذا مثل ضربه اللَّه تعالى للهدى والضلالة ، ومعناه ليس من يمشي مُكباً على وجهه ولا ينظر أمامه ولا يمينه ولا شماله . كمن يمشي سوياً معتدلاً ناظراً ما بين يديه وعن يمينه وعن شماله ، وفيه وجهان :
أحدهما : أنه مثل ضربه اللّه للمؤمن والكافر ، فالمكب على وجهه الكافر يهوي بكفره ، والذي يمشي سوّياً المؤمن يهتدي بإيمانه ، ومعناه : أمَّن يمشي في الضلالة أهدى أم من يمشي مهتدياً ، قاله ابن عباس .
الثاني : أن المكب على وجهه أبو جهل بن هشام ، ومن يمشي سوياً عمار بن ياسر ، قاله عكرمة .
{ على صراطٍ مستقيم } فيه وجهان :
أحدهما : أن الطريق الواضح الذي لا يضل سالكه ، فيكون نعتاً للمثل المضروب .
الثاني : هو الحق المستقيم ، قاله مجاهد ، فيكون جزاء العاقبة الاستقامة وخاتمة الهداية .
{ قُلْ هو الذي ذَرَأَكُمْ في الأرضِ } فيه وجهان :
أحدهما : خلقكم في الأرض ، قاله ابن عباس .
الثاني : نشركم فيها وفرّقكم على ظهرها ، قاله ابن شجرة .
ويحتمل ثالثاً : أنشأكم فيها إلى تكامل خلقكم وانقضاء أجلكم .
{ وإليهِ تُحْشَرون } أي تُبْعثون بعد الموت .
{ فلما رأَوْه زُلْفَةً سِيئَتْ وُجوهُ الذين كَفروا } فيه وجهان :
أحدهما : ظهرت المساءة على وجوههم كراهة لما شاهدوا ، وهو معنى قول مقاتل .
الثاني : ظهر السوء في وجهوههم ليدل على كفرهم ، كقوله تعالى : { يوم تبيضُّ وجوه وتسْوَدُّ وجوه } [ آل عمران : 106 ] .
{ وقيل هذا الذي كُنْتُمْ به تَدَّعُونَ } وهذا قول خزنة جهنم لهم ، وفي قوله { كنتم به تدّعون } أربعة أوجه :
أحدها : تمترون فيه وتختلفون ، قاله مقاتل .
الثاني : تشكّون في الدنيا وتزعمون أنه لا يكون ، قاله الكلبي .
الثالث : تستعجلون من العذاب ، قاله زيد بن أسلم .
الرابع : أنه دعاؤهم بذلك على أنفسهم ، وهو افتعال من الدعاء ، قاله ابن قتيبة .
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (29) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30)

{ قُلْ أرَأَيْتُمْ إنْ أصْبَحَ ماؤكم غُوْراً } فيه وجهان :
أحدهما : ذاهباً ، قاله قتادة .
الثاني : لا تناله الدِّلاء ، قاله ابن جبير ، وكان ماؤهم من بئر زمزم وبئر ميمون .
{ فَمَنْ يأتيكم بماءٍ مَعِينٍ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : أن معناه العذب ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنه الطاهر ، قاله الحسن وابن جبير ومجاهد .
الثالث : أنه الذي تمده العيون فلا ينقطع .
الرابع : أنه الجاري ، قاله قتادة ، ومنه قول جرير :
إنّ الذين غدوا بُلبِّك غادَروا ... وشَلاً بعيْنِك لا يزال مَعِيناً
روى عاصم عن رُزين عن ابن مسعود قال : سورة الملك هي المانعة من عذاب القبر ، وهي في التوراة تسمى المانعة ، وفي الإنجيل تسمى الواقية ، ومن قرأها من كل ليلة فقد أكثر وأطاب .
ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7)

قوله تعالى { ن } فيه ثمانية أقوال :
أحدها : أن النون الحوت الذي عليه الأرض ، قاله ابن عباس من رواية أبي الضحى عنه ، وقد رفعه .
الثاني : أن النون الدواة ، رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم .
الثالث : أنه حرف من حروف الرحمن ، قاله ابن عباس في رواية الضحاك عنه .
الرابع : هو لوح من نور ، رواه معاوية بن قرة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم .
الخامس : أنه اسم من أسماء السورة ، وهو مأثور .
السادس : أنه قسم أقسم اللَّه به ، وللَّه تعالى أن يقسم بما يشاء ، قاله قتادة .
السابع : أنه حرف من حروف المعجم .
الثامن : أن نون بالفارسية أيذون كن ، قاله الضحاك .
ويحتمل تاسعاً : إن لم يثبت به نقل أن يكون معناه : تكوين الأفعال والقلم وما يسطرون ، فنزل الأقوال جميعاً في قسمه بين أفعاله وأقواله ، وهذا أعم قسمة .
ويحتمل عاشراً : أن يريد بالنون النفْس لأن الخطاب متوجه إليها بغيرعينها بأول حروفها ، والمراد بالقلم ما قدره اللَّه لها وعليها من سعادة وشقاء ، لأنه مكتوب في اللوح المحفوظ .
أما { والقلم } ففيه وجهان :
أحدهما : أنه القلم الذي يكتبون به لأنه نعمة عليهم ومنفعة لهم ، فأقسم بما أنعم ، قاله ابن بحر .
الثاني : أنه القلم الذي يكتب به الذكر على اللوح المحفوظ ، قال ابن جريج :
هو من نور ، طوله كما بين السماء والأرض .
وفي قوله { وما يَسْطرون } ثلاثة أقاويل :
أحدها : وما يعلمون ، قاله ابن عباس .
الثاني : وما يكتبون ، يعني من الذكر ، قاله مجاهد والسدي .
الثالث : أنهم الملائكة الكاتبون يكتبون أعمال الناس من خير وشر .
{ ما أنت بنعمةِ ربّك بمجنونٍ } كان المشركون يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم أنه مجنون به شيطان ، وهو قولهم : { يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون } [ الحجر : 6 ] فأنزل اللَّه تعالى رداً عليها وتكذيباً لقولهم : { ما أنت بنعمة ربك بمجنون } أي برحمة ربك ، والنعمة ها هنا الرحمة .
ويحتمل ثانياً : أن النعمة ها هنا قسم ، وتقديره : ما أنت ونعمة ربك بمجنون ، لأن الواو والباء من حروف القسم .
وتأوله الكلبي على غير ظاهره ، فقال : معناه ما أنت بنعمة ربك بمخفق .
{ وإنّ لك لأجْراً غيْرَ مَمْنُونٍ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : غير محسوب ، قاله مجاهد .
الثاني : أجراً بغير عمل ، قاله الضحاك .
الثالث : غير ممنون عليك من الأذى ، قاله الحسن .
الرابع : غير منقطع ، ومنه قول الشاعر :
ألا تكون كإسماعيلَ إنَّ له ... رأياً أصيلاً وأجْراً غيرَ ممنون
ويحتمل خامساً : غير مقدّر وهو الفضل ، لأن الجزاء مقدر ، والفضل غير مقدر .
{ وإنك لعلى خُلُقٍ عظيمٍ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أدب القرآن ، قاله عطية .

الثاني : دين الإسلام ، قاله ابن عباس وأبو مالك .
الثالث : على طبع كريم ، وهو الظاهر .
وحقيقة الخلُق في اللغة هو ما يأخذ به الإنسان نفسه من الآداب سمي خلقاً لأنه يصير كالخلقة فيه ، فأما ما طبع عليه من الآداب فهو الخيم فيكون الخلق الطبع المتكلف ، والخيم هو الطبع الغريزي ، وقد أوضح ذلك الأعشى في شعره فقال :
وإذا ذو الفضول ضنّ على المو ... لى وعادت لِخيمها الأخلاقُ
أي رجعت الأخلاق إلى طباعها .
{ فَسَتبْصِرُ ويُبْصرُونَ } فيه وجهان :
أحدهما : فسترى ويرون يوم القيامة حين يتبين الحق والباطل .
الثاني : قاله ابن عباس معناه فستعلم ويعلمون يوم القيامة .
{ بأَيِّكم المْفتونُ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : يعني المجنون ، قاله الضحاك .
الثاني : الضال ، قاله الحسن .
الثالث : الشيطان ، قاله مجاهد .
الرابع : المعذب من قول العرب فتنت الذهب بالنار إذا أحميته ، ومنه قوله تعالى : { يوم هم على النار يُفْتنون } [ الذاريات : 13 ] أي يعذبون .
فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16)

{ وَدُّوا لو تُدْهِنُ فَيدْهِنونَ } فيه ستة تأويلات :
أحدها : معناه ودوا لو تكفر فيكفرون ، قاله السدي والضحاك .
الثاني : ودوا لو تضعُف فيضعُفون ، قاله أبو جعفر .
الثالث : لو تلين فيلينون ، قاله الفراء .
الرابع : لو تكذب فيكذبون ، قاله الربيع بن أنس .
الخامس : لو ترخص لهم فيرخصون لك ، قاله ابن عباس .
السادس : أن تذهب عن هذا الأمر فيذهبون معك ، قاله قتادة .
وفي أصل المداهنة وجهان :
أحدهما : مجاملة العدو وممايلته ، قال الشاعر :
لبَعْضُ الغَشْم أحزْم أمورٍ ... تَنوبُك مِن مداهنةِ العدُوِّ .
الثاني : أنها النفاق وترك المناصحة ، قاله المفضل ، فهي على هذا الوجه مذمومة ، وعلى الوجه الأول غير مذمومة .
{ ولا تُطِعْ كلَّ حَلاَّفٍ مَهينٍ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : أنه الكذاب ، قاله ابن عباس .
الثاني : الضعيف القلب ، قاله مجاهد .
الثالث : أنه المكثار من الشر ، قاله قتادة .
الرابع : أنه الذليل بالباطل ، قاله ابن شجرة .
ويحتمل خامساً : أنه الذي يهون عليه الحنث .
وفي من نزل ذلك فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها نزلت في الأخنس بن شريق ، قاله السدي .
الثاني : الأسود بن عبد يغوث ، قاله مجاهد .
الثالث : الوليد بن المغيرة ، عرض على النبي صلى الله عليه وسلم مالاً وحلف أن يعطيه إن رجع عن دينه ، قاله مقاتل .
{ هَمَّازٍ مَشّاءٍ بِنميمٍ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه الفتّان الطعان ، قاله ابن عباس وقتادة .
الثاني : أنه الذي يلوي شدقيه من وراء الناس ، قاله الحسن .
الثالث : أنه الذي يهمزهم بيده ويضربهم دون لسانه ، قاله ابن زيد ، والأول أشبه لقول الشاعر :
تُدْلي بِوُدٍّ إذا لاقيتني كذباً ... وإن أغيبُ فأنت الهامز اللُّمَزة .
{ مشّاءٍ بنميم } فيه وجهان :
أحدهما : الذي ينقل الأحاديث من بعض الناس إلى بعض ، قاله قتادة .
الثاني : هو الذي يسعى بالكذب ، ومنه قول الشاعر :
ومَوْلى كبيْتِ النمل لا خير عنده ... لمولاه إلا سعية بنميم
وفي النميم والنميمة وجهان :
أحدهما : أنهما لغتان ، قاله الفراء .
الثاني : أن النميم جمع نميمة .
{ منّاعٍ للخيْرِ } فيه وجهان :
أحدهما : للحقوق من ظلم .
الثاني : الإسلام يمنع الناس منه .
{ عُتُلٍّ بَعْد ذلك زنيمٍ } يعني بعد كونه « منّاعٍ للخيرٍ »
معتدٍ أثيم ، هو عتل زنيم ، وفيه تسعة أوجه :
أحدها : أن العُتُلّ الفاحش ، وهو مأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم :
الثاني : أنه القوي في كفره ، قاله عكرمة .
الثالث : أنه الوفير الجسم ، قاله الحسن وأبو رزين .
الرابع : أنه الجافي الشديد الخصومة بالباطل ، قاله الكلبي .
الخامس : أنه الشديد الأسر ، قاله مجاهد .
السادس : أنه الباغي ، قاله ابن عباس .
السابع : أنه الذي يعتِل الناس ، أي يجرهم إلى الحبس أو العذاب ، مأخوذ من العتل وهو الجر ، ومنه قوله تعالى :

==============


ج14. كتاب : النكت والعيون أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي


{ خذوه فاعتِلوه } [ الحاقة : 30 ] .
الثامن : هو الفاحش اللئيم ، قاله معمر ، قال الشاعر :
يعتل من الرجال زنيم ... غير ذي نجدةٍ وغير كريم .
التاسع : ما رواه شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غَنْم ، ورواه ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « لا يدخل الجنةَ جواظٌ ولا جعظري ولا العتلّ الزنيم » فقال رجل : ما الجواظ وما الجعظري وما العتل الزنيم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم « الجواظ الذي جمع ومنع ، والجعظري الغليظ ، والعتل الزنيم الشديد الخلق الرحيب الجوف ، المصحح الأكول الشروب الواجد للطعام ، الظلوم للناس » .
وأما الزنيم ففيه ثماني تأويلات :
أحدها : أنه اللين ، رواه موسى بن عقبة عن النبي صلى الله عليه وسلم .
الثاني : أنه الظلوم ، قاله ابن عباس في رواية ابن طلحة عنه .
الثالث : أنه الفاحش ، قاله إبراهيم .
الرابع : أنه الذي له زنمة كزنمة الشاة ، قال الضحاك : لأن الوليد بن المغيرة كان له أسفل من أذنه زنمة مثل زنمة الشاة ، وفيه نزلت هذه الآية ، قال محمد بن إسحاق : نزلت في الأخنس بن شريق لأنه حليف ملحق ولذلك سمي زنيماً .
الخامس : أنه ولد الزنى ، قاله عكرمة .
السادس : أنه الدعيّ ، قال الشاعر :
زنيمٌ تَداعاه الرجالُ زيادةً ... كما زِيدَ في عَرْضِ الأديمِ الأكارعُ
السابع : أنه الذي يعرف بالأُبنة ، وهو مروي عن ابن عباس أيضاً .
الثامن : أنه علامة الكفر كما قال تعالى : { سنسمه على الخرطوم } ، قاله أبو رزين .
{ أنْ كان ذا مالٍ وبنينَ } قيل إنه الوليد بن المغيرة ، كانت له حديقة بالطائف ، وكان له اثنا عشر ابناً ، حكاه الضحاك .
وقال عليّ بن أبي طالب : المال والبنون حرث الدنيا ، والعمل الصالح حرث الآخرة .
{ إذا تتْلى عليه آياتُنا } يعني القرآن .
{ قال أساطيرُ الأوّلين } يعني أحاديث الأولين وأباطيلهم .
{ سَنَسِمُهُ على الخُرطومِ } فيه أربعة أقاويل :
أحدها : أنها سمة سوداء تكون على أنفه يوم القيامة يتميز بها الكافر ، كما قال تعالى : { يُعْرَفُ المجرمون بسيماهم } [ الرحمن : 41 ] .
الثاني : أنه يضرب في النار على أنفه يوم القيامة ، قاله الكلبي .
الثالث : أنه إشهار ذكره بالقبائح ، فيصير موسوماً بالذكر لا بالأثر .
الرابع : هو ما يبتليه اللَّه به في الدنيا في نفسه وماله وولده من سوء وذل وصَغار ، قاله ابن بحر واستشهد بقول الأعشى .
فدَعْها وما يَغنيك واعمد لغيرها ... بشِعرك واغلب أنف من أنت واسم .
وقال المبرد : الخرطوم هو من الناس الأنف ، ومن البهائم الشفة .


إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33)

{ إنا بَلَوناهم كما بَلَوْنا أَصْحابَ الجَنَّةِ } فيهم قولان :
أحدهما : إن الذين بلوناهم أهل مكة بلوناهم بالجوع كرتين ، كما بلونا أصحاب الجنة حتى عادت رماداً .
الثاني : أنهم قريش ببدر .
حكى ابن جريج أن أبا جهل قال يوم بدر خذوهم أخذاً واربطوهم في الحبال ، ولا تقتلوا منهم أحداً ، فضرب اللَّه بهم عند العدو مثلاً بأصحاب الجنة .
{ إذ أَقْسموا لَيَصرِمُنّها مُصْبِحينَ } قيل إن هذه الجنة حديقة كانت باليمن بقرية يقال لها ضَروان ، بينها وبين صنعاء اليمن اثنا عشر ميلاً ، وفيها قولان :
أحدهما : أنها كانت لقوم من الحبشة .
الثاني : قاله قتادة أنها كانت لشيخ من بني إسرائيل له بنون ، فكان يمسك منها قدر كفايته وكفاية أهله ، ويتصدق بالباقي ، فجعل بنوه يلومونه ويقولون : لئن ولينا لنفعلن ، وهو لا يطيعهم حتى مات فورثوها ، فقالوا : نحن أحوج بكثرة عيالنا من الفقراء والمساكين « فأقسموا ليصرُمنّها مصبحين » أي حلفوا أن يقطعوا ثمرها حين يصبحون .
{ ولا يَسْتَثْنونَ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : لا يستثنون من المساكين ، قاله عكرمة .
الثاني : استثناؤهم قول سبحان ربنا ، قاله أبو صالح .
الثالث : قول إن شاء اللَّه .
{ فطاف عليها طائفٌ مِن ربِّك وهم نائمونَ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أمر من ربك ، قاله ابن عباس .
الثاني : عذاب من ربك ، قاله قتادة .
الثالث : أنه عنق من النار خرج من وادي جنتهم ، قاله ابن جريج .
{ وهم نائمون } أي ليلاً وقت النوم ، قال الفراء : الطائف لا يكون إلا ليلاً .
{ فأصبحت كالصَريم } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : كالرماد الأسود ، قاله ابن عباس .
الثاني : كالليل المظلم ، قاله الفراء ، قال الشاعر :
تطاولَ ليلُكَ الجَوْنُ البهيمُ ... فما ينجاب عن صبحٍ ، صَريمُ
الثالث : كالمصروم الذي لم يبق فيه ثمر .
روى أسباط عن ابن مسعود أنه قال : قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : « أياكم والمعاصي ، إن العبد ليذنب فيحرم به رزقاً قد كان هيىء له » ، ثم تلا : { فطاف عليها طائف من ربك . . . } الآيتين قد حرموا خير جنتهم بذنبهم .
{ فتنادَوْا مُصبِحينَ } أي دعا بعضعهم بعضاً عند الصبح .
{ أنِ اغْدُوا على حَرْثِكم } قال مجاهد : كان الحرث عنباً .
{ إن كنتم صارمين } أي عازمين على صرم حرثكم في هذا اليوم .
{ فانْطَلَقُوا وهم يتخافتونَ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : يتكلمون ، قاله عكرمة .
الثاني : يخفون كلامهم ويسرونه لئلا يعلم بهم أحد ، قاله عطاء وقتادة .
الثالث : يخفون أنفسهم من الناس حتى لا يروهم .
الرابع : لا يتشاورون بينهم .
{ أن لا يدخُلَنّها اليومَ عليكم مِسكين } قاله يحيى بن سلام .
{ وَغَدَوْا على حَرْدٍ قادرين } فيه تسعة أوجه :
أحدها : على غيظ ، قاله عكرمة .

الثاني : على جَدٍّ ، قاله مجاهد .
الثالث : على منع ، قاله أبو عبيدة .
الرابع : على قصد ، ومنه قول الشاعر :
أقْبَلَ سيلٌ جاء من عندِ اللّه ... يحْرِدُ حَرْدَ الجَنّة المُغِلّة
اُي يقصد قصد الجنة المغلة .
الخامس : على فقر ، قاله الحسن .
السادس : على حرص ، قاله سفيان .
السابع : على قدرة ، قاله ابن عباس .
الثامن : على غضب ، قاله السدي .
التاسع : أن القرية تسمى حرداً ، قاله السدي .
وفي قوله : « قادرين » ثلاثة أوجه :
أحدها : يعني قادرين على المساكين ، قاله الشعبي .
الثاني : قادرين على جنتهم عند أنفسهم ، قاله قتادة .
الثالث : أن موافاتهم إلى جنتهم في الوقت الذي قدروه ، قاله ابن بحر .
ويحتمل رابعاً : أن القادر المطاع بالمال والأعوان ، فإذا ذهب ماله تفرق أعوانه فعُصيَ وعجز .
{ فلمّا رأوْها قالوا إنا لَضالُّون } أي أنهم لما رأوا أرض الجنة لا ثمرة فيها ولا شجر قالوا إنا ضالون الطريق وأخطأنا مكان جنتنا ، ثم استرجعوا فقالوا :
{ بل نحن محرومون } أي حُرمنا خير جنتنا ، قال قتادة : معناه جوزينا فحُرمنا .
{ قال أَوْسَطُهم } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : يعني أعدلهم ، قاله ابن عباس .
الثاني : خيرهم ، قاله قتادة .
الثالث : أعقلهم ، قاله ابن بحر .
{ أَلَمْ أقُل لكم لولا تُسَبَّحونَ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : لولا تستثنون عند قولهم « ليصرمنها مصبحين » ، قاله ابن جريج .
الثاني : أن التسبيح هو الاستثناء ، لأن المراد بالاستثناء ذكر اللَّه ، وهو موجود من التسبيح .
الثالث : أن تذكروا نعمة اللَّه عليكم فتؤدوا حقه من أموالكم .


إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (41)

{ أم لكم أيْمانٌ علينا بالغةٌ } والبالغة المؤكدة باللَه .
{ إنّ لكم لما تحْكُمُون } فيه وجهان :
أحدهما : أم لكم أيمان عيلنا بالغة أننا لا نعذبكم في الدنيا إلى يوم القيامة .
{ سَلْهم أيُّهم بذلك زعيمٌ } فيه وجهان :
أحدهما : أن الزعيم الكفيل ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنه الرسول ، قاله الحسن .
ويحتمل ثالثاً : أنه القيم بالأمر لتقدمه ورئاسته .


يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43) فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47)

{ يومَ يُكْشَفُ عن ساقٍ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : عن ساق الآخرة ، قاله الحسن .
الثاني : الساق الغطاء ، قاله الربيع بن أنس ، ومنه قول الراجز :
في سَنَةٍ قد كشفتْ عن ساقها ... حمراءَ تبري اللحم عن عراقها
الثالث : أنه الكرب والشدة ، قاله ابن عباس ، ومنه قول الشاعر :
كشفت لهم عن ساقها ... وبدا من الشر الصُّراح
الرابع : هو إقبال الآخرة وذهاب الدنيا ، قال الضحاك : لأنه أول الشدائد ، كما قال الراجز :
قد كشفت عن ساقها فشُدُّوا ... وجدّت الحربُ بكم فجدوا
فأما ما روي أن اللَّه تعالى يكشف عن ساقه فإن اللَّه تعالى منزه عن التبعيض والأعضاء وأن ينكشف أو يتغطى ، ومعناه أنه يكشف عن العظيم من أمره ، وقيل يكشف عن نوره .
وفي هذا اليوم ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه يوم الكبر والهرم والعجز عن العمل .
الثاني : أنه يوم حضور المنية والمعاينة .
الثالث : أنه يوم القيامة .
{ ويُدْعَون إلى السجودِ فلا يستطيعون } فمن قال في هذا اليوم إنه يوم القيامة جعل الأمر بهذا السجود على وجه التكليف .
ومن جعله في الدنيا فلهم في الأمر بهذا السجود قولان :
أحدهما : أنه تكليف .
الثاني : تندم وتوبيخ للعجز عنه ، وكان ابن بحر يذهب إلى أن هذا الدعاء إلى السجود إنما كان في وقت الاستطاعة ، فلم يستطيعوا بعد العجز أن يستدركوا ما تركوا .
{ فذرْنِي ومَن يُكذّبُ بهذا الحديث }
قال السدي : يعني القرآن .
ويحتمل آخر أي بيوم القيامة .
{ سنستدرجهم مِن حيثُ لا يَعْلمون } فيه خمسة أوجه :
أحدها : سنأخذهم على غفلة وهم لا يعرفون ، قاله السدي .
الثاني : نتبع النعمة السيئة وننسيهم التوبة ، قاله الحسن .
الثالث : نأخذهم من حيث درجوا ودبوا ، قاله ابن بحر .
الرابع : هو تدريجهم إلى العذاب بإدنائهم منه قليلاً بعد قليل حتى يلاقيهم من حيث لا يعلمون ، لأنهم لو علموا وقت أخذهم بالعذاب ما ارتكبوا المعاصي وأيقنوا بآمالهم .
الخامس : ما رواه إبراهيم بن حماد ، قال الحسن : كم من مستدرج بالإحسان إليه ، وكم من مغبون بالثناء عيه ، وكم من مغرور بالستر عليه .
والاستدراج : النقل من حال إلى حال كالتدرج ، ومنه قيل درجة وهي منزلة بعد منزلة .


فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50) وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (52)

{ فاصْبِرْ لحُكمِ ربّك } فيه وجهان :
أحدهما : لقضاء ربك .
الثاني : لنصر ربك ، قاله ابن بحر .
{ ولا تكُن كصاحِبِ الحُوتِ } قال قتادة : إن اللَّه تعالى يعزي نبيّه ويأمره بالصبر ، وأن لا يعجل كما عجل صاحب الحوت وهو يونس بن متى .
{ إذ نادى وهو مكظوم } أما نداؤه فقوله : لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين .
وفي مكظوم أربعة أوجه :
أحدها : مغموم ، قاله ابن عباس ومجاهد .
الثاني : مكروب ، قاله عطاء وأبو مالك ، والفرق بينهما أن الغم في القلب ، والكرب في الأنفاس .
الثالث : محبوس ، والكظم الحبس ، ومنه قولهم : فلان كظم غيظه أي حبس غضبه ، قاله ابن بحر .
الرابع : أنه المأخوذ بكظمه وهو مجرى النفس ، قاله المبرد .
{ لولا أن تَدارَكه نِعْمةٌ مِن ربِّه } فيه أربعة أوجه :
أحدها : النبوة ، قاله الضحاك .
الثاني : عبادته التي سلفت ، قاله ابن جبير .
الثالث : نداؤه لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ، قاله ابن زيد .
الرابع : أن نعمة اللَّه عليه إخراجه من بطن الحوت ، قاله ابن بحر .
{ لنُبِذَ بالعراء } فيه وجهان :
أحدهما : لألقي بالأرض الفضاء ، قاله السدي ، قال قتادة : بأرض اليمن .
الثاني : أنه عراء يوم القيامة وأرض المحشر ، قاله ابن جرير .
{ وهو مذموم } فيه وجهان :
أحدهما : بمعنى مليم .
الثاني : مذنب ، قاله بكر بن عبد الله ، ومعناه أن ندعه مذموماً .
{ وإن يكادُ الذين كَفَروا ليُزْلِقونك بأَبَصارهم } الآية . فيه ستة أوجه :
أحدها : معناه ليصرعونك ، قاله الكلبي .
الثاني : ليرمقونك ، قاله قتادة .
الثالث : ليزهقونك ، قاله ابن عباس ، وكان يقرؤها كذلك .
الرابع : لينفذونك ، قاله مجاهد .
الخامس : ليمسونك بأبصارهم من شدة نظرهم إليك ، قاله السدي .
السادس : ليعتانونك ، أي لينظرونك بأعينهم ، قاله الفراء .
وحكي أنهم قالوا : ما رأينا مثل حجمه ونظروا إليه ليعينوه ، أي ليصيبوه بالعين ، وقد كانت العرب إذا أراد أحدهم أن يصيب أحداً بعين في نفسه أو ماله تجوّع ثلاثاً ثم يتعرض لنفسه أو ماله فيقول : تاللَّه ما رأيت أقوى منه ولا أشجع ولا أكثر مالاً منه ولا أحسن ، فيصيبه بعينه فيهلك هو وماله ، فأنزل اللَّه هذه الآية .
{ لّما سَمِعوا الذكْرَ } فيه وجهان :
أحدهما : محمد .
الثاني : القرآن .
{ وما هو إلا ذِكْرٌ للعالمين } فيه وجهان :
أحدهما : شرف للعالمين ، كما قال تعالى { وإنه لذكر لك ولقومك } [ الزخرف : 44 ] .
الثاني : يذكرهم وعد الجنة ووعيد النار .
وفي العالمين وجهان :
أحدهما : الجن والإنس ، قاله ابن عباس .
الثاني : كل أمة من أمم الخلق ممن يُعرف ولا يُعرف .


الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8) وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً (10) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12)

قوله تعالى { الحاقّةُ ما الحاقّةُ } فيه قولان :
أحدهما : أنه ما حقّ من الوعد والوعيد بحلوله ، وهو معنى قول ابن بحر .
الثاني : أنه القيامة التي يستحق فيها الوعد والوعيد ، قاله الجمهور وفي تسميتها بالحاقة ثلاثة أقاويل :
أحدها : ما ذكرنا من استحقاق الوعد والوعيد بالجزاء على الطاعات والمعاصي ، وهو معنى قول قتادة ويحيى بن سلام .
الثاني : لأن فيها حقائق الأمور ، قاله الكلبي .
الثالث : لأن حقاً على المؤمن أن يخافها .
وقوله « ما الحاقة » تفخيماً لأمرها وتعظيماً لشأنها .
{ وما أدْراكَ ما الحاقّة } قال يحيى بن سلام : بلغني أن كل شىء في القرآن فيه « وما أدراك » فقد أدراه إياه وعلّمه إياه ، وكل شيء قال فيه « وما يدريك » فهو ما لم يعلمه إياه .
وفيه وجهان :
أحدهما : وما أدراك ما هذا الاسم ، لأنه لم يكن في كلامه ولا كلام قومه ، قاله الأصم .
الثاني : وما أدراك ما يكون في الحاقة .
{ كذّبَتْ ثمودُ وعادٌ بالقارعةِ } أما ثمود فقوم صالح كانت منازلهم في الحجر فيما بين الشام والحجاز ، قاله محمد بن إسحاق : وهو وادي القرى ، وكانوا عرباً .
وأما عاد فقوم هود ، وكانت منازلهم بالأحقاف ، والأحقاف الرمل بين عُمان إلى حضرموت واليمن كله ، وكانوا عرباً ذوي خَلق وبَسطة ، ذكره محمد بن إسحاق .
وأما « القارعة » ففيها قولان :
أحدهما : أنها قرعت بصوت كالصيحة ، وبضرب كالعذاب ، ويجوز أن يكون في الدنيا ، ويجوز أن يكون في الآخرة .
الثاني : أن القارعة هي القيامة كالحاقة ، وهما اسمان لما كذبت بها ثمود وعاد .
وفي تسميتها بالقارعة قولان :
أحدهما : لأنها تقرع بهولها وشدائدها .
الثاني : أنها مأخوذة من القرعة في رفع قوم وحط آخرين ، قاله المبرد .
{ فأمّا ثمودُ فأهلِكوا بالطاغية } فيها خمسة أقاويل :
أحدها : بالصيحة ، قاله قتادة .
الثاني : بالصاعقة ، قاله الكلبي .
الثالث : بالذنوب ، قاله مجاهد .
الرابع : بطغيانهم ، قاله الحسن .
الخامس : أن الطاغية عاقر الناقة ، قاله ابن زيد .
{ وأمّا عادٌ فأهْلِكوا بريحٍ صَرْصَرٍ عاتيةٍ } روى مجاهد عن ابن عباس قال :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « نُصِرْتُ بالصَّبا وأُهلِكتْ عاد بالدَّبور » .
فأما صرصر ففيها قولان :
أحدهما : أنها الريح الباردة ، قاله الضحاك والحسن ، مأخوذ من الصر وهو البرد .
الثاني : أنها الشديدة الصوت ، قاله مجاهد .
وأما العاتية ففيها ثلاثة أوجه :
أحدها : القاهرة ، قاله ابن زيد .
الثاني : المجاوزة لحدها .
الثالث : التي لا تبقى ولا ترقب .
وفي تسميتها عاتية وجهان :
أحدهما : لأنها عتت على القوم بلا رحمة ولا رأفة ، قاله ابن عباس .

الثاني : لأنها عتت على خزانها بإذن اللَّه .
{ سَخّرها عليهم سَبْعَ ليالٍ وثمانيةَ أيام حُسوماً } اختلف في أولها على ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنّ أولها غداة يوم الأحد ، قاله السدي .
الثاني : غداة يوم الأربعاء ، قاله يحيى بن سلام .
الثالث : غداة يوم الجمعة ، قاله الربيع بن أنس .
وفي قوله { حُسُوماً } أربعة تأويلات :
أحدها : متتابعات ، قاله ابن عباس وابن مسعود ومجاهد والفراء ، ومنه قول أمية بن أبي الصلت :
وكم يحيى بها من فرط عام ... وهذا الدهر مقتبل حسوم .
الثاني : مشائيم ، قاله عكرمة والربيع .
الثالث : أنها حسمت الليالي والأيام حتى استوفتها ، لأنها بدأت طلوع الشمس من أول يوم ، وانقطعت مع غروب الشمس من آخر يوم ، قاله الضحاك .
الرابع : لأنها حسمتهم ولم تبق منهم أحداً ، قاله ابن زيد ، وفي ذلك يقول الشاعر :
ومن مؤمن قوم هود ... فأرسل ريحاً دَبوراً عقيماً
توالتْ عليهم فكانت حُسوماً ... { فترى القوم فيها صرعى كأنّهم أعجازُ نخلٍ خاويةٍ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : البالية ، قاله أبو الطفيل .
الثاني : الخالية الأجواف ، قاله ابن كامل .
الثالث : ساقطة الأبدان ، خاوية الأصول ، قاله السدي .
وفي تشبيههم بالنخل الخاوية ثلاثة أوجه :
أحدها : أن أبدانهم خوت من أرواحهم مثل النخل الخاوية ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : أن الريح كانت تدخل في أجوافهم من الخيشوم ، وتخرج من أدبارهم ، فصاروا كالنخل الخاوية ، حكاه ابن شجرة .
الثالث : لأن الريح قطعت رؤوسهم عن أجسادهم ، فصاروا بقطعها كالنخل الخاوية .
{ وجاءَ فرعونُ ومَن قَبْلَهُ } فيه وجهان :
أحدهما : ومن معه من قومه وهو تأويل من قرأ « ومن قِبلَهُ » بكسر القاف وفتح الباء .
والثاني : ومن تقدمه ، وهو تأويل من قرأ « ومن قَبْلَهُ » بفتح القاف وتسكين الباء .
{ والمؤتفِكاتُ بالخاطئة } في المؤتفكات قولان :
أحدهما : أنها المقلوبات بالخسف .
الثاني : أنها الأفكات وهي الاسم من الآفكة ، أي الكاذبة .
والخاطئة : هي ذات الذنوب والخطايا ، وفيهم قولان :
أحدهما : أنهم قوم لوط .
الثاني : قارون وقومه ، لأن اللَّه خسف بهم .
{ فعصَوْا رسولَ ربِّهم } فيه وجهان :
أحدهما : فعصوا رسول الله إليهم بالتكذيب .
الثاني : فعصوا رسالة اللَّه إليهم بالمخالفة ، وقد يعبر عن الرسالة بالرسول ، قال الشاعر :
لقد كذَبَ الواشون ما بُحْت عندهم ... بسرٍّ ولا أرسلتهم برسول .
{ فَأَخَذَهُمْ أَخذةً رابيةً } فيه خمسة أوجه :
أحدها : شديدة ، قاله مجاهد .
الثاني : مُهلكة ، قاله السدي .
الثالث : تربوبهم في عذاب اللَّه أبداً ، قاله أبو عمران الجوني .
الرابع : مرتفعة ، قاله الضحاك .
الخامس : رابية للشر ، قاله ابن زيد .
{ إنا لما طَغَى الماءُ حَمَلْناكم في الجاريةِ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : ظَهَر ، رواه ابن أبي نجيح .

الثاني : زادَ وكثر ، قاله عطاء .
الثالث : أنه طغى على خزانه من الملائكة ، غضباً لربه فلم يقدروا على حبسه ، قاله عليّ رضي الله عنه .
قال قتادة : زاد على كل شيء خمسة عشر ذراعاً .
وروي عن ابن عباس أنه قال : ما أرسل من ريح قط إلا بمكيال .
وما أنزل الله من قطرة قط إلا بمثقال ، إلا يوم نوح وعاد ، فإن الماء يوم نوح طغى على خزانه فلم يكن لهم عيله سبيل ، ثم قرأ : « إنا لما طغى الماء » الآية . وإن الريح طغت على خزانها يوم عاد فلم يكن لهم عليها سبيل ثم قرأ . « بريح صرصر عاتية سخرها عليهم » الآية .
{ حملناكم في الجارية } يعني سفينة نوح ، سميت بذلك لأنها جارية على الماء .
وفي قوله حملناكم وجهان :
أحدهما : حملنا آباءكم الذين أنتم من ذريتهم .
الثاني : أنهم في ظهور آبائهم المحمولين ، فصاروا معهم ، وقد قال العباس بن عبد المطلب ما يدل على هذا الوجه وهو قوله في مدح النبي صلى الله عليه وسلم :
من قبلها طِبتَ في الظلال وفي ... مُستودع حيث يُخْصَفُ الورقُ .
ثم هبطتَ البلادَ لا بشرٌ ... أنت ولا مُضْغةٌ ولا عَلَقُ .
بل نطفةٌ تركب السَّفينَ وقد ... ألجَمَ نَسراً وأهلَه الغرقُ .
{ لنجْعلهَا لكم تذكِرةً } يعني سفينة نوح جعلها اللَّه لكم تذكرة وعظة لهذه الأمة حتى أدركها أوائلهم في قول قتادة ، وقال ابن جريج : كانت ألواحها على الجودي .
{ وتَعِيَها أُذُنٌ واعِيةٌ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : سامعة ، قاله ابن عباس .
الثاني : مؤمنة ، قاله ابن جريج .
الثالث : حافظة ، وهذا قول ابن عباس أيضاً .
قال الزجاج : يقال وعيت لما حفظته في نفسك ، وأوعيت لما حفظته في غيرك .
وروى مكحول أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عند نزول هذه الآية : « سألت ربي أن يجلعها أُذُنَ عليٍّ » قال مكحول : فكان عليٌّ رضي اللَّه عنه يقول : ما سمعت من رسول الله شيئاً قط نسيته إلا وحفظته .
الرابع : [ أنالأذن الواعية ] أُذن عقلت عن اللَّه وانتفعت بما سمعت من كتاب اللَّه ، قاله قتادة .


فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18)

{ فيومئذٍ وقَعَتِ الواقعةُ } فيها ثلاثة أقاويل :
أحدها : القيامة .
الثاني : الصيحة .
الثالث : أنها الساعة التي يفنى فيها الخلق .
{ وانْشَقّت السماءُ فهِي يومئذٍ واهيةٌ } في انشقاقها وجهان :
أحدهما : أنها فتحت أبوابها ، قاله ابن جريج .
الثاني : أنها تنشق من المجرة ، قاله عليّ رضي الله عنه .
وفي قوله « واهية » وجهان :
أحدهما : متخرقة ، قاله ابن شجرة ، مأخوذ من قولهم وَهَى السقاءُ إذا انخرق ، ومن أمثالهم :
خَلِّ سبيلَ مَنْ وَهَى سِقاؤه ... ومَن هُريق بالفلاةِ ماؤهُ
أي من كان ضعيف العقل لا يحفظ نفسه .
الثاني : ضعيفه ، قاله يحيى بن سلام .
{ والملَكُ على أَرجائها } فيه وجهان :
أحدهما : على أرجاء السماء ، ولعله قول مجاهد وقتادة .
الثاني : على أرجاء الدنيا ، قاله سعيد بن جبير .
وفي « أرجائها » أربعة أوجه :
أحدها : على جوانبها ، قاله سعيد بن جبير .
الثاني : على نواحيها ، قاله الضحاك .
الثالث : أبوابها ، قاله الحسن .
الرابع : ما استدق منها ، قاله الربيع بن أنس .
ووقوف الملائكة على أرجائها لما يؤمرون به فيهم من جنة أو نار .
{ ويَحْمِلُ عَرْشَ ربِّك فوقهم يَومئذٍ ثمانيةُ } يعني أن العرش فوق الثمانية وفيهم ثلاثة أقاويل :
أحدها : ثمانية أملاك من الملائكة ، قاله العباس بن عبد المطلب .
الثاني : ثمانية صفوف من الملائكة ، قاله ابن جبير .
الثالث : ثمانية أجزاء من تسعة ، وهم الكروبيون ، قاله ابن عباس ، وروى أبو هريرة قال : قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : « يحمله اليوم أربعة ، وهم يوم القيامة ثمانية » .
وفي قوله { فوقهم } ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنهم يحملون العرش فوق رؤوسهم .
الثاني : أن حملة العرش فوق الملائكة الذين على أرجائها .
الثالث : أنهم فوق أهل القيامة .
{ يومئذٍ تُعْرَضونَ } يعني يوم القيامة ، روى الحسن عن أبي موسى قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : « يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات ، أما عرضتان فجدال ومعاذير ، وأما الثالثة فعند ذلك تطير الصحف من الأيدي فآخذ بيمينه وآخذ بشماله »
{ لا تَخْفَى منكم خافيةٌ } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : لا يخفى المؤمن من الكافر ، ولا البر من الفاجر ، قاله عبد اللَّه بن عمرو بن العاص .
الثاني : لا تستتر منكم عورة ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : « يحشر الناس حفاة عراة »
الثالث : أن خافية بمعنى خفيّة كانوا يخفونها من أعمالهم حكاه ابن شجرة .


فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24)

{ فأمّا مَنْ أُوتي كتابَه بيمينه } لأن إعطاء الكتاب باليمين دليل على النجاة .
{ فيقول هاؤم اقْرَؤوا كِتابيهْ } ثقة بسلامته وسروراً بنجاته ، لأن اليمين عند العرب من دلائل الفرج ، والشمال من دلائل الغم ، قال الشاعر :
أبيني أفي يُمْنَى يديكِ جَعَلْتِني ... فأفرح أم صيرتني من شِمالِك
وفي قوله « هاؤمُ » ثلاثة أوجه :
أحدها : بمعنى هاكم اقرؤوا كتابيه فأبدلت الهمزة من الكاف ، قاله ابن قتيبة .
الثاني : أنه بمعنى هلموا اقرؤوا كتابيه ، قال الكسائي : العرب تقول للواحد هاءَ وللاثنين هاؤما وللثلاثة هاؤم .
الثالث : أنها كلمة وضعت لإجابة الداعي عند النشاط والفرح روي أن أعرابياً نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم بصوت عالٍ فأجابه هاؤم بطول صوته .
والهاء من « كتابيه » ونظائرها موضوعة للمبالغة ، وذكر الضحاك أنها نزلت في أبي سلمة بن عبد الأسد .
{ إني ظننتُ أني مُلاقٍ حِسابِيَهْ } فيه وجهان :
أحدهما : أي علمت ، قال الضحاك : كل ظن في القرآن من المؤمن فهو يقين ، ومن الكافر فهو شك ، وقال مجاهد : ظن الآخرة يقين ، وظن الدنيا شك .
الثاني : ما قاله الحسن في هذه الآية ، أن المؤمن أحْسن بربه الظن ، فأحسن العمل ، وأن المنافق أساء بربه الظن فأساء العمل .
وفي الحساب ها هنا وجهان :
أحدهما : في البعث .
الثاني : في الجزاء .
{ فهو في عِيشَةٍ راضيةٍ } بمعنى مَرْضيّة ، قال أبو هريرة وأبو سعيد الخدري يرفعانه : إنهم يعيشون فلا يموتون أبداً ، ويصحّون فلا يمرضون أبداً ، ويتنعمون فلا يرون بؤساً أبداً ، ويشبّون فلا يهرمون أبداً .
{ في جنة عالية } يحتمل وجهين :
أحدهما : رفيعة المكان .
الثاني : عظيمة في النفوس .
{ قطوفها دانيةٌ } يحتمل وجهين :
أحدهما : دانية من الأيدي يتناولها القائم والقاعد .
الثاني : دانية الإدراك لا يتأخر حملها ولا نضجها .


وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37)

{ وأمّا من أُوتي كتابه بشماله } يحتمل وجهين :
أحدهما : أنه كان يقول ذلك راجياً .
الثاني : أنه كان مستوراً فافتضح ، ومن عادة العرب أن تفرق بين القبول والرد وبين الكرامة والهوان ، باليمين والشمال ، فتجعل اليمين بشيراً بالقبول والكرامة ، وتجعل الشمال نذيراً بالرد والهوان .
{ ولم أَدْرِ ما حِسابِيَهْ } يحتمل وجهين :
أحدهما : لما شاهد من كثرة سيئاته وكان يظنها قليلة ، لأنه أحصاه اللَّه ونسوه .
الثاني : لما رأى فيه من عظيم عذابه وأليم عقابه .
{ يَا لَيْتَها كانت القاضيةَ } فيه وجهان :
أحدهما : يعني موتاً لا حياة فيه بعدها ، قاله الضحاك .
الثاني : أنه تمنى أن يموت في الحال ، ولم يكن في الدنيا أكره إليه من الموت ، قاله قتادة .
{ ما أغْنَى عَنيِّ مالِيَهْ } يحتمل وجهين :
أحدهما : أن كثرة ماله في الدنيا لم يمنع عنه في الآخرة .
الثاني : لأن رغبته في زينة الدنيا وكثرة المال هو الذي ألهاه عن الآخرة . { هَلَكَ عني سُلْطانِيَهْ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : معناه ضللت عن حُجّتي ، قاله مجاهد وعكرمة والسدي والضحاك .
الثاني : سلطانه الذي تسلط به على بدنه حتى أقدم به على معصيته ، وهذا معنى قول قتادة .
الثالث : أنه كان في الدنيا مطاعاً في أتباعه ، عزيزاً في امتناعه ، وهذا معنى قول الربيع بن أنس .
وحكي أن هذا في أبي جهل بن هشام ، وذكر الضحاك أنها نزلت في الأسود ابن عبد الأسد .
{ فليس له اليومَ ها هنا حَميمٌ } الحميم : القريب ، ومعناه ليس له قريب ينفعه ويدفع عنه كما كان يفعل معه في الدنيا .
{ ولا طعامٌ إلا مِنْ غِسْلين } فيه أربعة أقاويل :
أحدها : أنه غسالة أطرافهم ، قاله يحيى بن سلام ، قال الأخفش :
هو فعلين من الغسل .
الثاني : أنه صديد أهل النار ، قاله ابن عباس .
الثالث : أنه شجرة في النار هي أخبث طعامهم ، قاله الربيع بن أنس .
الرابع : أنه الحار الذي قد اشتد نضجه ، بلغة أزد شنوءة .


فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43)

{ فلا أُقْسِمُ بما تُبصِرون } قال مقاتل : سبب ذلك أن الوليد بن المغيرة قال :
إن محمداً ساحر ، وقال أبو جهل : إنه شاعر ، وقال عقبة بن معيط : إنه كاهن فقال اللَّه تعالى قسماً على كذبهم « فلا أُقْسِم » أي أقسم ، و « لا » صلة زائدة .
{ وَما لا تُبْصِرونَ } فيه وجهان :
أحدهما : بما تبصرون من الخلق وما لا تبصرون من الخلق ، قاله مقاتل .
الثاني : أنه رد لكلام سبق أي ليس الأمر كما يقوله المشركون .
ويحتمل ثالثاً : بما تعلمون وما لا تعلمون ، مبالغة في عموم القسم .
{ إنه لَقْولُ رسولٍ كريمٍ } فيه قولان :
أحدهما : جبريل ، قاله الكلبي ومقاتل .
الثاني : رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، قال ابن قتيبة : وليس القرآن من قول الرسول ، إنما هو من قول اللَّه وإبلاغ الرسول ، فاكتفى بفحوى الكلام عن ذكره .


وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)

{ ولو تَقوَّل علينا بَعْضَ الأقاويل } أي تكلّف علينا بعض الأكاذيب ، حكاه عن كفار قريش أنهم قالوا ذلك في النبي صلى الله عليه وسلم .
{ لأخْذنا منه باليمين } فيه خمسة تأويلات :
أحدها : لأخذنا منه قوّته كلها ، قاله الربيع .
الثاني : لأخذنا منه بالحق ، قاله السدي والحكم ، ومنه قول الشاعر :
إذا ما رايةٌ رُفِعَتْ لمجدٍ ... تَلَقّاها عَرابةُ باليَمينِ
أي بالاستحقاق .
الثالث : لأخذنا منه بالقدرة ، قاله مجاهد .
الرابع : لقطعنا يده اليمنى ، قاله الحسن .
الخامس : معناه لأخذنا بيمينه إذلالاً له واستخفافاً به ، كما يقال لما يراد به الهوان ، خذوا بيده ، حكاه أبو جعفر الطبري .
{ ثم لَقَطَعْنا مِنه الوَتينَ } فيه أربعة أقاويل :
أحدها : أنه نياط القلب ويسمى حبل القلب ، وهو الذي القلب معلق به ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنه القلب ومراقّه وما يليه ، قاله محمد بن كعب .
الثالث : أنه الحبل الذي في الظهر ، قاله مجاهد .
الرابع : أنه عرق بين العلباء والحلقوم ، قاله الكلبي .
وفي الإشارة إلى قطع ذلك وجهان :
أحدهما : إرادة لقتله وتلفه ، كما قال الشاعر :
إذا بَلَّغْتِني وَحَمَلْتِ رحْلي ... عرابة فاشربي بدَمِ الوَتينِ
الثاني : ما قاله عكرمة أن الوَتين إذا قطع لا إن جاع عَرَق ، ولا إن شبع عَرَقَ .
{ وإنه لتَذْكرةٌ للمُتّقِينَ } يعني القرآن ، وفي التذكرة أربعة أوجه :
أحدها : رحمة .
الثاني : ثَبات .
الثالث : موعظة .
الرابع : نجاة .
{ وإنّا لَنَعْلَمُ أنَّ منكم مُكذِّبينَ } قال الربيع : يعني بالقرآن .
{ وإنّه } يعني القرآن .
{ لَحسْرةٌ على الكافرين } يعني ندامة يوم القيامة .
ويحتمل وجهاً ثانياً : أن يزيد حسرتهم في الدنيا حين لم يقدروا على معارضته عند تحدّيهم أن يأتوا بمثله .
{ وإنّه لَحقُّ اليقينِ } فيه وجهان :
أحدهما : أي حقاً ويقيناً ليكونن الكفر حسرة على الكافرين يوم القيامة ، قاله الكلبي .
الثاني : يعني القرآن عند جميع الخلق أنه حق ، قال قتادة : إلا أن المؤمن أيقن به في الدنيا فنفعه ، والكافر أيقن به في الآخرة فلم ينفعه .
{ فَسَبِّحْ باسْمِ ربِّكَ العظيم } فيه وجهان :
أحدهما : فصلِّ لربك ، قاله ابن عباس .
الثاني : فنزهه بلسانك عن كل قبيح .


سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7)

قوله تعالى : { سأَل سائلٌ } قرأه الجمهور بهذين الحرفين في سأل سائل ، وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها : معناه استخبر مستخبر عن العذاب متى يقع ، على التكذيب .
الثاني : دعا داع أن يقع البلاء بهم على وجه الاستهزاء ، قاله مجاهد .
الثالث : طلب طالب .
{ بعذابٍ واقعٍ } وفي هذا الطالب ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنهالنضر بن الحارث ، وكان صاحب لواء المشركين يوم بدر ، وقد سأل ذلك في قوله { اللهم إن كان هذا هو الحقَ من عندك فأمطِرْ علينا حجارةً من السماء أو ائتنا بعذاب أليم } [ الأنفال : 32 ] قاله ابن عباس ومجاهد .
الثاني : أنه أبو جهل : وهو القائل لذلك ، قاله ربيع بن أبي حمزة .
الثالث : أنه قول جماعة من قريش .
وفي هذا العذاب قولان :
أحدهما : أنه العذاب في الآخرة ، قاله مجاهد .
الثاني : أنها نزلت بمكة وعذابه يوم بدر بالقتل والأسر ، قاله السدي .
وقرأ نافع وزيد بن أسلم وابنه « سأل سايل » غير مهموز ، وسايل واد في جهنم ، وسمي بذلك لأنه يسيل بالعذاب .
{ مِن اللَّهِ ذي المعارج } فيه خمسة تأويلات :
أحدها : ذي الدرجات ، قاله ابن عباس .
الثاني : ذي الفواضل والنعم ، قاله قتادة .
الثالث : ذي العظمة والعلاء .
الرابع : ذي الملائكة ، لأنهم كانوا يعرجون إليه ، قاله قتيبة .
الخامس : أنها معارج السماء ، قاله مجاهد .
{ تَعْرُجُ الملائكةُ والروحُ إليه } أي تصعد ، وفي الروح ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه روح الميت حين يقبض ، قاله قَبيصة بن ذؤيب ، يرفعه .
الثاني : أنه جبريل ، كما قال تعالى : « نزل به الروح الأمين » .
الثالث : أنه خلق من خلق اللَّه كهيئة الناس وليس بالناس ، قاله أبو صالح .
{ في يوم كان مِقدارُه خمسينَ ألْفَ سنةٍ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه يوم القيامة ، قاله محمد بن كعب والحسن .
الثاني : أنها مدة الدنيا ، مقدار خمسين ألف سنة ، لا يدري أحد كم مضى وكم بقي إلا اللَّه ، قاله عكرمة .
الثالث : أنه مقدار مدة الحساب في عرف الخلق أنه لو تولى بعضهم محاسبة بعض لكان مدة حسابهم خمسين ألف سنة ، إلا أن اللَّه تعالى يتولاه في أسرع مدة .
وروى معاذ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « يحاسبهم اللَّه بمقدار ما بين الصلاتين ولذلك سمى نفسه سريع الحساب ، وأسرع الحاسبين » .
{ فاصْبِرْ صَبْراً جَميلاً } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : أنه الصبر الذي ليس فيه جزع ، قاله مجاهد .
الثاني : أنه الصبر الذي لا بث فيه ولا شكوى .
الثالث : أنه الانتظار من غير استعجال ، قاله ابن بحر .
الرابع : أنه المجاملة في الظاهر ، قاله الحسن .
وفيما أُمر بالصبر عليه قولان :
أحدهما : أُمر بالصبر على ما قذفه المشركون من أنه مجنون وأنه ساحر وأنه شاعر ، قاله الحسن .
الثاني : أنه أُمر بالصبر على كفرهم ، وذلك قبل أن يفرض جهادهم ، قاله ابن زيد .
{ إنهم يَرَوْنه بعيداً } فيه قولان :
أحدهما : أنه البعث في القيامة .
الثاني : عذاب النار .
وفي المراد بالبعيد وجهان :
أحدهما : مستحيل غير كائن .
الثاني : استبعاد منهم للآخرة .
{ ونراه قريباً } أي كائناً ، لأن ما هو كائن قريب .


يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ (14) كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعَى (18)

{ يومَ تكونُ السّماءُ كالمُهْلِ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : كدرديّ الزيت ، قاله ابن عباس .
الثاني : كمذاب الرصاص والنحاس والفضلة ، قاله ابن مسعود .
الثالث : كقيح من دم ، قاله مجاهد .
{ وتكونُ الجبالُ كالعِهْنِ } يعني كالصوف المصبوغ ، والمعنى أنها تلين بعد الشدة ، وتتفرق بعد الاجتماع .
{ يُبْصّرُونَهم } فيه أربعة أوجه :
أحدها : أنه يبصر بعضهم بعضاً فيتعارفون ، قاله قتادة .
الثاني : أن المؤمنين يبصرون الكافرين ، قاله مجاهد .
الثالث : أن الكافرين يبصرون الذين أضلوهم في النار ، قاله ابن زيد .
الرابع : أنه يبصر المظلوم ظالمه ، والمقتول قاتله .
{ يَوَدّ المجْرِمُ } فيه وجهان :
أحدهما : يحب .
الثاني : يتمنى ، والمجرم هو الكافر .
{ لو يَفْتَدِي مِن عَذابِ يومِئذ } يعني يفتدي من عذاب جهنم بأعز من كان عليه في الدنيا من أقاربه ، فلا يقدر .
ثم ذكرهم فقال : { ببنيه } .
{ وصاحبته } يعني زوجته : { وأخيه } .
{ وفصيلته } فيه وجهان :
أحدهما : عشيرته التي تنصره ، قاله ابن زيد .
الثاني : أنها أمه التي تربيه ، قاله مالك ، وقال أبو عبيدة : الفصيلة دون القبيلة .
{ التي تؤويه } فيه وجهان :
أحدهما : التي يأوي إليها في نسبه ، قاله الضحاك .
الثاني : يأوي إليها في خوفه .
{ كلا إنها لَظَى } فيه وجهان :
أحدهما : أنها اسم من أسماء جهنم ، سميت بذلك لأنها التي تتلظى ، وهو اشتداد حرها .
الثاني : أنه اسم الدرك الثامن في جهنم ، قاله الضحاك .
{ نَزّاعة للشّوَى } فيه خمسة تأويلات :
أحدها : أنها أطراف اليدين والرجلين ، قاله أبو صالح ، قال الشاعر :
إذا نَظَرْتَ عَرَفْت الفخر منها ... وعَيْنيها ولم تعْرِفْ شَواها .
الثاني : قال الضحاك : هي جهنم تفري اللحم والجلد عن العظم ، وقال مجاهد : جلدة الرأس ومنه قول الأعشى :
قالت قُتَيْلَةُ ما لَه ... قد جُلِّلَتْ شيْباً شَواتهُ .
الثالث : أنه العصب والعقب ، قاله ابن جبير .
الرابع : أنه مكارم وجهه ، قاله الحسن .
الخامس : أنه اللحم والجلد الذي على العظم ، لأن النار تشويه ، قاله الضحاك .
{ تَدْعو مَنْ أَدْبَرَ وتَوَلّى } وفي دعائها ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها تدعوهم بأسمائهم فتقول للكافر : يا كافر إليّ ، وللمنافق : يا منافق إليّ ، قاله الفراء .
الثاني : أن مصير من أدبر وتولى إليها ، فكأنها الداعية لهم ، ومثله قول الشاعر :
ولقد هَبَطْنا الوادِيَيْن فوادياً ... يَدْعو الأنيسَ به العَضيضُ الأبكمُ .
العضيض الأبكم : الذباب ، وهو لا يدعو وإنما طنينه ينبه عليه ، فدعا إليه .
الثالث : الداعي خزنة جهنم أضيف دعاؤهم إليها ، لأنهم يدعون إليها .
وفي ما { أدبر وتولى } عنه أربعة أوجه :
أحدها : أدبر عن الطاعة وتولى عن الحق ، قاله مجاهد .
الثاني : أدبر عن الإيمان وتولى إلى الكفر ، قاله مقاتل .
الثالث : أدبر عن أمر اللَّه وتولى عن كتاب اللَّه ، قاله قتادة .
الرابع : أدبر عن القبول وتولى عن العمل .
{ وجَمَع فأوْعَى } يعني الذي أدبر وتولى جمع المال فأوعى ، بأن جعله في وعاء حفظاً له ومنعاً لحق اللَّه منه ، قال قتادة : فكان جموعاً منوعاً .


إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35)

{ إنّ الإنسانَ خُلِقَ هَلُوعاً } قال الضحاك والكلبي : يعني الكافر . وفي الهلوع ستة أوجه :
أحدها : أنه البخيل ، قاله الحسن .
الثاني : الحريص ، قاله عكرمة .
الثالث : الضجور ، قاله قتادة .
الرابع : الضعيف ، رواه أبو الغياث .
الخامس : أنه الشديد الجزع ، قاله مجاهد .
السادس : أنه الذي قاله الله تعالى فيه : { إذا مسّه الشرُّ . . . } الآية ، قاله ابن ابن عباس .
وفيه وجهان :
أحدهما : إذا مسه الخير لم يشكر ، وإذا مسه الشر لم يصبر ، وهو معنى قول عطية .
الثاني : إذا استغنى منع حق اللَّه وشح ، وإذا افتقر سأل وألح ، وهو معنى قول يحيى بن سلام .
{ الذين هُمْ على صَلاتِهم دائمونَ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : يحافظون على مواقيت الفرض منها ، قاله ابن مسعود .
الثاني : يكثرون فعل التطوع منها ، قاله ابن جريج .
الثالث : لا يلتفتون فيها ، قاله عقبة بن عامر .
{ والذين هم لأماناتِهم وعَهْدِهم راعُونَ } فيه وجهان :
أحدهما : أن الأمانة ما ائتمنه الناس عليه أن يؤديه إليهم ، والعهد : ما عاهد الناس عليه أن يَفيَ لهم به ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : أن الأمانة الزكاة أن يؤديها ، والعهد : الجنابة أن يغتسل منها وهو معنى قول الكلبي .
ويحتمل ثالثاً : أن الأمانة ما نهي عنه من المحظورات ، والعهد ما أمر به من المفروضات .
{ والذين هُم بشهاداتِهم قائمونَ } فيه وجهان :
أحدهما : أنها شهادتهم على أنبيائهم بالبلاغ ، وعلى أممهم بالقبول أو الامتناع .
الثاني : أنها الشهادات في حفظ الحقوق بالدخول فيها عند التحمل ، والقيام بها عند الأداء .
ويحتمل ثالثاً : أنهم إذا شاهدوا أمراً أقاموا الحق للَّه تعالى فيه ، من معروف يفعلونه ويأمرون به ، ومنكر يجتنبونه وينهون عنه .


فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39) فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (44)

{ فما للذين كَفَروا قِبلَكَ مُهْطِعينَ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : مسرعين ، قاله الأخفش ، قال الشاعر :
بمكةَ دارُهم ولقد أراهم ... بمكةَ مُهطِعين إلى السماع
الثاني : معرضين ، قاله عطية العوفي .
الثالث : ناظرين إليك تعجباً ، قاله الكلبي .
{ عن اليمين وعن الشِّمال عِزِينَ } فيه خمسة أوجه :
أحدها : متفرقين ، قاله الحسن ، قال الراعي :
أخليفةَ الرحمنِ إن عشيرتي ... أمسى سَراتُهُمُ إليك عِزينا .
الثاني : محتبين ، قال مجاهد .
الثالث : أنهم الرفقاء والخلطاء ، قاله الضحاك .
الرابع : أنهم الجماعة القليلة ، قاله ابن أسلم .
الخامس : أن يكونوا حِلقاً وفرقاً .
روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج على أصحابه وهم حِلَق فقال : « ما لي أراكم عزين » قال الشاعر :
ترانا عنده والليل داج ... على أبوابه حِلقاً عِزينا .
{ يوم يَخْرجون من الأجداثِ سِراعاً } يعني من القبور .
{ كأنهم إلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ } في « نصب » قراءتان : إحداهما بتسكين الصاد ، والأخرى بضمها .
وفي اختلافهما وجهان :
أحدهما : معناهما واحد ، قاله المفضل وطائفة ، فعلى هذا في تأويله أربعة أوجه :
أحدها : معناه إلى علم يستبقون ، قاله قتادة .
الثاني : إلى غايات يستبقون ، قاله أبو العالية .
الثالث : إلى أصنامهم يسرعون ، قاله ابن زيد ، وقيل إنها حجارة طوال كانوا يعبدونها .
الرابع : إلى صخرة بيت المقدس يسرعون .
والوجه الثاني من الأصل أن معنى القراءتين مختلف ، فعلى هذا في اختلافهما وجهان :
أحدهما : أن النُّصْب بالتسكين الغاية التي تنصب إليها بصرك ، والنُّصُب بالضم واحد الأنصاب ، وهي الأصنام ، قاله أبو عبيدة ومعنى « يوفضون » يسرعون ، والإيفاض الإسراع ، ومنه قول رؤبة :
يمشين بنا الجد على الإيفاض ... بقطع أجواز الفلا انفضاض .


إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1) قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4)

قوله عز وجل : { إنا أَرْسَلْنا نُوحاً إلى قَوْمِه } روى قتادة عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « أول نبي أُرسل نوح » قال قتادة : بعث من الجزيرة .
واختلف في سنه حين بعث :
قال ابن عباس : بعث وهو ابن أربعين سنة .
وقال عبد اللَّه بن شداد : بعث وهو ابن ثلاثمائة وخمسين سنة .
وقال إبراهيم بن زيد : إنما سمي نوحاً لأنه كان ينوح على نفسه في الدنيا .
{ أنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أن يأتيَهم عَذابٌ أَليمٌ } فيه وجهان :
أحدهما : يعني عذاب النار في الآخرة ، قاله ابن عباس .
الثاني : عذاب الدنيا ، وهو ما ينزل عليهم بعد ذلك من الطوفان ، قاله الكلبي ، وكان يدعو قومه وينذرهم فلا يرى منهم مجيباً ، وكانوا يضربونه حتى يغشى عليه ، فيقول : رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون .
{ يَغْفِرْ لكم مِن ذُنوبكم } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن « من » صلة زائدة ، ومعنى الكلام يغفر ذنوبكم ، قاله السدي .
الثاني : أنها ليست صلة ، ومعناه يخرجكم من ذنوبكم ، قاله زيد بن أسلم .
الثالث : معناه يغفر لكم من ذنوبكم ما استغفرتموه منها ، قاله ابن شجرة .
{ ويُؤَخِّرْكم إلى أجَلٍ مُسمى } يعني إلى موتكم وأجلكم الذي خط لكم ، فيكون موتكم بغير عذاب إن آمنتم .
{ إنّ أَجَلَ اللَّه إذا جاءَ لا يُؤخَّرُ لو كنتم تَعْلَمونَ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : يعني بأجل اللَّه الذي لا يؤخر يوم القيامة ، جعله اللَّه أجلاً للبعث ، قاله الحسن .
الثاني : يعني أجل الموت إذا جاء لم يؤخر ، قاله مجاهد .
الثالث : يعني أجل العذاب إذا جاء لا يؤخر ، قاله السدي .
وفي قوله : « لو كنتم تعلمون » وجهان :
أحدهما : أن ذلك بمعنى إن كنتم تعلمون .
الثاني : لو كنتم تعلمون لعلمتم أن أجل اللَّه إذا جاء لا يؤخر ، قاله الحسن .


قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12) مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20)

{ قال رَبِّ إنّي دَعَوْتُ قَوْمي ليلاً ونهاراً } فيه وجهان :
أحدهما : دعوتهم ليعبدوك ليلاً ونهاراً .
الثاني : دعوتهم ليلاً ونهاراً إلى عبادتك .
{ فلم يَزدْهم دُعائي إلاّ فِراراً } يحتمل وجهين :
أحدهما : إلا فراراً من طاعتك .
الثاني : فراراً من إجابتي إلى عبادتك .
قال قتادة : بلغنى أنه كان يذهب الرجل بابنه إلى نوح ، فيقول لابنه : احذر هذا لا يغرنك فإن أبي قد ذهب بي غليه وأنا مثلك ، فحذرني كما حذرتك .
{ وإنِّي كلما دَعَوْتُهم لِتَغَفِرَ لهم } يعني كلما دعوتهم إلى الإيمان لتغفر لهم ما تقدم من الشرك .
{ جعلوا أصابعهم في آذانهم } لئلا يسمعوا دعاءه ليؤيسوه من إجابة ما لم يسمعوه ، قال محمد بن إسحاق : كان حليماً صبوراً .
{ واستغْشَوا ثيابَهم } أي عطوا رؤسهم وتنكروا لئلا يعرفهم .
{ وأَصَرُّوا } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : أنه إقامتهم على الكفر ، قال قتادة : قدماً قدماً في معاصي اللَّه لالتهائهم عن مخافة اللَّه حتى جاءهم أمر اللَّه .
الثاني : الإصرار : أن يأتي الذنب عمداً ، قاله الحسن .
الثالث : معناه أنهم سكتوا على ذنوبهم فلم يستغفروا قاله السدي .
{ واستكْبَروا استكباراً } فيه وجهان :
أحدهما : أن ذلك كفرهم باللَّه وتكذيبهم لنوح ، قاله الضحاك .
الثاني : أن ذلك تركهم التوبة ، قاله ابن عباس ، وقوله « استبكارا » تفخيم .
{ ثم إنّي دَعْوتُهم جِهاراً } أي مجاهرة يرى بعضهم بعضاً .
{ ثم إني أعْلَنْتُ لهم } يعني الدعاء ، قال مجاهد : معناه صِحْتُ .
{ وأسَرَرْتُ لهم إسْراراً } الدعاء عن بعضهم من بعض ، وفيه وجهان :
أحدهما : أنه دعاهم في وقت سراً ، وفي وقت جهراً .
الثاني : دعا بعضهم سراً وبعضهم جهراً ، وكل هذا من نوح مبالغة في الدعاء وتلطفاً في الاستدعاء .
{ فقلتُ استغْفِروا ربّكم إنّه كان غَفّاراً } وهذا فيه ترغيب في التوبة ، وقد روى حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « الاستغفار ممحاة للذنوب » .
وقال : الفضيل : يقول العبد استغفر اللَّه ، قال : وتفسيرها أقلني .
{ يُرْسِلِ السماءَ عليكم مِدْراراً } يعني غيثاً متتابعاً ، وقيل إنهم كانوا قد أجدبوا أربعين سنة ، حتى أذهب الجدب أموالهم وانقطع الولد عن نسائهم ، فقال ترغيباً في الإيمان .
{ ويُمْدِدْكم بأموالٍ وبنينَ ويَجْعَل لكم جَنّاتٍ ويَجْعَل لكم أنهاراً } قال قتادة :
علم نبي اللَّه نوح أنهم أهل حرص على الدنيا ، فقال هلموا إلى طاعة اللَّه فإن من طاعته درك الدنيا والآخرة .
{ ما لكم لا ترجون للَّه وقاراً } فيه خمسة تأويلات :
أحدها : ما لكم لا تعرفون للَّه عظمة ، قاله مجاهد ، وعكرمة .
الثاني : لا تخشون للَّه عقاباً وترجون منه ثواباً ، قاله ابن عباس في رواية ابن جبير .

الثالث : لا تعرفون للَّه حقه ولا تشكرون له نعمه ، قاله الحسن .
الرابع : لا تؤدون للَّه طاعة ، قاله ابن زيد .
الخامس : أن الوقار الثبات ، ومنه قوله تعالى : { وقرن في بيوتكن } [ الأحزاب : 33 ] أي اثبتن ، ومعناه لا تثبتون وحدانية اللَّه وأنه إلهكم الذي لا إله لكم سواه ، قال ابن بحر : دلهم على ذلك فقال : { وقد خلقكم أطواراً } في وجهان :
أحدهما : يعني طوراً نطفة ، ثم طوراً علقة ، ثم طوراً مضغة ، ثم طوراً عظماً ، ثم كسونا العظام لحماً ، ثم أنشأناه خلقاً آخر أنبتنا له الشعر وكملت له الصورة ، قاله قتادة .
الثاني : أن الأطوار اختلافهم في الطول والقصر ، والقوة والضعف والهم والتصرف ، والغنى والفقر .
ويحتمل ثالثاً : أن الأطوار اختلافهم في الأخلاق والأفعال .
{ ألمْ تَروْا كيف خَلَق اللَّهُ سَبْعَ سمواتٍ طِباقاً } فيها قولان :
أحدهما : أنهن سبع سموات على سبع أرضين ، بين كل سماء وأرض خلق ، وهذا قول الحسن .
والثاني : أنهن سبع سموات طباقاً بعضهن فوق بعض ، كالقباب ، وهذا قول السدي .
{ وجَعَل القَمَرَ فيهنّ نُوراً } فيه قولان :
أحدهما : معناه وجعل القمر فيهن نوراً لأهل الأرض ، قاله السدي .
الثاني : أنه جعل القمر فيهن نوراً لأهل السماء والأرض ، قاله عطاء .
وقال ابن عباس : وجهه يضيء لأهل الأرض ، وظهره يضيء لأهل السماء .
{ وجَعَل الشّمْسَ سِراجاً } يعني مصباحاً لأهل الأرض ، وفي إضافته لأهل السماء القولان الأولان .
{ واللَّه أَنْبَتكُم مِنَ الأرضِ نَباتاً } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : يعني آدم خلقه من أديم الأرض كلها ، قاله ابن جريج ، وقال خالد بن معدان : خلق الإنسان من طين ، فإنما تلين القلوب في الشتاء .
الثاني : أنبتهم من الأرض بالكبر بعد الصغر ، وبالطول بعد القصر ، قاله ابن بحر .
الثالث : أن جميع الخلق أنشأهم باغتذاء ما تنبته الأرض وبما فيها ، وهو محتمل .
{ ثم يُعيدُكم فيها } يعني أمواتاً في القبور .
{ ويُخْرِجُكم إخراجاً } لنشور بالبعث .
{ واللَّهُ جَعَل لكم الأرضَ بِساطاً } أي مبسوطة ، وفيه دليل على أنها مبسوطة .
{ لِتَسْلُكوا منها سُبُلاً فجاجاً } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : طرقاً مختلفة ، قاله ابن عباس .
الثاني : طرقاً واسعة ، قاله ابن كامل .
الثالث : طرقاًً أعلاماً ، قاله قتادة .


قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (21) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22) وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (24)

{ قال نوحٌ ربِّ إنهم عَصَوْني } قال أهل التفسير : لبث فيهم ما أخبر الله به ألف سنة إلا خمسين عاماً داعياً لهم ، وهم على كفرهم وعصيانهم ، قال ابن عباس :
رجا نوح الأبناء بعد الآباء ، فيأتي بهم الولد بعد الولد حتى بلغوا سبعة قرون ، ثم دعا عليهم بعد الإياس منهم ، وعاش بعد الطوفان ستين سنة ، حتى كثر الناس وفشوا .
قال الحسن : كان قوم نوح يزرعون في الشهر مرتين .
{ واتّبَعوا مَنْ لم يَزِدْه مالُه ووَلدُه إلاّ خَساراً } قرىء ولده بفتح الواو وضمها ، وفيهما قولان :
أحدهما : أن الولد بالضم الجماعة من الأولاد ، والولد بالفتح واحد منهم ، قاله الأعمش ، قال الربيع بن زياد :
وإن تكَ حَرْبُكم أمست عواناً ... فإني لم أكُنْ مّمن جَناها
ولكن وُلْدُ سَوْدةَ أرَّثوها ... وحَشّوا نارها لمن اصطلاها
{ ومَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً } أي عظيماً ، والكبّار أشد مبالغة من كبير .
وفيه وجهان ، أحدهما : ما جعلوه للَّه من الصاحبة والولد ، قاله الكلبي .
الثاني : هو قول كبرائهم لأتباعهم : { وقالوا لا تَذَرُنَّ آلِهتكم ولا تَذَرُنَّ وَدّاً ولا سُواعاً } الآية ، قاله مقاتل .
وفي هذه الأصنام قولان :
أحدهما : أنها كانت للعرب لم يعبدها غيرهم ويكون معنى الكلام : كما قال قوم نوح لأتباعهم لا تذرن آلهتكم ، قالت العرب مثلهم لأولادهم وقومهم لا تذرنّ وداً ولا سُواعاً ولا يغوث ويعوق ونسراً ، ثم عاد الذكر بعد ذلك إلى قوم نوح .
واختلف في هذه الأسماء ، فقال عروة بن الزبير : اشتكى آدم وعنده بنوه ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر ، وكان ود أكبرهم وأبرهم به ، وقال غيره : إن هذه الأسماء كانت لرجال قبل قوم نوح ، فماتوا فحزن عليهم أبناؤهم حزناً شديداً ، فزين لهم الشيطان أن يصورهم لينظروا إليهم ففعلوا ، ثم عبدها أبناؤهم من بعدهم . وقال محمد بن كعب : كانوا قوماً صالحين بين آدم ونوح فحدث بعدهم من أخذ في العبادة مأخذهم ، فزين لهم إبليس أن يتصوروا صورهم ليتذكروا بها اجتهادهم ، ثم عبدها من بعدهم قوم نوح ، ثم انتقلت بعدهم إلى العرب فعبدها ولد إسماعيل .
فأما ود فهو أول صنم معبود ، سمي بذلك لودهم له ، وكان بعد قوم نوح لكلب بدومة الجندل من قول ابن عباس وعطاء ومقاتل ، وفيه يقول شاعرهم :
حيّاك ودٌّ فإنا لا يحل لنا ... لهْوُ النساءِ وإنّ الدينَ قد عزمَا .
وأما سواع فكان لهذيل بساحل البحر ، في قولهم ، وأما يغوث فكان لغطيف من مراد بالجوف من سبأ ، في قول قتادة ، وقال مقاتل : حي من نجران .
قال أبو عثمان النهدي : رأيت يغوث وكان من رصاص وكانوا يحملونه على جمل أجرد ، ويسيرون معه لا يهيجونه ، حتى يكون هو الذي يبرك فإذا برك نزلوا وقالوا : قد رضي لكم المنزل ، فيضربون عليه بناء وينزلون حوله .
وأما يعوق فكان لهمدان ببلخع ، في قول قتادة وعكرمة وعطاء .
وأما نسر فكان لذي الكلاع من حمير في قول عطاء ونحوه عن مقاتل .
{ وقد أَضَلّوُا كثيراً } فيه وجهان :
أحدهما : يريد أن هذه الأصنام قد ضل بها كثير من قومه .
الثاني : أن أكابر قومه قد أضلوا كثيراً من أصاغرهم وأتباعهم .
{ ولا تَزِدِ الظّالمينّ إلاَّ ضَلالاً } فيه وجهان :
أحدهما : إلا عذاباً ، قاله ابن بحر واستشهد بقوله تعالى :
{ إن المجرمين في ضَلالٍ وسُعُرٍ } [ القمر : 47 ] .
الثاني : إلا فتنة بالمال والولد ، وهو محتمل .


مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (25) وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28)

{ وقال نوحٌ ربِّ لا تَذَرْ على الأرضِ مِنَ الكافرين دَيّارا } اختلفوا في سبب دعاء نوح على قومه بهذا على قولين :
أحدهما : أنه لما نزلت عليه قوله تعالى : { لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن } [ هود : 36 ] دعا عليهم بهذا الدعاء ، قاله قتادة .
الثاني : أن رجلاً من قومه حمل ولده صغيراً على كتفه ، فمر بنوح ، فقال لابنه :
إحذر هذا فإنه يضلك فقال : يا أبت أنزلني فأنزله فرماه فشجّهُ ، فحينئذٍ غضب نوح ودعا عليهم .
وفي قوله { ديّاراً } وجهان :
أحدهما : أحداً ، قاله الضحاك .
الثاني : من يسكن الديار ، قاله السدي .
{ ربِّ اغْفِرْ لي ولوالدّيّ } فيه قولان :
أحدهما : أنه أراد أباه ، واسمه لمك ، وأمه واسمها منجل ، وكانا مؤمنين ، قاله الحسن .
الثاني : أنه أراد أباه وجده ، قاله سعيد بن جبير .
{ ولمن دَخَل بَيْتِيِ مُؤْمِناً } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : يعني صديقي الداخل إلى منزلي ، قاله ابن عباس .
الثاني : من دخل مسجدي ، قاله الضحاك .
الثالث : من دخل في ديني ، قاله جويبر .
{ وللمؤمنين والمؤمنات } فيه قولان :
أحدهما : أنه أراد من قومه .
الثاني : من جميع الخلق إلى قيام الساعة ، قاله الضحاك .
{ ولا تَزِدِ الظالمينَ } يعني الكافرين .
{ إلا تباراً } فيه وجهان :
أحدهما : هلاكاً .
الثاني : خساراً ، حكاهما السدي .


قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2) وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3) وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5) وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (7)

قوله تعالى { قل أُوحِيَ إليَّ أنّه إسْتَمَعَ نَفَرٌ مِن الجنَّ } اختلف أهل التفسير في سبب حضور النفر من الجن إلى رسوله اللَّه صلى الله عليه وسلم لسماع القرآن على قولين :
أحدهما : أن الله تعالى صرفهم إليه بقوله : { وإذا صَرَفْنا إليك نفراً من الجن } [ الأحقاف : 29 ] ، قاله ابن مسعود والضحاك وطائفة .
الثاني : أنه كان للجن مقاعد في السماء الدنيا يستمعون منها ما يحدث فيها من أمور الدنيا ، فلما بعث اللًّه رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم حرست السماء الدنيا من الجن ورجموا بالشهب ، قال السدي : ولم تكن السماء تحرس إلا أن يكون في الأرض نبي أو أثر له ظاهر ، قال : فلما رأى أهل الطائف اختلاف الشهب في السماء قالوا : هلك أهل السماء فجعلوا يعتقون أرقاءهم ويسيبون مواشيهم ، فقال لهم عبد يا ليل بن عمرو : ويحكم أمسكوا عن أموالكم وانظروا إلى معالم النجوم ، فإن رأيتموها مستقرة في أمكنتها لم يهلك أهل السماء ، وإنما هذا من أجل ابن أبي كبشة يعني محمداً فلما رأوها مستقرة كفّواً .
وفزعت الجن والشياطين ، ففي رواية السدي أنهم أتوا إبليس فأخبروه بما كان من أمرهم ، فقال : ائتوني من كل أرض بقبضة من تراب أشمها فأتوها فشمها فقال : صاحبكم بمكة فبعث نفراً من الجن . .
وفي رواية ابن عباس : أنهم رجعوا إلى قومهم فقالوا : ما حال بيننا وبين السماء إلا أمر حدث في الأرض ، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها ، ففعلوا حتى أتوا تهامة ، فوجدوا محمداً صلى الله عليه وسلم يقرأ . ثم اختلفوا لاختلافهم في السبب ، هل شاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم الجن أم لا؟
فمن قال إنهم صرفوا إليه قال إنه رآهم وقرأ عليهم ودعاهم ، روى ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال « قد أمرت أن أتلو القرآن على الجن فمن يذهب معي؟ فسكتوا ، ثم الثانية فسكتوا ، ثم الثالثة ، فقال ابن مسعود أنا أذهب معك ، فانطلق حتى جاء الحجون عند شعب أبي دُب ، فخط عليَّ خطاً ثم قال : لا تجاوزه ، ثم مضى إلى الحجون فانحدروا عليه أمثال الحجل حتى غشوة فلم أره » قال عكرمة : وكانوا اثني عشر ألفاً من جزيرة الموصل .
ومن قال إنهم صرفوا في مشارق الأرض ومغاربها لاستعلام ما حدث فيها ، قال إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرها .
روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم علىلجن ولا رآهم ، وإنما انطلق في نفر من أصحابه إلى سوق عكاظ ، فأتوه وهو بنخلة عامداً ، إلى سوق عكاظ وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر فلما سمعوا القرآن قالوا : هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء .

قال عكرمة : السورة التي كان يقرؤها { اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ } واختلف قائلوا هذا القول في عددهم ، فروى عاصم عن زر بن حبيش أنهم كانوا تسعة ، أحدهم زوبعة ، أتوه في بطن نخلة .
وروى ابن جريج عن مجاهد : أنهم كانوا سبعة ، ثلاثة من أهل حران ، وأربعة من أهل نصيبين ، وكانت أسماؤهم : حسى ومسى وماصر وشاصر والأرد وأتيان والأحقم .
وحكى جويبر عن الضحاك أنهم كانوا تسعة من أهل نصيبين قرية باليمن غير التي بالعراق ، وهم سليط وشاصر وماصر وحسا ومنشا ولحقم والأرقم والأرد وأتيان ، وهم الذين قالوا إنا سمعنا قرآناً عجباً ، وكانوا قد أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ببطن نخلة في صلاة الصبح فصلّوا معه : { فلما قضى ولّوْا إلى قومهم منذرين قالوا يا قومنا أجيبوا داعي اللَّه وآمِنوا به } .
وقيل إن الجن تعرف الإنس كلها فلذلك توسوس إلى كلامهم .
واختلف في أصل الجن ، فروى إسماعيل عن الحسن البصري أن الجن ولد إبليس ، والإنس ولد آدم ، ومن هؤلاء وهؤلاء مؤمنون وكافرون وهم شركاء في الثواب والعقاب فمن كان من هؤلاء وهؤلاء مؤمناً فهو ولي اللَّه ، ومن كان من هؤلاء وهؤلاء كافراً فهو شيطان .
وروى الضحاك عن ابن عباس : أن الجن هم ولد الجان وليسوا شياطين وهم يموتون ، ومنهم المؤمن والكافر ، والشياطين هم ولد إبليس لا يموتون إلا مع إبليس .
أصلهم ، فمن زعم أنهم من الجان لا من ذرية إبليس قال يدخلون الجنة بإيمانهم ، ومن قال هم من ذرية إبليس فلهم فيها قولان :
أحدهما : يدخلونها وهو قول الحسن .
الثاني : وهو رواية مجاهد ، لا يدخلونها وإن صرفوا عن النار .
وفي قوله تعالى : { إنا سَمِعْنا قُرآنا عَجَباً } ثلاثة أوجه :
أحدها : عجباً في فصاحة كلامه .
الثاني : عجباً في بلاغة مواعظة .
الثالث : عجباً في عظم بركته .
{ يَهْدِي إلى الرُّشْدِ } فيه وجهان :
أحدهما : مراشد الأمور .
الثاني : إلى معرفة اللَّه .
{ وأنّه تَعالى جَدُّ ربّنا } فيه عشرة تأويلات :
أحدها : أمر ربنا ، قاله السدي .
الثاني : فعل ربنا ، قاله ابن عباس .
الثالث : ذكر ربنا ، وهو قول مجاهد .
الرابع : غنى ربنا ، قاله عكرمة .
الخامس : بلاء ربنا ، قاله الحسن .
السادس : مُلك ربنا وسلطانه ، قاله أبو عبيدة .
السابع : جلال ربنا وعظمته ، قاله قتادة .
الثامن : نعم ربنا على خلقه ، رواه الضحاك .
التاسع : تعالى جد ربنا أي تعالى ربُّنا ، قاله سعيد بن جبير .
العاشر : أنهم عنوا بذلك الجد الذي هو أبو الأب ، ويكون هذا من قول الجن عن [ جهالة ] .
{ وأنه كان يقولُ سَفيهُنا على اللَّهِ شَطَطاً } فيه قولان :
أحدهما : جاهلنا وهم العصاة منا ، قال قتادة : عصاه سفيه الجن كما عصاه سفيه الإنس .

الثاني : أنه إبليس ، قاله مجاهد وقتادة ورواه أبو بردة بن أبي موسى الأشعري عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم .
ومن قوله : « شططاً » وجهان :
أحدهما : جوراً ، وهو قول أبي مالك .
الثاني : كذباً ، قاله الكلبي ، وأصل الشطط البعد ، فعبر به عن الجور لبعده من العدل ، وعن الكذب لبعده عن الصدق .
{ وأنّه كانَ رجالٌ من الإنسِ يَعُوذون برجالٍ من الجنِّ } قال ابن زيد : إنه كان الرجل في الجاهلية قبل الإسلام إذا نزل بواد قال : إني أعوذ بكبير هذا الوادي - يعني من الجن - من سفهاء قومه ، فلما جاء الإسلام عاذوا بالله وتركوهم ، وهو معنى قوله : « وأنه كان رجال » .
وفي قوله : { فَزَادُوهم رَهقاً } ثمانية تأويلات :
أحدها : طغياناً ، قاله مجاهد .
الثاني : إثماً ، قاله ابن عباس وقتادة ، قال الأعشى :
لا شىءَ ينفعني مِن دُون رؤيتها ... هل يَشْتفي عاشقٌ ما لم يُصبْ رهَقاً .
يعني إثماً .
الثالث : خوفاً ، قاله أبو العالية والربيع وابن زيد .
الرابع : كفراً ، قاله سعيد بن جبير .
الخامس : أذى ، قاله السدي .
السادس : غيّاً ، قاله مقاتل .
السابع : عظمة ، قاله الكلبي .
الثامن : سفهاً ، حكاه ابن عيسى .


وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9) وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10)

{ وأنا لَمسْنا السّماءَ } فيه وجهان :
أحدهما : طلبنا السماءَ ، والعرب تعبر عن الطلب باللمس تقول جئت ألمس الرزق وألتمس الرزق .
الثاني : قاربنا السماء ، فإن الملموس مقارَب .
{ فوَجدْناها } أي طرقها .
{ مُلئتْ حَرَساً شديداً } هم الملائكة الغلاظ الشداد .
{ وشُهُباً } جمع شهاب وهو انقضاض الكواكب المحرقة لهم عند استراق السمع ، واختلف في انقضاضها في الجاهلية قبل مبعث الرسول الله صلى الله عليه وسلم على قولين :
أحدهما : أنها كانت تنقض في الجاهلية ، وإنما زادت بمبعث الرسول إنذاراً بحاله ، قال أوس بن حجر ، وهو جاهلي :
فانقضّ كالدُّرِّيِّ يَتْبَعهُ ... نقعٌ يثورُ تخالُهُ طُنُباً
وهذا قول الأكثرين .
الثاني : أن الانقضاض لم يكن قبل المبعث وإنما أحدثه الله بعده ، قال الجاحظ : وكل شعر روي فيه فهو مصنوع .
{ وأنّا كُنّا نَقْعُدُ منها مَقَاعِدَ للسّمْعِ } يعني أن مردة الجن كانوا يقعدون من السماء الدنيا مقاعد للسمع يستمعون من الملائكة أخبار السماء حتى يُلقوها إلى الكهنة فتجري على ألسنتهم ، فحرسها اللَّه حين بعث رسوله بالشهب المحرقة ، فقالت الجن حينئذٍ :
{ فمن يستمع الآن يجد له شهاباً رَصَداً } يعني بالشهاب الكوكب المحرق ، والرصد من الملائكة .
أما الوحي فلم تكن الجن تقدر على سماعه ، لأنهم كانوا مصروفين عنه من قبل .
{ وأنّا لا نَدْرِي أشَرٌ أُريدَ بمن في الأرضِ أمْ أرادَ بهم ربُّهم رَشَداً } فيه وجهان :
أحدهما : أنهم لا يدرون هل بعث الله محمداً ليؤمنوا به ويكون ذلك منهم رشداً ولهم ثواباً ، أم يكفروا به فيكون ذلك منهم شراً وعليهم عقاباً ، وهذا معنى قول السدي وابن جريج .
الثاني : أنهم لا يدرون حراسة السماء بالشهب هل شر وعذاب أم رشد وثواب ، قاله ابن زيد .


وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا (12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (13) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15) وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17)

{ وأنّا مِنّا الصّالحونَ } يعني المؤمنين .
{ ومنّا دون ذلك } يعني المشركين .
ويحتمل أن يريد بالصالحين أهل الخير ، وب « دون ذلك » أهل الشر ومن بين الطرفين على تدريج ، وهو أشبه في حمله على الإيمان والشرك لأنه إخبار منهم عن تقدم حالهم قبل إيمانهم .
{ كُنّا طَرائقِ قِدَداً } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : يعني فِرقاً شتى ، قاله السدي .
الثاني : أدياناً مختلفة ، قاله الضحاك .
الثالث : أهواء متباينة ، ومنه قول الراعي :
القابض الباسط الهادي بطاعته ... في فتنة الناس إذ أهواؤهم قِدَدُ
{ وأنّا لّما سَمِعْنا الهُدَى آمَنّا به } يعني القرآن سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم فآمنوا به وصدقوه على رسالته ، وقد كان رسول الله مبعوثاً إلى الجن والإنس .
قال الحسن : بعث اللَّه محمداً إلى الإنس والجن ولم يبعث الله تعالى رسولاً من الجن ولا من أهل البادية ولا من النساء ، وذلك قوله تعالى : { وما أرسَلْنا مِن قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم من أهل القرى } .
{ فمن يؤمن بربّه فلا يخافُ بخساً ولا رَهقاً } قال ابن عباس :
لا يخاف نقصاً في حسناته ، ولا زيادة في سيئاته ، لأن البخس النقصان ، والرهق : العدوان ، وهذا قول حكاه الله عن الجن لقوة إيمانهم وصحة إسلامهم ، وقد روى عمار بن عبد الرحمن عن محمد بن كعب قال : بينما عمر بن الخطاب جالساً ذات يوم إذ مرّ به رجل ، فقيل له : أتعرف المارّ يا أمير المؤمنين؟ قال : ومن هو؟ قالوا : سواد بن قارب رجل من أهل اليمن له شرف ، وكان له رئيّ من الجن ، فأرسل إليه عمر فقال له : أنت سواد بن قارب؟ قال : نعم يا أمير المؤمنين ، قال : وأنت الذي أتاك رئيّ من الجن يظهر لك؟ قال : نعم بينما أنا ذات ليلة بين النائم واليقظان إذ أتاني رئي من الجن فضربني برجله وقال : قم يا سواد بن قارب فاسمع مقالي واعقل إن كنت تعقل ، إنه قد بعث رسول من لؤي بن غالب يدعو إلى الله وإلى عبادته ، ثم أنشأ يقول :
عجبْتُ للجنّ وتطلابها ... وشدِّها العِيسَ بأذْنابها .
تهوي إلى مكة تبغي الهُدَى ... ما صادقُ الجن ككذّابها .
فارْحَلْ إلى الصفوةِ من هاشمٍ ... فليس قد أتاها كاذباً بها .
فقلت دعني أنام فإني أمسيت ناعساً ، ولم أرفع بما قاله رأساً ، فلما كان الليلة الثانية أتاني فضربني برجله ، وقال : قم يا سواد بن قارب فاسمع مقالتي واعقل إن كنت تعقل إنه قد بعث رسول من لؤي بن غالب يدعو إلى اللَّه وإلى عبادته ، ثم أنشأ يقول :
عجبْتُ للجنّ وتخيارها ... وشدِّها العيس بأكوارها .
تهوي إلى مكة تبغي الهدي ... ما مؤمن الجن ككفّارِها
فارحلْ إلى الصفوةِ من هاشمٍ ... ما بين رابيها وأحجارها .

فقلت له دعني فإني أمسيت ناعساً ، ولم أرفع بما قال رأساً ، فلما كان الليلة الثالثة أتاني وضربني برجله ، وقال قم يا سواد بن قارب فاسمع مقالتي واعقل إن كنت تعقل ، إنه قد بعث رسول من لؤي بن غالب يدعو إلى الله وإلى عبادته ، ثم أنشأ يقول :
عجبت للجن وتحساسها ... وشدِّها العيسَ بأحْلاسها .
تهوي إلى مكة تبغي الهُدي ... ما خَيِّرُ الجنّ كأنجاسها .
فارحلْ إلى الصفوة من هاشم ... واسم بيديْك إلى رأسها .
قال : فأصبحت قد امتحن الله قلبي بالإسلام ، فرحلتُ ناقتي فأتيت المدينة ، فإذا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فقلت اسمع مقالتي يا رسول اللَّه ، قال : هات ، فأنشأت أقول :
أتاني نجيّ بين هدءٍ ورقْدةٍ ... ولم يك فيما قد تلوْتُ بكاذبِ
ثلاث ليال قوله كل ليلةٍ ... أتاك رسولٌ من لؤيّ بن غالب
فشمّرتُ من ذيلي الإزار ووسطت ... بي الذملُ الوجناء بين السباسِب
فأشهَدُ أن اللَّه لا شيءَ غيرهُ ... وأنك مأمولٌ على كل غالبِ .
وأنك أدني المرسلين وسيلةً ... إلى اللَّه يا بن الأكرمين الأطايب .
فمُرنْا بما يأتيك يا خيرَ من مشى ... وإن كانَ فيما جاءَ شيبُ الذوائب .
وكن لي شفيعاً يومَ لا ذو شفاعةٍ ... سِواك بمغنٍ عن سوادِ بن قارب .
ففرح رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأصحابه فرحاً شديداً ، حتى رئي الفرح في وجوههم ، قال : فوثب عمر فالتزمه وقال : قد كنت أشتهي أن أسمع منك هذا الحديث ، فهل يأتيك رئيك من الجن اليوم؟ قال : [ أما ] وقد قرأت القرآن فلا ، ونعم العوض كتاب اللَّه عن الجن .
{ وأنّا مِنّا المسْلِمونَ ومِنّا القاسِطونَ } وهذا إخبار عن قول الجن بحال من فيهم من مؤمن وكافر ، والقاسط : الجائر ، لأنه عادل عن الحق ، ونظيره الترِب والمُتْرِب ، فالترِب الفقير ، لأن ذهاب ماله أقعده على التراب ، والمترب الغني لأن كثرة ماله قد صار كالتراب .
وفي المراد بالقاسطين ثلاثة أوجه :
أحدها : الخاسرون ، قاله قتادة .
الثاني : الفاجرون ، قاله ابن زيد .
الثالث : الناكثون ، قاله الضحاك .
{ وأن لو استقاموا على الطريقة } ذكر ابن بحر أن كل ما في هذه السورة من « إن » المكسورة المثقلة فهو حكاية لقول الجن الذين استمعوا القرآن فرجعوا إلى قومهم منذرين ، وكل ما فيها من « أن » المفتوحة المخففة أو المثقلة فهو من وحي الرسول .
وفي هذه الاستقامة قولان :
أحدهما : أنها الإقامة على طريق الكفر والضلالة ، قاله محمد بن كعب وأبو مجلز وغيرهما .
الثاني : الاستقامة على الهدى والطاعة ، قاله ابن عباس والسدي وقتادة ومجاهد فمن ذهب إلى أن المراد الإقامة على الكفر والضلال فلهم في قوله { لأَسْقَيْناهم ماءً غَدَقاً } وجهان :
أحدهما : بلوناهم بكثرة الماء الغدق حتى يهلكوا كما هلك قوم نوح بالغرق ، وهذا قول محمد بن كعب .

الثاني : لأسقيناهم ماء غدق ينبت به زرعهم ويكثر مالهم .
{ لِنَفْتِنَهم فيه } فيكون زيادة في البلوى ، حكى السدي عن عمر في قوله « لأسقيناهم ماء غدقاً » أنه قال : حيثما كان الماء كان المال ، وحيثما كان المال كانت الفتنة ، فاحتملت الفتنة ها هنا وجهين :
أحدهما : افتننان أنفسهم .
الثاني : وقوع الفتنة والشر من أجله .
وأما من ذهب إلى أن المراد الاستقامة على الهدى والطاعة فلهم في تأويل قوله « لأسقيناهم ماءً غدقاً » أربعة أوجه :
أحدها : معناه لهديناهم الصراط المستقيم ، قاله ابن عباس .
الثاني : لأوسعنا عليهم في الدنيا ، قاله قتادة .
الثالث : لأعطيناهم عيشاً رغداً ، قاله أبو العالية .
الرابع : أنه المال الواسع ، لما فيه من النعم عليهم بحياة النفوس وخصب الزروع ، قاله أبو مالك والضحاك وابن زيد .
وفي الغدق وجهان :
أحدهما : أنه العذب المعين ، قاله ابن عباس ، قاله أمية بن أبي الصلت :
مِزاجُها سلسبيلٌ ماؤها غَدَقٌ ... عَذْبُ المذاقةِ لا مِلْحٌ ولا كدرٌ
الثاني : أنه الواسع الكثير ، قاله مجاهد ، ومنه قول كثير :
وهبتُ لسُعْدَى ماءه ونباته ... فما كل ذي وُدٍّ لمن وَدَّ واهبُ .
لتروى به سُعدى ويروى محلّها ... وتغْدقَ أعداد به ومشارب
فعلى هذا فيه وجهان :
أحدهما : أنه إخبار عن حالهم في الدنيا .
الثاني : أنه إخبار عن حالهم في الآخرة لنفتنهم فيه .
فإن قيل إن هذا وارد في أهل الكفر والضلال كان في تأويله ثلاثة أوجه :
أحدها : افتتان أنفسهم بزينة الدنيا .
الثاني : وقوع الفتنة والاختلاف بينهم بكثرة المال .
الثالث : وقوع العذاب بهم كما قال تعالى : { يوم هم على النار يُفْتًنون } [ الذاريات : 13 ] أي يعذبون .
وإن قيل إنه وارد في أهل الهدى والطاعة فهو على ما قدمنا من الوجهين .
وهل هو اختبارهم في الدنيا ففي تأويله ثلاثة أوجه :
أحدها : لنختبرهم به ، قاله ابن زيد .
الثاني : لنطهرهم من دنس الكفر .
الثالث : لنخرجهم به من الشدة والجدب إلى السعة والخصب .
فإن قيل إنه إخبار عمّا لهم في الآخرة ففي تأويله وجهان :
أحدهما : لنخلصهم وننجيهم ، مأخوذ من فَتَن الذهب إذا خلّصه مِن غشه بالنار كما قال تعالى لموسى عليه السلام : { وفَتَنّاك فُتوناً } [ طه : 40 ] أي خلصناك من فرعون . الثاني : معناه لنصرفنهم عن النار ، كما قال تعالى { وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أَوْحَينْا إليك لتفْتري علينا غيره } [ الإسراء : 73 ] أي ليصرفونك { ومَنْ يُعْرِضْ عن ذِكْرِ ربِّه } قال ابن زيد : يعني القرآن وفي إعراضه عنه وجهان :
أحدهما : عن القبول ، إن قيل إنها من أهل الكفر .
الثاني : عن العمل ، إن قيل إنها من المؤمنين .
{ يَسْلُكْهُ عذاباً صَعَداً } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه جب في النار ، قاله أبو سعيد .
الثاني : جبل في النار إذا وضع يده عليه ذابت ، وإذا رفعها عادت ، وهو مأثور ، وهذان الوجهان من عذاب أهل الضلال .
والوجه الثالث : أنه مشقة من العذاب يتصعد ، قاله مجاهد .


وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19) قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (20) قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22) إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23) حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا (24)

{ وأنَّ المساجدَ للَّهِ } فيه أربعة أقاويل :
أحدها : يعني الصلوات للَّه ، قاله ابن شجرة .
الثاني : أنها الأعضاء التي يسجد عليها للَّه ، قاله الربيع .
الثالث : أنها المساجد التي هي بيوت اللَّه للصلوات ، قاله ابن عباس .
الرابع : أنه كل موضع صلى فيه الإنسان ، فإنه لأجل السجود فيه يسمى مسجداً .
{ فلا تَدْعُوا مع اللَّهِ أحَداً } أي فلا تعبدوا معه غيره ، وفي سببه ثلاثة أقاويل :
أحدها : ما حكاه الأعمش أن الجن قالت : يا رسول الله ائذن لنا نشهد معك الصلاة في مسجدك ، فنزلت هذه الآية .
الثاني : ما حكاه أبو جعفر محمد بن علّي أن الحمس من مشركي أهل مكة وهم كنانة وعامر وقريش كانوا يُلبّون حول البيت : لبيّك اللهم لبيّك ، لبيّك لا شريك لك ، إلا شريكاً هو لك ، تملكه وما ملك ، فأنزل اللَّه هذه الآية نهياً أن يجعل للَّه شريكاً ، وروى الضحاك عن ابن عباس : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل المسجد قدّم رجله اليمنى وقال : « وأن المساجد للَّه فلا تدعوا مع اللَّه أحداً » اللهم أنا عبدك وزائرك ، وعلى كل مزور حق وأنت خير مزور فأسألك برحمتك أن تفك رقبتي من النار « وإذا خرج من المسجد قدم رجله اليسرى وقال : » اللهم صُبَّ الخير صبّاً ولا تنزع عني صالح ما أعطيتني أبداً ولا تجعل معيشتي كدّاً واجعل لي في الخير جداً « .
{ وأنه لما قام عبدُ اللَّهِ يدعوه } يعني محمداً ، وفيه وجهان :
أحدهما : أنه قام إلى الصلاة يدعو ربه فيها ، وقام أصحابه خلفه مؤتمين ، فعجبت الجن من طواعية أصحابه له ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنه قام إلى اليهود داعياً لهم إلى اللَّه ، رواه ابن جريج .
{ كادوا يكونون عليه لِبَداً } فيه وجهان :
أحدهما : يعني أعواناً ، قاله ابن عباس .
الثاني : جماعات بعضها فوق بعض ، وهو معنى قول مجاهد ، ومنه اللبد لاجتماع الصوف بعضه على بعض ، وقال ذو الرمة :
ومنهلٍ آجنٍ قفرٍ مواردهُ ... خُضْرٍ كواكبُه مِن عَرْمَصٍ لَبِدِ .
وفي كونهم عليه لبداً ثلاثة أوجه :
أحدها : أنهم المسلمون في اجتماعهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله ابن جبير . الثاني : أنهم الجن حين استمعوا من رسول اللَّه قراءته ، قاله الزبير بن العوام . الثالث : أنهم الجن والإنس في تعاونهم على رسول اللَّه في الشرك ، قاله قتادة .
{ قلْ إني لا أَمْلِكُ لكم ضَرّاً ولا رَشَداً } يعني ضراً لمن آمن ولا رشداً لمن كفر ، وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها : عذاباً ولا نعيماً .
الثاني : موتاً ولا حياة .
الثالث : ضلالاً ولا هدى .
{ قل إني لن يُجيرَني مِنَ اللَّهِ أَحدٌ } روى أبو الجوزاء عن ابن مسعود قال : انطلقتُ مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ليلة الجن حتى أتى الحجون فخط خطاً ثم تقدم عليهم فازدحموا عليه ، فقال سيد لهم يقال له وردان : أنا أزجلهم عنك ، فقال :

« إني لن يجيرني من اللَّه أحد »
ويحتمل وجهين :
أحدهما : لن يجيرني مع إجارة اللَّه لي أحد .
الثاني : لن يجيرني مما قدره الله علي أحد .
{ ولن أجدَ مِن دُونهِ مَلْتَحداً } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : يعني ملجأ ولا حرزاً ، قاله قتادة .
الثاني : ولياً ولا مولى ، رواه أبو سعيد .
الثالث : مذهباً ولا مسلكاً ، حكاه ابن شَجرة ، ومنه قول الشاعر :
يا لهفَ نفْسي ولهفي غيرُ مُجْديةٍ ... عني وما مِن قضاءِ اللَّهِ مُلْتَحَدُ .
{ إلا بلاغاً مِن اللَّه ورسالاتِه } فيه وجهان :
أحدهما : لا أملك ضراً ولا رشداً إلا أن أبلغكم رسالات اللَّه ، قاله الكلبي .
الثاني : لن يجيرني من الله أحد إن لم أبلغ رسالات اللَّه ، قاله مقاتل .
روى مكحول عن ابن مسعود : أن الجن بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الليلة ، وكانوا سبعين ألفاً ، وفرغوا من بيعته عند انشقاق الفجر .


قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا (25) عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28)

{ عالِمُ الغيْب } فيه أربعة أوجه :
أحدها : عالم السر ، قاله ابن عباس .
الثاني : ما لم تروه مما غاب عنكم ، قاله الحسن .
الثالث : أن الغيب القرآن ، قاله ابن زيد .
الرابع : أن الغيب القيامة وما يكون فيها ، حكاه ابن أبي حاتم .
{ فلا يُظْهِرُ على غيْبه أَحَداً ، إلا من ارتضى من رسول } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : إلا من ارتضى من رسول الله هو جبريل ، قاله ابن جبير .
الثاني : إلا من ارتضى من نبي فيما يطلعه عليه من غيب ، قاله قتادة .
{ فإنه يَسْلُكُ مِن بَيْن يَدَيْه ومِنْ خَلْفه رَصَداً } فيه قولان :
أحدهما : الطريق ، ويكون معناه فإنه يجعل له إلى علم بعض ما كان قبله وما يكون بعده طريقاً ، قاله ابن بحر .
الثاني : أن الرصد الملائكة ، وفيهم ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنهم حفظة يحفظون النبي صلى الله عليه وسلم من الجن والشياطين من أمامه وورائه ، قاله ابن عباس وابن زيد ، قال قتادة : هم أربعة .
الثاني : أنهم يحفظون الوحي فما جاء من الله قالوا إنه من عند الله ، وما ألقاه الشيطان قالوا إنه من الشيطان ، قاله السدي .
الثالث : يحفظون جبريل إذا نزل بالوحي من السماء أن يسمعه الجن إذا استرقوا السمع ليلقوه إلى كهنتهم قبل أن يبلغه الرسول إلى أمته ، قاله الفراء .
{ ليعْلَمَ أنْ قد أبْلَغوا رسالاتِ ربِّهم } فيه خمسة أوجه :
أحدها : ليعلم محمد أن قد بلغ جبريل إليه رسالات ربه ، قاله ابن جبير ، وقال : ما نزل جبريل بشيء من الوحي إلا ومعه أربعة من الملائكة .
الثاني : ليعلم محمد أن الرسل قبله قد بلغت رسالات الله وحفظت ، قاله قتادة .
الثالث : ليعلم من كذب الرسل أن الرسل قد بلغت عن ربها ما أمرت به ، قاله مجاهد .
الرابع : ليعلم الجن أن الرسل قد بلغوا ما أنزل الله عليهم ، ولم يكونوا هم المبلغين باستراق السمع عليهم ، قاله ابن قتيبة .
الخامس : ليعلم الله أن رسله قد بلغوا عنه رسالاته ، لأنبيائه ، قاله الزجاج .
{ وأحاط بما لديهم } قال ابن جريج : أحاط علماً .
{ وأحْصى كُلَّ شيءٍ عَدَداً } يعني من خلقه الذي يعزب إحصاؤه عن غيره .


يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9)

قوله تعالى : { يا أيها المزمِّلُ } قال الأخفش : أصله المتزمل فأدغم التاء في الزاي ، وكذا المدثر .
وفي أصل المزمل : قولان :
أحدهما : المحتمل ، يقال زمل الشيء إذا حمله ، ومنه الزاملة التي تحمل القماش .
الثاني : المزمل هو المتلفف ، قال امرؤ القيس :
كأن ثبيراً في عرائين وبْله ... كبيرُ أناسٍ في بجادٍ مُزَمّلِ .
وفيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : يا أيها المزمل بالنبوة ، قاله عكرمة .
الثاني : بالقرآن ، قاله ابن عباس .
الثالث : بثيابه ، قاله قتادة .
قال إبراهيم : نزلت عليه وهو في قطيفة .
{ قُمِ الليلَ إلا قليلاً } يعني صلِّ الليل إلا قليلاً ، وفيه وجهان :
أحدهما : إلا قليلاً من أعداد الليالي لا تقمها .
الثاني : إلا قليلاً من زمان كل ليلة لا تقمه وقد كان فرضاً عليه .
وفي فرضه على مَنْ سواه من أُمّته قولان :
أحدهما : فرض عليه دونهم لتوجه الخطاب إليه ، ويشبه أن يكون قول سعيد ابن جبير .
الثاني : أنه فرض عيله وعليهم فقاموا حتى ورمت أقدامهم ، قاله ابن عباس وعائشة .
وقال ابن عباس : كانوا يقومون نحو قيامه في شهر رمضان ثم نسخ فرض قيامه على الأمة ، واختلف بماذا نسخ عنهم على قولين :
أحدهما : بالصلوات الخمس وهو قول عائشة .
الثاني : بآخر السورة ، قاله ابن عباس .
واختلفوا من مدة فرضه إلى أن نسخ على قولين :
أحدهما : سنة ، قال ابن عباس : كان بين أول المزمل وآخرها سنة .
الثاني : ستة عشر شهراً ، قالته عائشة ، فهذا حكم قيامه في فرضه ونسخه على الأمة .
فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان فرضاً عليه ، وفي نسخه عنه قولان :
أحدهما : المدة المفروضة على أمته في القولين الماضيين .
الثاني : أنها عشر سنين إلى أن خفف عنها بالنسخ زيادة في التكليف لتميزه بفضل الرسالة ، قاله سعيد بن جبير .
قوله « قم الليلَ إلاّ قليلاً » لأن قيام جميعه على الدوام غير ممكن فاستثنى منه القليل لراحة الجسد ، والقليل من الشيء ما دون النصف .
حكي عن وهب بن منبه أنه قال : القليل ما دون المعشار والسدس .
وقال الكلبي ومقاتل : القليل الثلث .
وَحدُّ الليل ما بين غروب الشمس وطلوع الفجر الثاني .
ثم قال تعالى : { نِصْفَهُ أو انقُصْ مِنْهُ قليلاً } فكان ذلك تخفيفاً إذا لم يكن زمان القيام محدوداً ، فقام الناس حتى ورمت أقدامهم ، فروت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قام في الليل فقال : أيها الناس اكلفوا من الأعمال ما تطيقون ، فإن اللَّه لا يمل من الثواب حتى تملوا من العمل ، وخير الأعمال ما ديم عليه .
ثم نسخ ذلك بقوله تعالى : « عَلِم أنْ لن تُحْصوه فتابَ عليكم فاقْرَؤوا ما تيسّر من القرآن » .
{ أوزِدْ عليه ورَتِّل القرآنَ تَرْتيلاً } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : بيّن القرآن تبياناً ، قاله ابن عباس وزيد بن أسلم .

الثاني : فسّرْه تفسيراً ، قاله ابن جبير .
الثالث : أن تقرأه على نظمه وتواليه ، لا تغير لفظاً ولا تقدم مؤخراً مأخوذ من ترتيل الأسنان إذا استوى نبتها وحسن انتظامها ، قاله ابن بحر .
{ إنّا سنُلْقي عليكَ قوْلاً ثَقيلاً } وهو القرآن ، وفي كونه ثقيلاً أربعة تأويلات :
أحدها : أنه إذا أوحي إليه كان ثقيلاً عليه لا يقدر على الحركة حتى ينجلي عنه ، وهذا قول عائشة وعروة بن الزبير .
الثاني : العمل به ثقيل في فروضه وأحكامه وحلاله وحرامه ، قاله الحسن وقتادة .
الثالث : أنه في المزان يوم القيامة ثقيل ، قاله ابن زبير .
الرابع : ثقل بمعنى كريم ، مأخوذ من قولهم : فلان ثقيل عليّ أي كريم عليّ ، قاله السدي .
ويحتمل تأويلً خامساً : أن يكون ثقيل بمعنى ثابت ، لثبوت الثقيل في محله ، ويكون معناه أنه ثابت الإعجاز لا يزول إعجازه أبداً .
{ إنّ ناشئةَ الليل هي أَشدُّ وطْئاً } فيها ستة تأويلات :
أحدها : أنه قيام الليل ، بالحبشية ، قاله ابن مسعود .
الثاني : أنه ما بين المغرب والعشاء ، قاله أنس بن مالك .
الثالث : ما بعد العشاء الآخرة ، قاله الحسن ومجاهد .
الرابع : أنها ساعات الليل لأنها تنشأ ساعة بعد ساعة ، قاله ابن قتيبة .
الخامس : أنه بدء الليل ، قاله عطاء وعكرمة .
السادس : أن الليل كل ناشئة ، قال ابن عباس : لأنه ينشأ بعد النهار .
وفي « أشد وطْئاً » خمسة تأويلات :
أحدها : مواطأة قلبك وسمعك وبصرك ، قاله مجاهد .
الثاني : مواطأة قولك لعملك ، وهو مأثور .
الثالث : مواطأة عملك لفراغك ، وهو محتمل .
الرابع : أشد نشاطاً ، قاله الكلبي ، لأنه زمان راحتك .
الخامس : قاله عبادة : أشد وأثبت وأحفظ للقراءة .
وفي قوله : { وأَقْوَمُ قِيلاً } ثلاثة تأويلات :
أحدها : معناه أبلغ في الخير وأمعن في العدل ، قاله الحسن .
الثاني : أصوب للقراءة وأثبت للقول لأنه زمان التفهم ، قاله مجاهد وقتادة ، وقرأ أنس بن مالك « وأهيأ قيلاً » وقال أهيأ وأقوم سواء .
الثالث : أنه أعجل إجابة للدعاء ، حكاه ابن شجرة .
{ إن لك في النهارِ سَبْحاً طويلاً } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : يعني فراغاً طوياً لنَومك وراحتك ، فاجعل ناشئة الليل لعبادتك ، قاله ابن عباس وعطاء .
الثاني : دعاء كثيراً ، قاله السدي وابن زيد والسبح بكلامهم هو الذهاب ، ومنه سبح السابح في الماء .
{ واذكر اسم ربك } فيه وجهان :
أحدهما : اقصد بعملك وجه ربك .
الثاني : أنه إذا أردت القراءة فابدأ بسم الله الرحمن الرحيم ، قاله ابن بحر . ويحتمل وجهاً ثالثاً : واذكر اسم ربك في وعده ووعيده لتتوفر على طاعته وتعدل عن معصيته .
{ وتَبتَّلْ إليه تَبْتِيلاً } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : أخلص إليه إخلاصاً ، قاله مجاهد .
الثاني : تعبد له تعبداً ، قاله ابن زيد .
الثالث : انقطع إليه انقطاعاً ، قاله أبو جعفر الطبري ، ومنه مريم البتول لانقطاعها إلى الله تعالى ، وجاء في الحديث النهي عن التبتل الذي هو الانقطاع عن الناس والجماعات .
الرابع : وتضرّع إليه تضرّعاً .
{ ربُّ المشْرِقِ والمْغرِبِ } فيه قولان :
أحدهما : رب العالَمِ بما فيه لأنهم بين المشرق والمغرب ، قاله ابن بحر .
الثاني : يعني مشرق الشمس ومغربها .
وفي المراد بالمشرق والمغرب ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه استواء الليل والنهار ، قاله وهب بن منبه .
الثاني : أنه دجنة الليل ووجه النهار ، قاله عكرمة .
الثالث : أنه أول النهار وآخره ، لأن نصف النهار أوله فأضيف إلى المشرق ، ونصفه آخره فأضيف إلى المغرب .
{ فاتّخِذْهُ وَكيلاً } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : مُعيناً .
الثاني : كفيلاً .
الثالث : حافظاً .


وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11) إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا (14) إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17) السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا (18)

{ واهْجُرهم هَجْراً جَميلاً } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : اصفح عنهم وقل سلام ، قاله ابن جريج .
الثاني : أن يعرض عن سفههم ويريهم صغر عداوتهم .
الثالث : أنه الهجر الخالي من ذم وإساءة .
وهذا الهجر الجميل قبل الإذن في السيف .
{ وذَرْني والمُكَذِّبينَ أُولي النّعْمةِ } قال يحيى بن سلام :
بلغني أنهم بنو المغيرة ، وقال سعيد بن جبير : أُخبرت أنهم اثنا عشر رجلاً من قريش .
ويحتمل قوله تعالى : « أولي النّعْمةِ » ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه قال تعريفاً لهم إن المبالغين في التكذيب هم أولي النعمة .
الثاني : أنه قال ذلك تعليلاً ، أي الذين أطغى هم أولوا النعمة .
الثالث : أنه قال توبيخاًً أنهم كذبوا ولم يشكروا من أولاهم النعمة .
{ ومهِّلْهم قليلاً } قال ابن جريج : إلى السيف .
{ إنّ لدينا أنْكالاً وجَحيماً } في « أنكالاً » ثلاثة أوجه :
أحدها : أغلالاً ، قاله الكلبي .
الثاني : أنها القيود ، قاله الأخفش وقطرب ، قالت الخنساء :
دَعاك فَقَطّعْتَ أنكاله ... وقد كُنّ قبْلك لا تقطع .
الثالث : أنها أنواع العذاب الشديد ، قاله مقاتل ، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إن الله تعالى يحب النكل على النكل ، قيل : وما النكل؟ قال : الرجل القوي المجرب على الفرس القوي المجرب » ومن ذلك سمي القيد نكلاً لقوته ، وكذلك الغل ، وكل عذاب قوي واشتد .
{ وطعاماً ذا غُصَّةٍ } فيه وجهان :
أحدهما : أنه شوك يأخذ الحلق فلا يدخل ولايخرج ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنها شجرة الزقوم ، قاله مجاهد .
{ وكانت الجبالُ كَثيباً مَهيلاً } فيه وجهان :
أحدهما : رملاً سائلاً ، قاله ابن عباس .
الثاني : أن المهيل الذي إذا وطئه القدم زل من تحتها وإذا أخذت أسفله انهال أعلاه ، قاله الضحاك والكلبي .
{ فأخَذْناه أَخْذاً وبيلاً } فيه أربعة تأويلات :
أحدهما : شديداً ، قاله ابن عباس ومجاهد .
الثاني : متتابعاً ، قاله ابن زيد .
الثالث : ثقيلاً غليظاً ، ومنه قيل للمطر العظيم وابل ، قاله الزجاج .
الرابع : مهلكاً ، ومنه قول الشاعر :
أكْلتِ بَنيكِ أَكْلَ الضّبِّ حتى ... وَجْدتِ مرارةَ [ الكلإ الوبيل ] .
{ فكيف تتّقونَ } يعني يوم القيامة .
{ إن كفَرتم يوماً يجْعَل الولدان شيباً } الشيب : جمع أشيب ، والأشيب والأشمط الذي اختلط سواد شعره ببياضه ، وهو الحين الذي يقلع فيه ذو التصابي عن لهوه ، قال الشاعر :
طرْبتَ وما بك ما يُطرِب ... وهل يلعب الرجلُ الأَشْيَبُ
وإنما شاب الولدان في يوم القيامة من هوْله .
{ السماءُ مُنفطرٌ به } فيه أربعة أوجه :
أحدها : ممتلئة به ، قاله ابن عباس .
الثاني : مثقلة ، قاله مجاهد .
الثالث : مخزونة به ، قاله الحسن .
الرابع : منشقة من عظمته وشدته ، قاله ابن زيد .
{ وكانَ وعْدُه مَفْعولاً } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : وعده بأن السماء منفطر به ، وكون الجبال كثيباً مهيلاً ، وأن يجعل الولدان شيباً ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : وعده بأن يظهر دينه على الدين كله ، قاله مقاتل .
الثالث : وعده بما بشّر وأنذر من ثوابه وعقابه .
وفي المعنى المكنى عنه في قوله « به » وجهان :
أحدهما : أن السماء منفطرة باليوم الذي يجعل الولدان شيباً ، فيكون اليوم قد جعل الولدان شيباً ، وجعل السماء منفطرة ويكون انفطارها للفناء .
الثاني : معناه أن السماء منفطرة بما ينزل منها بأن يوم القيامة يجعل الولدان شيباً ، ويكون انفطارها بانفتاحها لنزول هذا القضاء منها .


إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (19) إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)

{ . . . . واللَّهُ يُقدِّرُ الليلَ والنهارَ } يعني يقدر ساعتهما ، فاحتمل ذلك وجهين :
أحدهما : تقديرهما لأعمال عباده .
الثاني : لقضائه في خلْقه .
{ عَلِمَ أن لن تُحْصُوهُ } فيه وجهان :
أحدهما : لن تطيقوا قيام الليل ، قاله الحسن .
الثاني : يريد تقدير نصف الليل وثلثه وربعه ، قاله الضحاك .
{ فتابَ عليكم } يحتمل وجهين :
أحدهما : فتاب عليكم من تقصيركم فيما مضى ، فاقرؤوا في المستبقل ما تيسر .
الثاني : فخفف عنكم .
{ فاقْرءُوا ما تيسّر مِنَ القُرآنِ } فيه وجهان :
أحدهما : فصلّوا ما تيسّر من الصلاة ، فعبر عن الصلاة بالقرآن لما يتضمنها من القرآن .
فعلى هذا يحتمل في المراد بما تيسر من الصلاة وجهان :
أحدهما : ما يتطوع به من نوافله لأن الفرض المقدر لا يؤمر فيه بما تيسر .
الثاني : أنه محمول على فروض الصلوات الخمس لانتقال الناس من قيام الليل إليها ، ويكون قوله « ما تيسر » محمولاً على صفة الأداء في القوة والضعف ، والصحة والمرض ، ولا يكون محمولاً على العدد المقدر شرعاً .
الثاني : أن المراد بذلك قراءة ما تيسر من القرآن حملاً للخطاب على ظاهر اللفظ .
فعلى هذا فيه وجهان :
أحدهما : أن المراد به قراءة القرآن في الصلاة فيكون الأمر به واجباً لوجوب القراءة في الصلاة .
واختلف في قدر ما يلزمه أن يقرأ به من الصلاة ، فقدره مالك والشافعي بفاتحة الكتاب ، لا يجوز العدول عنها ولا الاقتصار على بعضها ، وقدرها أبو حنيفة بآية واحدة من أيّ القرآن كانت .
والوجه الثاني : أن المراد به قراءة القرآن من غير الصلاة ، فعلى هذا يكون مطلق هذا الأمر محمولاً على الوجوب أو على الاستحباب؟ على وجهين :
أحدهما : أنه محمول على الوجوب ليقف بقراءته على إعجازه ، ودلائل التوحيد فيه وبعث الرسل ، ولا يلزمه إذا قرأه وعرف إعجازه ودلائل التوحيد منه أن يحفظه ، لأن حفظ القرآن من القرب المستحبة دون الواجبة .
الثاني : أنه محمول على الاستحباب دون الوجوب ، وهذا قول الأكثرين لأنه لو وجب عليه أن يقرأه وجب عليه أن يحفظه . وفي قدر ما تضمنه هذا الأمر من القراءة خمسة أقاويل :
أحدها : جميع القرآن ، لأن اللَّه تعالى قد يسره على عباده ، قاله الضحاك .
الثاني : ثلث القرآن ، حكاه جويبر .
الثالث : مائتا آية ، قاله السدي .
الرابع : مائة آية ، قاله ابن عباس .
الخامس : ثلاث آيات كأقصر سورة ، قاله أبو خالد الكناني .
{ عَلِم أنْ سيكونُ منكم مَّرْضَى } ذكر الله أسباب التخفيف ، فذكر منها المرض لأنه يُعجز .
ثم قال : { وآخرون يَضْرِبون في الأرض } فيه وجهان :
أحدهما : أنهم المسافرون ، كما قال عز وجلّ : { وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة } .
الثاني : أنه التقلُّب للتجارة لقوله تعالى : { يبتغونَ من فضلِ اللَّه } ، قاله ابن مسعود يرفعه ، وهو قول السدي .

{ وآخَرونَ يُقاتِلون في سبيل اللَّهِ } يعني في طاعته ، وهم المجاهدون .
{ فاقْرؤوا ما تيسّر منه } نسخ ما فرضه في أول السورة من قيام الليل وجعل ما تيسر منه تطوعاً ونفلاً ، لأن الفرض لا يؤمر فيه بفعل ما تيسر منه .
وقد ذكرنا في أول السورة الأقاويل في مدة الفرض .
{ وأقيموا الصلاة } يعني المفروضة ، وهي الخمس لوقتها .
{ وآتُوا الزكاةَ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها ها هنا طاعة اللَّه والإخلاص له ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنها صدقة الفطر ، قاله الحارث العكلي .
الثالث : أنها زكاة الأموال كلها ، قاله قتادة وعكرمة .
{ وأقْرِضوا اللَّه قَرْضاً حَسَناً } فيه خمسة تأويلات :
أحدها : أنه النوافل بعد الفروض ، قاله ابن زيد .
الثاني : قول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ، قاله ابن حبان .
الثالث : النفقة على الأهل ، قاله زيد بن أسلم .
الرابع : النفقة من سبيل الله ، وهذا قول عمر رضي الله عنه .
الخامس : أنه أمر بفعل جميع الطاعات التي يستحق عليها الثواب .
{ تجدُوه عِندَ اللهِ } يعني تجدوا ثوابه عند الله { هو خيراً } يعني مما أعطيتم وفعلتم .
{ وأعظم أجرا } قال أبو هريرة : الجنة .
ويحتمل أن يكون « أعظم أجرا » الإعطاء بالحسنة عشراً .
{ واسْتَغْفِرُوا اللَّهَ } يعني من ذنوبكم .
{ إنّ اللَّه غَفورٌ } لما كان قبل التوبة .
{ رحيمُ } بكم بعدها ، قاله سعيد بن جبير .


يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10)

قوله تعالى : { يا أيها المدَّثِّر } فيه قولان :
أحدهما : يا أيها المدثر بثيابه ، قاله قتادة .
الثاني : بالنبوة وأثقالها ، قاله عكرمة .
{ قم } من نومك { فأنذر } قومك عذاب ربك .
ويحتمل وجهاً ثالثاً : يا أيها الكاتم لنبوته اجهر بإنذارك .
ويحتمل هذا الإنذار وجهين :
أحدهما : إعلامهم بنبوته لأنه مقدمة الرسالة .
الثاني : دعاؤهم إلى التوحيد لأنه المقصود بها .
قال ابن عباس وجابر هي أول سورة نزلت .
{ وثيابَك فَطِّهرْ } فيه خمسة أقاويل :
أحدها : أن المراد بالثياب العمل .
الثاني : القلب .
الثالث : النفْس .
الرابع : النساء والزوجات .
الخامس : الثياب الملبوسات على الظاهر .
فمن ذهب على أن المراد بها العمل قال تأويل الآية : وعملك فأصلح ، قاله مجاهد ، ومنه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
« يحشر المرء في ثوبيه اللذين مات فيها » يعني عمله الصالح والطالح .
ومن ذهب إلى أن المراد بالثياب القلب فالشاهد عليه قول امرىء القيس :
وإن تك قد ساءتك مني خليقةٌ ... فسلّي ثيابي من ثيابكِ تنسلِ
ولهم في تأويل الآية وجهان :
أحدهما : معناه وقلبك فطهر من الإثم والمعاصي ، قاله ابن عباس وقتادة .
الثاني : وقلبك فطهر من الغدر وهذا مروي عن ابن عباس ، واستشهد بقول الشاعر :
فإني بحْمدِ الله لا ثوْبَ فاجر ... لبست ولا مِن غَدْرةٍ أَتَقَنّع .
ومن ذهب إلى أن المراد بالثياب النفس فلأنها لابسة الثياب ، فكنى عنها بالثياب ، ولهم في تأويل الآية ثلاثة أوجه :
أحدها : معناه ونفسك فطهر مما نسبك إليه المشركون من شعر أو سحر أو كهانة أو جنون ، رواه ابن أبي نجيح وأبو يحيى عن مجاهد .
الثاني : ونفسك فطهرها مما كنت تشكو منه وتحذر ، من قول الوليد بن المغيرة ، قاله عطاء .
الثالث : ونفسك فطهرها من الخطايا ، قاله عامر .
ومن ذهب إلى أن المراد النساء والزوجات فلقوله تعالى : { هن لباس لكم وأنتم لباس لهن } [ البقرة : 187 ] ولهم في تأويل الآية وجهان :
أحدهما : معناه ونساءك فطهر باختيار المؤمنات العفائف .
الثاني : الاستمتاع بهن من القبل دون الدبر ، وفي الطهر دون الحيض ، حكاهما ابن بحر .
ومن ذهب إلى أن المراد بها الثياب الملبوسة على الظاهر ، فلهم في تأويله أربعة أوجه :
أحدها : معناه وثيابك فأنْقِ ، رواه عطاء عن ابن عباس ، ومنه قول امرىء القيس :
ثياب بني عَوفٍ طهارى نقيّةٌ ... وأَوْجُهُهُمْ عند المشاهد غُرّان
الثاني : وثيابك فشمّر وقصّر ، قاله طاووس .
الثالث : وثيابك فطهر من النجاسات بالماء ، قاله محمد بن سيرين وابن زيد والفقهاء .
الرابع : معناه لا تلبس ثياباً إلا [ من ] كسب حلال مطهرة من الحرام .
{ والرُّجْزَ فاهْجُرْ } فيه ستة تأويلات :
أحدها : يعني الآثام والأصنام ، قاله جابر وابن عباس وقتادة والسدي .

الثاني : والشرك فاهجر ، قاله ابن جبير .
الثالث : والذنب فاهجر ، قاله الحسن .
الرابع : والإثم فاهجر ، قال السدي .
الخامس : والعذاب فاهجر ، حكاه أسباط .
السادس : والظلم فاهجر ، ومنه قول رؤبة بن العجاج .
كم رامنا من ذي عديد منه ... حتى وَقَمْنا كيدَه بالرجزِ .
قاله السدي : الرَّجز بنصب الراء : الوعيد .
{ ولا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِر } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : لا تعط عطية تلتمس بها أفضل منها ، قاله ابن عباس وعكرمة وقتادة ، قال الضحاك : هذا حرمه الله تعالى على رسول وأباحه لأمته .
الثاني : معناه لا تمنن بعملك تستكثر على ربك ، قاله الحسن .
الثالث : معناه لا تمنن بالنبوة على الناس تأخذ عليها منهم أجراً ، قاله ابن زيد .
الرابع : معناه لا تضعف عن الخير أن تستكثر منه ، قاله مجاهد .
ويحتمل تأويلاً خامساً : لا تفعل الخير لترائي به الناس .
{ ولِربِّك فاصْبِرْ } أما قوله « وَلِرَبِّكَ » ففيه ثلاثة أوجه :
أحدها : لأمر ربك .
الثاني : لوعد ربك .
الثالث : لوجه ربك .
وفي قوله « فاصْبِرْ سبعة تأويلات :
أحدها : فاصْبِرْ على ما لاقيت من الأذى والمكروه قاله مجاهد .
الثاني : على محاربة العرب ثم العجم ، قاله ابن زيد .
الثالث : على الحق فلا يكن أحد أفضل عندك فيه من احد ، قاله السدي .
الرابع : فاصْبِرْ على عطيتك لله ، قاله إبراهيم .
الخامس : فاصْبِرْ على الوعظ لوجه الله ، قاله عطاء .
السادس : على انتظام ثواب عملك من الله تعالى ، وهو معنى قول ابن شجرة .
السابع : على ما أمرك الله من أداء الرسالة وتعليم الدين ، حكاه ابن عيسى .
{ فإذا نُقِرَ في الناقُورِ } فيه تأويلان :
أحدهما : يعني نفخ في الصور ، قاله ابن عباس ، وهل المراد النفخة الأولى أو الثانية؟ قولان :
أحدهما : الأولى .
والثاني : الثانية .
- الثاني : أن الناقور القلب يجزع إذا دعي الإنسان للحساب ، حكاه ابن كامل .
ويحتمل تأويلاً ثالثاً : أن الناقور صحف الأعمال إذا نشرت للعرض .


ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30)

{ ذرْني ومَنْ خَلَقْتُ وَحيداً } قال المفسرون يعني الوليد بن المغيرة المخزومي وإن كان الناس خلقوا مثل خلقه ، وإنما خص بالذكر لاختصاصه بكفر النعمة لأذى الرسول .
وفي قوله تعالى : « وحيداً » تأويلان :
أحدهما : أن الله تفرد بخلقه وحده .
الثاني : خلقه وحيداً في بطن أُمّه لا مال له ولا ولد ، قاله مجاهد ، فعلى هذا الوجه في المراد بخلقه وحيداً وجهان :
أحدهما : أن يعلم به قدر النعمةعليه فيما أعطي من المال والولد .
الثاني : أن يدله بذلك على أنه يبعث وحيداً كما خلق وحيداً .
{ وجَعَلْتُ له مالاً مَمْدوداً } فيه ثمانية أقاويل :
أحدها : ألف دينار ، قاله ابن عباس .
الثاني : أربعة الآف دينار ، قاله سفيان .
الثالث : ستة الآف دينار ، قاله قتادة .
الرابع : مائة ألف دينار ، قاله مجاهد .
الخامس : أنها أرض يقال لها ميثاق ، وهذا مروي عن مجاهد أيضاً .
السادس : أنها غلة شهر بشهر ، قاله عمر رضي الله عنه .
السابع : أنه الذي لا ينقطع شتاء ولا صيفاً ، قاله السدي .
الثامن : أنها الأنعام التي يمتد سيرها في أقطار الأرض للمرعى والسعة ، قاله ابن بحر .
ويحتمل تاسعاً : أن سيتوعب وجوه المكاسب فيجمع بين زيادة الزراعة وكسب التجارة ونتاج المواشي فيمد بعضها ببعض لأن لكل مكسب وقتاً .
ويحتمل عاشراً : أنه الذي يتكون نماؤه من أصله كالنخل والشجر .
{ وبَنينَ شُهوداً } اختلف في عددهم على ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنهم كانوا عشرة ، قاله السدي .
الثاني : قال الضحاك : كان له سبعة ولدوا بمكة ، وخمسة ولدوا بالطائف .
الثالث : أنهم كانوا ثلاثة عشر رجلاً ، قاله ابن جبير .
وفي قوله « شهوداً » ثلاثة تأويلات :
أحدها : أنهم حضور معه لا يغيبون عنه ، قاله السدي .
الثاني : أنه إذا ذكر ذكروا معه ، قاله ابن عباس .
الثالث : أنهم كلهم رب بيت ، قاله ابن جبير .
ويحتمل رابعاً : أنهم قد صاروا مثله من شهود ما كان يشهده ، والقيام بما كان يباشره .
{ ومَهّدْت له تَمْهيداً } فيه وجهان :
أحدها : مهدت له من المال والولد ، قاله مجاهد .
الثاني : مهدت له الرياسة في قومه ، قاله ابن شجرة .
ويحتمل ثالثاً : أنه مهد له الأمر في وطنه حتى لا ينزعج عنه بخوف ولا حاجة .
{ ثم يَطْمَعُ أنْ أَزيدَ } فيه وجهان :
أحدهما : ثم يطمع أن أدخله الجنة ، كلاّ ، قاله الحسن .
الثاني : أن أزيده من المال والولد « كلاّ » قال ابن عباس :
فلم يزل النقصان في ماله وولده .
ويحتمل وجهاً ثالثاً : ثم يطمع أن أنصره على كفره .
{ كلاّ إنه كان لآياتِنَا عَنيداً } في المراد « بآياتنا » ثلاثة أقاويل :
أحدها : القرآن ، قاله ابن جبير .

الثاني : محمد صلى الله عليه وسلم ، قاله السدي .
الثالث : الحق ، قاله مجاهد .
وفي قوله « عنيداً » أربعة تأويلات :
أحدها : معاند ، قاله مجاهد وأبو عبيدة ، وأنشد قول الحارثي :
إذا نزلت فاجعلاني وسطا ... إني كبير لا أطيق العُنَّدا
الثاني : مباعد ، قاله أبو صالح ، ومنه قول الشاعر :
أرانا على حال تفرِّق بيننا ... نوى غُرْبَةٍ إنّ الفراق عنود .
الثالث : جاحد ، قاله قتادة .
الرابع : مُعْرض ، قاله مقاتل .
ويحتمل تأويلاً خامساً : أنه المجاهر بعداوته .
{ سأرْهِقُه صَعُوداً } فيه أربعة أقاويل :
أحدها : مشقة من العذاب ، قاله قتادة .
الثاني : أنه عذاب لا راحة فيه ، قاله الحسن .
الثالث : أنها صخرة في النار ملساء يكلف أن يصعدها ، فإذا صعدها زلق منها ، وهذا قول السدي .
الرابع : ما رواه عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم « سأرهقه صعودا » قال : « هو جبل في النار من نار يكلف أن يصعده ، فإذا وضع يده عيله ذابت ، وإذا رفعها عادت ، وإذا وضع رجله ذابت ، وإذا رفعها عادت » .
ويحتمل إن لم يثبت هذا النقل قولاً خامساً : أنه تصاعد نفسه للنزع وإن لم يتعقبه موت ليعذب من داخل جسده كما يعذب من خارجه .
{ إنه فكَّر وقَدَّر } قال قتادة : زعموا أن الوليد بن المغيرة قال : لقد نظرت فيما قال هذا الرجل فإذا هو ليس بشعر ، وإن له لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإنه ليعلو وما يُعْلَى ، وما أشك أنه سحر ، فهو معنى قوله « فكر وقدّر » أي فكر في القرآن فيما إنه سحر وليس بشعر .
ويحتمل وجهاً ثالثاً : أن يكون فكّر في العداوة وقدّر في المجاهدة .
{ فقُتِلَ كيف قَدَّرَ } فيه وجهان :
أحدهما : أي عوقب ثم عوقب ، فيكون العقاب تكرر عليه مرة بعد أخرى .
الثاني : أي لعن ثم لعن كيف قدر أنه ليس بشعر ولا كهانة ، وأنه سحر .
{ ثم نَظَرَ } يعني الوليد بن المغيرة ، وفي ما نظر فيه وجهان :
أحدهما : أنه نظر في الوحي المنزل من القرآن ، قاله مقاتل .
الثاني : أنه نظر إلى بني هاشم حين قال في النبي صلى الله عليه وسلم إنه ساحر ، ليعلم ما عندهم .
ويحتمل ثالثاً : ثم نظر إلى نفسه فيما أُعطِي من المال والولد فطغى وتجبر .
{ ثم عَبَسَ وبَسَرَ } أما عبس فهو قبض ما بين عينينه ، وبَسَرَ فيه وجهان :
أحدهما : كلح وجهه ، قاله قتادة ، ومنه قول بشر بن أبي خازم :
صبحنا تميماً غداة الجِفار ... بشهباءَ ملمومةٍ باسِرةَ
الثاني : تغيّر ، قاله السدي ، ومنه قول توبة :
وقد رابني منها صدودٌ رأيتُه ... وإعْراضها عن حاجتي وبُسورها .
واحتمل أن يكون قد عبس وبسر على النبي صلى الله عليه وسلم حين دعاه . واحتمل أن يكون على من آمن به ونصره .

وقيل إن ظهور العبوس في الوجه يكون بعد المحاورة ، وظهور البسور في الوجه قبل المحاورة .
{ ثم أَدْبَر واسْتَكْبَرَ } يحتمل وجهين :
أحدهما : أدبر عن الحق واستكبر عن الطاعة .
الثاني : أدبر عن مقامه واستكبر في مقاله .
{ فقال إنْ هذا إلا سِحْرٌ يُؤْثَر } قال ابن زيد : إن الوليد بن المغيرة قال : إنْ هذا القرآن إلا سحر يأثره محمد عن غيره فأخذه عمن تقدمه .
ويحتمل وجهاً آخر : أن يكون معناه أن النفوس تؤثر لحلاوته فيها كالسحر .
{ إنْ هذا إلا قَوْلَ البَشِرِ } أي ليس من كلام الله تعالى ، قال السدي : يعنون أنه من قول أبي اليسر عَبْدٌ لبني الحضرمي كان يجالس النبي صلى الله عليه وسلم ، فنسبوه إلى أنه تعلم منه ذلك .
{ سأصْليه سَقَرَ } فيه وجهان :
أحدهما : أنه اسم من أسماء جهنم مأخوذ من قولهم : سقرته الشمس إذا آلمت دماغه ، فسميت جهنم بذلك لشدة إيلامها .
{ وما أدراك ما سَقَر لا تُبقي ولا تذر } فيه وجهان :
أحدهما : لا تبقي من فيها حياً ، ولا تذره ميتاً ، قاله مجاهد .
الثاني : لا تبقي أحداً من أهلها أن تتناوله ، ولا تذره من العذاب ، حكاه ابن عيسى .
ويحتمل وجهاً ثالثاً : لا تبقيه صحيحاً ، ولا تذره مستريحاً .
{ لوّاحَةً للبَشَرِ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : مغيرة لألوانهم ، قال أبو رزين تلفح وجوههم لفحة تدعهم أشد سواداً من الليل .
الثاني : تحرق البشر حتى تلوح العظم ، قاله عطية .
الثالث : أن بشرة أجسادهم تلوح على النار ، قاله مجاهد .
الرابع : أن اللواح شدة العطش ، والمعنى أنها معطشة للبشر ، أي لأهلها ، قاله الأخفش ، وأنشد :
سَقَتْني على لوْحٍ من الماءِ شَرْبةً ... سقاها به الله الرهامَ الغواديا .
يعني باللوح شدة العطش :
ويحتمل خامساً : أنها تلوح للبشر بهولها حتى تكون أشد على من سبق إليها ، وأسرّ لمن سلم منها .
وفي البشر وجهان :
أحدهما : أنهم الإنس من أهل النار ، قالهالأخفش والأكثرون .
الثاني : أنه جمع بشرة ، وهي جلدة الإنسان الظاهرة ، قاله مجاهد وقتادة .
{ عليها تسعةَ عَشَرَ } هؤلاء خزنة جهنم وهم الزبانية ، وعددهم هذا الذي ذكره الله تعالى ، وروى عامر عن البراء أن رهطاً من اليهود سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خزنة جهنم ، فأهوى بأصابع كفيه مرتين ، فأمسك الإبهام في الثانية ، وأخبر الله عنهم بهذا العدد ، وكان الاقتصار عليه دون غيره من الأعداد إخباراً عمن وكل بها وهو هذا العدد ، وموافقة لما نزل به التوراة والإنجيل من قبل .
وقد يلوح لي في الاقتصار على هذا العدد معنى خفي يجوز أن يكون مراداً ، وهو أن تسعة عشر عدد يجمع أكثر القليل من العدد وأقل الكثير ، لأن العدد آحاد وعشرات ومئون وألوف ، والآحاد أقل الأعداد ، وأكثر الآحاد تسعة ، وما سوى الآحاد كثير وأقل الكثير عشرة ، فصارت التسعة عشر عدداً يجمع من الأعداد أكثر قليلها ، وأقل كثيرها ، فلذلك ما وقع عليها الاقتصار والله أعلم للنزول عن أقل القليل وأكثر الكثير فلم يبق إلا ما وصفت .

ويحتمل وجهاً ثانياً : أن يكون الله حفظ جهنم حتى ضبطت وحفظت بمثل ما ضبطت به الأرض وحفظت به من الجبال حتى رست وثبتت ، وجبال الأرض التي أرسيت بها واستقرت عليها تسعة عشر جبلاً ، وإن شعب فروعها تحفظ جهنم بمثل هذا العدد ، لأنها قرار لعُصاة الأرض من الإنس والجن ، فحفظت مستقرهم في النار بمثل العدد الذي حفظ مستقرهم في الأرض ، وحد الجبل ما أحاطت به أرض تتشعب فيها عروقه ظاهره ولا باطنه ، وقد عد قوم جبال الأرض فإذا هي مائة وتسعون جبلاً ، واعتبروا انقطاع عروقها رواسي وأوتاداً ، فهذان وجهان يحتملهما الاستنباط ، والله أعلم بصواب ما استأثر بعلمه .
وذكر من يتعاطى العلوم العقلية وجهاً ثالثاً : أن الله تعالى حفظ نظام خلقه ودبر ما قضاه في عباده بتسعة عشر جعلها المدبرات أمراً وهي سبعة كواكب واثنا عشر برجاً ، فصار هذا العدد أصلاً في المحفوظات العامة ، فلذلك حفظ جهنم ، وهذا مدفوع بالشرع وإن راق ظاهره .
ثم نعود إلى تفسير الآية ، روى قتادة أن الله تعالى لما قال :
« عليها تسعة عشر » قال أبو جهل : يا معشر قريش أما يستطيع كل عشرة منكم أن يأخذوا واحداً منهم وأنتم أكثر منهم .
قال السدي : وقال أبو الأشد بن الجمحي : لا يهولنكم التسعة عشر أنا أدفع عنكم بمنكبي الأيمن عشرة من الملائكة ، وبمنكبي الأيسر التسعة ثم تمرون إلى الجنة ، يقولها مستهزئاً .


وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31) كَلَّا وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34) إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37)

{ وما جَعَلْنَا أصحابَ النارِ إلا ملائكةً وما جعلْنا عدَّتهم إلا فِتْنةً للذين كَفَروا } وروى ابن جريج أن النبي صلى الله عليه وسلم نعت خزنة جهنم فقال : كأن أعينهم البرق ، وكأن أفواههم الصياصي ، يجرون شعورهم ، لأحدهم مثل قوة الثقلين ، يسوق أحدهم الأمة وعلى رقبته جبل فيرمي بهم في النار ، ويرمي الجبل عليهم .
{ ليَسْتَيْقِنَ الذين أُوتوا الكتابَ } فيه وجهان :
أحدهما : ليستيقنوا عدد الخزنة لموافقة التوراة والإنجيل ، قاله مجاهد .
الثاني : ليستيقنوا أن محمداً نبي لما جاء به من موافقة عدة الخزنة .
{ ويَزْدادَ الذين آمَنوا إيماناً } بذلك ، قاله جريج .
{ وما هي إلا ذِكْرى للبَشَرِ فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : وما نار جهنم إلا ذكرى للبشر ، قاله قتادة .
الثاني : وما هذه النار في الدنيا إلا تذكرة لنار الآخرة ، حكاه ابن عيسى .
الثالث : وما هذه السورة إلا تذكرة للناس ، قاله ابن شجرة .
{ كلا والقَمرِ } الواو في « والقمر » واو القسم ، أقسم الله تعالى به ، ثم أقسم بما بعده فقال :
{ والليلِ إذا أَدْبَرَ } فيه وجهان :
أحدهما : إذ ولّى ، قاله ابن عباس .
الثاني : إذ أقبل عند إدبار النهار قاله أبو عبيدة ، وقرأ الحسن وأبو عبد الرحمن إذا دبر ، وهي قراءة ابن مسعود وأُبي بن كعب .
واختلف في أدبر ودبر على قولين :
- أحدهما : أنهما لغتان ومعناهما واحد ، قاله الأخفش .
- الثاني : أن معناهما مختلفان ، وفيه وجهان :
أحدهما : أنه دبر إذا خلقته خلفك ، وأدبر إذا ولى أمامك ، قاله أبو عبيدة .
الثاني : أنه دبر إذا جاء بعد غيره وعلى دبر ، وأدبر إذا ولى مدبراً ، قاله ابن بحر .
{ والصُّبْحِ إذا أَسْفَرَ } يعني أضاء وهذا قسم ثالث .
{ إنها لإحْدَى الكُبَرِ } فيها ثلاثة تأويلات :
أحدها : أي أن تكذيبهم بمحمد صلى الله عليه وسلم لإحدى الكبر ، أي الكبيرة من الكبائر ، قاله ابن عباس .
الثاني : أي أن هذه النار لإحدى الكبر ، أي لإحدى الدواهي .
الثالث : أن هذه الآية لإحدى الكبر ، حكاه ابن عيسى .
ويحتمل رابعاً : أن قيام الساعة لإحدى الكبر ، والكُبَرُ هي العظائم والعقوبات والشدائد ، قال الراجز :
يا ابن المُغَلّى نزلتْ إحدى الكُبَرْ ... داهية الدهرِ وصَمّاءُ الغِيَرْ .
{ نذيراً للبشر } فيه وجهان :
أحدهما : أن محمداً صلى الله عليه وسلم نذير للبشر حين قاله له « قم فأنذر » قاله ابن زيد .
الثاني : أن النار نذير للبشر ، قال الحسن : والله ما أنذر الخلائق قط بشيء أدهى منها .
ويحتمل ثالثاً : أن القرآن نذير للبشر لما تضمنه من الوعد والوعيد .
{ لمن شاءَ منكم أن يتقدّم أو يتأَخّرَ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن يتقدم في طاعة الله ، أو يتأخر عن معصية الله ، وهذا قول ابن جريج .
الثاني : أن يتقدم في الخير أو يتأخر في الشر ، قاله يحيى بن سلام .
الثالث : أن يتقدم إلى النار أو يتأخر عن الجنة ، قاله السدي .
ويحتمل رابعاً : لمن شاء منكم أن يستكثر أو يقصر ، وهذا وعيد وإن خرج مخرج الخبر .


كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً (52) كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)

{ كلُّ نفْسٍ بما كَسَبَتْ رَهينةٌ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : ان كل نفس مرتهنة محتسبة بعملها لتحاسب عليه ، إلا أصحاب اليمين ، وهم أطفال المسلمين فإنه لا حساب عليهم لأنه لا ذنوب لهم ، قاله عليٌّ رضي الله عنه .
الثاني : كل نفس من أهل النار مرتهنة في النار إلا أصحاب اليمين وهم المسلمون ، فإنهم لا يرتهنون ، وهم إلى الجنة يسارعون ، قاله الضحاك .
الثالث : كل نفس بعملها محاسبة إلا أصحاب اليمين وهم أهل الجنة ، فإنهم لا يحاسبون ، قاله ابن جريج .
{ وكنّا نَخُوض مع الخائضينَ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : نكذب مع المكذبين ، قاله السدي .
الثاني : كلما غوى غاو غوينا معه ، قاله قتادة .
الثالث : قولهم محمد كاهن ، محمد ساحر ، محمد شاعر ، قاله ابن زيد .
ويحتمل رابعاً ، وكنا أتباعاً ولم نكن مبتوعين .
{ وكنّا نًكذّب بيوم الدِّين } يعني يوم الجزاء وهو يوم القيامة .
{ حتى أتانا اليقين } فيه وجهان :
أحدهما : الموت ، قاله السدي .
الثاني : البعث يوم القيامة .
{ فما لهم عن التَذْكِرَةِ مُعْرِضين } قال قتادة : عن القرآن .
ويحتمل ثالثاً : عن الاعتبار بعقولهم .
{ كأنهم حُمُرٌ مُسْتَنْفِرةٌ } قرأ نافع وابن عامر بفتح الفاء ، يعني مذعورة وقرأ الباقون بكسرها ، يعني هاربة ، وأنشد الفراء :
أمْسِكْ حمارَك إنه مُستنفِرٌ ... في إثْر أحْمِرَةٍ عَمَدْنَ لغُرَّبِ .
{ فَرَّتْ من قَسْورةٍ } فيه ستة تأويلات :
أحدها : أن القسورة الرماة ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنه القناص أي الصياد ، ومنه قول علي :
يا ناس إني مثل قسورةٍ ... وإنهم لعداة طالما نفروا .
الثالث : أنه الأسد ، قاله أبو هريرة ، روى يوسف بن مهران عن ابن عباس أنه الأسد بلسان الحبشة ، قال الفرزدق :
إلى هاديات صعاب الرؤوس ... فساروا للقسور الأصيد .
الرابع : أنهم عصب من الرجال وجماعة ، رواه أبو حمزة عن ابن عباس .
الخامس : أنه أصوات الناس ، رواه عطاء عن ابن عباس .
السادس : أنه النبيل ، قاله قتادة .
{ بل يريد كلُّ امرىءٍ منهم أنْ يُؤْتى صحُفاً مُنَشّرةً } يعني كتباً منشورة وفيه أربعة أوجه :
أحدها : أن يؤتى كتاباً من الله أن يؤمن بمحمد ، قاله قتادة .
الثاني : أن يؤتى براءة من النار أنه لا يقذف بها ، قاله أبو صالح .
الثالث : أن يؤتى كتاباً من الله بما أحل له وحرم عليه ، قاله مقاتل .
الرابع : أن كفار قريش قالوا إن بني إسرائيل كانوا إذا أذنب الواحد ذنباً وجده مكتوباً في رقعة ، فما بالنا لا نرى ذلك فنزلت الآية ، قاله الفراء .
{ هو أهل التقْوَى وأهل المغْفِرةِ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : هو أهل أن تتقى محارمه ، وأهل أن يغفر الذنوب ، قاله قتادة .
الثاني : هو أهل أن يتقى أن يجعل معه إله غيره ، وأهل لمن اتقاه أن يغفر له ، وهذا معنى قول رواه أنس مرفوعاً .
الثالث : هو أهل أن يتقى عذابه وأهل أن يعمل بما يؤدي إلى مغفرته .
ويحتمل رابعاً : أهل الانتقام والإنعام .


لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5) يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (6) فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلَّا لَا وَزَرَ (11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15)

قوله تعالى : { لا أُقسِم بيومِ القيامةِ } اختلفوا في « لا » المبتدأ بها في أول الكلام على ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها صلة دخلت مجازاً ومعنى الكلام أقسم بيوم القيامة ، قاله ابن عباس وابن جبير وأبو عبيدة ، ومثله قول الشاعر :
تَذكّرْت ليلى فاعْتَرْتني صَبابةٌ ... وكاد ضمير القلْبِ لا يتَقطّع .
الثاني : أنها دخلت توكيداً للكلام كقوله : لا والله ، وكقول امرىء القيس :
فلا وأبيكِ ابنةَ العامريّ ... لا يدّعي القوم أني أَفِرْ .
قاله أبو بكر بن عياش .
الثالث : أنها رد لكلام مضى من كلام المشركين في إنكار البعث ، ثم ابتدأ القسم فقال : أقسم بيوم القيامة ، فرقاً بين اليمين المستأنفة وبين اليمين تكون مجدداً ، قاله الفراء .
وقرأ الحسن : لأقْسِمُ بيوم القيامة ، فجعلها لاماً دخلت على ما أُقسم إثباتاً للقسم ، وهي قراءة ابن كثير .
{ ولا أُقْسِم بالنّفْسِ اللوّامةِ } فيه وجهان :
أحدهما : أنه تعالى أقسم بالنفس اللوامة كما أقسم بيوم القيامة فيكونان قَسَمَيْن ، قاله قتادة .
الثاني : أنه أقسم بيوم القيامة ولم يقسم بالنفس اللوامة ، قاله الحسن ، ويكون تقدير الكلام : أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة . وفي وصفها باللوامة قولان :
أحدهما : أنها صفة مدح ، وهو قول من جعلها قسماً :
الثاني : أنها صفة ذم ، وهو قول من نفى أن يكون قسماً .
فمن جعلها صفة مدح فلهم في تأويلها ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها التي تلوم على ما فات وتندم ، قاله مجاهد ، فتلوم نفسها على الشر لم فعلته ، وعلى الخير أن لم تستكثر منه .
الثاني : أنها ذات اللوم ، حكاه ابن عيسى .
الثالث : أنها التي تلوم نفسها بما تلوم عليه غيرها .
فعلى هذه الوجوه الثلاثة تكون اللوامة بمعنى اللائمة .
ومن جعلها صفة ذم فلهم في تأويلها ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها المذمومة ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنها التي تلام على سوء ما فعلت .
الثالث : أنها التي لا صبر لها على محن الدنيا وشدائدها ، فهي كثيرة اللوم فيها ، فعلى هذه الوجوه الثلاثة تكون اللوامة بمعنى الملومة .
{ أيَحْسَب الإنسان } يعني الكافر .
{ أنْ لن نَجْمَعَ عِظامَه } فنعيدها خلقاً جديداً بعد أن صارت رفاتاً .
{ بلى قادِرينَ على أنْ نُسوّيَ بَنانه } في قوله « بلى » وجهان :
أحدهما : أنه تمام قوله « أن لن نجمع عظامه » أي بلى نجمعها ، قاله الأخفش .
الثاني : أنها استئناف بعد تمام الأول بالتعجب بلى قادرين ، الآية وفيه وجهان :
أحدهما : بلى قادرين على أن نسوي مفاصله ونعيدها للبعث خلقاً جديداً ، قاله جرير بن عبد العزيز .
الثاني : بلى قادرين على أن نجعل كفه التي يأكل بها ويعمل حافر حمار أو خف بعير ، فلا يأكل إلا بفيه ، ولا يعمل بيده شيئاً ، قاله ابن عباس وقتادة .

{ بل يريد الإنسان ليَفْجُرَ أمامَه } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : معناه أن يقدم الذنب ويؤخر التوبة ، قاله القاسم بن الوليد .
الثاني : يمضي أمامه قدُماً لا ينزع عن فجور ، قاله الحسن .
الثالث : بل يريد أن يرتكب الآثام في الدنيا لقوة أمله ، ولا يذكر الموت ، قاله الضحاك .
الرابع : بل يريد أن يكذب بالقيامة ولا يعاقب بالنار ، وهو معنى قول ابن زيد .
ويحتمل وجهاً خامساً : بل يريد أن يكذب بما في الآخرة كما كذب بما في الدنيا ، ثم وجدت ابن قتيبة قد ذكره وقال إن الفجور التكذيب واستشهد بأن أعرابياً قصد عمر بن الخطاب وشكا إليه نقب إبله ودبرها ، وسأله أن يحمله على غيرها ، فلم يحمله ، فقال الأعرابي :
أقسم بالله أبو حفصٍ عُمَرْ ... ما مسّها مِن نَقَبٍ ولا دَبَرْ
فاغفر له اللهم إنْ كان فجَرْ ... يعني إن كان كذبني بما ذكرت .
{ فإذا بَرِقَ البصرُ } فيه قراءتان :
إحداهما : بفتح الراء ، وقرأ بها أبان عن عاصم ، وفي تأويلها وجهان :
أحدهما : يعني خفت وانكسر عند الموت ، قاله عبد الله بن أبي إسحاق .
الثاني : شخص وفتح عينه عند معاينة ملك الموت فزعاً ، وأنشد الفراء :
فنْفسَكَ فَانْعَ ولا تْنعَني ... وداوِ الكُلومَ ولا تَبْرَقِ .
أي ولا تفزع من هول الجراح .
الثانية : بكسر الراء وقرأ بها الباقون ، وفي تأويلها وجهان :
أحدهما : عشى عينيه البرق يوم القيامة ، قاله أشهب العقيلي ، قال الأعشى :
وكنتُ أرى في وجه مَيّةَ لمحةً ... فأبرِق مَغْشيّاً عليّ مكانيا .
الثاني : شق البصر ، قاله أبو عبيدة وأنشد قول الكلابي :
لما أتاني ابن عمير راغباً ... أعطيتُه عيساً صِهاباً فبرق .
{ وخَسَفَ القمرُ } أي ذهب ضوؤه ، حتى كأنّ نوره ذهب في خسفٍ من الأرض .
{ وجُمِعَ الشمسُ والقمرُ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : أنه جمع بينهما في طلوعهما من المغرب [ أسودين مكورين ] مظلمين مقرنين .
الثاني : جمع بينهما في ذهاب ضوئهما بالخسوف لتكامل إظلام الأرض على أهلها ، حكاه ابن شجرة .
الثالث : جمع بينهما في البحر حتى صارا نار الله الكبرى .
{ يقولُ الإنسانُ يومئذٍ أين المفرُّ } أي أين المهرب ، قال الشاعر :
أين أفِرّ والكباشُ تنتطحْ ... وأيّ كبشٍ حاد عنها يفتضحْ .
ويحتمل وجهين :
أحدهما : « أين المفر » من الله استحياء منه .
الثاني : « أين المفر » من جهنم حذراً منها .
ويحتمل هذا القول من الإنسان وجهين :
أحدهما : أن يكون من الكافر خاصة من عرصة القيامة دون المؤمن ، ثقة المؤمن ببشرى ربه .
الثاني : أن يكون من قول المؤمن والكافر عند قيام الساعة لهول ما شاهدوه منها .

ويحتمل هذا القول وجهين :
أحدهما : من قول الله للإنسان إذا قاله « أين المفر » قال الله له « كلاّ لا وَزَرَ » الثاني : من قول الإنسان إذا علم أنه ليس له مفر قال لنفسه « كلا لا وَزَرَ » { كلاّ لا وَزَرَ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : أي لا ملجأ من النار ، قاله ابن عباس .
الثاني : لا حصن ، قاله ابن مسعود .
الثالث : لا جبل ، [ قاله الحسن ] .
الرابع : لا محيص ، قاله ابن جبير .
{ إلى ربِّك يومئذٍ المُسْتَقَرُّ } فيه وجهان :
أحدهما : أن المستقر المنتهى ، قاله قتادة .
الثاني : أنه استقرار أهل الجنة في الجنة ، وأهل النار في النار ، قاله ابن زيد .
{ يُنَبّأ الإنسان يوميئذٍ بما قدَّمَ وأَخّرَ } يعني يوم القيامة وفي « بما قدم وأخر » خمسة تأويلات :
أحدها : ما قدم قبل موته من خير أو شر يعلم به بعد موته ، قاله ابن عباس وابن مسعود .
الثاني : ما قدم من معصية ، وأخر من طاعة ، قاله قتادة .
الثالث : بأول عمله وآخره ، قاله مجاهد .
الرابع : بما قدم من الشر وأخر من الخير ، قال عكرمة .
الخامس : بما قدم من فرض وأخر من فرض ، قاله الضحاك .
ويحتمل سادساً : ما قدم لدنياه ، وما أخر لعقباه .
{ بل الإنسانُ على نَفْسِه بَصيرةٌ } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : أنه شاهد على نفسه بما تقدم به الحجة عليه ، كما قال تعالى : { اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً } .
الثاني : أن جوارحه شاهدة عليه بعمله ، قاله ابن عباس ، كما قال تعالى : { اليوم نَخْتِمُ على أفواههم وتُكَلِّمنا أيْديهم وتشْهدُ أرجُلُهم بما كانوا يكْسِبون } .
الثالث : معناه بصير بعيوب الناس غافل عن عيب نفسه فيما يستحقه لها وعليها من ثواب وعقاب .
والهاء في « بصيرة » للمبالغة .
{ ولو أَلْقَى معاذيرَه } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : معناه لو اعتذر يومئذ لم يقبل منه ، قاله قتادة .
الثاني : يعني لو ألقى معاذيره أي لو تجرد من ثيابه ، قاله ابن عباس .
الثالث : لو أظهر حجته ، قاله السدي وقال النابغة :
لدىّ إذا ألقى البخيلُ معاذِرَه . ... الرابع : معناه ولو أرخى ستوره ، والستر بلغة اليمن معذار ، قاله الضحاك ، قال الشاعر :
ولكنّها ضَنّتْ بمنزلِ ساعةٍ ... علينا وأطّت فوقها بالمعاذرِ
ويحتمل خامساً : أنه لو ترك الاعتذار واستسلم لم يُترك .


لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19) كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25)

{ لا تُحرِّكْ به لسانَكَ لِتعْجَلَ به } فيه وجهان :
أحدهما : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل عليه القرآن حرك به لسان يستذكره . مخافة أن ينساه ، وكان ناله منه شدة ، فنهاه الله تعالى عن ذلك وقال : { إنّ علينا جَمْعَه وقرآنه } ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنه كان يعجل بذكره إذا نزل عليه من حبه له وحلاوته في لسانه ، فنهي عن ذلك حتى يجتمع ، لأن بعضه مرتبط ببعض ، قاله عامر الشعبي .
{ إنّ علينا جَمْعَهُ وقُرْآنَه } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : إن علينا جمعه في قلبك لتقرأه بلسانك ، قاله ابن عباس .
الثاني : عيلنا حفظه وتأليفه ، قاله قتادة .
الثالث : عيلنا أن نجمعه لك حتى تثبته في قلبك ، قاله الضحاك .
{ فإذا قرأناه فاتّبعْ قُرْآنَه } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : فإذا بيّناه فاعمل بما فيه ، قاله ابن عباس .
الثاني : فإذا أنزلناه فاستمع قرآنه ، وهذا مروي عن ابن عباس أيضاً .
الثالث : فإذا تلي عليك فاتبع شرائعه وأحكامه ، قاله قتادة .
{ ثم إنْ علينا بَيانَه } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : بيان ما فيه من أحكام وحلال وحرام ، قاله قتادة .
الثاني : علينا بيانه بلسانك إذا نزل به جبريل حتى تقرأه كما أقرأك ، قاله ابن عباس .
الثالث : علينا أن نجزي يوم القيامة بما فيه من وعد أو وعيد ، قاله الحسن .
{ كلاّ بل تُحِبُّونَ العاجلةَ * وتذَرُونَ الآخِرَة } فيه وجهان :
أحدهما : تحبون ثواب الدنيا وتذرون ثواب الآخرة ، قاله مقاتل .
الثاني : تحبون عمل الدنيا وتذرون عمل الآخرة .
{ وُجوهٌ يومئذٍ ناضِرةٌ } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : يعني حسنة ، قاله الحسن .
الثاني : مستبشرة ، قاله مجاهد .
الثالث : ناعمة ، قاله ابن عباس .
الرابع : مسرورة ، قاله عكرمة .
{ إلى رَبِّها ناظرةٌ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : تنظر إلى ربها في القيامة ، قاله الحسن وعطية العوفي .
الثاني : إلى ثواب ربها ، قاله ابن عمر ومجاهد .
الثالث : تنتظر أمر ربها ، قاله عكرمة .
{ ووجوهُ يومئذٍ باسرةٌ } فيه وجهان :
أحدهما : كالحة ، قاله قتادة .
الثاني : متغيرة ، قاله السدي .
{ تَظُنُّ أنْ يُفْعَلَ بها فاقِرةٌ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : أن الفاقرة الداهية ، قاله مجاهد .
الثاني : الشر ، قاله قتادة .
الثالث : الهلاك ، قاله السدي .
الرابع : دخول النار ، قاله ابن زيد .


كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30) فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (35) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40)

{ كلا إذا بَلَغَتِ التّراقِيَ } يعني بلوغ الروح عند موته إلى التراقي ، وهي أعلى الصدر ، واحدها ترقوه .
{ وقيلَ مَنْ راقٍ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : قال أَهْله : من راقٍ يرقيه بالرُّقى وأسماء الله الحسنى ، قاله ابن عباس .
الثاني : مَنْ طبيبٌ شافٍ ، قاله أبو قلابة ، قال الشاعر :
هل للفتى مِن بنات الدهرِ من واقى ... أم هل له من حمامِ الموتِ من راقي
الثالث : قال الملائكة : مَن راقٍ يرقى بروحه ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب ، رواه أبو الجوزاء عن ابن عباس .
{ وظَنَّ أنّه الفِراق } أي تيقن أنه مفارق الدنيا .
{ والْتَفّتِ الساقُ بالساقِ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : اتصال الدنيا بالآخرة ، قاله ابن عباس .
الثاني : الشدة بالشدة والبلاء بالبلاءِ ، وهو شدة كرب الموت بشدة هول المطلع ، قاله عكرمة ومجاهد ، ومنه قول حذيفة بن أنس الهذلي :
أخو الحرب إن عضّت به الحربُ عضّها ... وإن شمّرتْ عن ساقها الحرب شمّرا .
الثالث : التفّت ساقاه عند الموت ، وحكى ابن قتيبة عن بعض المفسرين أن التفاف الساق بالساق عند الميثاق ، قال الحسن :
ماتت رجلاه فلم تحملاه وقد كان عليهما جوّالاً .
الرابع : أنه اجتمع أمران شديدان عليه : الناس يجهزون جسده ، والملائكة يجهزون روحه ، قاله ابن زيد .
{ إلى ربِّك يومئذٍ المساقُ } فيه وجهان :
أحدهما : المنطلق ، قاله خارجة .
الثاني : المستقر ، قاله مقاتل .
{ فلا صَدَّقَ ولا صَلَّى } هذا في أبي جهل ، وفيه وجهان :
أحدهما : فلا صدّق بكتاب الله ولا صلّى للَّه ، قاله قتادة .
الثاني : فلا صدّق بالرسالة ولا آمن بالمرسل ، وهو معنى قول الكلبي .
ويحتمل ثالثاً : فلا آمن بقلبه ولا عمل ببدنه .
{ ولكن كَذَّبَ وتَوَلَّى } فيه وجهان :
أحدهما : كذب الرسول وتولى عن المرسل .
الثاني : كذب بالقرآن وتولى عن الطاعة .
{ ثم ذَهَبَ إلى أَهْلِه يَتَمَطَّى } يعني أبا جهل ، وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها : يختال في نفسه ، قاله ابن عباس .
الثاني : يتبختر في مشيته ، قال زيد بن أسلم وهي مشية بني مخزوم .
الثالث : أن يلوي مطاه ، والمطا : الظهر ، وجاء النهي عن مشية المطيطاء وذلك أن الرجل يلقي يديه مع الكفين في مشيه .
{ أوْلَى لك فأوْلَى * ثم أوْلَى لك فأوْلَى } حكى الكلبي ومقاتل : أن النبي صلى الله عليه وسلم لقي أبا جهل ببطحاء مكة وهو يتبختر في مشيته ، فدفع في صدره وهمزه بيده وقال :
« أوْلى لك فأولى » فقال أبو جهل :
إليك عني أوعدني يا ابن أبي كبشة ما تستطيع أنت ولا ربك الذي أرسلك شيئاً ، فنزلت هذه الآية .
وفيه وجهان :
أحدهما : وليك الشر ، قال قتادة ، وهذا وعيد على وعيد .

الثاني : ويل لك ، قالت الخنساء :
هَممْتُ بنفسي بعض الهموم ... فأوْلى لنَفْسيَ أوْلَى لها .
سأحْمِلُ نَفْسي على آلةٍ ... فإمّا عليها وإمّا لها .
الآلة : الحالة ، والآلة : السرير أيضاً الذي يحمل عليه الموتى .
{ أيَحْسَبُ الإنسانُ أنْ يُتْرَك سُدىً } فيه أربعة أوجه :
أحدها : فهل لا يفترض عليه عمل ، قاله ابن زيد .
الثاني : يظن ألا يبعث ، قاله السدي .
الثالث : ملغى لا يؤمر ولا ينهى ، قاله مجاهد .
الرابع : عبث لا يحاسب ولا يعاقب ، قال الشاعر :
فأُقسِم باللَّه جهدَ اليمين ... ما ترك اللَّه شيئاً سُدى
{ ألمْ يكُ نُطْفةً مِنْ مَنيٍّ يُمْنَى } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن معنى يُمنى يراق ، ولذلك سميت منى لإراقة الدماء فيها .
الثاني : بمعنى ينشأ ويخلق ، ومنه قول يزيد بن عامر :
فاسلك طريقك تمشي غير مختشعٍ ... حتى تلاقيَ ما يُمني لك الماني .
الثالث : أنه بمعنى يشترك أي اشتراك ماء الرجل بماء المرأة .
{ ثم كان عَلَقَةً } يعني أنه كان بعد النطفة علقة .
{ فخَلَقَ فسوَّى } يحتمل وجهين .
أحدهما : خلق من الأرحام قبل الولادة وسوي بعدها عند استكمال القوة وتمام الحركة .
الثاني : خلق الأجسام وسواها للأفعال ، فجعل لكل جارحة عملاً ، والله أعلم .


هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)

قال ابن عباس ومقاتل والكلبي ويحيى بن سلام : هي مكية ، وقال آخرون فيها مكي من قوله تعالى : { إنا نحن نزّلنا عليك القرآنَ تنزيلاً } إلى آخرها وما تقدم مدني .
قوله تعالى : { هلْ أتَى على الإنسان حينٌ من الدهْرِ لم يكُنْ شيئاً مذكوراً } في قوله « هل » وجهان :
أحدهما : أنها في هذا الموضع بمعنى قد ، وتقدير الكلام : « قد أتى على الإنسان » الآية ، على معنى الخبر ، قاله الفراء وأبو عبيدة .
الثاني : أنه بمعنى « أتى على الإنسان » الآية ، على وجه الاستفهام ، حكاه ابن عيسى .
وفي هذا « الإنسان » قولان :
أحدهما : أنه آدم ، قاله قتادة والسدي وعكرمة ، وقيل إنه خلقه بعد خلق السموات والأرض ، وما بينهما في آخر اليوم السادس وهو آخر يوم الجمعة .
الثاني : أنه كل إنسان ، قاله ابن عباس وابن جريج .
وفي قوله تعالى : { حينٌ من الدهر } ثلاثة أقاويل :
أحدهأ : أنه أربعون سنة مرت قبل أن ينفخ فيه الروح ، وهو ملقى بين مكة والطائف ، قاله ابن عباس في رواية أبي صالح عنه .
الثاني : أنه خلق من طين فأقام أربعين سنة ، ثم من حمأ مسنون أربعين سنة ، ثم من صلصال أربعين سنة ، فتم خلقه بعد مائة وعشرين سنة ، ثم نفخ فيه الروح ، وهذا قول ابن عباس في رواية الضحاك .
الثالث : أن الحين المذكور ها هنا وقت غير مقدر وزمان غير محدود ، قاله ابن عباس أيضاً .
وفي قوله { لم يكن شيئاً مذكوراً } وجهان :
أحدهما : لم يكن شيئاً مذكوراً في الخلق ، وإن كان عند الله شيئاً مذكوراً ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : أي كان جسداً مصوّراً تراباً وطيناً ، لا يذكر ولا يعرف ، ولا يدري ما اسمه ، ولا ما يراد به ، ثم نفخ فيه الروح فصار مذكوراً ، قاله الفراء ، وقطرب وثعلب .
وقال مقاتل : في الكلام تقديم وتأخير ، وتقديره : هل أتى حين من الدهر لم يكن الإنسان شيئاً مذكوراً ، لأنه خلقه بعد خلق الحيوان كله ولم يخلق بعده حيواناً .
{ إنّا خلقْنا الإنسانَ من نُطْفَةٍ أمْشاجٍ } يعني بالإنسان في هذا الموضع كل إنسان من بني آدم في قول جميع المفسرين .
وفي النطفة قولان :
أحدهما : ماء الرجل وماء المرأة إذا اختلطا فهما نطفة ، قاله السدي .
الثاني : أن النطفة ماء الرجل ، فإذا اختلط في الرحم وماء المرأة صارا أمشاجاً .
وفي الأمشاج أربعة أقاويل :
أحدها : أنه الأخلاط ، وهو أن يختلط ماء الرجل بماء المرأة ، قاله الحسن وعكرمة ، ومنه قول رؤبة بن العجاج :
يطرحن كل مُعْجَل نشاجِ ... لم يُكْسَ جلداً في دم أمشاج .

الثاني : أن الأمشاج الألوان ، قاله ابن عباس ، وقال مجاهد :
نطفة الرجل بيضاء وحمراء ، ونطفة المرأة خضراء وصفراء .
روى سعيد عن قتادة عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ماء الرجل غليظ أبيض ، وماء المرأة رقيق أصفر فأيهما سبق أو علا فمنه يكون الشبه » .
الثالث : أن الأمشاج : الأطوار ، وهو أن الخلق يكون طوراً نطفة ، وطوراً علقة ، وطوراً مضغة ، ثم طوراً عظماً ، ثم يكسى العظم لحماً ، قاله قتادة .
الرابع : أن الأمشاج العروق التي تكون في النطفة ، قاله ابن مسعود .
وفي قوله { نَبْتَلِيه } وجهان :
أحدهما : نختبره .
الثاني : نكلفه بالعمل .
فإن كان معناه الاختبار ففيما يختبر به وجهان :
أحدهما : نختبره بالخير والشر ، قاله الكلبي .
الثاني : نختبر شكره في السراء ، وصبره في الضراء ، قاله الحسن .
ومن جعل معناه التكليف ففيما كلفه وجهان :
أحدهما : العمل بعد الخلق ، قاله مقاتل .
الثاني : الدين ، ليكون مأموراً بالطاعة ، ومنهياً عن المعاصي .
{ فَجَعَلْناه سميعاً بصيراً } ويحتمل وجهين :
أحدهما : أي يسمع بالأذنين ويبصر بالعينين أمتناناً بالنعمة عليه .
الثاني : ذا عقل وتمييز ليكون أعظم في الامتنان حيث يميزه من جميع الحيوان .
وقال الفراء ومقاتل : في الآية تقديم وتأخير أي فجعلناه سميعاً بصيراً أن نبتليه ، فعلى هذا التقديم في الكلام اختلفوا في ابتلائه على قولين :
أحدهما : ما قدمناه من جعله اختباراً أو تكليفاً .
الثاني : لنبتليه بالسمع والبصر ، قاله ابن قتيبة .
{ إنّا هَدَيْناه السّبيلَ } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : سبيل الخير والشر ، قاله عطية .
الثاني : الهدى من الضلالة ، قاله عكرمة .
الثالث : سبيل الشقاء والسعادة ، قاله مجاهد .
الرابع : خروجه من الرحم ، قاله أبو صالح والضحاك والسدي .
ويحتمل خامساً : سبيل منافِعِه ومضارِّه التي يهتدي إليها بطبعه ، وقيل : كمال عقله .
{ إمّا شاكراً وإمّا كَفوراً } فيه وجهان :
أحدهما : إما مؤمناً وإما كافراً ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : إما شكوراً للنعمة وإما كفوراً بها ، قاله قتادة .
وجمع بين الشاكر والكفور ولم يجمع بين الشكور والكفور - مع إجتماعهما في معنى المبالغة - نفياً للمبالغة في الشكر وإثباتاً لها في الكفر ، لأن شكر الله تعالى لا يُؤدَّى فانتفت عنه المبالغة ، ولم تنتف عن الكفر المبالغة ، فقل شكره لكثرة النعم عليه ، وكثر كفره وإن قل مع الإحسان إليه .


إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4) إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12)

{ إن الإبرار يَشْربونَ } في الأبرار قولان :
أحدهما : أنهم الصادقون ، قاله الكلبي .
الثاني : المطيعون ، قاله مقاتل .
وفيما سُمّوا أبراراً ثلاثة أقاويل :
أحدها : سمّوا بذلك لأنهم برّوا الآباء والأبناء ، قاله ابن عمر .
الثاني : لأنهم كفوا الأذى ، قاله الحسن .
الثالث : لأنهم يؤدون حق الله ويوفون بالنذر ، قاله قتادة .
وقوله { مِن كأسٍ } يعني الخمر ، قال الضحاك : كل كأس في القرآن فإنما عنى به الخمر .
وفي وقوله { كان مِزاجها كافوراً } قولان :
أحدهما : أن كافوراً عين في الجنة اسمها كافور ، قاله الكلبي .
الثاني : أنه الكافور من الطيب فعلى هذا في المقصود منه في مزاج الكأس به ثلاثة أقاويل :
أحدها : برده ، قال الحسن : ببرد الكافور وطعم الزنجبيل .
الثاني : بريحه ، قاله قتادة : مزج بالكافور وختم بالمسك .
الثالث : طعمه ، قال السدي : كأن طعمه طعم الكافور .
{ عَينْاً يَشْرَبُ بها عبادُ اللَّهِ } يعني أولياء اللَّه ، لأن الكافر لا يشرب منها شيئاً وإن كان من عباد الله ، وفيه وجهان :
أحدهما : ينتفع بها عباد الله ، قاله الفراء .
الثاني : يشربها عباد الله .
قال مقاتل : هي التسنيم ، وهي أشرف شراب لاجنة ، يشرب بها المقربون صِرفاً ، وتمزج لسائر أهل الجنة بالخمر واللبن والعسل .
{ يُفَجِّرونَها تفْجيراً } فيه وجهان :
أحدهما : يقودونها إلى حيث شاءوا من الجنة ، قاله مجاهد .
الثاني : يمزجونها بما شاءوا ، قاله مقاتل .
ويحتمل وجهاً ثالثاً : أن يستخرجوه من حيث شاءوا من الجنة .
وفي قوله « تفجيراً » وجهان :
أحدهما : أنه مصدر قصد به التكثير .
الثاني : أنهم يفجرونه من تلك العيون عيوناً لتكون أمتع وأوسع .
{ يُوفُونَ بالنّذْرِ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : يوفون بما افترض الله عليهم من عبادته ، قاله قتادة .
الثاني : يوفون بما عقدوه على أنفسهم من حق الله ، قاله مجاهد .
الثالث : يوفون بالعهد لمن عاهدوه ، قاله الكلبي .
الرابع : يوفون بالإيمان إذا حلفوا بها ، قاله مقاتل .
ويحتمل خامساً : أنهم يوفون بما أُنذِروا به من وعيده .
{ ويَخافون يوْماً كان شَرُّه مُسْتَطيراً } قال الكلبي عذاب يوم كان شره مستطيراً ، وفيه وجهان :
أحدهما : فاشياً ، قاله ابن عباس والأخفش .
الثاني : ممتداً ، قاله الفراء ، ومنه قول الأعشى :
فبانتْ وقد أَوْرَثَتْ في الفؤادِ ... صَدْعاً على نأيها مُستطيرا
أي ممتداً .
ويحتمل وجهاً ثالثاً يعني سريعاً .
{ ويُطْعمونَ الطعامَ على حُبِّهِ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : على حب الطعام ، قاله مقاتل .
الثاني : على شهوته ، قاله الكلبي .
الثالث : على قلته ، قاله قطرب .
{ مسكيناً ويتيماً وأسيراً } في الأسير ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه المسجون المسلم ، قاله مجاهد .

الثاني : أنه العبد ، قاله عكرمة .
الثالث : أسير المشركين ، قاله الحسن وسعيد بن جبير .
قال سعيد بن جبير : ثم نسخ أسير المشركين بالسيف ، وقال غيره بل هو ثابت الحكم في الأسير بإطعامه ، إلا أن يرى الإمام قتله .
ويحتمل وجهاً رابعاً : أن يريد بالأسير الناقص العقل ، لأنه في أسر خبله وجنونه ، وإن أسر المشركين انتقام يقف على رأي الإمام وهذا بر وإحسان .
{ إنّما نُطْعِمُكم لوجْهِ اللهِ } قال مجاهد : إنهم لم يقولوا ذلك ، لكن علمه الله منهم فأثنى عليهم ليرغب في ذلك راغب .
{ لا نُريدُ منكم جزاءً ولا شُكوراً } جزاء بالفعال ، وشكوراً بالمقال وقيل إن هذه الآية نزلت فيمن تكفل بأسرى بدر ، وهم سبعة من المهاجرين أبو بكر وعمر وعلي والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعيد وأبو عبيدة .
{ إنّا نخافُ من ربِّنا يوماً عَبوساً قمْطريراً } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن العبوس الذي يعبس الوجوه من شره ، والقمطرير الشديد ، قاله ابن زيد .
الثاني : أن العبوس الضيق ، والقمطرير الطويل ، قاله ابن عباس ، قال الشاعر :
شديداً عبوساً قمطريراً تخالهُ ... تزول الضحى فيه قرون المناكب .
الثالث : أن العُبوس بالشفتين ، والقمطرير بالجبهة والحاجبين ، فجعلها من صفات الوجه المتغير من شدائد ذلك اليوم ، قاله مجاهد ، وأنشد ابن الأعرابي :
يَغْدو على الصّيْدِ يَعودُ مُنكَسِرْ ... ويَقْمَطُّر ساعةً ويكْفَهِرّ .
{ فَوَقاهمُ الله شَرَّ ذلك اليومِ ولَقّاهُمْ نَضْرةً وسُروراً } قال الحسن النضرة من الوجوه ، والسرور في القلوب .
وفي النضرة ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها البياض والنقاء ، قاله الضحاك .
الثاني : أنها الحسن والبهاء ، قاله ابن جبير .
الثالث : أنها أثر النعمة ، قاله ابن زيد .
{ وجَزاهم بما صَبروا } يحتمل وجهين :
أحدهما : بما صبروا على طاعة الله .
الثاني : بما صبروا على الوفاء بالنذر .
{ جَنَّةً وحريراً } فيه وجهان :
أحدهما : جنة يسكنونها ، وحريراً يلبسونه .
الثاني : أن الجنة المأوى ، والحرير أبد العيش في الجنة ، ومنه لبس الحرير ليلبسون من لذة العيش .
واختلف فيمن نزلت هذه الآية على قولين :
أحدهما : ما حكاه الضحاك عن جابر أنها نزلت في مطعم بن ورقاء الأنصاري نذر نذراً فوفاه .
الثاني : ما حكاه عمرو عن الحسن أنها نزلت في علي وفاطمة . . . رضي الله عنهما - وذلك أن علياً وفاطمة نذرا صوماً فقضياه ، وخبزت فاطمة ثلاثة أقراص من شعير ليفطر علّي على أحدها وتفطر هي على الآخر ، ويأكل الحسن والحسين الثالث ، فسألها مسكين فتصدقت عليه بأحدها ، ثم سألها يتيم فتصدقت عيله بالآخر ، ثم سألها أسير فتصدقت عليه بالثالث ، وباتوا طاوين .


مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14) وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21) إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (22)

{ مُتّكِئينَ فيها على الأرائِك } وفيها مع ما قدّمناه من تفسيرها قولان :
أحدهما : أنها الأسرّة ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنها كل ما يتكأ عليه ، قاله الزجاج .
{ لا يَرَوْنَ فيها شمْساً ولا زَمْهَريراً } أما المراد بالشمس ففيه وجهان :
أحدهما : أنهم في ضياء مستديم لا يحتاجون فيه إلى ضياء ، فيكون عدم الشمس مبالغة في وصف الضياء .
الثاني : أنهم لا يرون فيها شمساً فيتأذون بحرها ، فيكون عدمها نفياً لأذاها .
وفي الزمهرير ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه البرد الشديد ، قال عكرمة لأنهم لا يرون في الجنة حراً ولا برداً .
الثاني : أنه لون في العذاب ، قاله ابن مسعود .
الثالث : أنه من هذا الموضع القمر ، قاله ثعلب وأنشد :
وليلةٍ ظلامُها قد اعتكَرْ ... قطْعتها والزمهريرُ ما ظَهَرْ
وروي ما زهر ، ومعناه أنهم في ضياء مستديم لا ليل فيه ولا نهار ، لأن ضوء النهار بالشمس ، وضوء الليل بالقمر .
{ . . . وذُلِّلّتْ قُطوفُها تذْليلاً } فيه وجهان :
أحدهما : أنه لا يرد أيديهم عنها شوك ولا بعد ، قاله قتادة .
الثاني : أنه إذا قام ارتفعت ، وإذا قعد نزلت ، قاله مجاهد .
ويحتمل ثالثاً : أن يكون تذليل قطوفها أن تبرز لهم من أكمامها وتخلص من نواها .
{ . . . وأَكْوابٍ كانت قَواريرَا * قواريرَا من فِضّةٍ } أما الأكواب فقد ذكرنا ما هي من جملة الأواني .
وفي قوله تعالى : « قوارير من فضة » وجهان :
أحدهما : أنها من فضة من صفاء القوارير ، قاله الشعبي .
الثاني : أنها من قوارير في بياض الفضة ، قاله أبو صالح .
وقال ابن عباس : قوارير كل أرض من تربتها ، وأرض الجنة الفضة فلذلك كانت قواريرها فضة .
{ قَدَّرُوها تقْديراً } فيه خمسة أقاويل :
أحدها : أنهم قدروها في أنفسهم فجاءت على ما قدروها ، قاله الحسن .
الثاني : على قدر ملء الكف ، قاله الضحاك .
الثالث : على مقدار لا تزيد فتفيض ، ولا تنقص فتغيض ، قاله مجاهد .
الرابع : على قدر ريهم وكفايتهم ، لأنه ألذ وأشهى ، قاله الكلبي .
الخامس : قدرت لهم وقدروا لها سواء ، قاله الشعبي .
{ ويُسْقَونَ فيها كأساً كان مِزاجُها زَنْجبيلاً } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : تمزج بالزنجبيل ، وهو مما تستطيبه العرب لأنه يحذو اللسان ويهضم المأكول ، قاله السدي وابن أبي نجيح .
الثاني : أن الزنجبيل اسم للعين التي فيها مزاج شراب الأبرار ، قاله مجاهد .
الثالث : أن الزنجبيل طعم من طعوم الخمر يعقب الشرب منه لذة ، حكاه ابن شجرة ، ومنه قول الشاعر :
وكأن طعْمَ الزنجبيلِ به ... اذْ ذُقْتُه وسُلافَةَ الخمْرِ
{ عْيناً فيها تُسَمّى سَلْسَبيلاً } فيه ستة أقاويل :
أحدها : أنه اسم لها ، قاله عكرمة .
الثاني : معناه سلْ سبيلاً إليها ، قاله علّي رضي الله عنه .

الثالث : يعني سلسلة السبيل ، قاله مجاهد .
الرابع : سلسلة يصرفونها حيث شاءوا ، قاله قتادة .
الخامس : أنها تنسلّ في حلوقهم انسلالاً ، قاله ابن عباس .
السادس : أنها الحديدة الجري ، قاله مجاهد أيضاً ، ومنه قول حسان بن ثابت :
يَسْقُون من وَرَدَ البريصَ عليهم ... كأساً تُصَفِّقُ بالرحيق السِّلْسَل
وقال مقاتل : إنما سميت السلسبيل لأنها تنسل عليهم في مجالسهم وغرفهم وطرقهم .
{ ويَطوفُ عليهم وِلْدانٌ مُخَلّدونَ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : مخلدون لا يموتون ، قاله قتادة .
الثاني : صغار لا يكبرون وشبابٌ لا يهرمون ، قاله الضحاك والحسن .
الثالث : أي مُسَوَّرون ، قاله ابن عباس ، قال الشاعر :
ومُخَلّداتٍ باللُّجَيْنِ كأنما ... أعْجازُهنّ أقاوزُ الكُثْبانِ .
{ إذا رَأَيْتَهم حَسِبْتَهم لُؤْلُؤاً مَنْثوراً } فيه قولان :
أحدها : أنهم مشبهون باللؤلؤ المنثور لكثرتهم ، قاله قتادة .
الثاني : لصفاء ألوانهم وحسن منظرهم وهو معنى قول سفيان .
{ وإذا رأَيْتَ ثمَّ } يعني الجنة .
{ رأَيْتَ نَعيماً } فيه وجهان :
أحدهما : يريد كثرة النعمة .
الثاني : كثرة النعيم .
{ ومُلْكاً كبيراً } فيه وجهان :
أحدهما : لسعته وكثرته .
الثاني : لاستئذان الملائكة عليهم وتحيتهم بالسلام .
ويحتمل ثالثاً : أنهم لا يريدون شيئاً إلا قدروا عليه .
{ وسقاهم ربُّهم شَراباً طَهوراً } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه وصفه بذلك لأنهم لا يبولون منه ولا يُحْدِثون عنه ، قاله عطية ، قال إبراهيم التميمي : هو عَرَق يفيض من أعضائهم مثل ريح المسك .
الثاني : لأن خمر الجنة طاهرة ، وخمر الدنيا نجسة ، فلذلك وصفه الله تعالى بالطهور ، قاله ابن شجرة .
الثالث : أن أنهار الجنة ليس فيها نجس كما يكون في أنهار الدنيا وأرضها حكاه ابن عيسى .


إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا (24) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا (26) إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا (27) نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا (28) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (31)

{ ولا تُطِعْ منهم آثِماً أو كَفوراً } قيل إنه عنى أبا جهل ، يريد بالآثم المرتكب للمعاصي ، وبالكفور الجاحد للنعم .
{ واذكُر اسمَ رَبِّك بُكرَةً وأصيلاً } يعني في أول النهار وآخره ، ففي أوله صلاة الصبح ، وفي آخره صلاة الظهر والعصر .
{ ومِنَ الليلِ فاسْجدْ له } يعني صلاة المغرب والعشاء الآخرة .
{ وسَبِّحْهُ ليلاً طويلاً } يعني التطوع من الليل .
قال ابن عباس وسفيان : كل تسبيح في القرآن هو صلاة .
{ إنّ هؤلاءِ يُحِبّونَ العاجلةَ } يحتمل في المراد بهم قولين :
أحدهما : أنه أراد بهم اليهود وما كتموه من صفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وصحة نبوّته . الثاني : أنه أراد المنافقين لاستبطانهم الكفر .
ويحتمل قوله { يحبون العاجلة } وجهين :
أحدهما : أخذ الرشا على ما كتموه إذا قيل إنهم اليهود .
الثاني : طلب الدنيا إذا قيل إنهم المنافقون .
{ ويَذَرُونَ وراءَهم يوماً ثقيلاً } يحتمل وجهين :
أحدهما : ما يحل بهم من القتل والجلاء إذا قيل إنهم اليهود .
الثاني : يوم القيامة إذا قيل إنهم المنافقون .
فعلى هذا يحتمل قوله « ثقيلاً » وجهين :
أحدهما : شدائده وأحواله .
الثاني : للقِصاص من عباده .
{ نحن خَلقْناهم وشَدَدْنا أَسْرَهم } في أسرهم ثلاثة أوجه :
أحدها : يعني مفاصلهم ، قاله أبو هريرة .
الثاني : خلقهم ، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة قال لبيد :
ساهم الوجه شديد أسْرُه ... مشرف الحارك محبوك الكفل .
الثالث : أنه القوة ، قاله ابن زيد ، قال ابن أحمر في وصف فرس :
يمشي لأوظفةٍ شدادٍ أسْرُها ... صُمِّ السنابِك لاتقى بالجَدْجَدِ .
ويحتمل هذا القول منه تعالى وجهين :
أحدهما : امتناناً عليهم بالنعم حين قابلوها بالمعصية .
الثاني : تخويفاً لهمن بسلب النعم .
{ وإذا شئنا بدّلْنا أمثالَهم تبديلاً } يحتمل وجهين :
أحدهما : أمثال من كفر بالنعم وشكرها .
الثاني : من كفر بالرسل بمن يؤمن بها .
{ إنّ هذه تَذْكِرةٌ } يحتمل بالمراد ب « هذه » وجهين :
أحدهما : هذه السورة .
الثاني : هذه الخلقة التي خلق الإنسان عليها .
ويحتمل قوله « تذكرة » وجهين :
أحدهما : إذكار ما غفلت عنه عقولهم .
الثاني : موعظة بما تؤول إليه أمورهم .
{ فَمَنْ شاءَ اتَخَذَ إلى ربِّه سَبيلاً } يحتمل وجهين :
أحدهما : طريقاً إلى خلاصه .
الثاني : وسيلة إلى جنته .


وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (2) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا (3) فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (4) فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (5) عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (6) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (7) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ (9) وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (14) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15)

قوله تعالى : { والمرسلات عُرْفاً } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : الملائكة ترسل بالمعروف ، قاله أبو هريرة وابن مسعود .
الثاني : أنهم الرسل يرسلون بما يُعرفون به من المعجزات ، وهذا قول أبي صالح .
الثالث : أنها الرياح ترسل بما عرفها الله تعالى .
ويحتمل رابعاً : أنها السحب لما فيها من نعمة ونقمة عارفة بما أرسلت فيه ، ومن أرسلت إليه .
ويحتمل خامساً : أنها الزواجر والمواعظ .
وفي قوله « عُرْفاً » على هذا التأويل ثلاثة أوجه :
أحدها : متتابعات كعُرف الفرس ، قاله ابن مسعود .
الثاني : جاريات ، قاله الحسن يعني القلوب .
الثالث : معروفات في العقول .
{ فالعاصِفاتِ عَصْفاً } فيه قولان :
أحدهما : أنها الرياح العواصف ، قاله ابن مسعود .
الثاني : الملائكة ، قاله مسلم بن صبيح .
ويحتمل قولاً ثالثاً : أنها الآيات المهلكة كالزلازل والخسوف .
وفي قوله « عصفاً » وجهان :
أحدهما : ما تذروه في جريها .
الثاني : ما تهلكه بشدتها .
{ والنَّاشِراتِ نَشْراً } فيه خمسة أوجه :
أحدها : أنها الرياح تنشر السحاب ، قاله ابن مسعود .
الثاني : أنها الملائكة تنشر الكتب ، قاله أبو صالح أيضاً .
الثالث : أنه المطر ينشر النبات ، قاله ابو صالح أيضاً .
الرابع : أنه البعث للقيامة تُنشر فيه الأرواح ، قاله الربيع .
الخامس : أنها الصحف تنشر على الله تعالى بأعمال العباد ، قاله الضحاك .
{ فالفارِقات فَرقاً } فيه أربعة أقاويل :
أحدها : الملائكة التي تفرق بين الحق والباطل ، قاله ابن عباس .
الثاني : الرسل الذين يفرقون بين الحلال والحرام ، قاله أبو صالح .
الثالث : أنها الرياح ، قاله مجاهد .
الرابع : القرآن .
وفي تأويل قوله « فَرْقاً » على هذا القول وجهان :
أحدهما : فرقه آية آية ، قاله الربيع .
الثاني : فرق فيه بين الحق والباطل ، قاله قتادة .
{ فالمُلْقِياتِ ذِكْراً } فيه قولان :
أحدهما : الملائكة تلقي ما حملت من الوحي والقرآن إلى من أرسلت إليه من الأنبياء ، قاله الكلبي .
الثاني : الرسل يلقون على أممهم ما أنزل إليهم ، قاله قطرب .
ويحتمل ثالثاً : أنها النفوس تلقي في الأجساد ما تريد من الأعمال .
{ عُذْراً أو نُذْراً } يعني عذراً من الله إلى عباده ، ونُذْراً إليهم من عذابه .
ويحتمل ثانياً : عذراً من الله بالتمكن ، ونذراً بالتحذير .
وفي ما جعله عذراً أو نذراً ثلاثة أقاويل :
أحدها : الملائكة ، قاله ابن عباس .
الثاني : الرسل ، قاله أبو صالح .
الثالث : القرآن ، قاله السدي .
{ إنما تُوعَدُونَ لَواقعٌ } هذا جواب ما تقدم من القسم ، لأن في أول السورة قسم ، أقسم الله تعالى إنما توعدون على لسان الرسول من القرآن في أن البعث والجزاء واقع بكم ونازل عليكم .
ثم بيّن وقت وقوعه فقال :
{ فإذا النجومُ طُمِسَتْ } أي ذهب ضوؤها ومحي نورها كطمس الكتاب .
{ وإذا السماءُ فُرِجَتْ } أي فتحت وشققت .
{ وإذا الجبالُ نُسِفَتْ } أي ذهبت ، وقال الكلبي : سويت بالأرض .
{ وإذا الرّسُلُ أُقِّتَتْ } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : يعني أُودت ، قاله إبراهيم .
الثاني : أُجلت ، قاله مجاهد .
الثالث : جمعت ، قاله ابن عباس .
وقرأ أبو عمرو « وقتت » ومعناها عرفت ثوابها في ذلك اليوم ، وتحتمل هذه القراءة وجهاً آخر أنها دعيت للشهادة على أممها .


أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19) أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (21) إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (26) وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28)

{ ألم نُهلِكِ الأوَّلينِ } يعني من العصاة ، وفيمن أريد بهم وجهان :
أحدهما : قوم نوح عليه السلام لعموم هلاكهم بالطوفان لأن هلاكهم أشهر وأعم .
الثاني : أنه قوم كل نبي استؤصلوا ، لأنه في خصوص الأمم أندر .
{ ثُمّ نُتْبِعُهُم الآخِرينَ } يعني في هلاكهم بالمعصية كالأولين ، إما بالسيف وإما بالهلاك .
{ كذلك نَفْعَلُ بالمْجرمين } يحتمل وجهين :
أحدهمأ : أنه تهويل لهلاكهم في الدنيا اعتباراً .
الثاني : أنه إخبار بعذابهم في الآخرة استحقاقاً .
{ أَلمْ نَخْلُقْكُم مِنْ ماءٍ مَهينٍ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : من صفوة الماء ، قاله ابن عباس .
الثاني : من ماء ضعيف ، قاله مجاهد وقتادة .
الثالث : من مني سائل ، قاله ابن كامل .
{ فَجَعَلْناه في قرارٍ مَكينٍ } فيه وجهان :
أحدهما : قاله وهب بن منبّه في رحم أُمّه لا يؤذيه حَرّ ولا برد .
الثاني : مكين حريز لا يعود فيخرج ولا يبث في الجسد فيدوم ، قاله الكلبي .
{ إلى قَدَرٍ مَعْلُومٍِ } إلى يوم ولادته .
{ فقدرنا فنِعْم القادِرون } في قراءة نافع مشددة ، وقرأ الباقون مخففة ، فمن قرأ بالتخفيف فتأويلها : فملكنا فنعم المالكون . ومن قرأ بالتشديد فتأويلها :
فقضينا فنعم القاضون ، وقال الفراء : هما لغتان ومعناهما واحد .
{ ألمْ نجْعَلِ الأرضَ كِفاتاً } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : يعني كِنّاً ، قاله ابن عباس .
الثاني : غطاء ، قاله مجاهد .
الثالث : مجمعاً ، قاله المفضل .
الرابع : وعاء قال الصمصامة بن الطرماح :
فأنت اليومَ فوق الأرض حيٌّ ... وأنت غداً تَضُمُّكَ من كِفات .
{ أحْياءً وأَمْواتاً } فيه وجهان :
أحدهما : أن الأرض تجمع الناس أحياء على ظهرها وأمواتاً في بطنها ، قاله قتادة والشعبي .
الثاني : أن من الأرض أحياء بالعمارة والنبات ، وأمواتاً بالجدب والجفاف ، وهو أحد قولي مجاهد .


انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (30) لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34) هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40)

{ انْطَلِقوا إلى ظِلٍّ ذي ثلاثِ شُعَبٍ } قيل إن الشعبة تكون فوقه ، والشعبة عن يمينه ، والشعبة عن شماله ، فتحيط به ، قاله مجاهد .
الثاني : أن الشعب الثلاث الضريع والزقوم والغسلين ، قاله الضحاك .
ويحتمل ثالثاً : أن الثلاث الشعب : اللهب والشرر والدخان ، لأنه ثلاثة أحوال هي غاية أوصاف النار إذا اضطرمت واشتدت .
{ لا ظَليلٍ } في دفع الأذى عنه .
{ ولا يُغْني مِن اللّهَب } واللهب ما يعلو عن النار إذا اضطرمت من أحمر وأصفر وأخضر .
{ إنها تَرْمي بِشَرَرٍ كالقَصْرِ } والشرر ما تطاير من قطع النار ، وفي قوله « كالقصر » خمسة أوجه .
أحدها : أنه أصول الشجر العظام ، قاله الضحاك .
الثاني : كالجبل ، قاله مقاتل .
الثالث : القصر من البناء وهو واحد القصور ، قاله ابن مسعود .
الرابع : أنها خشبة كان أهل الجاهلية يقصدونها ، نحو ثلاثة أذرع ، يسمونها القصر ، قاله ابن عباس .
الخامس : أنها أعناق الدواب ، قاله قتادة .
ويحتمل وجهاً سادساً : أن يكون ذلك وصفاً من صفات التعظيم ، كنى عنه باسم القصر ، لما في النفوس من استعظامه ، وإن لم يُردْ به مسمى بعينه .
{ كأنّه جِمالةٌ صُفْرٌ } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : يعني جِمالاً صُفراً وأراد بالصفر السود ، سميت صفراً لأن سوادها يضرب إلى الصفرة ، وهو قول الحسن ومجاهد وقتادة ، قال الشاعر :
تلك خَيْلي منه وتلك رِكابي ... هُنّ صُفْرٌ أولادُها كالزبيبِ .
الثاني : أنها قلوس السفن ، قاله ابن عباس وسعيد بن جبير .
الثالث : أنها قطع النحاس ، وهو مروي عن ابن عباس أيضاً .
وفي تسميتها بالجمالات الصفر وجهان :
أحدهما : لسرعة سيرها .
الثاني : لمتابعة بعضها لبعض .
{ فإنْ كانَ لكم كَيْدٌ فَكِيدُونِ } فيه وجهان :
أحدهما : إن كان لكم حيلة فاحتالوا لأنفسكم ، قاله مقاتل .
الثاني : إن استطعتم أن تمتنعوا عني فامتنعوا ، وهو معنى قول الكلبي .


إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)

{ وإذا قِيلَ لهم ارْكَعوا لا يَرْكَعون } أي صلّوا لا يصلّون ، قال مقاتل .
نزلت في ثقيف امتنعوا عن الصلاة فنزل ذلك فيهم ، وقيل إنه قال ذلك لأهل الآخرة تقريعاً لهم .
{ فبأيِّ حديثٍ بَعْدَه يُؤْمنُون } أي فبأي كتاب بعد القرآن يصدّقون .


عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (5) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11) وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13) وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16)

قوله تعالى { عَمَّ يتساءَلونَ عن النبإ العَظيمِ } يعني عن أي شيء يتساءل المشركون؟ لأن قريشاً حيث بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جعلت تجادل وتَختصم في الذي دعا إليه .
وفي { النبأ العظيم } أربعة أقاويل :
أحدها : القرآن ، قاله مجاهد .
الثاني : يوم القيامة ، قاله ابن زيد .
الثالث : البعث بعد الموت ، قاله قتادة .
الرابع : عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم .
{ الذي هُمْ فيه مُختَلِفَونَ } هو البعث ، فأما الموت فلم يختلفوا فيه ، وفيه قولان :
أحدهما : أنه اختلف فيه المشركون من بين مصدق منهم ومكذب ، قاله قتادة .
الثاني : اختلف فيه المسلمون والمشركون ، فصدّق به المسلمون وكذّب به المشركون ، قاله يحيى بن سلام .
{ كَلاَّ سيعْلَمون ثم كلا سيعلمون } فيه قولان :
أحدهما : أنه وعيد بعد وعيد للكفار ، قاله الحسن ، فالأول : كلا سيعلمون ما ينالهم من العذاب في القيامة ، والثاني : كلا سيعلمون ما ينالهم من العذاب في جهنم .
القول الثاني : أن الأول للكفار فيما ينالهم من العذاب في النار ، والثاني للمؤمنين فيما ينالهم من الثواب في الجنة ، قاله الضحاك .
{ وجَعَلْنا نَوْمَكم سُباتاً } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : نعاساً ، قاله السدي .
الثاني : سكناً ، قاله قتادة .
الثالث : راحة ودعة ، ولذلك سمي يوم السبت سبتاً لأنه يوم راحة ودعة ، قال أبو جعفر الطبري : يقال سبت الرجل إذا استراح .
الرابع : سُباتا أي قطعاً لأعمالهم ، لأن أصل السبات القطع ومنه قولهم سبت الرجل شعره إذا قطعه ، قال الأنباري : وسمي يوم السبت لانقطاع الأعمال فيه .
ويحتمل خامساً : أن السبات ما قرت فيه الحواس حتى لم تدرك بها الحس .
{ وجَعَلْنا اللّيلَ لِباساً } فيه وجهان :
أحدهما : سكناً ، قاله سعيد بن جبير والسدي .
الثاني : غطاء ، لأنه يغطي سواده كما يغطى الثوب لابسه ، قاله أبو جعفر الطبري .
{ وجَعَلنا النهارَ مَعاشاً } يعني وقت اكتساب ، وهو معاش لأنه يعاش فيه .
ويحتمل ثانياً : أنه زمان العيش واللذة .
{ وجَعَلْنا سِراجاً وَهّاجاً } يعني بالسراج الشمس ، وفي الوهّاج أربعة أقاويل :
أحدها : المنير ، قاله ابن عباس .
الثاني : المتلألىء ، قاله مجاهد .
الثالث : أنه من وهج الحر ، قاله الحسن .
الرابع : أنه الوقّاد ، الذي يجمع بين الضياء والجمال .
{ وأَنْزَلْنا من المُعْصِراتِ ماءً ثَجّاجاً } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : ان المعصرات الرياح ، قاله ابن عباس وعكرمة ، قال زيد بن أسلم هي الجنوب .
الثاني : أنها السحاب ، قاله سفيان والربيع .
الثالث : أن المعصرات السماء ، قاله الحسن وقتادة .
وفي الثجاج قولان :
أحدهما : الكثير قاله ابن زيد .
الثاني : المنصبّ ، قاله ابن عباس ، وقال عبيد بن الأبرص :
فثجّ أعلاه ثم ارتج أسفلُه ... وضاق ذَرْعاً بحمل الماء مُنْصاحِ

{ لنُخرج به حبّاً ونَباتاً } فيه قولان :
أحدهما : ان الحب ما كان في كمام الزرع الذي يحصد ، والنبات : الكلأ الذي يرعى ، وهذا معنى قول الضحاك .
الثاني : أن الحب اللؤلؤ ، والنبات : العشب ، قال عكرمة : ما أنزل الله من السماء قطرة إلا أنبتت في الأرض عشبة أو في البحر لؤلؤة .
ويحتمل ثالثاً : أن الحب ما بذره الآدميّون ، والنبات ما لم يبذروه .
{ وجنّاتٍ أَلْفافاً } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها الزرع المجتمع بعضه إلى جنب بعض ، قاله عكرمة .
الثاني : أنه الشجرالملتف بالثمر ، قاله السدي .
الثالث : أنها ذات الألوان ، قاله الكلبي .
ويحتمل رابعاً : أنها التي يلف الزرع أرضها والشجر أعاليها ، فيجتمع فيها الزرع والشجر ملتفات .


إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18) وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (20) إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلطَّاغِينَ مَآبًا (22) لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) جَزَاءً وِفَاقًا (26) إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (30)

{ إنّ يومَ الفصلِ } يعني يوم القيامة ، سمي بذلك لأنه يفصل فيه الحكم بين الأولين والآخرين والمثابين والمعاقبين .
{ كانَ مِيقاتاً } فيه وجهان :
أحدهما : ميعاداً للإجتماع .
والثاني : وقتاً للثواب والعقاب .
{ وسُيِّرتِ الجبالُ فكانتْ سَراباً } فيه وجهان :
أحدهما : سُيّرت أي أزيلت عن مواضعها .
الثاني : نسفت من أصولها .
« فكانت سراباً » فيه وجهان :
أحدهما : فكانت هباءً .
الثاني : كالسراب لا يحصل منه شيء كالذي يرى السراب يظنه ماء وليس بماء .
{ إنّ جهنّمَ كانت مِرْصاداً } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : يعني أنها راصدة فجازتهم بأعمالهم ، قاله أبو سنان .
الثاني : أن على النار رصداً ، لا يدخل أحد الجنة حتى يجتاز عليه ، فمن جاء بجواز جاز ، ومن لم يجىء بجواز لم يجز ، قاله الحسن .
الثالث : أن المرصاد وعيد أوعد الله به الكفار ، قاله قتادة .
{ للطّاغينَ مَآباً } فيه قولان :
أحدهما : مرجعاً ومنقلباً ، قاله السدي .
الثاني : مأولى ومنزلاً ، قاله قتادة .
والمراد بالطاغين من طغى في دينه بالكفر أو في دنياه بالظلم .
{ لابِثينَ فيها أَحْقاباً } يعني كلما مضى حقب جاء حقب وكذلك إلى الأبد واختلفوا في مدة الحقب على سبعة أقاويل :
أحدها : ثمانون سنة ، قاله أبو هريرة .
الثاني : أربعون سنة ، قاله ابن عمر .
الثالث : سبعون سنة ، قاله السدي .
الرابع : أنه ألف شهر ، رواه أبو أمامة مرفوعاً .
الخامس : ثلاثمائة سنة ، قاله بشير بن كعب .
السادس : سبعون ألف سنة ، قاله الحسن .
السابع : أنه دهر طويل غير محدود ، قاله قطرب .
وفي تعليق لبثهم بالأحقاب قولان :
أحدهما : أنه على وجه التكثير ، كلما مضت أحقاب جاءَت بعدها أحقاب ، وليس ذلك بحد لخلودهم في النار .
الثاني : أن ذلك حد لعذابهم بالحميم والغسّاق ، فإذا انقضت الأحقاب عذبوا بغير ذلك من العذاب .
{ لا يَذُوقونَ فيها بَرداً ولا شَراباً } في البرد ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه برد الماء ، وبرد الهواء ، وهو قول كثير من المفسرين .
الثاني : أنه الراحة ، قاله قتادة .
الثالث : أنه النوم ، قاله مجاهد والسدي وأبو عبيدة .
وأنشد قول الكندي :
بَرَدَتْ مَراشِفُها علىَّ فَصَدَّني ... عنها وعن تَقْبيلِها البَرْدُ
يعني النوم .
والشراب ها هنا : العذاب .
ويحتمل أن يريد بالشراب الري ، لأن الشراب يروي وهم فيها عطاش أبداً .
{ إلاّ حَميماً وغَسّاقاً } أما الحميم ففيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه الحارّ الذي يحرق ، قاله ابن عباس .
الثاني : دموع أعينهم في النار تجتمع في حياض في النار فيُسقونْه ، قاله ابن زيد .
الثالث : أنه نوع من الشراب لأهل النار ، قاله السدي . وأما الغسّاق ففيه أربعة أقاويل :
أحدهاك أنه القيح الغليظ ، قاله ابن عمر .

الثاني : أنه الزمهرير البارد الذي يحرق من برده ، قاله ابن عباس .
الثالث : أنه صديد أهل النار ، قاله قتادة .
الرابع : أنه المنتن باللغة الطحاوية ، قاله ابن زيد .
{ جزاءً وِفاقاً } وهو جمع وفق ، قال أهل التأويل : وافق سوءُ الجزاء سوءَ العمل .
{ إنهم كانوا لا يَرْجُونَ حِساباً } فيه وجهان :
أحدهما : لا يرجون ثواباً ولا يخافون عقاباً ، قاله ابن عباس .
الثاني : لا يخافون وعيد الله بحسابهم ومجازاتهم ، وهذا معنى قول قتادة .
{ وكذّبوا بآياتِنا كِذّاباً } يعني بآيات القرآن ، وفي « كِذّاباً » وجهان :
أحدهما : أنه الكذب الكثير .
الثاني : تكذيب بعضهم لبعض ، ومنه قول الشاعر :
فَصَدَقْتُها وَكَذَبْتُها ... والمرءُ يَنْفعُهُ كِذابُهْ
وهي لغة يمانية .


إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33) وَكَأْسًا دِهَاقًا (34) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35) جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (36)

{ إنّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً } فيه وجهان :
أحدهما : نجاة من شرها ، قاله ابن عباس .
الثاني : فازوا بأن نجوا من النار بالجنة ، ومن العذاب بالرحمة ، قاله قتادة ، وتحقيق هذا التأويل أنه الخلاص من الهلاك ، ولذلك قيل للفلاة إذا قل ماؤها مفازة تفاؤلاً بالخلاص منها .
{ وكَواعِبَ أَتْراباً } في الكواعب قولان :
أحدهما : النواهد ، قاله ابن عباس .
الثاني : العذارى ، قاله الضحاك ، ومنه قول قيس بن عاصم :
وكم مِن حَصانٍ قد حَويْنا كريمةٍ ... ومِن كاعبٍ لم تَدْرِ ما البؤسُ مُعْصر
وفي الاتراب أربعة أقاويل :
أحدها : الأقران ، قاله ابن عباس .
الثاني : الأمثال ، قاله مجاهد .
الثالث : المتصافيات ، قاله عكرمة .
الرابع : المتآخيات ، قاله السدي .
{ وكأساً دِهاقاً } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : مملوءة ، قاله ابن عباس ، ومنه قول الشاعر :
أتانا عامرٌ يَبْغي قِرانا ... فأَتْرَعنا له كأساً دِهاقاً
الثاني : متتابعة يتبع بعضها بعضاً ، قاله عكرمة .
الثالث : صافية ، رواه عمر بن عطاء ، قال الشاعر :
لأنْتِ آلى الفؤادِ أَحَبُّ قُرْباً ... مِن الصّادي إلى كأسٍ دِهَاقِ .
{ لا يَسْمعونَ فيها لَغْواً ولا كِذّاباً } في اللغو ها هنا أربعة أقاويل :
أحدها الباطل ، قاله ابن عباس .
الثاني : الحلف عند شربها ، قاله السدي .
الثالث : الشتم ، قاله مجاهد .
الرابع : المعصية ، قاله الحسن .
وفي « كِذّاباً » ثلاثة أقاويل :
أحدهاك لا يكذب بعضهم بعضاً ، قاله سعيد بن جبير .
الثاني : أنه الخصومة ، قاله الحسن .
الثالث : أنه المأثم ، قاله قتادة .
وفي قوله { لا يَسْمَعونَ فيها } وجهان :
أحدهما : في الجنة ، قاله مجاهد .
الثاني : في شرب الخمر ، قاله يحيى بن سلام .
{ جزاءً من ربكَ عَطاءً حِساباً } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : كافياً ، قاله الكلبي .
الثاني : كثيراً ، قاله قتادة .
الثالث : حساباً لما عملوا ، فالحساب بمعنى العد .


رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38) ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا (39) إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا (40)

{ يومَ يقومُ والرُّوحُ الملائكةُ صَفّاً } في الروح ها هنا ثمانية أقاويل :
أحدها : الروح خلق من خلق الله كهيئة الناس وليسوا أناساً ، وهم جند للَّه سبحانه ، قاله أبو صالح .
الثاني : أنهم أشرف الملائكة ، قاله مقاتل بن حيان .
الثالث : أنهم حفظة على الملائكة ، قاله ابن أبي نجيح .
الثالث : أنهم حفظة على الملائكة خلقاً ، قاله ابن عباس .
الرابع : أنه ملك من أعظم الملائكة خلقاً ، قاله ابن عباس .
الخامس : هو جبريل عليه السلام ، قاله سعيد بن جبير .
السادس : أنهم بنو آدم ، قاله قتادة .
السابع : أنهم بنو آدم ، قاله قتادة .
الثامن : أنه القرآن ، قاله زيد بن أسلم .
{ لا يتكلمونَ إلا مَنْ أَذِنَ له الرحمنُ } فيه قولان :
أحدهما : لا يشفعون إلا من أذن له الرحمن في الشفاعة ، قاله الحسن .
الثاني : لا يتكلمون في شيء إلا من أذن له الرحمن شهادة أن لا إله إلا الله ، قاله ابن عباس .
{ وقالَ صَواباً } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : يعني حقاً ، قاله الضحاك .
الثاني : قول لا إله إلا الله ، قاله أبو صالح .
الثالث : أن الروح يقول يوم القيامة : لا تُدخل الجنة إلا بالرحمة ، ولا النار إلا بالعمل ، فهو معنى قوله « وقال صواباًَ » قاله الحسن .
ويحتمل رابعاً : أنه سؤال الطالب وجواب المطلوب ، لأن كلام الخلق في القيامة مقصور على السؤال والجواب .
{ ذلك اليومُ الحقُّ } يعني يوم القيامة ، وفي تسميته الحق وجهان :
أحدهما : لأن مجئيه حق وقد كانوا على شك .
الثاني : أنّ الله تعالى يحكم فيه بالحق بالثواب والعقاب .
{ فمن شاءَ اتّخَذ إلى ربِّه مآباً } فيه وجهان :
أحدهما : سبيلاً ، قاله قتادة .
الثاني : مرجعاً ، قاله ابن عيسى .
ويحتمل ثالثاً : اتخذ ثواباً لاستحقاقه بالعمل لأن المرجع يستحق على المؤمن والكافر .
{ إنّا أنذْرْناكم عَذاباَ قريباً } فيه وجهان :
أحدهما : عقوبة الدنيا ، لأنه أقرب العذابين ، قاله قتادة ، وقاله مقاتل : هو قتل قريش ببدر .
الثاني : عذاب يوم القيامة ، لأنه آت وكل آت قريب ، وهو معنى قول الكلبي .
{ يومَ ينظُرُ المْرءُ ما قدَّمَتْ يَداهُ } يعني يوم ينظر المرء ما قدّم من عمل خير ، قال الحسن : قدَّم فقَدِم على ما قَدَّم . ويحتمل أن يكون عامّاً في نظر المؤمن إلى ما قدّم من خير ، ونظر الكافر إلى ما قدّم من شر .
{ ويقولُ الكافرُ يا لَيْتني كنتُ تُراباً } قال مجاهد يبعث الحيوان فيقاد للمنقورة من الناقرة ، وللمركوضة من الراكضة ، وللمنطوحة من الناطحة ، ثم يقول الرب تعالى : كونوا تراباً بلا جنة ولا نار ، فيقول الكافر حينئذ : يا ليتني كنت تراباً وفي قوله ذلك وجهان :
أحدهما : يا ليتني صرت اليوم مثلها تراباً بلا جنة ولا نار ، قاله مجاهد . الثاني : يا ليتني كنت مثل هذا الحيوان في الدنيا وأكون اليوم تراباً ، قاله أبو هريرة : وهذه من الأماني الكاذبة كما قال الشاعر :
ألا يا ليتني والمْرءُ مَيْتُ ... وما يُغْني من الحدثانِ لَيْت .
قال مقاتل : نزل قوله تعالى : { يوم ينظر المرء ما قدّمت يداهُ } في أبي سلمة بن عبد الأسد المخزومي ، ونزل قوله تعالى : { ويقول الكافر يا ليتني كنت تراباً } في أخيه الأسود بن عبد الأسد .


وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10) أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً (11) قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14)

قوله تعالى { والنَّأزِعاتِ غَرْقاً } فيه ستة أقاويل :
أحدها : هي الملائكة تنزع نفوس بني آدم ، قاله ابن مسعود ومسروق .
الثاني : هو الموت ينزع النفوس ، قاله مجاهد .
الثالث : هي النفوس حين تنزع ، قاله السدي .
الرابع : هي النجوم تنزع من أفق إلى أفق ، ومن المشرق إلى المغرب ، قاله الحسن وقتادة .
والخامس : هي القسيّ تنزع بالسهم ، قاله عطاء .
السادس : هي الوحش تنزع من الكلأ وتنفر ، حكاه يحيى بن سلام ، ومعنى « غرقاً » أي إبعاداً في النزع .
{ والناشِطات نَشْطاً } فيه ستة تأويلات :
أحدها : هي الملائكة تنشط أرواح المؤمنين بسرعة كنشط العقال ، قاله ابن عباس .
الثاني : النجوم التي تنشط من مطالعها إلى مغاربها ، قاله قتادة .
الثالث : هو الموت ينشط نفس الإنسان ، قاله مجاهد .
الرابع : هي النفس حيث نشطت بالموت ، قاله السدي .
الخامس : هي الأوهاق ، قاله عطاء .
السادس : هي الوحش تنشط من بلد إلى بلد ، كما أن الهموم تنشط الإنسان من بلد إلى بلد ، قاله أبو عبيدة ، وانشد قول همام بن قحافة :
أمْسَتْ همومي تنشط المناشِطا ... الشامَ بي طَوْراً وطَوْراً واسطاً .
{ والسّابحاتِ سَبْحاً } فيه خمسة أوجه :
أحدها : هي الملائكة سبحوا إلى طاعة الله من بني آدم ، قاله ابن مسعود والحسن .
الثاني : هي النجوم تسبح في فلكها ، قاله قتادة .
الثالث : هو الموت يسبح في نفس ابن آدم ، قاله مجاهد .
الرابع : هي السفن تسبح في الماء ، قاله عطاء .
الخامس : هي الخيل ، حكاه ابن شجرة ، كما قال عنترة :
والخيلُ تعْلم حين تس ... بَحُ في حياضِ المْوتِ سَبْحاً
ويحتمل سادساً : أن تكون السابحات الخوض في أهوال القيامة .
{ فالسّابقاتِ سَبْقاً } فيه خمسة تأويلات :
أحدها هي الملائكة تسبق الشياطين بالوحي إلى الأنبياء ، قاله عليّ رضي الله عنه ومسروق .
وقال الحسن : سبقت إلى الايمان .
الثاني : هي النجوم يسبق بعضها بعضاً ، قاله قتادة .
الثالث : هوالموت يسبق إلى النفس ، قاله مجاهد .
الرابع : هي النفس تسبق بالخروج عند الموت ، قاله الربيع .
الخامس : هي الخيل ، قاله عطاء .
ويحتمل سادساً : أن تكون السابقات ما سبق من الأرواح قبل الأجساد إلى جنة أو نار .
{ فالمُدَبِّرات أمْراً } فيهم قولان :
أحدهما : هي الملائكة ، قاله الجمهور ، فعلى هذا في تدبيرها بالأمر وجهان :
أحدهما : تدبير ما أمرت به وأرسلت فيه .
الثاني : تدبير ما وكلت فيه من الرياح والأمطار .
الثاني : هي الكواكب السبعة ، حكاه خالد بن معدان عن معاذ بن جبل؛ وعلى هذا في تدبيرها للأمر وجهان .
أحدهما : تدبير طلوعها وأفولها .
الثاني : تدبير ما قضاه الله فيها من تقلب الأحوال .
ومن أول السورة إلى هذا الموضع قسم أقسم الله به ، وفيه وجهان :
أحدهما : أن ذكرها بخالقها .

الثاني : أنه أقسم بها وإن كانت مخلوقة لا يجوز لمخلوق أن يقسم بها ، لأن لله تعالى أن يقسم بما شاء من خلقه .
وجواب ما عقد له القسم ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه مضمر محذوف وتقديره لو أظْهر : لتُبْعَثُن ثم لُتحاسبُن ، فاستغنى بفحوى الكلام وفهم السامع عن إظهاره ، قاله الفراء .
الثاني : أنه مظهر ، وهو قوله تعالى : { إن في ذلك لعبرةً لمن يخشى } قاله مقاتل .
الثالث : هو قوله تعالى :
{ يومَ ترْجفُ الراجفةُ * تَتْبعُها الرادِفةُ } وفيهما ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن الراجفة القيامة ، والرادفة البعث ، قاله ابن عباس .
الثاني : أن الراجفة النفخة الأولى تميت الأحياء ، والرادفة : النفخة الثانية تحيي الموتى ، قاله الحسن وقتادة .
وقال قتادة : ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « بينهما أربعون ، ما زادهم على ذلك ولا سألوه ، وكانوا يرون أنها أربعون سنة » .
وقال عكرمة : الأولى من الدنيا ، والثانية من الآخرة .
الثالث : أن الراجفة الزلزلة التي ترجف الأرض والجبال والرادفة إذا دكّتا دكة واحدة ، قاله مجاهد .
ويحتمل رابعاً : أن الراجفة أشراط الساعة ، والرادفة : قيامها .
{ قلوبٌ يومئذٍ واجِفَةٌ } فيه وجهان :
أحدهما : خائفة ، قاله ابن عباس .
الثاني : طائرة عن أماكنها ، قاله الضحاك .
{ أَبْصارُها خاشِعَة } فيه وجهان :
أحدهما : ذليلة ، قاله قتادة .
الثاني : خاضعة ، قاله الضحاك .
{ يقولون أئنا لَمْردودُونَ في الحافِرةِ } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : أن الحافرة الحياة بعد الموت ، قاله ابن عباس والسدي وعطية .
الثاني : أنها الأرض المحفورة ، قاله ابن عيسى .
الثالث : أنها النار ، قاله ابن زيد .
الرابع : أنها الرجوع إلى الحالة الأولى تَكذيباً بالبعث ، من قولهم رجع فلان على قومه إذا رجع من حيث جاء ، قاله قتادة ، قال الشاعر :
أحافرة على صَلَعٍ وشيْبٍ ... معاذَ اللَّه من جَهْلٍ وطَيْشِ
{ أَئِذا كْنَا عِظاماً نَخِرةً } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : بالية ، قاله السدي .
الثاني : عفنة ، قاله ابن شجرة .
الثالث : خالية مجوفة تدخلها الرياح فتنخر ، أي تصوّت ، قاله عطاء والكلبي .
ومن قرأ « ناخرة » فإن الناخرة البالية ، والنخرة التي تنخر الريح فيها .
{ تلك إذاً كَرّةٌ خاسِرةٌ } فيه تأويلان :
أحدهما : باطلة لا يجيء منها شيء ، كالخسران ، وليست كاسبة ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : معناه لئن رجعنا أحياء بعد الموت لنخسرنّ بالنار ، قاله قتادة ومحمد بن كعب .
ويحتمل ثالثاً : إذا كنا ننتقل من نعيم الدنيا إلى عذاب الآخرة فهي كرة خاسرة .
{ فإنّما هي زجْرةٌ واحدةٌ } فيه تأويلان :
أحدهما : نفخة واحدة يحيا بها الجميع فإذا هم قيام ينظرون ، قاله الربيع بن أنس .
الثاني : الزجرة الغضب ، وهو غضب واحد ، قاله الحسن .

ويحتمل ثالثاً : أنه لأمر حتم لا رجعة فيه ولا مثنوية .
{ فَإذَا هم بالسّاهرةِ } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : وجه الأرض ، قاله ابن عباس وعكرمة ومجاهد ، والعرب تسمي وجه الأرض ساهرة لأن فيها نوم الحيوان وسهره ، قال أمية بن أبي الصلت :
وفيها لحْمُ ساهرةٍ وبَحرٌ ... وما فاهوا به لهمُ مُقيم
وقال آخر يوم ذي قار لفرسه :
أَقْدِمْ مَحاجِ إنها الأساوِره ... ولا يهولنّك رِجْلٌ بادِرهْ
فإنما قَصْرُكَ تُرْبُ السّاهرهْ ... ثم تعودُ ، بَعْدها في الحافرهْ
من بَعْد ما صِرْتَ عظاماً ناخِرهْ ... الثاني : أنه اسم مكان من الأرض بعينه بالشام ، وهو الصقع الذي بين جبل أريحا وجبل حسّان ، يمده الله تعالى كيف يشاء ، قاله عثمان بن أبي العاتكة .
الثالث : أنها جبل بيت المقدس ، قاله وهب بن منبه .
الرابع : أنه جهنم ، قاله قتادة .
ويحتمل خامساً : أنها عرضة القيام لأنها أول مواقف الجزاء ، وهم في سهر لا نوم فيه .


هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26)

{ هلْ أتاكَ حديثُ موسى * إذ ناداه ربه بالوادِ المقدَّسِ طُوَىً } فيه قولان :
أحدهما : وهو قول مبشر بن عبيد هو واد بأيلة .
الثاني : وهو قول الحسن ، هو واد بفلسطين .
وفي « المقدَّس » تأويلان :
أحدهما : المبارك ، قاله ابن عباس .
الثاني : المطهر ، قاله الحسن : قدّس مرتين .
وفي « طُوَىً » أربعة أقاويل :
أحدها : أنه أسم الوادي المقدس ، قاله مجاهد وقتادة وعكرمة .
الثاني : لأنه مر بالوادي فطواه ، قاله ابن عباس .
الثالث : لأنه طوي بالبركة ، قاله الحسن .
الرابع : يعني طأ الوادي بقدمك ، قاله عكرمة ومجاهد .
ويحتمل خامساً؛ أنه ما تضاعف تقديسه حتى تطهّر من دنس المعاصي ، مأخوذ من طيّ الكتاب إذا ضوعف .
{ فَقُلْ هل لك إلى أن تَزَكّى } فيه قولان :
أحدهما : إلى أن تُسْلِم ، قال قتادة .
الثاني : إلى أن تعمل خيراً ، قاله الكلبي .
{ فأَراهُ الآيةَ الكُبْرَى } فيها قولان :
أحدهما : أنها عصاه ويده ، قاله الحسن وقتادة .
الثاني : أنها الجنة والنار ، قاله السدي .
ويحتمل ثالثاً : أنه كلامه من الشجرة .
قوله { فَحَشَرَ فنادَى } فيه وجهان :
أحدهما : حشر السحرة للمعارضة ، ونادى جنده للمحاربة .
الثاني : حشر الناس للحضور ونادى أي خطب فيهم .
{ فأخَذَهُ الله نَكالََ الآخرة والأُولى } فيها أربعة أقاويل :
أحدها : عقوبة الدنيا والآخرة ، قال قتادة : عذبه الله في الدنيا بالغرق وفي الآخرة بالنار .
الثاني : عذاب أول عُمرِه وآخره ، قاله مجاهد .
الثالث : الأولى قوله : « ما علمت لكم مِن إلهٍ غيري » والآخرة قوله « أنا ربكم الأعلى » ، قاله عكرمة ، قال ابن عباس : وكان بينهما أربعون سنة ، وقال مجاهد : ثلاثون سنة ، قال السدي : وهي الآخرة ثلاثون سنة .
الرابع : عذاب الأولى الإمهال ، والآخرة في النار ، من قوله تعالى : { النار يعرضون عليها } الآية ، قاله الربيع .


أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33)

{ وأَغْطَشَ لَيْلَها وأَخْرَجَ ضُحاها } معناه أظلم ليلها ، وشاهد الغطش أنه الظلمة قول الأعشى :
عَقَرْتُ لهم مَوْهِنا ناقتي ... وغامِرُهُمْ مُدْلَهِمٌّ غَطِشْ
يعني يغمرهم ليلهم لأنه غمرهم بسواده .
وفي قوله : « وأخرج ضُحاها » وجهان :
أحدهما : أضاء نهارها وأضاف الليل والضحى إلى السماء لأن منهما الظلمة والضياء .
الثاني : قال ابن عباس أن أخرج ضحاها : الشمس .
{ والأرضَ بَعْد ذلك دَحاها } في قوله « بَعْد » وجهان :
أحدهما : مع وتقدير الكلام : والأرض مع ذلك دحاها ، لأنها مخلوقة قبل السماء ، قاله ابن عباس ومجاهد .
الثاني : أن « بعد » مستعملة على حقيقتها لأنه خلق الأرض قبل السماء ثم دحاها بعد السماء ، قاله ابن عمر وعكرمة . وفي « دحاها » ثلاثة أوجه :
أحدها : بسطها ، قاله ابن عباس ، قال أمية بن أبي الصلت :
وَبَثَّ الخلْق فيها إذْ دَحاها ... فَهُمْ قُطّانُها حتى التنادي
قال عطاء : من مكة دحيت الأرض ، وقال عبد الله بن عمر : من موضع الكعبة دحيت .
الثاني : حرثها وشقها ، قاله ابن زيد .
الثالث : سوّاها ، ومنه قول زيد بن عمرو :
وأسْلَمْتُ وجهي لمن أسْلَمتْ ... له الأرضُ تحمل صَخْراً ثِقالا
دحاها فلما اسْتَوتْ شدّها ... بأيْدٍ وأرْسَى عليها الجبالا


فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44) إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46)

{ فإذا جاءت الطامّةُ الكُُبْرى } فيه أربعة أقاويل :
أحدها : أنها النفخة الآخرة ، قاله الحسن .
الثاني : أنها الساعة طمت كل داهية ، والساعة أدهى وأمّر ، قاله الربيع .
الثالث : أنه اسم من أسماء القيامة يسمى الطامة ، قاله ابن عباس .
الرابع : أنها الطامة الكبرى إذا سيق أهل الجنة إلى الجنة ، وأهل النار إلى النار ، قاله القاسم بن الوليد ، وهو معنى قول مجاهد .
وفي معنى « الطامّة » في اللغة ثلاثة وجوه :
أحدها : الغاشية .
الثاني : الغامرة .
الثالث : الهائلة ، ذكره ابن عيسى ، لأنها تطم على كل شيء أي تغطيه .
{ وأمّا مَنْ خاف مَقام رَبِّهِ ونَهَى النفْسَ عن الهَوى } فيه وجهان :
أحدهما : هو خوفه في الدنيا من الله عند مواقعة الذنب فيقلع ، قاله مجاهد .
الثاني : هو خوفه في الآخرة من وقوفة بين يدي الله للحساب ، قاله الربيع بن أنس ، ويكون معنى : خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى ، قال الكلبي : وزجر النفس عن المعاصي والمحارم .
{ فإنّ الجنّةَ هي المأوَى } أي المنزل ، وذكر أنها نزلت في مصعب بن عمير .
{ يسألونَكَ عن الساعةِ أيّانَ مُرْساها } قال ابن عباس : متى زمانها ، قاله الربيع { فيمَ أنْتَ مِن ذِكْراها } فيه وجهان :
أحدهما : فيم يسألك المشركون يا محمد عنها ولست ممن يعلمها ، وهو معنى قول ابن عباس .
الثاني : فيم تسأل يا محمد عنها وليس لك السؤال ، وهذا معنى قول عروة بن الزبير .
{ إلى ربِّك مُنْتَهاها } يعني منتهى علم الساعة : فكف النبي صلى الله عليه وسلم عن السؤال وقال : يا أهل مكة إن الله احتجب بخمس لم يُطْلع عيهن مَلَكاً مقرباً ولا نبياً مرسلاً فمن ادعى علمهن فقد كفر : { إن اللَّه عنده علم الساعة . . . } إلى آخر السورة .
{ إنّما أنْتَ } يعني محمداً صلى الله عليه وسلم .
{ مَنْذِرُ مَنْ يَخْشَاها } يعني القيامة .
{ كأنّهم يومَ يَرَوْنَها } يعني الكفار يوم يرون الآخرة .
{ لَمْ يَلْبَثُوا } في الدنيا .
{ إلاَّ عَشيّةً } وهي ما بعد الزوال .
{ أو ضُحاها } وهو ما قبل الزوال ، لأن الدنيا تصاغرت عندهم وقلّت في أعينهم ، كما قال تعالى : { ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعةً من نهارٍ } .


عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16)

قوله تعالى { عَبَسَ وتَوَلّى أنْ جاءَه الأَعْمَى } روى سعيد عن قتادة أن ابن أم مكتوم ، وهو عبد الله بن زائدة من بني فهر ، وكان ضريراً ، أتى رسول الله رسول الله صلى الله عليه سلم يستقرئه وهو يناجي بعض عظماء قريش - وقد طمع في إسلامهم - قال قتادة : هو أمية بن خلف ، وقال مجاهد : هما عتبة وشيبة ابنا ربيعة ، فأعرض النبي صلى الله عليه وسلم عن الأعمى وعبس في وجهه ، فعاتبه الله تعالى في إعراضه وتوليه فقال « عبس وتولّى » أي قطّب واعرض « أن جاءه الأعمى » يعني ابن ام مكتوم .
{ وما يُدريك لعلّه يَزَّكى } فيه أربعة أوجه :
أحدها : يؤمن ، قاله عطاء .
الثاني : يتعبد بالأعمال الصالحة ، قاله ابن عيسى .
الثالث : يحفظ ما يتلوه عليه من القرآن ، قاله الضحاك .
الرابع : يتفقه في الدين ، قاله ابن شجرة .
{ أوْ يَذَّكّرُ فَتَنفَعَهُ الذّكْرَى } قال السدّي : لعله يزّكّى ويّذكرُ ، والألف صلة ، وفي الذكرى وجهان :
أحدها : الفقه .
الثاني : العظة .
قال ابن عباس : فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نظر إليه مقبلاً بسط له رداءه حتى يجلس عليه إكراماً له .
قال قتادة : واستخلفه على صلاة الناس بالمدينة في غزاتين من غزواته ، كل ذلك لما نزل فيه .
{ كلاّ إنّها تَذْكِرةٌ } فيه وجهان :
أحدهما : أن هذه السورة تذكرة ، قاله الفراء والكلبي .
الثاني : أن القرآن تذكرة ، قاله مقاتل .
{ فَمَن شَاءَ ذكَرَهُ } فيه وجهان :
أحدهما : فمن شاء الله ألهمه الذكر ، قاله مقاتل .
الثاني : فمن شاء أن يتذكر بالقرآن أذكره الله ، وهو معنى قول الكلبي .
{ في صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : مكرمة عند الله ، قاله السدي .
الثاني : مكرمة في الدين لما فيها من الحكم والعلم ، قاله الطبري .
الثالث : لأنه نزل بها كرام الحفظة .
ويحتمل قولاً رابعاً : أنها نزلت من كريم ، لأن كرامة الكتاب من كرامة صاحبه .
{ مرفوعةٍ } فيه قولان :
أحدهما : مرفوعة في السماء ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : مرفوعة القدروالذكر ، قاله الطبري .
ويحتمل قولاً ثالثاً : مرفوعة عن الشُبه والتناقض .
{ مُطَهّرةٍ } فيه أربعة أقاويل :
أحدهأ : من الدنس ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : من الشرك ، قاله السدي .
الثالث : أنه لا يمسها إلا المطهرون ، قاله ابن زيد .
الرابع : مطهرة من أن تنزل على المشركين ، قاله الحسن .
ويحتمل خامساً : لأنها نزلت من طاهر مع طاهر على طاهر .
{ بأيْدِى سَفَرَةٍ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن السفرة الكتبة ، قاله ابن عباس ، قال المفضل : هو مأخوذ من سفر يسفر سفراً ، إذا كتب ، قال الزجاج : إنما قيل للكتاب سِفْر وللكاتب سافر من تبيين الشيء وإيضاحه ، كما يقال أسفر الصبح إذا وضح ضياؤه وظهر ، وسفرت المرأة إذا كشفت نقابها .

الثاني : أنهم القّراء ، قال قتادة لأنهم يقرؤون الأسفار .
الثالث : هم الملائكة ، لأنهم السفرة بين يدي الله ورسله بالرحمة ، قال زيد ، كما يقال سَفَر بين القوم إذا بلغ صلاحاً ، وأنشد الفراء :
وما أدَعُ السِّفارةَ بين قوْمي ... وما أَمْشي بغِشٍ إنْ مَشَيْتُ
{ كِرام بَرَرةٍ } في الكرام ثلاثة أقاويل :
أحدها : كرام على ربهم ، قاله الكلبي .
الثاني : كرام عن المعاصي فهم يرفعون أنفسهم عنها ، قاله الحسن .
الثالث : يتكرمون على من باشر زوجته بالستر عليه دفاعاً عنه وصيانة له ، وهو معنى قول الضحاك .
ويحتمل رابعاً : أنهم يؤثرون منافع غيرهم على منافع أنفسهم .
وفي « بررة » ثلاثة أوجه :
أحدها : مطيعين ، قاله السدي .
الثاني : صادقين واصلين ، قاله الطبري .
الثالث : متقين مطهرين ، قاله ابن شجرة .
ويحتمل قولاً رابعاً : أن البررة مَن تعدى خيرهم إلى غيرهم ، والخيرة من كان خيرهم مقصوراً عليهم .


قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32)

{ قُتِلَ الإنسانُ ما أكْفَرَه } في « قتل » وجهان :
أحدهما : عُذِّب .
الثاني : لعن .
وفي « الإنسان » ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه إشارة إلى كل كافر ، قاله مجاهد .
الثاني : أنه أمية بن خلف ، قاله الضحاك .
الثالث : أنه عتبة بن أبي لهب حين قال : إني كفرت برب النجم إذا هوى ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « اللَّهم سلّطْ عليه كلبك » فأخذه الأسد في طريق الشام ، قاله ابن جريج والكلبي .
وفي « ما أكْفَرَه » ثلاثة أوجه :
أحدها : أن « ما » تعجب ، وعادة العرب إذا تعجبوا من شيء قالوا قاتله الله ما أحسنه ، وأخزاه الله ما أظلمه ، والمعنى : أعجبوا من كفر الإنسان لجميع ما ذكرنا بعد هذا .
الثاني : أي شيء أكفره ، على وجه الاستفهام ، قاله السدي ويحيى بن سلام .
الثالث : ما ألعنه ، قاله قتادة .
{ ثم السبيلَ يَسّرَهُ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : خروجه من بطن أمه ، قاله عكرمة والضحاك .
الثاني : سبيل السعادة والشقاوة ، قاله مجاهد .
الثالث : سبيل الهدى والضلالة ، قاله الحسن .
ويحتمل رابعاً : سبيل منافعه ومضاره .
{ ثُمَّ أَماتَهُ فأَقْبَرَهُ } فيه قولان :
أحدهما : جعله ذا قبر يدفن فيه ، قاله الطبري ، قال الأعشى :
لو أسْنَدَتْ مَيْتاً إلى نَحْرِها ... عاشَ ولم يُنْقلْ إلى قابر
الثاني : جعل من يقبره ويواريه ، قاله يحيى بن سلام .
{ ثُمَّ إذا شاءَ أَنشَرَهُ } يعني أحياه ، قال الأعشى :
حتى يقولَ الناسُ مما رأوْا ... يا عجباً للميّت الناشِرِ
{ كلاّ لّما يَقْضِ ما أَمَرَهُ } فيه قولان :
أحدهما : أنه الكافر لم يفعل ما أمر به من الطاعة والإيمان ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : أنه على العموم في المسلم والكافر ، قال مجاهد : لا يقضي أحد أبداً ما افترض عليه ، وكلاّ ها هنا لتكرير النفي وهي موضوعة للرد .
ويحتمل وجه حمله على العموم أن الكافر لا يقضيه عمراً ، والمؤمن لا يقضيه شهراً .
{ فَلْيَنظُرِ الإنسانُ إلى طَعامِه } فيه وجهان :
أحدهما : إلى طعامه الذي يأكله وتحيا نفسه به ، من أي شيء كان ، قاله يحيى .
الثاني : ما يخرج منه أي شيء كان؟ ثم كيف صار بعد حفظ الحياة وموت الجسد .
قال الحسن : إن ملكاً يثني رقبة ابن آدم إذا جلس على الخلاء لينظر ما يخرج منه .
ويحتمل إغراؤه بالنظر إلى وجهين :
أحدهما : ليعلم أنه محل الأقذار فلا يطغى .
الثاني : ليستدل على استحالة الأجسام فلا ينسى .
{ أنّا صَبَبْنا الماءَ صبّاً } يعني المطر .
{ ثم شَقَقْنا الأرضَ شقّاً } يعني بالنبات .
{ فَأَنْبَتْنَا فيها حَبّاً * وَعِنَباً وَقَضْباً } والقضب : القت والعلق سمي بذلك لقضبه بعد ظهوره .

{ وزَيْتوناً ونخْلاً * وحدائقَ غُلْباً } فيه قولان :
أحدهما : نخلاً كراماً ، قاله الحسن .
الثاني : الشجر الطوال الغلاظ ، قال الكلبي : الْغلب الغِلاط ، قال الفرزدق :
عَوَى فأَثارَ أغْلَبَ ضَيْغَميّاً ... فَوَيْلَ ابنِ المراغةِ ما استثار
وفي « الحدائق » ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها ما التف واجتمع ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنه نبت الشجر كله .
الثالث : أنه ما أحيط عليه من النخل والشجر ، وما لم يحط عليه فليس بحديقة حكاه أبو صالح .
ويحتمل قولاً رابعاً : أن الحدائق ما تكامل شجرها واختلف ثمرها حتى عم خيرها .
ويحتمل الغُلْب أن يكون ما غلبت عليه ولم تغلب فكان هيناً .
{ وفاكهةً وأبّاً } فيه خمسة أقاويل :
أحدها : أن الأبّ ما ترعاه البهائم ، قاله ابن عباس : وما يأكله الآدميون الحصيدة ، قال الشاعر في مدح النبي صلى الله عليه وسلم :
له دعوة ميمونة ريحها الصبا ... بها يُنْبِتُ الله الحصيدة والأَبّا
الثاني : أنه كل شيء ينبت على وجه الأرض ، قاله الضحاك .
الثالث : أنه كل نبات سوى الفاكهة ، وهذا ظاهر قول الكلبي .
الرابع : أنه الثمار الرطبة ، قاله ابن أبي طلحة .
الخامس : أنه التبن خاصة ، وهو يحكي عن ابن عباس أيضاً ، قال الشاعر :
فما لَهم مَرْتعٌ للسّوا ... م والأبُّ عندهم يُقْدَرُ
ووجدت لبعض المتأخرين سادساً : أن رطب الثمار هو الفاكهة ، ويابسها الأبّ .
ويحتمل سابعاً : أن الأبّ ما أخلف مثل أصله كالحبوب ، والفاكهة ما لم يخلف مثل أصله من الشجر .
روي أن عمر بن الخطاب قرأ { عبس وتولّى } فلما بلغ إلى قوله تعالى : { وفاكهة وأبّا } قال : قد عرفنا الفاكهة ، فما الأبّ؟ ثم قال : لعمرك يا ابن الخطاب إن هذا هو التكلف وألقى العصا من يده .
وهذا مثل ضربه الله تعالى لبعث الموتى من قبورهم فهم كنبات الزرع بعد دثوره ، وتضمن امتناناً عليهم بما أنعم .


فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)

{ فإذا جاءَتِ الصّاخّةُ } فيها قولان :
أحدهما : أنها النفخة الثانية التي يصيخ الخلق لاستماعها ، قاله الحسن ، ومنه قول الشاعر :
يُصِيخُ للنْبأَة أَسْماعه ... إصاخَةَ الناشدِ للمُنْشِد
الثاني : أنه اسم من أسماء القيامة ، لإصاخة الخلق إليها من الفزع ، قاله ابن عباس .
{ يوم يَفِرُّ المرءُ مِن أخيه وأُمِّه وابيه وصاحِبتِه وبنيه } وفي فراره منهم ثلاثة أوجه :
أحدها : حذراً من مطالبتهم إياه للتبعات التي بينه وبينهم .
الثاني : حتى لا يروا عذابه .
الثالث : لاشتغاله بنفسه ، كما قال تعالى بعده :
{ لكل امرىء منهم يومئذ شأنٌ يُغْنِيهِ } أي يشغله عن غيره .
{ وجوهٌ يومئذٍ مُسفِرةٌ } فيه وجهان :
أحدهما : مشرقة .
الثاني : فرحة ، حكاه السدي .
{ ضَاحكةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ } يحتمل وجهين :
أحدهما : ضاحكة من مسرة القلب .
الثاني : ضاحكة من الكفار شماتة وغيظاً ، مستبشرة بأنفسها مسرة وفرحاً .
{ ووجوهٌ يومَئذٍ عليها غبرَةٌ } يحتمل وجهين :
أحدهما : أنه غبار جعل شيناً لهم ليتميزوا به فيعرفوا .
الثاني : أنه كناية عن كمد وجوههم بالحزن حتى صارت كالغبرة .
{ ترْهقُها قَتَرةٌ } فيه خمسة أقاويل :
أحدها : تغشاها ذلة وشدة ، قاله ابن عباس .
الثاني : خزي ، قال مجاهد .
الثالث : سواد ، قاله عطاء .
الرابع : غبار ، قاله السدي ، وقال ابن زيد : القترة ما ارتفعت إلى السماء والغبرة : ما انحطت إلى الأرض .
الخامس : كسوف الوجه ، قاله الكلبي ومقاتل .
{ أولئك هم الكَفَرَةُ الفَجرَةُ } يحتمل جمعه بينهما وجهين :
أحدهما : أنهم الكفرة في حقوق الله ، الفجرة في حقوق العباد .
الثاني : لأنهم الكفرة في أديانهم ، الفجرة في أفعالهم .


إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14)

قوله تعالى : { إذا الشمسُ كُوِّرَتْ } فيه خمسة تأويلات :
أحدها : يعني ذهب نورها وأظلمت ، قاله ابن عباس .
الثاني : غُوِّرَت ، وهو بالفارسية كوبكرد ، قاله ابن جبير .
الثالث : اضمحلت ، قاله مجاهد .
الرابع : نكست ، قاله أبو صالح .
الخامس : جمعت فألقيت ، ومنه كارة الثياب لجمعها ، وهو قول الربيع بن خيثم .
{ وإذا النجوم انْكَدَرَتْ } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : تناثرت ، قاله الربيع بن خيثم .
الثاني : تغيرت فلم يبق لها ضوء ، قاله ابن عباس .
الثالث : تساقطت ، قاله قتادة ، ومنه قول العجاج :
أبصَرَ خرْبان فضاء فانكَدَرْ ... تَقضِّيَ البازي إذا البازي كَسَر
ويحتمل رابعاً : أن يكون انكدارها طمس آثارها ، وسميت النجوم نجوماً لظهورها في السماء بضوئها .
{ وإذا الجبالُ سُيِّرتْ } يعني ذهبت عن أماكنها ، قال مقاتل : فسويت بالأرض كما خلقت أول مرة وليس عليها جبل ولا فيها واد .
{ وإذا العِشارُ عُطِّلتْ } والعشار : جمع عشراء وهي الناقة إذا صار لحملها عشرة أشهر ، وهي أنفس أموالهم عندهم ، قال الأعشى :
هو الواهبُ المائةَ المصْطفا ... ةَ إمّا مخاضاً وإمّا عِشاراً
فتعطل العشار لاشتغالهم بأنفسهم من شدة خوفهم .
وفي « عطلت » تأويلان :
أحدهما : أُهملت ، قاله الربيع .
الثاني : لم تحلب ولم تدر ، قاله يحيى بن سلام .
وقال بعضهم : العشار : السحاب تعطل فلا تمطر .
ويحتمل وجهاً ثالثاً : أنها الأرض التي يعشر زرعها فتصير للواحد عُشراً ، تعطل فلا تزرع .
{ وإذا الوُحوشُ حُشِرتْ } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : جمعت ، قاله الربيع .
الثاني : اختلطت ، قاله أبي بن كعب فصارت بين الناس .
الثالث : حشرت إلى القيامة للقضاء فيقتص للجمّاء من القرناء ، قاله السدي .
الرابع : أن حشرها بموتها ، قاله ابن عباس .
{ وإذا البحارُ سُجِّرتْ } فيه ثمانية تأويلات :
أحدها : فاضت ، قاله الربيع .
الثاني : يبست ، قاله الحسن .
الثالث : ملئت ، أرسل عذبها على مالحها ، ومالحها على عذبها حتى امتلأت ، قاله أبو الحجاج .
الرابع : فجرت فصارت بحراً واحداً ، قاله الضحاك .
الخامس : سيرت كما سيرت الجبال ، قاله السدي .
السادس : هو حمرة مائها حتى تصير كالدم ، مأخوذ من قولهم عين سجراء أي حمراء .
السابع : يعني أوقدت فانقلبت ناراً ، قاله عليّ رضي الله عنه وابن عباس وأُبي بن كعب .
الثامن : معناه أنه جعل ماؤها شراباً يعذب به أهل النار ، حكاه ابن عيسى .
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بتخفيف « سجرت » إخباراً عن حالها مرة واحدة ، وقرأ الباقون بالتشديد إخباراً عن حالها في تكرار ذلك منها مرة بعد أخرى .
{ وإذا النفوسُ زُوِّجَتْ } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : يعني عُمل بهن عملٌ مثل عملها ، فيحشر العامل بالخير مع العامل بالخير إلى الجنة ، ويحشر العامل بالشر مع العامل بالشر إلى النار ، قاله عطية العوفي : حين يكون الناس أزواجاً ثلاثة .
الثاني : يزوج كل رجل نظيره من النساء فإن من أهل الجنة زوّج بامرأة من اهل الجنة ، وإن كان من أهل النار زوّج بامرأة من أهل النار ، قاله عمر بن الخطاب ، ثم قرأ :
{ احْشُروا الذين ظلموا وأزواجهم } الثالث : معناه ردّت الأرواح إلى الأجساد ، فزوجت بها أي صارت لها زوجاً ، قاله عكرمة والشعبي .

الرابع : أنه قرن كل غاو بمن أغواه من شيطان أو إنسان ، حكاه ابن عيسى .
ويحتمل خامساً : زوجت بأن أضيف إلى كل نفس جزاء عملها ، فصار لاختصاصها به كالتزويج .
{ وإذا الموءوجة سُئِلَتْ } والموءودة المقتولة ، كان الرجل في الجاهلية إذا ولدت امرأته بنتاً دفنها حية ، إما خوفاً من السبي والاسترقاق ، وإما خشية الفقر والإملاق ، وكان ذوو الشرف منهم يمتنعون من هذا ويمنعون منه حتى افتخر الفرزدق فقال :
ومِنّا الذي مَنَعَ الوائداتِ ... فأحْيا والوئيدَ فلم تُوأَدِ
وسميت موءودة للثقل الذي عليها من التراب ، ومنه قوله تعالى : { ولا يئوده حفظهما } أي لا يثقله ، وقال متمم بن نويرة :
وموءودةٍ مقبورة في مفازةٍ ... بآمتها موسودة لم تُمهّدِ
فقال توبيخاً لقاتلها وزجراً لمن قتل مثلها { وإذا الموءودة سئلت } واختلف هل هي السائلة أو المسئولة ، على قولين :
أحدهما : وهو قول الأكثرين أنها هي المسئولة : { بأيِّ ذَنْبِ قُتِلَتْ } فتقول : لا ذنب لي ، فيكون ذلك أبلغ في توبيخ قاتلها وزجره .
الثاني : أنها هي السائلة لقاتلها لم قتلت ، فلا يكون له عذر ، قاله ابن عباس وكان يقرأ : وإذا الموءودة سألت .
قال قتادة : يقتل أحدهما بنته ويغذو كلبه ، فأبى الله سبحانه ذلك عليهم .
{ وإذا الصُّحُف نُشِرَتْ } يعني صحف الأعمال إذا كتب الملائكة فيها ما فعل أهلها من خير وشر ، تطوى بالموت وتنشر في القيامة ، فيقف كل إنسان على صحيفته فيعلم ما فيها قيقول : « { ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحْصاها } .
وقرأ حمزة والكسائي بتشديد نشّرت على تكرار النشر ، وقرأ الباقون بالتخفيف على نشرها مرة واحدة ، فإن حمل على المرة الواحدة فلقيام الحجة بها ، وإن حمل على التكرار ففيه وجهان :
أحدهما : للمبالغة في تقريع العاصي وتبشير المطيع .
الثاني : لتكرير ذلك من الإنسان والملائكة الشهداء عليه .
{ وإذا السماءُ كُشِطَتْ } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها يعني ذهبت ، قاله الضحاك .
الثاني : كسفت ، قاله السدي .
الثالث : طويت ، قاله يحيى بن سلام ، كما قال تعالى : { يوم نطوي السماء } الآية .
{ وإذا الجحيمُ سُعِّرَتْ } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : أحميت ، قاله السدي .
الثاني : أُوقدت ، قاله معمر عن قتادة .
الثالث : سعّرها غضب الله وخطايا بني آدم ، قاله سعيد عن قتادة .
{ وإذا الجنّةُ أُزْلِفَتْ } أي قرّبت ، قال الربيع : إلى هاتين الآيتين ما جرى الحديث فريق في الجنة وفريق في السعير .
{ عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرتْ } يعني ما عملت من خير وشر . وهذا جواب { إذا الشمس كورت } وما بعدها ، قال عمر بن الخطاب : لهذا جرى الحديث ، وقال الحسن : { إذا الشمس كورت } قسم وقع على قوله { علمت نفسٌ ما أَحضَرَتْ } .


فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)

{ فلا أُقسِمُ بالخُنّسِ } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : النجوم التي تخنس بالنهار وإذا غربت ، قاله الحسن وقتادة .
الثاني : خمسة الأنجم وهي : زحل وعطارد والمشتري والمريخ والزهرة ، قاله عليّ .
وفي تخصيصها بالذكر وجهان :
أحدهما : لأنها لا تستقبل الشمس ، قاله بكر بن عبد الله المزني .
الثاني : لأنها تقطع المجرة ، قاله ابن عباس .
الثالث : أن الخنس بقر الوحش ، قاله ابن مسعود .
الرابع : أنها الظباء ، قاله ابن جبير .
ويحتمل تأويلاً خامساً : أنها الملائكة لأنها تخنس فلا تُرى ، وهذا قَسَمٌ مبتدأ ، و « لا » التي في قوله { فلا أقسم بالخنس } فيها الأوجه الثلاثة التي في { لا أقسم بيوم القيامة } .
{ الجوار الكُنّسِ } فيها التأويلات الخمسة :
أحدها : النجوم ، قاله الحسن ، سميت بالجواري الكنس لأنها تجري في مسيرها .
الثاني : أنها النجوم الخمسة ، وهو قول عليّ .
والكنّس ، الغيّب ، مأخوذ من الكناس وهو كناس الوحش التي تختفي فيه ، قال أوس بن حجر :
ألم تر أن الله أنزل مُزْنَهُ ... وعُفْرُ الظباءِ في الكِناس تَقَمّعُ
الثالث : أنها بقر الوحش لاختفائها في كناسها ، قاله ابن مسعود .
الرابع : الظباء ، قاله ابن جبير .
الخامس : هي الملائكة .
{ والليلِ إذا عَسْعَسَ } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : أظلم ، قاله ابن مسعود ومجاهد ، قال الشاعر :
حتى إذ ما لَيْلُهُنَّ عَسْعَسا ... رَكِبْنَ مِن حَدِّ الظّلامِ حِنْدساً
الثاني : إذا ولى ، قاله ابن عباس وابن زيد ، قال الشاعر :
حتى إذا الصبح لها تنفسا ... وانجاب عنها ليلها وعسعسا
الثالث : إذا أقبل ، قاله ابن جبير وقتادة ، وأصله العس وهو الامتلاء ، ومنه قيل للقدح الكبير عس لامتلائه بما فيه ، فانطلق على إقبال الليل لابتداء امتلائه ، وانطلق على ظلامه لاستكمال امتلائه ،
{ والصبحِ إذا تَنَفّسَ } فيه تأويلان :
أحدهما : طلوع الفجر ، قاله عليّ وقتادة .
الثاني : طلوع الشمس ، قاله الضحاك .
وفي « تنفّسَ » وجهان :
أحدهما : بان إقباله .
الثاني : زاد ضوؤه .
ويحتمل وجهاً ثالثاً : أن يكون تنفس بمعنى طال ، مأخوذ من قولهم قد تنفس النهار إذا طال .
{ إنه لَقَوْلُ رسولٍ كريمٍ } وهو جواب القسم ، يعني القرآن .
وفي الرسول الكريم قولان :
أحدهما : جبريل ، قاله الحسن وقتادة والضحاك .
الثاني : النبي صلى الله عليه وسلم ، قاله ابن عيسى ، فإن كان المراد به جبريل فمعناه قول رسول للَّه كريم عن رب العاليمن لأن أصل القول الذي هو القرآن ليس من الرسول ، إنما الرسول فيه مبلغ على الوجه الأول ، ومبلغ إليه على الوجه الثاني .
{ مُطاعٍ ثَمَّ أمينٍ } هو جبريل في أصح القولين ، يعني مطاعاً فيمن نزل عليه من الأنبياء ، أميناً فيما نزل به من الكتب .
{ وما صاحبكم بمجنونٍ } يعني النبي صلى الله عليه وسلم .

{ ولقد رآه بالأفق المبين } وفي الذي رآه قولان :
أحدهما : أنه رأى ربه بالأفق المبين ، وهو معنى قول ابن مسعود .
الثاني : رأى جبريل بالأفق المبين على صورته التي هو عليها ، وفيها قولان :
أحدهما : أنه رآه ببصره ، قاله ابن عباس وعائشة .
الثاني : بقلبه ، ولم يره ببصره ، قاله أبو ذر .
وفي « الأفق » قولان :
أحدهما : أنه مطلع الشمس .
الثاني : أقطار السماء ونواحيها ، قال الشاعر :
أخَذْنا بآفاقِ السماءِ عليكمُ ... لنا قَمَراها والنُّجومُ الطّوالعُ
فعلى هذا فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه رآه في أفق السماء الشرقي ، قاله سفيان .
والثاني : في أفق السماء الغربي ، حكاه ابن شجرة .
الثالث : أنه رآه نحو أجياد ، وهو مشرق مكة ، قاله مجاهد ، { وما هو على الغَيْبِ بضنين } قرأ بالظاء ابن كثير وأبو عمرو والكسائي وفيه وجهان :
أحدهما : وما محمد على القرآن بمتهم أن يأتي بما لم ينزل عليه ، قاله ابن عباس .
الثاني : بضعيف عن تأديته ، قاله الفراء .
وقرأ الباقون بالضاد ، وفيه وجهان :
أحدهما : وما هو ببخيل أن يعلِّم كما تعلّم .
الثاني : وما هو بمتهم أن يؤدي ما لم يؤمر به .
{ فأيْنَ تَذْهَبون } فيه وجهان :
أحدهما : فإلى أين تعدلون عن كتاب الله تعالى وطاعته ، قاله قتادة .
الثاني : فأي طريق أهدى لكم وأرشد من كتاب الله ، حكاه ابن عيسى .
ويحتمل ثالثاً : فأين تذهبون عن عذابه وعقابه .
{ وما تشاؤون إلا أن يشاءَ اللهُ ربُّ العالَمين } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : وما تشاؤون الاستقامة على الحق إلا أن يشاء الله لكم .
الثاني : وما تشاؤون الهداية إلا أن يشاء الله بتوفيقه : وقيل إن سبب نزول هذه الآية أنه لما نزل قوله تعالى :
{ لمن شاء منكم أن يستقيم } قال أبو جهل : ذلك إلينا إن شئنا استقمنا ، وإن شئنا لم نستقم ، فأنزل الله تعالى : { وما تشاءون إلا أن يشاء الله ربّ العالمين } .


إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8) كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12)

قوله تعالى : { إذا السماءُ انْفَطَرتْ } فيه وجهان :
أحدهما : انشقت .
الثاني : سقطت ، قال الشاعر :
كانوا سعوداً سماءَ الناس فانفطرت ... فأصبح الشمل لم ترفع له عُمُد
{ وإذا الكواكب انتَثَرتْ } يعني تساقطت ، قال ابن عباس ، تسقط سوداء لا ضوء لها .
{ وإذا البحار فُجِّرَتْ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : يبست ، قاله الحسن .
الثاني : خلطت فصارت بحراً واحداً ، وهذا معنى قول ابن عباس ، قال : وهو سبعة أبحر فتصير بحراً واحداً .
الثالث : فجر عذبها في مالحها : ومالحها في عذبها ، قاله قتادة .
ويحتمل رابعاً : أي فاضت .
{ وإذا القبور بُعْثِرتْ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : بحثت وثوّرت ، قاله ابن عباس وعكرمة ، وقال الفراء : فيخرج ما في بطنها من الذهب والفضة ، وذلك من أشراط الساعة أن تخرج الأرض ذهبها وفضتها ثم تخرج الموتى .
الثاني : حركت للبعث ، قاله السدي .
الثالث : بعث من فيها من الأموات ، قاله قتادة .
{ عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قدَّمَتْ وأَخرَتْ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : ما عملت وما تركت ، قاله ابو رزين .
الثاني : ما قدمت من طاعة ، وأخرت من حق الله ، قاله ابن عباس .
الثالث : ما قدمت من الصدقات وما أخرت من الميراث .
ويحتمل ما قدمت من معصية وأخرت من طاعة ، لأنه خارج مخرج الوعيد ، وهذا جواب { إذا السماء انفطرت } لأنه خبر ، وجعلها الحسن قَسَماً وقعت على قوله { علمت نفس } الآية .
والأظهر ما عليه الجماعة من أنه خبر وليس بقسم .
{ يا أيها الإنسان ما غّرَّك بربِّكَ الكريم } في الإنسان ها هنا ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه إشارة إلى كل كافر .
الثاني : أنه أبي بن خلف ، قاله عكرمة .
الثاث : أنه أبو الأشد بن كلدة بن أسد الجمحي ، قاله ابن عباس .
وفي الذي غرَّه قولان :
أحدهما : عدوه الشيطان ، قاله قتادة .
الثاني : جهله ، وهو قول عمر بن الخطاب .
ويحتمل قولاً ثالثاً : إنه إمهاله .
« الكريم » الذي يتجاوز ويصفح ، وروى الحسن أن عمر بن الخطاب لما قرأ { يا أيها الإنسان } . . . . . الآية ، قال : حمقه وجهله .
{ الذي خَلَقَك فسَوَّاك فَعدَلك } يحتمل ثلاثة أوجه :
أحدها : فسوى خلقك وعدل خلقتك .
الثاني : فسوَّى أعضاءك بحسب الحاجة وعدلها في المماثلة لا تفضل يد على يد ، ولا رجل على رجل .
الثالث : فسواك إنساناً كريماً وعدل بك عن أن يجعلك حيواناً بهيماً .
قال أصحاب الخواطر : سوّاك بالعقل وعدلك بالإيمان .
{ في أَيِّ صورَةٍ ما شاءَ رَكّبَكَ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : ما شاء ركبك من شبه أم أو أب أو خال أو عم ، قاله مجاهد .
الثاني : من حسن أو قبح أو طول أو قصر أو ذكر أو أنثى ، قاله ابن عيسى .
الثالث : في أي صورة من صور الخلق ركبك حتى صرت على صورتك التي أنت عليها أيها الإنسان لا يشبهك شيء من الحيوان .

وروى موسى بن علي بن رباح اللخمي عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجده : « ما ولِدَ لك؟ » قال : يا رسول الله وما عسى أن يولد لي إما غلام وإما جارية ، قال رسول الله : « ومن عسى أن يشبه؟ » قال : إما أباه وإما أمه ، فقال عليه السلام عندها : « مه لا تقولن هكذا ، إن النطفة إذا استقرت في الرحم أحضرها الله كل نسب بينها وبين آدم أما قرأت في كتاب الله : في أي صورة ما شاء ركبك . »
{ كلاّ بَلْ تُكّذِّبونَ بالدِّين } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : بالحساب والجزاء ، قاله ابن عباس .
الثاني : بالعدل و القضاء ، قاله عكرمة .
الثالث : بالدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ، حكاه ابن عيسى .
{ وإنَّ عليكم لحافِظِينَ } يعني الملائكة ، يحفظ كلَّ إنسان ملكان ، أحدهما عن يمينه يكتب الخير ، والآخر عن شماله يكتب الشر .
{ كِراماً كاتِبينَ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : كراماً على الله ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : كراماً بالإيمان ، قاله السدي .
الثالث : لأنهم لا يفارقون ابن آدم إلا في موطنين عند الغائط وعند الجماع يعرضان عنه ويكتبان ما تكلم به ، فلذلك كره الكلام عند الغائط والجماع .
ويحتمل رابعاً : كراماً لأداء الأمانة فيما يكتبونه من عمله فلا يزيدون فيه ولا ينقصون منه .


إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15) وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)

وفي قوله تعالى : { إنّ الأبرارَ لفي نَعيم * وإن الفُجّارَ لقي جَحيمٍ } قولان :
أحدهما : في الآخرة فيكون نعيم الأبرار في الجنة بالثواب ، وجحيم الفجار في النار بالعقاب .
والقول الثاني : أنه في الدنيا ، فعلى هذا فيه أربعة أوجه ذكرها أصحاب الخواطر .
أحدها : النعيم القناعة ، والجحيم الطمع .
الثاني : النعيم التوكل ، والجحيم الحرص .
الثالث : النعيم الرضا بالقضاء ، والجحيم السخط فيما قدر وقضى .
الرابع : النعيم بالطاعة ، والجحيم بالمعيصية .
{ وما هُمْ عنها بغائبين } فيه وجهان :
أحدهما : عن القيامة تحقيق للبعث فعلى هذا يجوز أن يكون هذا الخطاب متوجهاً إلى الأبرار والفجار جميعاً .
الثاني : عن النار ، ويكون الخطاب متوجهاً إلى الفجار دون الأبرار ، والمراد بأنهم لا يغيبون عنها أمران :
أحدهما : تحقيق الوعيد .
الثاني : تخليد الفجار .
{ وما أدْراك ما يومُ الدِّين * ثُمَّ ما أدْراكَ ما يومُ الدِّين } يعني يوم الجزاء ، وهو يوم القيامة ، وفي تكراره وجهان :
أحدهما : تفخيماً لشأنه وتعظيماً لأمره .
الوجه الثاني : أن الأول خطاب للفجار والثاني خطاب للأبرار ترغيباً .
{ يومَ لا تَمْلِك نفسٌ لنَفْسٍ شيئاً } يعني لا يملك مخلوق لمخلوق نفعاً ولا ضراً .
{ والأمر يومئذٍ للَّهِ } فيه وجهان :
أحدهما : في الجزاء بالثواب والعقاب .
الثاني : في العقوبة والانتقام .


وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)

قوله تعالى : { ويْلٌ للمطفّفين } قال ابن عباس : كان أهل المدينة من أخبث الناس كيلاً ، إلى أن أنزل الله تعالى : { ويل للطففين } فأحسنوا الكيل ، قال الفراء : فهم من أوفى الناس كيلاً إلى يومهم هذا .
أعمض بعض المتعمقة فحمله على استيفاء العبادة بين الناس جهراً ، وفي النقصان سراً .
وفي « ويل » سبعة أقاويل :
أحدها : أنه واد في جهنم ، رواه أبو سعيد الخدري مرفوعاً .
الثاني : صديد أهل النار ، قاله ابن مسعود .
الثالث : أنه النار ، قاله عمر مولى عفرة .
الرابع : أنه الهلاك ، قاله بعض أهل اللغة .
الخامس : أنه أشق العذاب .
السادس : أنه النداء بالخسار والهلاك ، وقد تستعمله العرب في الحرب والسلب .
السابع : أن أصله ويْ لفلان ، أي الجور لفلان ، ثم كثر استعمال الحرفين فوصلا بلام الإضافة .
والمطفف : مأخوذ من الطفيف وهو القليل ، والمطفف هو المقلل حق صاحبه بنقصانه عن الحق في كيل أو وزن .
قال الزجاج : بل مأخوذ من طف الشيء وهي جهته .
{ الذين إذا اكْتالوا على الناسِ يَسْتوْفُونَ } أي من الناس ، ويريد بالاستيفاء الزيادة على ما استحق .
{ وإذا كالُوهم أو وَزَنُوهم يُخْسِرون } يعني كالوا لهم أو وزنوا لهم بحذف هذه الكلمة لما في الكلام من الدلالة عليها ، { يخسرون } ، ينقصون فكان المطفف يأخذ زائداً ويعطي ناقصاً .
{ يومَ يَقُومُ الناسُ لربِّ العَالَمِينَ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : يوم يقومون من قبورهم ، قاله ابن جبير .
الثاني : يقومون بين يديه تعالى للقضاء ، قاله يزيد بن الرشك .
قال أبو هريرة : قال النبي صلى الله عليه وسلم لبشير الغفاري : « كيف أنت صانع يوم يقوم الناس فيه مقدار ثلاثمائة سنة لرب العالمين ، لا يأتيهم فيه خبر ولا يؤمر فيه بأمر ، » قال بشير : المستعان الله .
الثالث : أنه جبريل يقوم لرب العالمين ، قاله ابن جبير .
ويحتمل رابعاً : يقومون لرب العالمين في الآخرة بحقوق عباده في الدنيا .


كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17)

{ كلاّ إنّ كتابَ الفُجّارِ لفي سِجِّينٍ } أما « كلا » ففيه وجهان :
أحدهما : حقاً .
الثاني : أن كلا للزجر والتنبيه .
وأما « سجّين » ففيه ثمانية أقاويل :
أحدها : في سفال ، قاله الحسن .
الثاني : في خسار ، قاله عكرمة .
الثالث : تحت الأرض السابعة ، رواه البراء بن عازب مرفوعاً .
قال ابن أسلم : سجّين : الأرض السافلة ، وسجّيل : سماء الدنيا .
قال مجاهد : سجّين صخرة في الأرض السابعة ، فيجعل كتاب الفجار تحتها .
الرابع : هو جب في جهنم ، روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « الفلق جُبٌّ في جهنم مغطّى ، وسجّين جب في جهنم مفتوح . »
الخامس : أنه تحت خد إبليس ، قاله كعب الأحبار .
السادس : أنه حجر أسود تحت الأرض تكتب فيه أرواح الكفار ، حكاه يحيى بن سلام .
السابع : أنه الشديد قاله أبو عبيدة وأنشد :
ضرباً تَواصَتْ به الأبطالُ سِجِّينا ... الثامن : أنه السجن ، وهو فِعّيل من سجنته ، وفيه مبالغة ، قاله الأخفش عليّ بن عيسى ، ولا يمتنع أن يكون هو الأصل واختلاف التأويلات في محله .
ويحتمل تاسعاً : لأنه يحل من الإعراض عنه والإبعاد له محل الزجر والهوان { كِتابٌ مَرْقومٌ } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : مكتوب ، قاله أبو مالك .
الثاني : أنه مختوم ، وهو قول الضحاك .
الثالث : رُقِم له بَشَرٌ لا يزاد فيهم أحد ، ولا ينقص منهم أحد ، قاله محمد بن كعب وقتادة .
ويحتمل قولاً رابعاً ، إن المرقوم المعلوم .
{ كلاّ بل رانَ على قُلوبِهم ما كانوا يَكْسبونَ } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : أن « ران » : طبع على قلوبهم ، قاله الكلبي .
الثاني : غلب على قلوبهم ، قاله ابن زيد ، ومنه قول الشاعر :
وكم ران من ذنْب على قلب فاجر ... فتاب من الذنب الذي ران وانجلى
الثالث : ورود الذنب على الذنب حتى يعمى القلب ، قاله الحسن .
الرابع : أنه كالصدإ يغشى القلب كالغيم الرقيق ، وهذا قول الزجاج .


كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28)

{ كلاّ إنّ كتابَ الأبرارِ لفِي علّيِّينَ } فيه خمسة أقاويل :
أحدها : أن عليين الجنة ، قاله ابن عباس .
الثاني : السماء السابعة ، قاله ابن زيد ، قال قتادة : وفيها أرواح المؤمنين .
الثالث : قائمة العرش اليمنى ، قاله كعب .
الرابع : يعني في علو وصعود إلى الله تعالى ، قاله الحسن .
الخامس : سدرة المنتهى ، قاله الضحاك .
ويحتمل سادساً : أن يصفه بذلك لأنه يحل من القبول محلاً عالياً .
{ تَعْرِفُ في وُجوههم نَضْرَةَ النّعيم } فيها ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها الطراوة والغضارة ، قاله ابن شجرة .
الثاني : أنها البياض ، قاله الضحاك .
الثالث : أنها عين في الجنة يتوضؤون منها ويغتسلون فتجري عليهم نضرة النعيم ، قاله عليّ .
ويحتمل رابعاً : أنها استمرار البشرى بدوام النعمة .
{ يُسقَوْنَ مِن رَحِيقٍ مَخْتُومٍ } وفي الرحيق ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه عين في الجنة مشوب بمسك ، قاله الحسن .
الثاني : أنه شراب أبيض يختمون به شرابهم ، قاله ابن أبي الدرداء .
الثالث : أنه الخمر في قول الجمهور ، ومنه قول حسان :
يسقون من ورد البريص عليهم ... بَرَدَى يُصَفِّق بالرحيق السّلْسَلِ
لكن اختلفوا أي الخمر هي على أربعة أقاويل :
أحدها : أنها الصافية ، حكاه ابن عيسى .
الثاني : أنها أصفى الخمر وأجوده ، قاله الخليل .
الثالث : أنها الخالصة من غش ، حكاه الأخفش .
الرابع : أنها العتيقة .
وفي « مختوم » ثلاثة أقاويل :
أحدها : ممزوج ، قاله ابن مسعود .
الثاني : مختوم في الإناء بالختم ، وهو الظاهر .
الثالث : ما روى أُبيّ بن كعب ، قال : قيل يا رسول الله ما الرحيق المختوم؟ قال : « غُدران الخمر . »
{ خِتامُه مِسْكٌ } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : مزاجه مسك ، قاله مجاهد .
الثاني : عاقبته مسك ، ويكون ختامه آخره ، كما قال الشاعر :
صرف ترقرق في الحانوت باطنه ... بالفلفل الجون والرمان مختوما
قال قتادة : يمزج لهم بالكافور ويختم بالمسك .
الثالث : أن طعمه وريحه مسك ، رواه ابن أبي نجيح .
الرابع : أن ختمه الذي ختم به إناؤه مِسْك ، قاله ابن عباس .
{ وفي ذلك فلْيَتنافَسِ المُتنافِسونَ } فيه وجهان :
أحدهما : فليعمل العاملون ، قاله مجاهد .
الثاني : فليبادر المبادرون ، قاله أبو بكر بن عياش والكلبي .
وفيما أخذ منه التنافس والمنافسة وجهان :
أحدهمأ : أنه مأخوذ من الشيء النفيس ، قاله ابن جرير .
الثاني : أنه مأخوذ من الرغبة فيما تميل النفوس إليه ، قاله المفضل .
{ ومِزاجُهُ مِن تَسْنيمٍ } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها أن التسنيم الماء ، قاله الضحاك .
الثاني : أنها عين في الجنة ، فيشربها المقربون صرفاً ، وتمزج لأصحاب اليمين ، قاله ابن مسعود .
وقال حذيفة بن اليمان : تسنيم عين في عدْن ، وعدْن دار الرحمن وأهل عدْن جيرانه .
الثالث : أنها خفايا أخفاها الله لأهل الجنة ، ليس لها شبه في الدنيا ولا يعرف مثلها .
وأصل التسنيم في اللغة أنها عين ماء تجري من علو إلى سفل ، ومنه سنام البعير لعلوه من بدنه ، وكذلك تسنيم القبور .
ويحتمل تأويلاً رابعاً : أن يكون المراد به لذة شربها في الآخرة أكثر من لذته في الدنيا ، لأن مزاج الخمر يلذ طعمها ، فصار مزاجها في الآخرة بفضل لذة مزاجها من تسنيم لعلو الآخرة على الدنيا .


إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)

{ وإذا انقَلَبوا إلى أهْلِهم انقَلَبوا فَكِهينَ } قرأ عاصم في رواية حفص فكهين بغير ألف وقرأ غيره بألف ، وفي القراءتين أربعة تأويلات :
أحدها : فرحين ، قاله السدي .
الثاني : معجبين ، قاله ابن عباس ، ومنه قول الشاعر :
وقد فكهت من الدنيا فقاتلوا ... يوم الخميس بِلا سلاح ظاهر
الثالث : لاهين .
الرابع : ناعمين ، حكى هذين التأويلين عليّ بن عيس .
وروى عوف عن الحسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « قال ربكم عز وجل : وعزتي لا أجمع على عبدي خوفين ، ولا أجمع له أمنين ، فإذا خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة ، وإذا أمني في الدنيا أخفته يوم القيامة » .
{ هل ثوِّب الكفارُ ما كانوا يَفْعَلونَ } هذا سؤال المؤمنين في الجنة عن الكفار حين فارقوهم ، وفيه تأويلان :
أحدهما : معناه هل أثيب الكفار ما كانوا يعلمون في الكفر ، قاله قتادة .
الثاني : هل جوزي الكفار على ما كانوا يفعلون ، قاله مجاهد .
فيكون « ثُوِّب » مأخوذاً من إعطاء الثواب .
ويحتمل تأويلاً ثالثاً : أن يكون معناه هل رجع الكفار في الآخرة عن تكذيبهم في الدنيا على وجه التوبيخ ، ويكون مأخوذاً من المثابِ الذي هو الرجوع ، لا من الثواب الذي هو الجزاء ، كما قال تعالى : { وإذا جعَلْنا البيتَ مثابةً للناس } أي مرجعاً .
ويحتمل تأويلاً رابعاً : هل رجع من عذاب الكفار على ما كانوا يفعلون ، لأنهم قد علموا أنهم عذبوا ، وجاز أن يظنوا في كرم الله أنهم قد رحموا .


إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12) إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (15)

قوله عز وجل : { إذا السماءُ انشَقّتْ } وهذا من أشراط الساعة ، قال عليّ رضي الله عنه : تنشق السماء من المجرة ، وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه محذوف الجواب وتقديره : إذا السماء انشقت رأى الإنسان ما قدّم من خير وشر .
الثاني : أن جوابه { كادح إلى ربك كدحاً } .
الثالث : معناه أذكر إذا السماء انشقت .
{ وأَذِنَتْ لِرّبها وحُقّتْ } معنى أذنت لربها أي سمعت لربها ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم ما أذن الله لشيء كإذانه لنبي يتغنى بالقرآن أي ما استمع الله لشيء ، وقال الشاعر :
صُمٌّ إذا سَمِعوا خيْراً ذُكِرتُ به ... وإنْ ذُكِرْتُ بسُوءٍ عندهم أَذِنوا
أي سمعوا .
{ وحُقّتْ } فيه وجهان :
أحدهما : أطاعت ، قاله الضحاك .
الثاني : معناه حق لها أن تفعل ذلك ، قاله قتادة ، ومنه قول كثيّر :
فإن تكُنْ العُتْبى فأهْلاً ومرحبا ... وحُقّتْ لها العُتبى لديْنَا وَقَلَّت .
ويحتمل وجهاً ثالثاً : أنها جمعت ، مأخوذ من اجتماع الحق على نافيه وحكى ابن الانباري أن { أذنت لربها وحقت } جواب القسم ، والواو زائدة .
{ وإذا الأرضُ مُدَّتْ } فيها قولان :
أحدهما : أن البيت كان قبل الأرض بألفي عام ، فمدت الأرض من تحته ، قاله ابن عمر .
الثاني : أنها أرض القيامة ، قاله مجاهد ، وهو أشبه بسياق الكلام .
وفي { مُدَّتْ } وجهان :
أحدهما : سويت ، فدكّت الجبال ويبست البحار ، قاله السدي .
الثاني : بسطت ، قاله الضحاك ، وروى عليّ بن الحسين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إذا كان يوم القيامة مد الله الأرض مدّ الأديم حتى لا يكون لبشر من الناس إلا موضع قدمه » .
{ وأَلقْتْ ما فيها وتَخلّتْ } فيه وجهان :
أحدهما : ألقت ما في بطنها من الموتى ، وتخلت عمن على ظهرها من الأحياء ، قاله ابن جبير .
الثاني : ألقت ما في بطنها من كنوزها ومعادنها وتخلت مما على ظهرها من جبالها وبحارها ، وهو معنى قول قتادة .
ويحتمل ثالثاً : هو أعم ، أنها ألقت ما استوعدت ، وتخلت مما استحفظت لأن الله استودعها عباده أحياء وأمواتاً ، واستحفظها بلاده مزارع وأقواتاً .
{ يا أيها الإنسانُ إنك كادحٌ إلى ربك كدْحاً فملاقيه } فيه قولان :
أحدهما : إنك ساعٍ إلى ربك سعياً حتى تلاقي ربك ، قاله يحيى بن سلام ، ومنه قول الشاعر :
ومَضَتْ بشاشةُ كلِّ عَيْشٍ صالحٍ ... وَبقيتُ أكْدَحُ للحياةِ وأَنْصَبُ
أي أعمل للحياة . ويحتمل قولاً ثالثاً : أن الكادح هو الذي يكدح نفسه في الطلب إن تيسّر أو تعسّر .
{ فأمّا مَنْ أَوتي كِتابَه بيمينه } روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
« يعرض الناس ثلاث عرضات ، فأما عرضتان فجدال ومعاذير ، وفي الثالثة تطير الكتب من الأيدي ، فبين آخذٍ كتابه بيمينه ، وبين آخذٍ كتابه بشماله » .
{ فسوف يُحاسَبُ حِساباً يَسيراً } وفي الحساب ثلاثة أقاويل :
أحدها : يجازى على الحسنات ويتجاوز له عن السيئات ، قاله الحسن .

الثاني : ما رواه صفوان بن سليم عن عائشة قالت : سئل رسول الله عن الذي يحاسب حساباً يسيراً ، فقال : « يعرف عمله ثم يتجاوز عنه ، ولكن من نوقش الحساب فذلك هو الهالك » .
الثالث : أنه العرض ، روى ابن أبي مليكة عن عائشة رضي الله عنها : أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله : { فسوف يحاسب حساباً يسيراً } فقال : « ذلك العرض يا عائشة ، من نوقش في الحساب يهلك » .
{ وَيَنقَلِبُ إلى أهْلِه مَسْروراً } قال قتادة : إلى أهله الذين قد أعدهم الله له في الجنة .
ويحتمل وجهاً ثانياً : أن يريد أهله الذين كانوا له في الدنيا ليخبرهم بخلاصه وسلامته .
{ إنَّه ظَنَّ أن لن يَحُورَ } أي لن يرجع حياً مبعوثاً فيحاسب ثم يثاب أو يعاقب ، يقال : حار يحور ، إذا رجع ، ومنه الحديث : « أعوذ بالله من الحْور بعد الكْور » ، يعني من الرجوع إلى النقصان بعد الزيادة ، وروي : « بعد الكوْن » ، ومعناه انتشار الأمر بعد تمامه .
وسئل معمر عن الحور بعد الكْون فقال : الرجل يكون صالحاً ثم يتحول امرء سوء .
وقال ابن الأعرابي : الكُنْنّي : هو الذي يقول : كنت شاباً وكنت شجاعاً ، والكاني : هو الذي يقول : كان لي مال وكنت أهب وكان لي خيل وكنت أركب ، وأصل الحور الرجوع ، قال لبيد :
وما المرءُ إلا كالشهاب وضوئه ... يَحُورُ رماداً بَعْد إذ هو ساطعُ .
وقال عكرمة وداود بن أبي هند : يحور كلمة بالحبشية ، ومعناها يرجع وقيل للقصار حواري لأن الثياب ترجع بعمله إلى البياض .
{ بلى إنّ ربّه كان به بَصيراً } يحتمل وجهين :
أحدهما : مشاهداً لما كان عليه .
الثاني : خبيراً بما يصير إليه .


فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19) فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)

{ فلا أُقْسِمُ بالشّفَقِ } فيه أربعة أقاويل :
أحدها : أنه شفق الليل وهو الحمرة ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنه بقية ضوء الشمس ، قاله مجاهد .
الثالث : أنه ما بقي من النهار ، قاله عكرمة .
الرابع : أنه النهار ، رواه ابن ابي نجيح .
{ واللّيلِ وما وَسقَ } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : وماجمع ، قاله مجاهد ، قال الراجز :
إن لنا قلائصاً حقائقا ... مستوسقات أو يجدن سائقا
الثاني : وما جَنّ وستر ، قاله ابن عباس .
الثالث : وما ساق ، لأن ظلمة الليل تسوق كل شيء إلى مأواه ، قاله عكرمة . الرابع : وما عمل فيه ، قاله ابن جبير ، وقال الشاعر :
ويوماً ترانا صالحين وتارةً ... تقوم بنا كالواسق المتَلَبّبِ
أي كالعامل .
{ والقَمَرِ إذا اتّسَق } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : إذا استوى ، قاله ابن عباس ، وقولهم اتسق الأمر إذا انتظم واستوى .
قال الضحاك : ليلة أربع عشرة هي ليلة السواء .
الثاني : والقمر إذا استدار ، قاله عكرمة .
الثالث : إذا اجتمع ، قاله مجاهد ، ومعانيها متقاربة .
ويحتمل رابعاً : إذا طلع مضيئاً .
{ لَتَرْكَبُنَّ طُبقاً عَنِ طَبَقٍ } فيه سبعة تأويلات :
أحدها : سماء بعد سماء ، قاله ابن مسعود والشعبي .
الثاني : حالاً بعد حال ، فطيماً بعد رضيع وشيخاً بعد شاب ، قاله عكرمة ، ومنه قول الشاعر :
كذلك المرءُ إن يُنْسَأ له أجَلٌ ... يَرْكبْ على طَبَقٍ مِن بَعْده طَبَقٌ
الثالث : أمراً بعد أمر ، رخاء بعد شدة ، وشدة بعد رخاء ، وغنى بعد فقر ، وفقراً بعد غنى ، وصحة بعد سقم ، وسقماً بعد صحة ، قاله الحسن .
الرابع : منزلة بعد منزلة ، قوم كانوا في الدنيا متضعين فارتفعوا في الآخرة ، وقوم كانوا مرتفعين في الدنيا فاتضعوافي الآخرة ، قاله سعيد بن جبير .
الخامس : عملاً بعد عمل ، يعمل الآخر عمل الأول ، قاله السدي .
السادس : الآخرة بعد الأولى ، قاله ابن زيد .
السابع : شدة بعد شدة ، حياة ثم موت ثم بعث ثم جزاء ، وفي كل حال من هذه شدة ، وقد روى معناه جابر مرفوعاً .
{ واللهُ أعْلَمُ بما يُوعُونَ } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : بما يُسِرون في قلوبهم ، قاله ابن عباس .
الثاني : بما يكتمون من أفعالهم ، قاله مجاهد .
الثالث : بما يجمعون من سيئاتهم ، مأخوذ من الوعاء الذي يجمع ما فيه وهو معنى قول ابن زيد .
{ فلهم أَجْرٌ غيرُ ممنون } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : غير محسوب ، قاله مجاهد .
الثاني : غير منقوص ، قاله السدي .
الثالث : غير مقطوع ، قاله ابن عباس .
الرابع : غير مكدّر بالمن والأذى ، وهو معنى قول الحسن .


وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10)

قوله تعالى { والسماءِ ذاتِ البُروجِ } هذا قَسَمٌ ، وفي البروج أربعة أقاويل :
أحدها : ذات النجوم ، قاله الحسن ومجاهد وقتادة والضحاك .
الثاني : ذات القصور ، قاله ابن عباس .
الثالث : ذات الخلْق الحسن ، قاله المنهال بن عمرو .
الرابع : ذات المنازل ، قاله يحيى بن سلام وهي اثنا عشر برجاً رصدتها العرب والعجم ، وهي منازل الشمس والقمر .
{ واليومِ الموْعُودِ } روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يوم القيامة ، وسمي بذلك لأنهم وعدوا فيه بالجزاء بعد البعث .
{ وشاهدٍ ومَشْهودٍ } فيه خمسة أقاويل :
أحدها : أن الشاهد يوم الجمعة ، والمشهود يوم عرفة ، روى ذلك أبو عرفة ، روى ذلك أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم .
الثاني : أن الشاهد يوم النحر ، والمشهود يوم عرفة ، قاله إبراهيم .
الثالث : أن الشاهد الملائكة ، والمشهود الإنسان ، قاله سهل بن عبد الله .
الرابع : أن الشاهد الجوارح ، والمشهود النفس ، وهو محتمل .
الخامس : أن المشهود يوم القيامة .
وفي الشاهد على هذا التأويل خمسة أقاويل :
أحدها : هو الله تعالى ، حكاه ابن عيسى .
الثاني : هو آدم عليه السلام ، قاله مجاهد .
الثالث : هو عيسى ابن مريم ، رواه ابن أبي نجيح .
الرابع : هو محمد صلى الله عليه وسلم ، قاله الحسن بن علي وابن عمر وابن الزبير ، لقوله تعالى : { فكيفَ إذا جِئْنا من كلِّ أمَّةٍ بشهيد وجئْنَا بِك على هؤلاءِ شَهيداً } .
الخامس : هو الإنسان ، قاله ابن عباس .
{ قُتِل أصحابُ الأُخْدُودِ } قال الفراء : هذا جواب القسم ، وقال غيره : الجواب { إنّ بَطْشَ ربِّكَ لَشديدٌ } والأخدود : الشق العظيم في الأرض ، وجمعه أخاديد ، ومنه الخد لمجاري الدموع فيه ، والمخدّة لأن الخد يوضع عليها ، وهي حفائر شقت في الأرض وأوقدت ناراً وألقي فيها مؤمنون امتنعوا من الكفر .
واختلف فيهم ، فقال عليّ : إنهم من الحبشة ، وقال مجاهد : كانوا من أهل نجران ، وقال عكرمة كانوا نبطاً ، وقال ابن عباس : كانوا من بني إسرائيل ، وقال عطية العوفي : هم دانيال وأصحابه ، وقال الحسن : هم قوم من أهل اليمن ، وقال عبد الرحمن بن الزبير : هم قوم من النصارى كانوا بالقسطنطينية زمان قسطنطين ، وقال الضحاك : هم قوم من النصارى كانوا باليمن قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربعين سنة ، أخذهم يوسف بن شراحيل بن تُبَّع الحميري وكانوا نيفاً وثمانين رجلاً ، وحفر لهم أخدوداً أحرقهم فيه ، وقال السدي : الأخدود ثلاثة : واحد بالشام وواحد بالعراق ، وواحد باليمن .
وفي قوله : { قُتِل أصحابُ الأُخْدُودِ } وجهان :
أحدهما : أُهلك المؤمنون .
الثاني : لُعن الكافرون الفاعلون ، وقيل إن النار صعدت إليهم وهم شهود عليها فأحرقتهم ، فلذلك قوله تعالى : { فلهُم عذابُ جهنَّمَ ولهْم عذابُ الحريق } يعني في الدنيا .
{ وهُمْ على ما يَفْعلونَ بالمؤمنينَ شُهودٌ } فيه وجهان :
أحدهما : أن أصحاب الأخدود هم على عذاب المؤمنين فيها شهود ، وهو ظاهر من قول قتادة .
الثاني : أنهم شهود على المؤمنين بالضلال ، قاله مقاتل .


إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)

{ إنه هو يُبْدِىءُ ويُعيدُ } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : يحيى ويميت ، قاله ابن زيد .
الثاني : يميت ثم يحيى ، قاله السدي .
الثالث : يخلق ثم يبعث ، قاله يحيى بن سلام .
الرابع : يبدىء العذاب ويعيده ، قاله ابن عباس .
ويحتمل خامساً : يبدىء ما كلف من أوامره ونواهيه ، ويعيد ما جزى عليه من ثواب وعقاب .
{ وهو الغَفورٌ الوَدُودُ } في الغفور وجهان :
أحدهما : الساتر للعيوب .
الثاني : العافي عن الذنوب .
وفي الودود وجهان :
أحدهما : المحب .
الثاني : الرحيم .
وفيه ثالث : حكاه المبرد عن اسماعيل بن إسحاق القاضي أن الودود هو الذي لا ولد له ، وأنشد قول الشاعر :
وأرْكبُ في الرّوْع عُريانةً ... ذلول الجناح لقاحاً وَدُوداً
أي لا ولد لها تحن إليه ، ويكون معنى الآية أنه يغفر لعباده ، وليس ولد يغفر لهم من أجله ، ليكون بالمغفرة متفضلاً من غير جزاء .
{ ذو العَرْشِ المجيدُ } فيه وجهان :
أحدهما : الكريم ، قاله ابن عباس .
الثاني : العالي ، ومنه المجد لعلوه وشرفه .
ثم فيه وجهان :
أحدهما : أنه من صفات الله تعالى ، وهو قول من قرأ بالرفع .
الثاني : أنه من صفة العرش ، وهو قول من قرأ بالكسر .
ويحتمل إن كان صفة للعرش وجهاً ثالثاً : أنه المحكم .
{ بل هو قُرآنٌ مَجِيْدٌ في لَوْحٍ مَّحفوظٍ } فيه وجهان :
أحدهما : أن اللوح هو المحفوظ عند الله تعالى ، وهو تأويل من قرأ بالخفض .
الثاني : أن القرآن هو المحفوظ ، وهو تأويل من قرأ بالرفع وفيما هو محفوظ منه وجهان :
أحدهما : من الشياطين .
الثاني : من التغيير والتبديل .
وقال بعض المفسرين : إن اللوح شيء يلوح للملائكة فيقرؤونه .


وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9) فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ (10)

قوله تعالى { والسماءِ والطارقِ } هما قسمَان : « والسماءِ » قَسَمٌ ، « والطارقِ » قَسَمٌ .
« الطارق » نجم ، وقد بيّنه الله تعالى بقوله : { وما أدْراكَ ما الطارقُ * النجْمُ الثّاقبُ } ومنه قول هند بنت عتبة :
نحْنُ بنات طارِق ... نمْشي على النمارق
تقول : نحن بنات النجم افتخاراً بشرفها ، وإنما سمي النجم طارقاً لاختصاصه بالليل ، والعرب تسمي كل قاصد في الليل طارقاً ، قال الشاعر :
ألا طَرَقَتْ بالليلِ ما هجَعوا هندُ ... وهندٌ أَتى مِن ، دُونها النأيُ والصَّدّ
وأصل الطرق الدق ، ومنه سميت المطرقة ، فسمي قاصد الليل طارقاً لاحتياجه في الوصول إلى الدق .
وفي قوله « النجم الثاقب » ستة أوجه :
أحدها : المضيء ، قاله ابن عباس .
الثاني : المتوهج ، قاله مجاهد .
الثالث : المنقصّ ، قاله عكرمة .
الرابع : أن الثاقب الذي قد ارتفع على النجوم كلها ، قاله الفراء .
الخامس : الثاقب : الشياطين حين ترمى ، قاله السدي .
السادس : الثاقب في مسيره ومجراه ، قاله الضحاك .
وفي هذا النجم الثاقب قولان :
أحدهما : أنه زُحل ، قاله عليّ .
الثاني : الثريّا ، قاله ابن زيد .
{ إن كُلُّ نفْسٍ لّما عليها حافِظٌ } فيه وجهان :
أحدهما : « لّما » بمعنى إلاّ ، وتقديره : إنْ كل نفس إلاَّ عليها حافظ ، قاله قتادة .
الثاني : أن « ما » التي بعد اللام صله زائدة ، وتقديره : إن كل نفس لعليها حافظ ، قاله الأخفش .
وفي الحافظ قولان :
أحدهما : حافظ من الله يحفظ عليه أجله ورزقه ، قاله ابن جبير .
الثاني : من الملائكة يحفظون عليه عمله من خير أو شر ، قاله قتادة .
ويحتمل ثالثاً : أن يكون الحافظ الذي عليه عقله ، لأنه يرشده إلى مصالحه ، ويكفّه عن مضاره .
{ يَخْرُجُ مِنْ بَيْن الصُّلْبِ والتّرائِب } فيه قولان :
أحدهما : من بين صلب الرجل وترائبه ، قاله الحسن وقتادة .
الثاني : بمعنى أصلاب الرجال وترائب النساء .
وفي الترائب ستة أقاويل :
أحدها : أنه الصدر ، قاله ابن عياض ، ومنه قول دريد بن الصمة .
فإنَّ تُدْبروا نأخذكُم في ظهوركم ... وإنْ تُقْبِلُوا نأخذكُم في الترائب
الثاني : ما بين المنكبين إلى الصدر ، قاله مجاهد .
الثالث : موضع القلادة ، قاله ابن عباس ، قال الشاعر :
والزعفران على ترائبها ... شرق به اللّباتُ والنحْرُ
الرابع : أنها أربعة أضلاع من الجانب الأسفل ، قاله ابن جبير ، وحكى الزجاج أن الترائب أربعة أضلاع من يمنة الصدر وأربعة أضلاع من يسرة الصدر .
الخامس : أنها بين اليدين والرجلين والعينين ، قاله الضحاك .
السادس : هي عصارة القلب ، قاله معمر بن أبي حبيبة .
{ إنّه على رَجْعِهِ لقادرٌ } فيه خمسة أوجه :
أحدها : على أن يرد المني في الإحليل ، قاله مجاهد .
الثاني : على أن يرد الماء في الصلب ، قاله عكرمة .
الثالث : على أن يرد الإنسان من الكبر إلى الشباب ، ومن الشباب إلى الصبا ، ومن الصبا إلى النطفة ، قاله الضحاك .

الرابع : على أن يعيده حيّاً بعد موته ، قاله الحسن وعكرمة وقتادة .
الخامس : على أن يحبس الماء فلا يخرج .
ويحتمل سادساً : على أن يعيده إلى الدنيا بعد بعثه في الآخرة لأن الكفار يسألون الله فيها الرجعة .
{ يومَ تُبْلَى السّرائرُ } أي تَظْهَر .
ويحتمل ثانياً : أن تبتلى بظهور السرائر في الآخرة بعد استتارها في الدنيا .
وفيها قولان :
أحدهما : كل ما استتر به الإنسان من خير وشر ، وأضمره من إيمان أو كفر ، كما قال الأحوص :
ستُبلَى لكم في مُضْمَرِ السِّرِّ والحشَا ... سَريرةُ ودٍّ يومَ تُبلَى السرائرُ .
الثاني : هو ما رواه خالد عن زيد بن أسلم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « الأمانات ثلاث : الصلاة والصوم والجنابة ، استأمن الله ابن آدم على الصلاة ، فإن شاء قال : قد صليت ولم يُصلّ ، استأمن الله ابن آدم على الصوم ، فإن شاء قال : قد صمت ولم يصم ، استأمن الله ابن آدم على الجنابة ، فإن شاء قال : قد اغتسلت ولم يغتسل ، اقرؤوا إن شئتم : » يوم تُبْلى السّرائرُ « .
{ فما لَهُ مِن قُوَّةٍ ولا ناصَرٍ } فيه قولان :
أحدهما : أن القوة العشيرة ، والناصر : الحليف ، قاله سفيان .
الثاني : فما له من قوة في بدنه ، ولا ناصر من غيره يمتنع به من الله ، أو ينتصر به على الله ، وهو معنى قول قتادة .
ويحتمل ثالثاً : فما له من قوة في الامتناع ، ولا ناصر في الاحتجاج .


وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16) فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17)

{ والسماءِ ذاتِ الّرجْعِ } فيه أربعة أقاويل :
أحدها : ذات المطر ، لأنه يرجع في كل عام ، قاله ابن عباس .
الثاني ذات السحاب ، لأنه يرجع بالمطر .
الثالث : ذات الرجوع إلى ما كانت ، قاله عكرمة .
الرابع : ذات النجوم الراجعة ، قاله ابن زيد .
ويحتمل خامساً : ذات الملائكة لرجوعهم إليها بأعمال العباد ، وهذا قَسَمٌ .
{ والأرضِ ذاتِ الصّدْعِ } فيها أربعة أقاويل :
أحدها : ذات النبات لانصداع الأرض عنه ، قاله ابن عباس .
الثاني : ذات الأودية ، لأن الأرض قد انصدعت بها ، قاله ابن جريج .
الثالث : ذات الطرق التي تصدعها المشاة ، قاله مجاهد .
الرابع : ذات الحرث لأنه يصدعها .
ويحتمل خامساً : ذات الأموات ، لانصداعها عنهم للنشور وهذان قسمان :
{ إنّهُ لَقَولٌ فَصْلٌ } على هذا وقع القَسَمُ ، وفي المراد بأنه قول فصل قولان :
أحدهما : ما قدّمه عن الوعيد من قوله تعالى : « إنه على رجعه لقادر يوم تبلى السرائر » الآية . تحقيقاً لوعيده ، فعلى هذا في تأويل قوله « فَصْل » وجهان :
أحدها : حد ، قاله ابن جبير .
الثاني : عدل ، قاله الضحاك .
القول : ان المراد بالفصل القرآن تصديقاً لكتابه ، فعلى هذا في تاويل قوله « فصل » وجهان :
أحدهما : حق ، قاله ابن عباس .
الثاني : ما رواه الحارث عن عليّ قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « كتابِ الله فيه خير ما قبلكم ، وحكم ما بعدكم ، هو الفصل ليس بالهزل ، مَنْ تركه مِن جبّار قصمه الله ، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله » .
{ وما هو بالهزْلِ } وهذا تمام ما وقع عليه القسم ، وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها : باللعب ، قاله ابن عباس ومجاهد .
الثاني : بالباطل ، قاله وكيع والضحاك .
الثالث : بالكذب ، قاله السدي .
{ إنّهم يَكِيدُونَ كيْداً } يعني أهل مكة حين اجتمعوا في دار الندوة على المكر برسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما قال تعالى : { وإذ يمْكَرُ بك الذين كَفَروا لِيُثْبِتوكَ أو يَقْتلوكَ أو يُخْرِجوكَ } فقال ها هنا : « إنهم يكيدون كيداً » أي يمكرون مكراً .
{ وأكيدُ كيْداً } يعني بالانتقام في الآخرة بالنار ، وفي الدنيا بالسيف .
{ فمهّلِ الكافرين أَمْهِلْهم رُوَيْداً } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : قريباً ، قاله ابن عباس .
الثاني : انتظاراً ، ومنه قول الشاعر :
رُويْدك حتى تنطوي ثم تنجلي ... عمايةُ هذا العارضِ المتألّقِ
الثالث : قليلاً ، قاله قتادة .
قال الضحاك : فقتلوا يوم بدر .
وفي « مهّل » « وأمْهل » وجهان :
أحدهما : أنهما لغتان معناهما واحد .
الثاني : معناهما مختلف ، فمهّل الكف عنهم ، وأمْهِل انتظار العذاب لهم .


سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (5) سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (8) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (13)

قوله تعالى { سَبِّح اسمَ رَبِّكَ الأعْلَى } فيه أربعة أقاويل :
أحدها : عظّم ربك الأعلى ، قاله ابن عباس والسدي ، والاسم صلة قصد بها تعظيم المسّمى ، كما قال لبيد :
إلى الحْولِ ثم اسم السلام عليكما ... ومَنْ يَبْكِ حَوْلاً كاملاً فقد اعتذر
الثاني : نزّه اسم ربك عن أن يسمى به أحد سواه ، ذكره الطبري .
الثالث : معناه ارفع صوتك بذكر ربك ، قال جرير :
قَبَحَ الإلهُ وَجوه تَغْلبَ كلّما ... سَبَحَ الحجيجُ وكبّروا تكبيرا
الرابع : صلّ لربك ، فعلى هذا في قوله « اسم ربك » ثلاثة أوجه :
أحدها : بأمر ربك .
الثاني : بذكر ربك أن تفتتح به الصلاة .
الثالث : أن تكون ذاكراً لربك بقلبك في نيتك للصلاة .
وروي أن عليّاً وابن عباس وابن عمر كانوا إذا افتتحوا قراءة هذه السورة قالوا : « سبحان ربي الأعلى » امتثالاً لأمره تعالى في ابتدائها ، فصار الاقتداء بهم في قراءتها ، وقيل إنها في قراءة أُبيّ : « سبحان ربي الأعلى » وكان ابن عمر يقرؤها كذلك .
{ الذي خَلَقَ فَسَوَّى } يحتمل ثلاثة أوجه :
أحدها : يعني أنشأ خلقهم ثم سوّاهم فأكملهم .
الثاني : خلقهم خلقاً كاملاً وسوّى لكل جارحة مثلاً .
الثالث : خلقهم بإنعامه وسوّى بينهم في أحكامه ، قال الضحاك :
خلق آدم فَسوّى خلقه .
ويحتمل رابعاَ : خلق في أصلاب الرجال ، وسوّى في أرحام الأمهات .
ويحتمل خامساً : خلق الأجساد فسّوى الأفهام .
{ والذي قَدَّرَ فَهَدَى } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : قدّر الشقاوة والسعادة ، وهداه للرشد والضلالة ، قاله مجاهد .
الثاني : قدر أرزاقهم وأقواتهم ، وهداهم لمعاشهم إن كانوا إنساً ، ولمراعيهم إن كانوا وحشاً .
الثالث : قدرهم ذكوراً وإناثاً ، وهدى الذكر كيف يأتى الأنثى ، قاله السدي .
ويحتمل رابعاً : قدر خلقهم في الأرحام ، وهداهم الخروج للتمام .
ويحتمل خامساً : خلقهم للجزاء ، وهداهم للعمل .
{ والذي أَخْرَجَ المْرعى } يعني النبات ، لأن البهائم ترعاه ، قال الشاعر :
وقد يَنْبُتُ المرعى على دِمَنِ الثّرَى ... وتَبْقَى حَزازاتُ النفوسِ كما هِيا
{ فَجَعَلهُ غُثاءً أَحْوَى } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن الغثاء ما يبس من النبات حتى صار هشيماً تذروه الرياح .
الأحوى : الأسود ، قال ذي الرمة :
لمياءُ في شَفَتَيْها حُوَّةٌ لَعَسٌ ... وفي اللّثاتِ وفي أنْيابها شَنَبُ
وهذا معنى قول مجاهد .
الثاني : أن الغثاء ما احتمل السيل من النبات ، والأحوى : المتغير ، وهذا معنى قول السدي .
الثالث : أن في الكلام تقديماً وتأخيراً ، ومعناه أحوى فصار غثاء ، والأحوى : ألوان النبات الحي من أخضر وأحمر وأصفر وأبيض ، ويعبر عن جميعه بالسواد كما سمي به سواد العراق ، وقال امرؤ القيس :
وغيثٍ دائمِ التهْتا ... نِ حاوي النبتِ أدْهم
والغثاء : الميت اليابس ، قال قتادة : وهو مثل ضربه الله تعالى للكفار لذهاب الدنيا بعد نضارتها .
{ سنُقْرئك فلا تَنسَى } فيه وجهان :
أحدهما : أن معنى قوله : فلا تنسى ، أي فلا تترك العمل إلا ما شاء الله أن يترخص لك فيه ، فعلى هذا التأويل يكون هذا نهياً عن الشرك .

والوجه الثاني : أنه إخبار من الله تعالى أنه لا ينسى ما يقرئه من القرآن ، حكى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل عليه جبريل بالوحي يقرؤه خيفة أن ينساه ، فأنزل الله تعالى :
« سنقرئك فلا تنسى » يعني القرآن .
{ إلا ما شاءَ اللهُ } فيه وجهان :
أحدهما : إلا ما شاء الله أن ينسخه فتنساه ، قاله الحسن وقتادة .
الثاني : إلا ما شاء الله أن يؤخر إنزاله عليك فلا تقرؤه ، حكاه ابن عيسى .
{ إنهُ يَعْلَمُ الجهْرَ وما يَخْفَى } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : أن الجهر ما حفظته من القرآن في صدرك ، وما يخفى هو ما نسخ من حفظك .
الثاني : أن الجهر ما علمه ، وما يخفى ما سيتعلمه من بعد ، قاله ابن عباس .
الثالث : أن الجهر ما قد أظهره ، وما يخفى ما تركه من الطاعات .
{ وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : نيسرك لأن تعمل خيراً ، قاله ابن عباس .
الثاني : للجنة ، قاله ابن مسعود .
الثالث : للدين واليسر وليس بالعسر ، قاله الضحاك .
{ فذكّرْ إن نَّفَعتِ الذِّكْرَى } وفيما يذكر به وجهان :
أحدهما : بالقرآن ، قاله مجاهد .
الثاني : بالله رغبة ورهبة ، قاله ابن شجرة .
وفي قوله : { إنْ نَفَعَتِ الذّكْرى } وجهان :
أحدهما : يعني إن قبلت الذكرى وهو معنى قول يحيى بن سلام .
الثاني : يعني ما نفعت الذكرى ، فتكون « إنْ » بمعنى ما الشرط ، لأن الذكرى نافعة بكل حال ، قاله ابن شجرة .
{ سَيّذَّكَرُ مَن يَخْشى } يعني يخشى الله ، وقد يتذكر من يرجوه ، إلا أن تذكرة الخاشي أبلغ من تذكرة الراجي فلذلك علقها بالخشية دون الرجاء ، وإن تعلقت بالخشية والرجاء .
{ وَيَتَجَنَّبُها الأشْقَى } يعني يتجنب التذكرة الكافر الذي قد صار بكفره شقياً . { الذي يَصْلَى النّارَ الكُبْرىَ } فيه وجهان :
أحدهما : هي نار جهنم ، والصغرى نار الدنيا ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : الكبرى نار الكفار في الطبقة السفلى من جهنم ، والصغرى نار المذنبين في الطبقة العليا من جهنم ، وهو معنى قول الفراء .
{ ثم لا يَمُوتُ فيها ولا يَحْيَا } فيه وجهان :
أحدهما : لا يموت ولا يجد روح الحياة ، ذكره ابن عيسى .
الثاني : أنه يعذب لا يستريح ولا ينتفع بالحياة ، كما قال الشاعر :
ألا ما لنفسٍ لا تموتُ فَيَنْقَضِي ... عَناها ولا تحْيا حياةً لها طَعمْ .


قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17) إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19)

{ قد أفْلَحَ من تَزَكّى } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : من تطهّر من الشرك بالإيمان ، قاله ابن عباس .
الثاني : من كان صالح عمله زكياً نامياً ، قاله الحسن والربيع .
لم يذكر الثالث راجع التعليق ص . 44 .
الرابع : أنه عنى زكاة الأموال كلها ، قاله ابو الأحوص .
ويحتمل خامساً : أنه من ازداد خيراً وصلاحاً .
{ وذكَرَ اسمَ ربِّه فَصَلّى } فيه ستة أوجه :
أحدها : أن يوحد الله ، قاله ابن عباس .
الثاني : أن يدعوه ويرغب إليه .
الثالث : أن يستغفروه ويتوب إليه .
الرابع : أن يذكره بقلبه عند صلاته فيخاف عقابه ويرجو ثوابه ، ليكون استيفاؤه لها وخشوعه فيها بحسب خوفه ورجائه .
الخامس : أن يذكر اسم ربه بلسانه عند إحرامه بصلاته ، لأنها لا تنعقد إلا بذكره . السادس : أن يفتتح كل سورة ببسم الله الرحمن الرحيم .
وفي قوله « فصلّى » ثلاثة أقاويل :
أحدها : الصلوات الخمس ، قاله ابن عباس .
الثاني : صلاة العيد ، قاله أبو سعيد الخدري .
الثالث : هو أن يتطوع بصلاة بعد زكاة ، قاله أبو الأحوص .
وذكر الضحاك أنها نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه .
{ بل تُؤْثرون الحياةَ الدُّنْيا } فيه وجهان :
أحدهما : أن المراد بها الكفار ، فيكون تأويلها : بل تؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة .
الثاني : أن المراد بها المسلمون ، فيكون تأويلها : يؤثرون الاستكثار من الدنيا للاستكثار من الثواب .
{ والآخِرةُ خَيْرٌ وأَبْقَى } فيه وجهان :
أحدهما : خير للمؤمن من الدنيا ، وأبقى للجزاء .
الثاني : ما قاله قتادة خير في الخير وأبقى في البقاء .
ويحتمل به وجهاً ثالثاً : يتحرر به الوجهان : والآخرة خير لأهل الطاعة وأبقى على أهل الجنة .
{ إنّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : يعني أن الآخرة خير وأبقى في الصحف الأولى ، قاله قتادة .
الثاني : أن ما قصَّهُ الله في هذه السورة هو من الصحف الأولى .
الثالث : هي كتب الله كلها ، وحكى وهب بن منبه في المبتدإ أن جميع الكتب التي أنزلها الله على أنبيائه مائة صحيفة وخمس صحف وأربعة كتب ، منها خمسة وثلاثون صحيفة أنزلها على شيث بن آدم وخمسون صحيفة أنزلها على إدريس ، وعشرون صحيفة أنزلها على إبراهيم ، وأنزل التوراة على موسى ، والزبور على داود ، والإنجيل على عيسى ، والفرقان على محمد عليهم السلام .


هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7)

قوله تعالى { هلْ أتاكَ حديثُ الغاشِيةِ } فيها قولان :
أحدهما أنها القيامة تغشى الناس بالأهوال ، قاله ابن عباس والضحاك .
الثاني : أنها النار تغشى وجوه الكفار ، قاله ابن جبير .
ويحتمل ثالثاً : أنها في هذا الموضع النفخة الثانية للبعث لأنها تغشى جميع الخلق .
و « هل » فيها وجهان :
أحدهما : أنها في موضع قد ، وتقدير الكلام قد أتاك حديث الغاشية ، قاله قطرب .
الثاني : أنها خرجت مخرج الاستفهام لرسوله ، ومعناه ألم يكن قد أتاك حديث الغاشية ، فقد أتاك ، وهو معنى قول الكلبي .
{ وُجوهٌ يومئذٍ خاشِعَةٌ } في الوجوه ها هنا قولان :
أحدهما : عنى وجوه الكفار كلهم ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : أنها وجوه اليهود والنصارى ، قاله ابن عباس .
وفي قوله « يومئذٍ » وجهان :
أحدهما : يعني يوم القيامة ، قاله سعيد بن جبير .
الثاني : في النار ، قاله قتادة .
« خاشعة » فيه وجهان :
أحدهما : يعني ذليلة بمعاصيها ، قاله قتادة .
الثاني : أنها تخشع بعد ذل من عذاب الله فلا تتنعم ، قاله سعيد بن جبير .
ويحتمل وجهاً ثالثاً : أن تكون خاشعة لتظاهرها بطاعته بعد اعترافها بمعصيته . { عامِلةٌ نَّاصِبَةٌ } في « عاملة » وجهان :
أحدهما : في الدنيا عاملة بالمعاصي ، قاله عكرمة .
الثاني : أنها تكبرت في الدنيا عن طاعة الله تعالى ، فأعملها في النار بالانتقال من عذاب إلى عذاب ، قاله قتادة .
ويحتمل وجهاً ثالثاً : أي باذلة للعمل بطاعته إن ردّت .
وفي قوله « ناصبة » وجهان :
أحدهما : ناصبة في أعمال المعاصي .
الثاني : ناصبة في النار ، قاله قتادة .
ويحتمل وجهاً ثالثاً : أي ناصبة بين يديه تعالى مستجيرة بعفوه .
{ تَصْلَى ناراً حاميةً } فإن قيل فما معنى صفتها بالحماء وهي لا تكون إلا حامية وهو أقل أحوالها ، فما وجه المبالغة بهذه الصفة الناقصة؟ قيل قد اختلف في المراد بالحامية ها هنا على أربعة أوجه :
أحدها : أن المراد بذلك أنها دائمة الحمى وليست كنار الدنيا التي ينقطع حميها بانطفائها .
الثاني : أن المراد بالحامية أنها حمى يمنع من ارتكاب المحظورات وانتهاك المحارم ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : « وإن لكل ملك حمى ، وإن حمى الله محارمه ، ومن يرتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه » .
الثالث : معناه أنها تحمي نفسها عن أن تطاق ملامستها أو ترام مماستها كما يحي الأسد عرينه ، ومثله قول النابغة :
تعدو الذئاب على من لا كلاب له ... وتتقي صولة المستأسد الحامي .
الرابع : أنها حامية مما غيظ وغضب ، مبالغة في شدة الانتقام ، وقد بيّن الله ذلك بقوله { تكاد تميّز من الغيظ } .
{ تُسْقَى مِن عَيْنٍ آنِيةٍ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : قاله ابن زيد .
الثاني : حاضرة .
الثالث : قد بلغت إناها وحان شربها ، قاله مجاهد .

الرابع : يعني قد أنى حرها فانتهى واشتد ، قاله ابن عباس .
{ ليس لَهُمْ طعامٌ إلاّ مِن ضَريعٍ } فيه ستة أقاويل :
أحدها : أنها شجرة تسميها قريش الشبرق ، كثيرة الشوك ، قاله ابن عباس ، قال قتادة وإذا يبس في الصيف فهو ضريع ، قال الشاعر :
رعى الشبرق الريان حتى إذا ذوى ... وعاد ضريعاً نازعته النحائص
الثاني : السّلم ، قال أبو الجوزاء : كيف يسمن من يأكل الشوك .
الثالث : أنها الحجارة ، قاله ابن جبير .
الرابع : أنه النوى المحرق ، حكاه يوسف بن يعقوب عن بعض الأعراب .
الخامس : أنه شجر من نار ، قاله ابن زيد .
السادس : أن الضريع بمعنى المضروع ، أي الذي يضرعون عنده طلباً للخلاص منه ، قاله ابن بحر .


وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12) فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16)

{ في جَنّةٍ عاليةٍ } فيها وجهان :
أحدهما : أن الجنة أعلى من النار فسميت لذلك عالية ، قاله الضحاك .
الثاني : أعالي الجنة وغرقها ، لأنها منازل العلو والارتفاع .
فعلى هذا في ارتفاعهم فيها وجهان :
أحدهما : ليلتذوا بالعو والارتفاع .
الثاني : ليشاهدوا ما أعد الله لهم فيها من نعيم .
{ لا تسْمَعُ فيها لاغيةً } قال الفراء والأخفش : أي لا تسمع فيها كلمة لغو وفي المراد بها سبعة أقاويل :
أحدها : يعني كذباً ، قاله ابن عباس .
الثاني : الإثم ، قاله قتادة .
الثالث : أنه الشتم ، قاله مجاهد .
الرابع : الباطل ، قاله يحيى بن سلام .
الخامس : المعصية ، قاله الحسن .
السادس : الحلف فلا تسمع في الجنة حالف يمين برة ولا فاجرة ، قاله الكلبي .
السابع : لا يسمع في كلامهم كلمة تلغى ، لأن أهل الجنة لا يتكلمون إلا بالحكمة وحمد الله على ما رزقهم ، قاله الفراء .
{ فيها سُرُرٌ مرفوعةٌ } والسرر جمع سرير ، وهو مشتق من السرور وفي وصفها بأنها مرفوعة ثلاثة أوجه :
أحدها : لأن بعضها مرفوع فوق بعض .
الثاني : مرفوعة في أنفسهم لجلالتها وحبهم لها ، قاله الفراء .
الثالث : أنها مرفوعة المكان لارتفاعها وعلوها .
فعلى هذا في وصفها بالعلو والارتفاع وجهان :
أحدهما : ليلتذ أهلها بارتفاعها ، قاله ابن شجرة .
الثاني : ليشاهدوا بارتفاعهم ما أُعطوه من مُلك وأُوتوه من نعيم ، قاله ابن عيسى .
فأما قوله { وأكوابٌ موضوعةٌ } فالأكواب : الأواني ، وقد مضى القول في تفسيرها .
وفي قوله « موضوعة » وجهان :
أحدهما : في أيديهم للاستمتاع بالنظر إليها لأنها من ذهب وفضة .
الثاني : يعني أنها مستعملة على الدوام ، لاستدامة شربهم منها ، قاله المفضل .
{ ونمارقُ مَصْفوفَةٌ } فيه وجهان :
أحدهما : الوسائد ، واحدها نمرقة ، قاله قتادة .
الثاني : المرافق ، قاله ابن أبي طلحة ، قال الشاعر :
وريم أحمّ المقلتين محبّب ... زرابيُّه مبثوثةٌ ونمارِقُه
{ وزرابيُّ مْبْثوثةٌ } فيها وجهان :
أحدهما : هي البسط الفاخرة ، قاله ابن عيسى .
الثاني : هي الطنافس المخملة ، قاله الكلبي والفراء .
وفي « المبثوثة » أربعة أوجه :
أحدها : مبسوطة ، قاله قتادة .
الثاني : بعضها فوق بعض ، قاله عكرمة .
الثالث : الكثيرة ، قاله الفراء .
الرابع : المتفرقة ، قاله ابن قتيبة .


أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)

{ أفلا يَنظُرونَ إلى الإبلِ كيف خُلِقت } الآيات ، وفي ذكره لهذه ثلاثة أوجه :
أحدها : ليستدلوا بما فيها من العبر على قدره الله تعالى ووحدانيته .
الثاني : ليعلموا بقدرته على هذه الأمور أنه قادر على بعثهم يوم القيامة ، قاله يحيى بن سلام .
الثالث : أن الله تعالى لما نعت لهم ما في الجنة عجب منه أهل الضلالة ، فذكر لهم ذلك مع ما فيه من العجاب ليزول تعجبهم ، قاله قتادة .
وفي « الإبل » ها هنا وجهان :
أحدهما : وهو أظهرهما وأشهرهما : أنها الإبل من النَعَم .
الثاني : أنها السحاب ، فإن كان المراد بها السحاب فلما فيها من الآيات الدالة على قدرة الله والمنافع العامة لجميع خلقه .
وإن كان المراد بها من النَعَم فإن الإبل أجمع للمنافع من سائر الحيوانات ، لأن ضروبه أربعة :
حلوبة ، وركوبة ، وأكولة ، وحمولة والإبل تجمع هذه الخلال الأربع ، فكانت النعمة بها أعم ، وظهور القدرة فيها أتم .
ثم قال تعالى بعد ذلك « { فَذَكِّرْ إنّما أنت مُذكِّر } فيه وجهان :
أحدهما : إنما أنت واعظ .
الثاني : ذكّرهم النعم ليخافوا النقم .
{ لَسْتَ عليهم بِمُسْيْطِر } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : لست عليهم بمسلط ، قاله الضحاك .
الثاني : بجبار ، قاله ابن عباس .
الثالث : برب ، قاله الحسن ، ومعنى الكلام لست عليهم بمسيطر أن تكرههم على الإيمان .
ثم قال : { إلاّ مَن تَولّى وكَفَر } فلست له بمذكر ، لأنه لا يقبل تذكيرك ، قاله السدي .
الثاني : إلا من تولى وكفر فكِلْه غلى الله تعالى ، وهذا قبل القتال ، ثم أمر بقتالهم ، قاله الحسن .
وفي » تولَّى وكفر « وجهان :
أحدهما : تولى عن الحق وكفر بالنعمة .
الثاني : تولى عن الرسول وكفر بالله تعالى ، قاله الضحاك .
{ فيُعذِّبه الله العذَابَ الأكْبَر } يعني جهنم .
ويحتمل أن يريد الخلود فيها ، لأنه يصير بالاستدامة أكبر من المنقطع . { إنّ إليْنا إيابَهُمْ } أي مرجعهم .
{ ثم إنّ علينا حِسابَهم } يعني جزاءَهم على أعمالهم ، فيكون ذلك جامعاً بين الوعد والوعيد ثواباً على الطاعات وعقاباً على المعاصي .


وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)

قوله تعالى { والفَجْر } قسم أقسم الله تعالى به ، وهو انفجار الصبح من أفق المشرق ، وهما فجران : فالأول منهما مستطيل كذنب السرحان يبدو كعمود نور لا عرض له ، ثم يغيب لظلام يتخلله ، ويسمى هذا الفجر المبشر للصبح ، وبعضهم يسميه الكاذب لأنه كذب بالصبح .
وهو من جملة الليل لا تأثير له في صلاة ولا صوم .
وأما الثاني فهو مستطيل النور منتشر في الأفق ويسمى الفجر الصادق لأنه صدقك عن الصبح ، قال الشاعر :
شعب الكلاب الضاريات فزاده ... ناراً بذي الصبح المصدق يخفق
وبه يتعلق حكم الصلاة والصوم ، وقد ذكرنا ذلك من قبل .
وفي قسم الله بالفجر أربعة أقاويل :
أحدها : أنه عنى به النهار وعبر عنه بالفجر لأنه أوله ، قاله ابن عباس .
الثاني : أن الفجر الصبح الذي يبدأ به النهار من كل يوم ، قاله علّي رضي الله عنه .
الثالث : أنه عنى به صلاة الصبح ، وهو مروي عن ابن عباس أيضاً .
الرابع : أنه أراد به فجر يوم النحر خاصة ، قاله مجاهد .
وفي { وليالٍ عشْرٍ } - وهي قسم ثان - أربعة أقاويل :
أحدها : هي عشر ذي الحجة ، قاله ابن عباس ، وقد روى أبو الزبير عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « » والفجر وليال عشر « ، قال : عشر الأضحى » .
الثاني : هي عشر من أول المحرم ، حكاه الطبري .
الثالث : هي العشر الأواخر من شهر رمضان ، وهذا مروي عن ابن عباس .
الرابع : هي عشر موسى عليه السلام التي أتمها الله سبحانه له ، قاله مجاهد .
{ والشّفْعِ والوَتْرِ } وهذا قسم ثالث ، وفيهما تسعة أقاويل :
أحدها : أنها الصلاة ، فياه شفع وفيها وتر ، رواه عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم .
الثاني : هي صلاة المغرب ، الشفع منها ركعتان ، والوتر الثالثة ، قاله الربيع بن أنس وأبو العالية .
الثالث : أن الشفع يوم النحر ، والوتر يوم عرفة ، رواه ابن الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم .
الرابع : أن الشفع يوما منى الحادي عشر والثاني عشر من ذي الحجة ، والوتر الثالث بعدهما ، قاله ابن الزبير .
الخامس : أن الشفع عشر ذي الحجة ، والوتر أيام منى الثلاثة ، قاله الضحاك .
السادس : أن الشفع الخلق من كل شيء ، والوتر هو آدم وحواء ، لأن آدم كان فرداً فشفع بزوجته حواء فصار شفعاً بعد وتر ، رواه ابن نجيح .
التاسع : أنه العدد لأن جميعه شفع ووتر ، قاله الحسن .
ويحتمل حادي عشر : أن الشفع ما يَنْمى ، والوتر مالا يَنْمى .
{ واللّيْلِ إذا يَسْرِ } وهذا قسم رابع ، وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها : هي ليلة القدر لسراية الرحمة فيها واختصاصها بزيادة الثواب فيها .
الثاني : هي ليلة المزدلفة خاصة لاختصاصها باجتماع الناس فيها لطاعة الله ، وسئل محمد بن كعب عن قوله تعالى { والليل إذا يَسْرِ } فقال أسْر يا ساري ، ولا تبيتنّ إلا بجمع ، يعني بمزدلفة .

الثالث : أنه أراد عموم الليل كله .
وفي قوله { إذا يسرِ } ثلاثة أوجه :
أحدها : إذا أظلم ، قاله ابن عباس .
الثاني : إذا سار ، لأن الليل يسير بمسير الشمس والفلك فينتقل من أفق إلى أفق ، ومنه قولهم جاء الليل وذهب النهار .
الثالث : إذا سار فيه أهله ، لأن السرى سير الليل .
{ هل في ذلك قَسَمٌ لذي حجْرٍ } وفي ذي الحجر لأهل التأويل خمسة أقاويل :
أحدها : لذي عقل ، قاله ابن عباس .
الثاني : لذي حلم ، قاله الحسن .
الثالث : لذي دين ، قاله محمد بن كعب .
الرابع : لذي ستر ، قاله أبو مالك .
الخامس : لذي علم ، قاله أبو رجاء .
والحجر : المنع ، ومنه اشتق اسم الحجر لامتناعه بصلابته ، ولذلك سميت الحجرة لامتناع ما فيها بها ، ومنه سمي حجر المَولَّى عليه لما فيه من منعه عن التصرف ، فجاز أن يحمل معناه على كل واحد من هذه التأويلات لما يضمنه من المنع .
وقال مقاتل « هل » ها هنا في موضع إنّ ، وتقدير الكلام : إن في ذلك قسماً لِذي حِجْر .
{ ألم تَرَ كيف فَعَل ربُّك بعادٍ * إرَمَ } فيه سبعة أقاويل :
أحدها : أن إرم هي الأرض ، قاله قتادة .
الثاني : دمشق ، قاله عكرمة .
الثالث : الإسكندرية ، قاله محمد بن كعب .
الرابع : أن إرم أُمة من الأمم ، قاله مجاهد ، قال الشاعر :
كما سخرت به إرم فأضحوا ... مثل أحلام النيام .
الخامس : أنه اسم قبيلة من عاد ، قاله قتادة .
السادس : أن إرم اسم جد عاد ، قاله محمد بن إسحاق ، وحكى عنه أنه أبوه ، وأنه عاد بن إرم بن عوض بن سام بن نوح .
السابع : أن معنى إرم القديمة ، رواه ابن أبي نجيح .
الثامن : أنه الهلاك ، يقال : أرم بنو فلان ، أي هلكوا ، قاله الضحاك .
التاسع : أن الله تعالى رمّهم رّماً فجعلهم رميماً ، فلذلك سماهم ، قاله السدي .
{ ذاتِ العمادِ } فيه أربعة أقاويل :
أحدها : ذات الطُّول ، قال ابن عباس مأخوذ من قولهم رجل معمّد ، إذا كان طويلاً ، وزعم قتادة . أنه كان طول الرجل منهم اثني عشر ذراعاً .
الثاني : ذات العماد لأنهم كانوا أهل خيام وأعمدة ، ينتجعون الغيوث ، قاله مجاهد .
الثالث : ذات القوة والشدة ، مأخوذ من قوة الأعمدة ، قاله الضحاك ، وحكى ثور بن يزيد أنه قال : أنا شداد بن عاد ، وأنا الذي رفعت العماد ، وأنا الذي شددت بذراعي بطن السواد ، وأنا الذي كنزت كنزاً على سبعة أذرع لا تخرجه إلا أمة محمد .
الرابع : ذات العماد المحكم بالعماد ، قاله ابن زيد .
{ التي لم يُخْلَقْ مِثْلُها في البلادِ } فيه وجهان :
أحدهما : لم يخلق مثل مدينتهم ذات العماد في البلاد ، قاله عكرمة .

الثاني : لم يخلق مثل قوم عاد في البلاد ، لطولهم وشدتهم ، قاله الحسن .
{ وثمودَ الذين جابُوا الصّخْرَ بالوادِ } فيه وجهان :
أحدهما : يعني قطعوا الصخر ونقبوه ونحتوه حتى جعلوه بيوتاً ، كما قال تعالى :
{ وتنحتون من الجبال بيوتاً فارهين } قال الشاعر :
ألا كلُّ شيءٍ ما خلا الله باطِلٌ ... وكلُّ نعيمِ لا مَحالةَ زائلُ
وقال آخر :
وهم ضربوا في كل صماءَ صعدة ... بأيدٍ شديد من شداد السواعد .
الثاني : معناه طافوا لأخذ الصخر بالوادي ، كما قال الشاعر :
ولا رأَيْت قلوصاً قبْلها حَمَلَتْ ... ستين وسقاً ولا جابَتْ به بَلَدا
وأما « الواد » فقد زعم محمد بن إسحاق أنه وادي القرى ، وروى أبو الأشهب عن أبي نضرة قال : أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة تبوك على وادي ثمود ، وهو على فرس أشقر ، فقال : أسرعوا السير فإنكم في واد ملعون .
{ وفرعونَ ذِي الأوْتادِ } فيه أربعة أقاويل :
أحدها : أن الأوتاد الجنود ، فلذلك سمي بذي الأوتاد لكثرة جنوده ، قاله ابن عباس .
الثاني : لأنه كان يعذب الناس بالأوتاد يشدها في أيديهم ، قاله الحسن ، ومجاهد ، قال الكلبي : بمثل ذلك عذب فرعون زوجته آسية بنت مزاحم عندما آمنت حتى ماتت .
الثالث : أن الأوتاد البنيان فسمي بذي الأوتاد لكثرة بنائه ، قاله الضحاك .
الرابع : لأنه كانت له فطال وملاعب على أوتاد وحبال يلعب له تحتها ، قاله قتادة .
ويحتمل خامساً : أنه ذو الأوتاد لكثرة نخلة وشجرة ، لأنها كالأوتاد في الأرض .
{ فَصَبَّ عليهم ربُّك سَوْطَ عذابٍ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : قسط عذاب كالعذاب بالسوط ، قاله ابن عيسى .
الثاني : خلط عذاب ، لأنه أنواع ومنه قول الشاعر :
أحارثُ إنّا لو تُساطُ دماؤنا ... تَزَيّلْنَ حتى لا يَمسَّ دَمٌ دَمَا
الثالث : أنه وجع من العذاب ، قاله السدي .
الرابع : أنه كل شيء عذب الله به فهو سوط عذاب ، قاله قتادة .
وقال قتادة : كان سوط عذاب هو الغرق .
{ إنّ ربك لبالمرصاد } فيه وجهان :
أحدهما : بالطريق .
الثاني : بالانتظار ، كما قال طرفة :
أعاذلُ إنّ الجهْلَ من لَذِةِ الفتى ... وإنّ المنايا للرجال بمرصَد .


فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20)

{ وتأكُلون التُّراثَ أكْلاً لمّاً } والتراث : الميراث ، وفي قوله « لمّاً » أربعة تأويلات :
أحدها : يعني شديداً ، قاله السدي .
الثاني : يعني جمعاً ، من قولهم لممت الطعام لَمّاً ، إذا أكلته جمعاً ، قاله الحسن .
الثالث : معناه سفه سفاً ، قاله مجاهد .
الرابع : هو أنه إذا أكل مال نفسه ألمّ بمال غيره فأكله ، ولا يتفكر فيما أكل من خبيث وطيب ، قاله ابن زيد .
ويحتمل خامساً : أنه ألمّ بما حرم عليه ومنع منه .
{ وتُحِبُّونَ المالَ حُبّاً جَمّاً } فيه تأويلان :
أحدهما : يعني كثيراً ، قاله ابن عباس ، والجمّ الكثير ، قال الشاعر :
إنْ تَغْفِر اللهم تغْفِرْ جَمّا ... وأيُّ عبدٍ لك لا أَلَمّاً
الثاني : فاحشاً تجمعون حلاله إلى حرامه ، قاله الحسن :
ويحتمل ثالثاً : أنه يحب المال حب إجمام له واستبقاء فلا ينتفع به في دين ولا دنيا وهو أسوأ أحوال ذي المال .


كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26) يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)

{ يومئذٍ يَتذكّرُ الإنسانُ وأنَّى له الذِّكْرَى } فيه تأويلان :
أحدهما : يتوب وكيف له بالتوبة ، لأن التوبة بالقيامة لا تنفع ، قاله الضحاك .
الثاني : يتذكر ما عمل في دنياه وما قدم لآخرته ، وأنى له الذكرى في الآخرة ، وإنما ينتفع في الدنيا ، قاله ابن شجرة .
{ يقولُ يا ليتني قَدَّمْتُ لحياتي } فيه وجهان :
أحدهما : قدمت من دنياي لحياتي في الآخرة ، قاله الضحاك .
الثاني : قدمت من حياتي لمعادي في الآخرة ذكره ابن عباس .
{ فيومئذٍ لا يُعَذِّب عذابَه أَحَدٌ * ولا يُوثِقُ وثاقهَ أَحَدٌ } قرأ الكسائي لا يعذَّب ولا يوثق بفتح الذال والثاء وتأويلها على قراءته لا يعذَّب عذاب الكافر الذي يقول « يا ليتني قدمت لحياتي » أحدٌ ، وقرأ الباقون بكسر الذال والثاء وتأويلها أنه لا يعَذِّب عذابَ الله أحدٌ غَفَر الله له ، قاله ابن عباس والحسن ، فيكون تأويله على القراءة الأولى محمولاً على الآخرة ، وعلى القراءة الثانية محمولاً على الدنيا .
{ يا أيّتُها النّفْسُ المطْمئِنّةُ } فيه سبعة تأويلات :
أحدها : يعني المؤمنة ، قاله ابن عباس .
الثاني : المجيبة ، قاله مجاهد .
الثالث : المؤمنة بما وعد الله ، قاله قتادة .
الرابع : الآمنة ، وهو في حرف أُبيّ بن كعب يا أيتها النفس الآمنة المطمئنة . الخامس : الراضية ، قاله مقاتل .
السادس : ما قاله بعض أصحاب الخواطر : المطمئنة إلى الدنيا ، ارجعي إلى ربك في تركها .
السابع : ما قاله الحسن أن الله تعالى إذا أراد أن يقبض روح عبده المؤمن اطمأنت النفس إلى الله عز وجل ، واطمأن الله إليها .
{ ارْجِعي إلى ربِّكِ } فيه وجهان :
أحدهما : إلى جسدك عند البعث في القيامة ، قاله ابن عباس .
الثاني : إلى ربك عند الموت في الدنيا ، قاله أبو صالح .
ويحتمل تأويلاً ثالثاً : إلى ثواب ربك في الآخرة .
{ راضيةً مَرْضِيّةً } فيه وجهان :
أحدهما : رضيت عن الله ورضي عنها ، قاله الحسن .
الثاني : رضيت بثواب الله ورضي بعملها ، قاله ابن عباس .
{ فادْخُلي في عِبادي } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : في عبدي ، وهو في حرف أُبيّ بن كعب : فادخلي في عبدي .
الثاني : في طاعتي ، قاله الضحاك .
الثالث : معناه فادخلي مع عبادي ، قاله السدي .
{ وادْخُلي جَنَتي } فيه قولان :
أحدهما : في رحمتي ، قاله الضحاك .
الثاني : الجنة التي هي دار الخلود ومسكن الأبرار ، وهو قول الجمهور .
وقال أسامة بن زيد : بشرت النفس المطمئنة بالجنة عند الموت ، وعند البعث وفي الجنة .
واختلف فيمن نزلت فيه هذه الآية على أربعة أقاويل :
أحدها : أنها نزلت في أبي بكر ، فروى ابن عباس أنها نزلت وأبو بكر جالس فقال : يا رسول الله ما أَحسن هذا ، فقال صلى الله عليه وسلم : « أما أنه سيقال لك هذا » .
الثاني : أنها نزلت في عثمان حين وقف بئر رومة ، قاله الضحاك .
الثالث : أنها نزلت في حمزة ، قاله بريدة الأسلمي .
الرابع : أنها عامة في كل المؤمنين ، رواه عكرمة والفراء .


لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10)

قوله تعالى { لا أُقْسِمُ بهذا البَلَد } ومعناه على أصح الوجوه :
أُقْسِم بهذا البلد ، وفي « البلد » قولان :
أحدهما : مكة ، قاله ابن عباس .
الثاني : الحرم كله ، قاله مجاهد .
{ وأنتَ حلٌّ بهذا البَلَدِ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : حل لك ما صنعته في هذا البلد من قتال أو غيره ، قاله ابن عباس ومجاهد .
الثاني : أنت مُحِل في هذا البد غير مُحْرِم في دخولك عام الفتح ، قاله الحسن وعطاء .
الثالث : أن يستحل المشركون فيه حرمتك وحرمة من اتبعك توبيخاً للمشركين . ويحتمل رابعاً : وأنت حالٌّ أي نازل في هذا البلد ، لأنها نزلت عليه وهو بمكة لم يفرض عليه الإحرام ولم يؤْذن له في القتال ، وكانت حرمة مكة فيها أعظم ، والقسم بها أفخم .
{ ووالدٍ وما وَلَدَ } فيه أربعة أوجه .
أحدها : آدم وما ولد ، قاله مجاهد وقتادة والحسن والضحاك .
الثاني : أن الوالد إبراهيم وما ولد ، قاله ابو عمران الجوني .
الثالث : أن الوالد هو الذي يلد ، وما ولد هو العاقر الذي لا يلد ، قاله ابن عباس .
الرابع : أن الوالد العاقر ، وما ولد التي تلد ، قاله عكرمة .
ويحتمل خامساً : أن الوالد النبي صلى الله عليه وسلم ، لتقدم ذكره ، وما ولد أُمتّه ، لقوله عليه السلام إنما أنا لكم مثل الوالد أعلّمكم ، فأقسم به وبأمّته بعد أن أقسم ببلده مبالغة في تشريفه .
{ لقد خَلقنا الإنسانَ في كَبَدٍ } إلى هاهنا انتهى القسم وهذا جوابه . وفي قوله « في كَبَد » سبعة أقاويل :
أحدها : في انتصاب في بطن أُمّه وبعد ولادته ، خص الإنسان بذلك تشريفاً ، ولم يخلق غيره من الحيوان منتصباً ، قاله ابن عباس وعكرمة .
الثاني : في اعتدال ، لما بيّنه بعد من قوله { ألم نَجْعَلْ له عَيْنَين } الآيات ، حكاه ابن شجرة .
الثالث : يعني من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة ، يتكبد في الخلق مأخوذ من تكبد الدم وهو غلظه ، ومنه أخذ أسم الكبد لأنه دم قد غلظ ، وهو معنى قول مجاهد .
الرابع : في شدة لأنها حملته كرهاً ووضعته كرهاً ، مأخوذ من المكابدة ، ومنه قول لبيد :
يا عين هلاّ بكيْتِ أَرْبَدَ إذ ... قُمْنا وقامَ الخصومُ في كَبَدِ .
رواه ابن أبي نجيح .
الخامس : لأنه يكابد مصائب الدنيا وشدائد الآخرة ، قاله الحسن .
السادس : لأنه خلق آدم في كبد السماء ، قاله ابن زيد .
السابع : لأنه يكابد الشكر على السّراء والصبر على الضّراء ، لأنه لا يخلو من أحدهما ، رواه ابن عمر .
ويحتمل ثامناً : يريد به أنه ذو نفور وحميّة ، مأخوذ من قولهم لفلان كبَد ، إذا كان شديد النفور والحمية .
وفيمن اريد بالإنسان ها هنا قولان :
أحدهما : جميع الناس .

الثاني : الكافر يكابد شبهات .
{ أيَحْسَب أنْ لَنْ يَقْدِر عليه أحَدٌ } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : أيحسب الإنسان أن لن يقدر عليه الله أن يبعثه بعد الموت ، قاله السدي .
الثاني : أيحسب الإنسان أن لن يقدر عليه أحد بأخذ ماله ، قاله الحسن .
الثالث : أيحسب أن لن يذله أحد ، لأن القدرة عليه ذل له .
{ يقولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً } فيه وجهان :
أحدهما : يعني كثيراً .
الثاني : مجتمعاً بعضه على بعض ، ومنه سمي اللّبْد لاجتماعه وتلبيد بعضه على بعض .
ويحتمل ثالثاً : يعني مالاً قديماً ، لاشتقاقه من الأبد ، أو للمبالغة في قدمه من عهد لَبِد ، لأن العرب تضرب المثل في القدم بلبد ، وذكر قدمه لطول بقائه وشدة ضَنِّه به .
وقيل إن هذا القائل أبو الشد الجمحي ، أنفق مالا كثيراً في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم والصد عن سبيل الله ، وقيل بل هو النضر بن الحارث .
وهذا القول يحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون استطالة بما أنفق فيكون طغياناً منه .
الثاني : أن يكون أسفاً عليه ، فيكون ندماً منه .
{ أيحْسَبُ أن لم يَرَهُ أَحَدٌ } فيه وجهان :
أحدهما : أن لم يره الله ، قاله مجاهد .
الثاني : أن لم يره أحد من الناس فيما أنفقه ، قاله ابن شجرة .
ويحتمل وجهاً ثالثاً : أيحسب أن لم يظهر ما فعله أن لا يؤاخذ به ، على وجه التهديد ، كما يقول الإنسان لمن ينكر عليه فعله ، قد رأيت ما صنعت ، تهديداً له فيكون الكلام على هذا الوجه وعيداً ، وعلى ما تقدم تكذيباً .
{ وهَدَيْناه النَّجْدَيْنِ } فيهما أربعة تأويلات :
أحدها : سبيل الخير والشر ، قاله علي رضي الله عنه والحسن .
الثاني : سبيل الهدى والضلالة ، قاله ابن عباس .
الثالث : سبيل الشقاء والسعادة ، قاله مجاهد .
الرابع : الثديين ليتغذى بهما ، قاله قتادة والربيع بن خثيم .
قال قطرب : والنجد هو الطريق المرتفع ، فأرض نجد هي المرتفعة ، وأرض تهامة هي المنخفضة .
ويحتمل على هذا الاشتقاق خامساً : أنهما الجنة والنار ، لارتفاعهما عن الأرض .

========