في وداع الله يا اماي جاري فوري

تحميل المصخف بصيغه

  القرآن الكريم وورد word doc icon تحميل سورة العاديات مكتوبة pdfتحميل المصحف الشريف بصيغة pdf تحميل القرآن الكريم مكتوب بصيغة وورد

الاثنين، 24 أكتوبر 2022

النكت والعيون ج11.وج12. أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي

 

النكت والعيون ج11.وج12.



ج11. كتاب : النكت والعيون أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي

إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30)

قوله عز وجل : { يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ } يعني الجنة ، وفيها وجهان
: أحدهما : لن تفسد ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : لن تكسد ، قاله علي بن عيسى والأول أشبه لقول الشاعر :
يا رسول المليك إن لساني ... راتق ما فتقت إذا أنا بور
قوله عز وجل : { لِيُوَفِّيهُمْ أُجُورَهُمْ } يعني ثواب أعمالهم
. { وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ } فيه أربعة أوجه
: أحدها : يفسح لهم في قبورهم ، قاله الضحاك .
الثاني : يشفعهم فيمن أحسن إليهم في الدنيا ، قاله أبو وائل .
الثالث : يضاعف لهم حسناتهم ، وهو مأثور .
الرابع : غفر الكثير والشكر اليسير ، قاله بعض المتأخرين .
ويحتمل خامساً : يوفيهم أجورهم على فعل الطاعات ويزيدهم من فضله على اجتناب المعاصي { إنَّهُ غَفُورٌ } للذنب .
{ شَكُورٌ } للطاعة . ووصفه بأنه شكور مجاز ومعناه أن يقابل بالإحسان مقابلة الشكور لأنه يقابل على اليسير بأضعافه .
وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32)

{ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِن عِبَادِنَا } فيه وجهان
: أحدهما : أن الكتاب هو القرآن ، ومعنى الإرث انتقال الحكم إليهم .
الثاني : أن إرث الكتاب هو الإيمان بالكتب السالفة لأن حقيقة الإرث انتقال الشيء من قوم إلى قوم .
وفي { الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبادِنَا } ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنهم الأنبياء ، حكاه ابن عيسى .
الثاني : أنهم بنو إسرائيل لقوله عز وجل : { إنَّ اللَّهَ اصْطَفَى ءَادَمَ وَنُوحاً } [ آل عمران : 33 ] الآية . قاله ابن بحر .
الثالث : أمة محمد صلى الله عليه وسلم . قاله الكلبي .
{ فَمِنْهُمْ ظَالِِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ } فيه وجهان :
أحدهما : أن قوله : { فَمِنْهُمْ ظَالِِمٌ لِّنَفْسِهِ } كلام مبتدأ لا يرجع إلى المصطفين ، وهذا قول من تأول المصطفين الأنبياء ، فيكون من عداهم ثلاثة أصناف على ما بينهم .
الثاني : أنه راجع إلى تفصيل أحوال الذين اصطفينا ، ومعنى الاصطفاء الاختيار وهذا قول من تأول المصطفين غير الأنبياء ، فجعلهم ثلاثة أصناف .
فأما الظالم لنفسه ها هنا ففيه خمسة أوجه :
أحدها : أنهم أهل الصغائر من هذه الأمة ، روى شهر بن حوشب أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : سابقنا سابق ، ومقتصدنا ناج ، وظالمنا مغفور له .
الثاني : أنهم أهل الكبائر وأصحاب المشأمة ، قاله السدي .
الثالث : أنهم المنافقون وهم مستثنون .
الرابع : أنهم أهل الكتاب ، قاله الحسن .
الخامس : أنه الجاحد ، قاله مجاهد .
وأما المقتصد ففيه أربعة أقاويل :
أحدها : أنه المتوسط في الطاعات وهذا معنى حديث أبي الدرداء ، روى ابراهيم عن أبي صالح عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ هذه الآية فقال : « أَمَّا السَّابِقُ فَيدْخُلُ الجَنَّةَ بِغَيرِ حِسَابٍ ، وَأَمَّا المُقْتَصِدُ فَيُحَاسَب حِسَاباً يَسِيراً ، وَأمَّا الظَّالِمُ لِنَفْسِهِ فِيُحْصَرُ فِي طُولِ الحِبْسِ ثُمَّ يَتَجَاوَزُ اللَّهُ عَنهُ
» الثاني : أنهم أصحاب اليمين ، قاله السدي
. الثالث : أنهم أصحاب الصغائر وهو قول متأخر .
الرابع : أنهم الذين اتبعوا سنن النبي صلى الله عليه وسلم من بعده ، قاله الحسن .
{ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ } فيه أربعة أقاويل
: أحدها : أنهم المقربون ، قاله مجاهد .
الثاني : أنهم المستكثرون من طاعة الله تعالى ، وهو مأثور .
الثالث : أنهم أهل المنزلة العليا في الطاعات ، قاله علي بن عيسى .
الرابع : أنه من مضى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فشهد له بالجنة .
روى عقبة بن صهبان قال : سألت عائشة رضي الله عنها عن هذه الآية فقالت : كلهم من أهل الجنة ، السابق من مضى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فشهد له بالحياة والرزق ، والمقتصد من اتبع أثره حتى لحق به ، والظالم لنفسه مثلي ومثلك ومن اتبعنا .
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35)

قوله عز وجل : { وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ } فيه تسعة تأويلات :
أحدها : أنه خوف النار ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنه حزن الموت ، قاله عطية .
الثالث : تعب الدنيا وهمومها ، قاله قتادة .
الرابع : حزن المنّة ، قاله سمُرة .
الخامس : حزن الظالم لما يشاهد من سوء حاله ، قاله ابن زيد .
السادس : الجوع حكاه النقاش .
السابع : خوف السلطان ، حكاه الكلبي .
الثامن : طلب المعاش ، حكاه الفراء .
التاسع : حزن الطعام ، وهو مأثور .
ويحتمل عاشراً : أنه حزن التباغض والتحاسد لأن أهل الجنة متواصلون لا يتباغضون ولا يتحاسدون .
وفي وقت قولهم لذلك قولان :
أحدهما : عند إعطاء كتبهم بأيمانهم لأنه أول بشارات السلامة ، فيقولون عندها : { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ } .
الثاني : بعد دخول الجنة ، قاله الكلبي ، وهو أشبه لاستقرار الجزاء والخلاص من أهوال القيامة فيقولون ذلك عند أمنهم شكراً .
قوله عز وجل : { الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمَقَامَةِ مِن فَضْلِهِ } أي دار الإقامة وهي الجنة .
وفي الفرق بين المقامة بالضم والفتح وجهان :
أحدهما : أنها بالضم دار الإقامة ، وبالفتح موضع الإقامة .
الثاني : أنها بالضم المجلس الذي يجتمع فيه للحديث .
{ لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ } فيه وجهان
: أحدهما : تعب ، قاله ابن عيسى .
الثاني : وجع ، قاله قتادة .
{ وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ } فيه وجهان
: أحدهما : أنه العناء ، قاله أبو جعفر الطبري .
الثاني : أنه الإعياء ، قاله قطرب وابن عيسى .
وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37)

قوله عز وجل : { وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا } قال ابن جريج : وهم يستغيثون فيها { َرَبَّنَآ أخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ } أي نؤمن بدل الكفر ونطيع بدل المعصية .
{ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ } فيه خمسة تأويلات
: أحدها : أنه البلوغ ، قاله الحسن لأنه أول زمان التذكر .
الثاني : ثماني عشرة سنة .
الثالث : أربعون سنة ، قاله ابن عباس ومسروق .
الرابع : ستون سنة ، قاله علي بن أبي طالب مرفوعاً .
الخامس : سبعون سنة لأنه آخر زمان التذكر ، وما بعده هرم . روى أبو هريرة .
قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لَقَدْ أَعْذَرَ اللَّهُ إلَى عَبدٍ أَخَّرَ أَجَلَهُ حَتّىَ بلَغَ سِتِيّنَ سَنَةً أَوْ سَبْعِينَ سَنَةً
» . قوله عز وجل : { وَجَآءَكُمُ النَّذِيرُ } فيه أربعة أقاويل
: أحدها : محمد صلى الله عليه وسلم ، قاله ابن زيد .
الثاني : الشيب ، حكاه الفراء والطبري .
الثالث : الحمى .
الرابع : موت الأهل والأقارب .
ويحتمل خامساً : أنه كمال العقل .
إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (38) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا (39)

{ فَذُوقُواْ } يحتمل وجهين
: أحدهما : حسرة الندم .
الثاني : عذاب جهنم .
قوله عز وجل : { هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْض } قال قتادة خلفاً بعد خلف قرناً بعد قرن ، والخلف هو الثاني للمتقدم ، ولذلك قيل لأبي بكر رضي الله عنه يا خليفة الله ، فقال لست بخليفة الله ولكني خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا راضٍ بذلك . وقال بعد السلف إنما يستخلف من يغيب أو يموت ، والله تعالى لا يغيب ولا يموت .
{ فَمَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ } أي فعليه عقاب كفره
. قوله عز وجل : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَآءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دَونِ اللَّهِ } فيه وجهان :
أحدهما : شركاءكم في الأموال التي جعلتم لهم قسطاً منها الأوثان .
الثاني : الذين أشركتموهم في العبادة .
قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا (40) إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41)

{ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأَرْضِ } قاله السدي يعني في الأرض
. { أَمْ لَهُمْ شرْكٌ فِي السَّموَاتِ } حتى صاروا شركاء في خلقها
. { أَمْ ءَآتَيْنَاهُمْ كِتَاباً فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنهُ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : أم أنزلنا عليهم كتاباً بأن لله تعالى شركاء من الملائكة والأصنام فيهم مستمسكون به ، وهذا قول ابن زياد .
الثاني : أم أنزلنا عليهم كتاباً بأن الله لا يعذبهم على كفرهم فهم واثقون به ، وهو معنى قول الكلبي .
{ بَلْ إن يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُم بَعْضاً إلاَّ غُرُوراً } فيه وجهان
: أحدهما : وعدوهم بأن الملائكة يشفعون .
الثاني : وعدوهم بأنهم ينصرون عليهم .
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42) اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43)

قوله عز وجل : { وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ } هم قريش أقسموا قبل أن يبعث الله تعلى رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم ، حين بلغهم أن أهل الكتاب كذبوا رسلهم ، فلعنوا من كذب نبيه منهم ، وحلفوا بالله جل اسمه يميناً .
{ لَئِن جَآءَهُم نَذِيرٌ } أي نبي
. { لَّيَكُوننَّ أَهْدَى مِنْ إحْدَى الأُمَمْ } يعني ممن كذب الرسل من أهل الكتاب
. { فَلَمَّا جَآءَهُمْ نَذِيرٌ } يعني محمداً صلى الله عليه وسلم
. { مَّا زَادَهُمْ إلاَّ نُفُوراً } فيه وجهان
: أحدهما : نفوراً عن الرسول .
الثاني : نفوراً عن الحق .
قوله عز وجل : { اسْتِكْبَاراً فِي الأَرْضِ } فيه وجهان :
أحدهما : استكباراً عن عبادة الله ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : استكباراً بمعاصي الله ، وهذا قول متأخر .
{ وَمَكْرَ السَّيِّىءِ } فيه وجهان
: أحدهما : الشرك بالله ، قاله يحيى .
الثاني : أنه المكر برسول الله صلى الله عليه وسلم ودينه كما قال تعالى : { وَإذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ } [ الأنفال : 30 ] الآية .
{ وَلاَ يَحِيقُ الْمُكْرُ السَّيِّىءُ إلاَّ بِأَهْلِهِ } فيه وجهان
: أحدهما : قاله الكلبي ، يحيق بمعنى يحيط .
الثاني : قاله قطرب ، يحيق بمعنى ينزل ، وأنشد قول الشاعر :
وقد دفعوا المنية فاستقلت ... ذراعاً بعدما كادت تحيقُ
قال فعاد ذلك عليهم بقتلهم يوم بدر
. { فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ الأَوَّلِينَ } يعني سنة الله في الأولين ، وفيها وجهان
: أحدهما : نزول العذاب بهم عند إصرارهم في التكذيب .
الثاني : لا تقبل منهم التوبة عند نزول العذاب .
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا (44) وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا (45)

قوله عز وجل : { وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُواْ } يعني من الذنوب
. { مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ } قال يحيى بن سلام بحبس المطر عنهم وفيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : يعني جميع الحيوان مما دب ودرج ، قاله ابن مسعود ، قال قتادة : وقد فعل ذلك زمان نوح عليه السلام .
الثاني : من الإنس والجن دون غيرهما لأنهما مكلفان بالعقل ، قاله الكلبي .
الثالث : من الناس وحدهم ، قاله ابن جريج .
{ وَلكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى } فيه قولان
: أحدهما : الأجل المسمى الذي وعدهم في اللوح المحفوظ ، قاله مقاتل .
الثاني : إلى يوم القيامة ، قاله يحيى .
{ فَإذَا جَآءَ أَجَلُهُم } فيه قولان
: أحدهما : نزول العذاب .
الثاني : البعث في القيامة .
{ فَإنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً } يحتمل وجهين
: أحدهما : بصيراً بأجلهم .
الثاني : بصيراً بأعمالهم ، والله أعلم .
يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7)

قوله عز وجل : { يس } فيه خمسة تأويلات :
أحدها : أنه اسم من أسماء القرآن ، قاله قتادة .
الثاني : أنه اسم من أسماء الله تعالى أقسم به ، قاله ابن عباس .
الثالث : أنه فواتح من كلام الله تعالى افتتح به كلامه ، قاله مجاهد .
الرابع : أنه : يا محمد ، قاله محمد بن الحنفية ، وروى علي رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « إنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّانِي في القُرآنِ بِسَبْعَةِ أَسْمَاءَ : مُحَمَّدٍ وَأَحْمَدَ وَطه وَيس وَالمُزَّمِّلِ وَالْمُدَّثِّرِ وَعَبدَ اللَّهِ
» . الخامس : أنه يا إنسان : قاله الحسن ، وعكرمة ، والضحاك ، وسعيد ابن جبير . ثم اختلفوا فيه فقال سعيد بن جبير وعكرمة هي بلغة الحبشة . وحكى الكلبي أنه بالسريانية وقال الشعبي : هو بلغة طيىء . وقال آخرون : هي بلغة كلب .
ويحتمل سادساً : يئس من كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون مؤمناً بالله ، نفياً للإيمان أن يكون إلا بالشهادتين ، واليأس أبلغ في النفي من جميع ألفاظه ، ثم أثبت رسالته بقسَمه فقال :
{ وَالْقُرْءَانِ الْحَكِيمِ . إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ . عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } يحتمل وجهين :
أحدهما : على شريعة واضحة .
الثاني : على حجة بينة .
قوله عز وجل : { لِّتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أُنذِرَ ءَابَآؤُهُمْ } فيه وجهان :
أحدهما : أنهم قريش أنذروا بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ولم ينذر آباؤهم من قبلهم ، قاله قتادة .
الثاني : أنه عام ومعناه لتنذر قوماً كما أنذر آباؤهم ، قاله السدي . { فَهُمْ غَافِلُونَ } يحتمل وجهين
: أحدهما : عن قبول الإِنذار . الثاني : عن استحقاق العذاب .
قوله عز وجل : { لَقَدْ حَقَّ الْقَولُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ } فيه وجهان :
أحدهما : معناه لقد وجب العذاب على أكثرهم ، قاله السدي .
الثاني : لقد سبق علم الله في أكثرهم ، قاله الضحاك .
وفي هذا القول الذي حق عليهم وجهان :
أحدهما : أنه الوعيد الذي أوجبه الله تعالى عليهم من العذاب .
الثاني : أنه الإِخبار عنهم بأنهم لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم .
{ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } يعني الأكثرية الذين حق القول عليهم ، وهم الذين عاندوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من كفار قريش ، وأكثرهم لم يؤمنوا فكان المخبر كالخبر .
إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9) وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12)

قوله عز وجل : { إنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِِهِمْ أَغْلاَلاً } فيها ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه مثل ضربه الله تعالى لهم في امتناعهم من الهدى كامتناع المغلول من التصرف ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : ما حكاه السدي أن ناساً من قريش ائتمروا بالنبي صلى الله عليه وسلم فجاءوا يريدون ذلك فجعلت أيديهم إلى أعناقهم فلم يستطيعوا أن يبسطوا إليه يداً .
الثالث : أن المراد به جعل الله سبحانه لهم في النار من الأغلال في أعناقهم ويكون الجعل ها هنا مأخوذاً من الجُعالة التي هي الأجرة كأن جعالتهم في النار الأغلال ، حكاه ابن بحر .
وفي قوله : { فِي أَعْنَاقِهِمْ } قولان :
أحدهما : في أيديهم ، فكنى بالأعناق عن الأيدي لأن الغُل يكون في الأيدي ، قاله الكلبي ، وحكى قطرب أنها في قراءة ابن عباس : { إنَّا جَعَلْنَا فِي أَيْمَانِهِم أَغْلاَلاً }
الثاني : أنها في الأعناق حقيقة ، لأن الأيدي تجمع في الغل إلى الأعناق ، قاله ابن عباس { فَهِيَ إلَى الأَذْقَانِ } فيه وجهان :
أحدهما : إلى الوجوه فكنى عنها بالأذقان لأنها منها ، قاله قتادة ، أي قد غلت يده عند وجهه .
الثاني : أنها الأذقان المنحدرة عن الشفة في أسفل الوجه لأن أيديهم تماسها إذا علت .
{ فَهُم مُّقْمَحُونَ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : رفع رؤوسهم ووضع أيديهم على أفواههم ، قاله مجاهد .
الثاني : هو الطامح ببصره إلى موطىء قدمه ، قاله الحسن . الثالث : هو غض الطرف ورفع الرأس مأخوذ من البعير المقمح وهو أن يرفع رأسه ويطبق أجفانه في الشتاء إذا ورد ماء كريهاً ، حكاه النقاش . وقال المبرد ، وأنشد قول الشاعر :
ونحن على جوانبها قعود ... نغض الطرف كالإبل القماح
الرابع : هو أن يجذب ذقنه إلى صدره ثم يرفعه مأخوذ من القمح وهو رفع الشيء إلى الفم ، حكاه عليّ بن عيسى وقاله أبو عبيدة .
قوله عز وجل : { وَجَعَلْنَا مِن بَينِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : يعني ضلالاً ، قاله قتادة .
الثاني : سداً عن الحق ، قاله مجاهد .
الثالث : ظلمة سدت قريشاً عن نبي الله صلى الله عليه وسلم حين ائتمروا لقتله قاله السدي . قال عكرمة : ما صنع الله تعالى فهو السُدُّ بالضم ، وما صنع الإنسان فهو السد بالفتح .
{ فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ } فيه وجهان :
أحدهما : فأغشيناهم بظلمة الكفر فهم لا يبصرون الهدى ، قاله يحيى بن سلام ، ومعنى قول مجاهد .
الثاني : فأغشيناهم بظلمة الليل فهم لا يبصرون محمداً صلى الله عليه وسلم حين ائتمروا على قتله ، قاله السدي ، ومحمد بن كعب .
قوله عز وجل : { إِنَّمَا تُنذِرُ مَن اتَّبَعَ الذِّكرَ } يعني القرآن . { وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ } فيه وجهان :
أحدهما : ما يغيب به عن الناس من شر عمله ، قاله السدي .
الثاني : ما غاب من عذاب الله وناره ، قاله قتادة .
{ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ } لذنبه .
{ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ } لطاعته ، وفيه وجهان :
أحدهما : أنه الكثير . الثاني : الذي تنال معه الكرامة .

قوله عز وجل : { إنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى } فيه وجهان :
أحدهما : نحييهم بالإيمان بعد الكفر ، قاله الضحاك .
الثاني : بالبعث للجزاء ، قاله يحيى بن سلام .
{ ونَكْتُبُ مَا قَدَّمُواْ وَءَاثَارَهُمْ } فيه تأويلان : أحدهما : ما قدموا هو ما عملوا من خير أو شر ، وآثارهم ما أثروا من سنة حسنة أو سيئة يعمل بها بعدهم ، قاله سعيد بن جبير .
الثاني : ما قدموا : أعمالهم ، وآثارهم : خطاهم إلى المساجد ، قاله مجاهد .
روى سفيان عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري قال : كانت بنو سلمة في ناحية من المدينة فأرادوا أن ينتقلوا إلى قريب من المسجد ، فنزلت : { إنَّا نَحْنُ نُحِيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُواْ وَءَاثَارَهُمْ } وقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : « إن آثَارَكُمْ تُكْتَبُ فَلَمْ يَنتَقِلُوا
» . ويحتمل إن لم يثبت نقل هذا السبب تأويلاً ثالثاً أن آثارهم هو أن يصلح من صاحبهم بصلاحهم ، أو يفسد بفسادهم .
{ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ } فيه وجهان :
أحدهما : علمناه .
الثاني : حفظناه .
{ في إمَامٍ مُّبِينٍ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدهما : اللوح المحفوظ ، قاله السدي . الثاني : أم الكتاب قاله مجاهد .
الثالث : معناه طريق مستقيم ، قاله الضحاك .
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (17)

قوله عز وجل : { وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إذْ جَآءَهَا الْمُرْسَلُونَ } هذه القرية هي أنطاكية من قول جميع المفسرين .
{ إذْ أَرْسَلْنَآ إِلَيهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا } اختلف في اسميهما على ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنهما شمعون ويوحنا ، قاله شعيب .
الثاني : صادق وصدوق ، قاله ابن عباس وكعب الأحبار ووهب بن منبه .
الثالث : سمعان ويحيى ، حكاه النقاش .
{ فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : فشددنا ، قاله مجاهد .
الثاني : فزدنا ، قاله ابن جريج .
الثالث : قوينا مأخوذ من العزة وهي القوة المنيعة ، ومنه قولهم : من عز وبز : واختلف في اسمه على قولين :
أحدهما : يونس قاله شعيب .
الثاني : شلوم ، قاله ابن عباس وكعب ووهب . وكان ملك أنطاكية أحد الفراعنة يعبد الأصنام مع أهلها ، وكانت لهم ثلاثة أصنام يعبدونها ، ذكر النقاش أن أسماءها رومس وقيل وارطميس .
واختلف في اسم الملك على قولين :
أحدهما : أن اسمه أنطيخس ، قاله ابن عباس وكعب ووهب .
الثاني : انطرا ، قاله شعيب .
قوله عز وجل : { مَآ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا } وهذا القول منهم إنكار لرسالته ، ويحتمل وجهين :
أحدهما : أنكم مثلنا غير رسل وإن جاز أن يكون البشر رسلاً .
الثاني : إن مثلكم من البشر لا يجوز أن يكونوا رسلاً .
{ وَمَآ أَنزَلَ الرَّحْمنُ مِن شَيْءٍ } يحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون ذلك منهم إنكاراً للرحمن أن يكون إلهاً مرسلاً .
الثاني : أن يكون ذلك إنكاراً أن يكونوا للرحمن رسلاً .
{ إنْ أَنتُمْ إِلاَّ تُكْذِبُونَ } يحتمل وجهين :
أحدهما : تكذبون في أن لنا إلهاً .
الثاني : تكذبون في أن تكونوا رسلاً .
قوله عز وجل : { قَالُواْ رَبُّنَا يَعْلَمُ إنَّا إلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ } فإن قيل يعلم الله تعالى أنهم لا تكون حجة عند الكفار لهم .
قيل يحتمل قولهم ذلك وجهين :
أحدهما : معناه ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون بما يظهره لنا من المعجزات ، وقد قيل إنهم أحيوا ميتاً وأبرؤوا زمِناً .
الثاني : أن تمكين ربنا لنا إنما هو لعلمه بصدقنا .
واختلف أهل العلم فيهم على قولين :
أحدهما : أنهم كانوا رسلاً من الله تعالى إليهم .
الثاني : أنهم كانوا رسل عيسى عليه السلام من جملة الحواريين أرسلهم إليهم فجاز ، لأنهم رسل رسول الله ، أن يكونوا رسلاً لله ، قاله ابن جريج .
{ وَمَا عَلَيْنَآ إلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ } يعني بالإعجاز الدال على صحة الرسالة أن الذي على الرسل إبلاغ الرسالة وليس عليهم الإجابة ، وإنما الإجابة على المدعوين دون الداعين .
قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18) قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19)

قوله عز وجل : { قَالُواْ إنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : تشاءَمنا بكم ، وعساهم قالوا ذلك لسوء أصابهم ، قاله يحيى بن سلام . قيل إنه حبس المطر عن أنطاكية في أيامهم .
الثاني : معناه إن أصابنا شر فإنما هو من أجلكم ، قاله قتادة : تحذيراً من الرجوع عن دينهم .
الثالث : استوحشنا منكم فيما دعوتمونا إليه من دينكم .
{ لَئِن لَّمْ تَنتَهُواْ لَنَرْجُمَنَّكُمْ } فيه ثلاثة أوجه : أحدها : لنرجمنكم بالحجارة ، قاله قتادة .
الثاني : لنقتلنكم ، قاله السدي .
الثالث : لنشتمنكم ونؤذيكم ، قاله النقاش .
{ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ } فيه وجهان :
أحدهما : أنه القتل .
الثاني : التعذيب المؤلم قبل القتل .
قوله عز وجل : { قَالُواْ طَآئِرَكُم مَّعَكُمْ أَئِن ذُكِّرْتُمْ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : أن أعمالكم معكم أئن ذكرناكم بالله تطيرتم بنا ، قاله قتادة .
الثاني : أن الشؤم معكم إن أقمتم على الكفر إذا ذكرتم ، قاله ابن عيسى .
الثالث : معناه أن كل من ذكركم بالله تطيرتم به ، حكاه بعض المتأخرين .
الرابع : أن عملكم ورزقكم معكم ، حكاه ابن حسام المالكي .
{ بَل أَنتُمْ قومٌ مُّسْرفُونَ } فيه وجهان :
أحدهما : في تطيركم ، قاله قتادة .
الثاني : مسرفون في كفركم ، قاله يحيى بن سلام . وقال ابن بحر : السرف ها هنا الفساد ومعناه بل أنتم قوم مفسدون ، ومنه قول الشاعر :
إن امرأ سرف الفؤاد يرى ... عسلاً بماءِ غمامة شتمي
وقيل : إن شمعون من بينهم أحيا بنت ملك أنطاكية من قبرها ، فلم يؤمن أحد منهم غير حبيب النجار فإنه ترك تجارته حين سمع بهم وجاءهم مسرعاً فآمن ، وقتلوا جميعاً وحبيب معهم ، وألقوا في بئر . قال مقاتل : هم أصحاب الرس : ولما عرج بروح حبيب إلى الجنة تمنى فقال { يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بَمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ }
وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25)

قوله عز وجل : { وَجَآءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى } اختلف فيه على ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه كان إسكافاً ، قاله عمربن عبد الحكيم .
الثاني : أنه كان قصاراً ، قاله السدي .
الثالث : أنه كان حبيب النجار ، قاله ابن عباس ، وعكرمة ، ومجاهد .
{ قَالَ يَا قَومِ اتَّبِعُواْ الْمُرْسَلِينَ } وفي علمه بنبوتهم وتصديقه لهم قولان :
أحدهما : لأنه كان ذا زمانة أو جذام فأبرؤوه ، قاله ابن عباس .
الثاني : لأنهم لما دعوه قال أتأخذون على ذلك أجراً؟ قالوا لا ، فاعتقد صدقهم وآمن بهم ، قاله أبو العالية .
قوله عز وجل : { اتَّبِعُواْ مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً } يحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون قال ذلك تنبيهاً على صدقهم .
الثاني : أن يكون قال ذلك ترغيباً في أجابتهم .
{ وُهُم مُّهْتَدُونَ } يحتمل وجهين :
أحدهما : مهتدون لهدايتكم .
الثاني : مهتدون فاهتدوا بهم .
قوله عز وجل : { وَمَا لِي لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي } أي خلقني { وَإِلَيهِ تُرْجَعُونَ } أي تبعثون . فإن قيل : فلم أضاف الفطرة إلى نفسه والبعث إليهم وهو معترف أن الله فطرهم جميعاً ويبعثهم إليه جميعاً؟
قيل : لأنه خلق الله تعالى له نعمة عليه توجب الشكر ، والبعث في القيامة وعيد يقتضي الزجر ، فكان إضافة النعمة ، إلى نفسه إضافة شكر ، وإضافة الزجر إلى الكافر أبلغ أثراً .
قال قتادة : بلغني أنهم لما قال لهم : وما لي لا أعبد الذي فطرني وثبوا عليه وثبة رجل واحد فقتلوه وهو يقول : يا رب اهدِ قومي ، أحسبه قال : فإنهم لا يعلمون .
قوله عز وجل : { إِنِّي ءَامَنتُ بِرَبِّكُم فَاسْمَعُونِ } فيه قولان :
أحدهما : أنه خاطب الرسل بذلك أنه يؤمن بالله ربهم { فَاسْمَعُونِ } أي فاشهدوا لي ، قاله ابن مسعود .
الثاني : أنه خاطب قومه بذلك ، ومعناه إني آمنت بربكم الذي كفرتم به فاسمعوا قولي ، قاله وهب بن منبه .
قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27)

قوله عز وجل : { قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ } فيه قولان :
أحدهما : أنه أمر بدخول الجنة .
الثاني : أنه أخبر بأنه قد استحق دخول الجنة لأن دخولها يستحق بعد البعث .
{ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ } في هذا التمني منه قولان :
أحدهما : أنه تمنى أن يعلموا حاله ليعلموا حسن مآله وحميد عاقبته .
الثاني : أنه تمنى ذلك ليؤمنوا مثل إيمانه فيصيروا إلى مثل حاله . قال ابن عباس : نصح قومه حياً وميتاً .
ويحتمل قوله : { وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكرَمِينَ } وجهين :
أحدهما : ممن أكرمه بقبول عمله . الثاني : ممن أحله دار كرامته .
وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29) يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (32)

قوله عز وجل { وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء } فيه قولان : أحدهما : معنى جند من السماء أي رسالة ، قاله مجاهد ، لأن الله تعالى قطع عنهم الرسل حين قتلوا رسله .
الثاني : أن الجند الملائكة الذين ينزلون الوحي على الأنبياء ، قاله الحسن .
{ وما كنا منزلين } أي فاعلين .
{ إن كانت إلا صيحة واحدةً } فيها قولان :
أحدهما : أنَّ الصيحة هي العذاب .
الثاني : أنها صيحة من جبريل عليه السلام ليس لها مثنوية ، قاله السدي .
{ فإذا هم خامدون } أي ميتون تشبيهاً بالرماد الخامد .
قوله عز وجل : { يا حسرةً على العباد ما يأتيهم } فيه ثلاثة أوجه : أحدها : يا حسرة العباد على أنفسها ، قال قتادة ، وحكاه عبد الرحمن بن أبي حاتم في بعض القراءات متلوٍّا .
الثاني : أنها حسرتهم على الرسل الثلاثة ، قاله أبو العالية .
الثالث : أنها حسرة الملائكة على العباد في تكذيبهم الرسل ، قاله الضحاك .
وفيه وجه رابع : عن ابن عباس أنهم حلوا محل من يتحسر عليهم .
{ ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزءُون } الاستهزاء منهم قبل العذاب .
وفي الحسرة منهم قولان :
أحدهما : بعد معاينة العذاب .
الثاني : في القيامة ، قاله ابن عباس .
قوله عز وجل : { وإن كلُّ لما جميعٌ } يعني الماضين والباقين .
{ لدينا محضرون } فيه وجهان :
أحدهما : معذبون ، قاله السدي .
الثاني : مبعثون ، قاله يحيى بن سلام .
وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36)

قوله عز وجل : { وفجرنا فيها مِن العيون ليأكلوا من ثمَرِه وما عَمِلتْهُ أيديهم } فيه وجهان :
أحدهما : أنها إثبات وتقديره : ومما عملته أيديهم ، قاله الكلبي والفراء وابن قتيبة .
والوجه الثاني : أنها جحد وفيها على هذا القول وجهان :
أحدهما : وما لم تعمله أيديهم من الأنهار التي أجراها الله سبحانه لهم . قال الضحاك يعني الفرات ودجلة ونهر بلخ ونيل مصر .
الثاني : وما لم تعمله أيديهم من الزرع الذي أنبته الله تعالى لهم .
قوله عز وجل : { سبحان الذي خَلَق الأزواج كلها } فيه وجهان :
أحدهما : يعني الأصناف كلها ، قاله السدي .
الثاني : يعني من النخل والشجر والزرع كل صنف منه زوج .
{ ومن أنفسهم } وفي ذلك دليل على مشاكلة الحيوان لهم في أنها زوج ذكر وأنثى .
{ ومما لا يَعْلمون } فيه وجهان :
أحدهما : يعني الروح التي يعلمها الله ولا يعلمها غيره .
الثاني : ما يرى نادراً من حيوان ونبات .
ويحتمل ثالثاً : مما لا تعلمون من تقلب الولد في بطن أمه .
وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)

قوله عز وجل : { وآيةٌ لهم الليل نسلخ منه النهار } أي نخرج منه النهار يعني ضوءه ، مأخوذ من سلخ الشاة إذا خرجت من جلدها .
{ فإذا هم مظلمون } أي في ظلمة لأن ضوء النهار يتداخل في الهواء فيضىء ، فإذا خرج منه أظلم .
{ والشمس تجري لمستقر لها } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : يعني لانتهاء أمرها عند انقضاء الدنيا ، حكاه ابن عيسى .
الثاني : لوقت واحد لا تعدوه ، قاله قتادة .
الثالث : أي أبعد منازلها في الغروب ، ثم ترجع إلى أدنى منازلها ، قاله الكلبي . وروى عكرمة عن ابن عباس أنه كان يقرأها : والشمس تجري لا مستقر لها . وتأويل هذه القراءة أنها تجري في الليل والنهار ولا وقوف لها ولا قرار .
وقوله عز وجل : { والقمر قدرناه منازل } فيه وجهان :
أحدهما : جعله في كل ليلة على مقر له ، يزيد في كل ليلة من أول الشهر حتى يستكمل ثم ينقص بعد استكماله حتى يعود كما بدأ ، وهو محتمل .
الثاني : أنه يطلع كل ليلة في منزل حتى يستكمل جميع المنازل في كل شهر ، ولذلك جعل بعض الحساب السنة الشمسية ثلاثة عشر شهراً قمرياً .
{ حتى عَادَ كالعرجون القديم } فيه قولان :
أحدهما : أنه العذق اليابس إذا استقوس ، وهو معنى قول ابن عباس ، ومنه قول أعشى قيس :
شرق المسك والعبير بها ... فهي صفراء كعرجون القمر
الثاني : أنه النخل إذا انحنى مائلاً ، قاله الحسن .
{ لا الشمس ينبغي لها أن تُدْرِك القَمر } فيه خمسة تأويلات :
أحدها : أي لا يشبه ضوء أحدهما ضوء الآخر ، قاله مجاهد .
الثاني : لا يجتمع ضوء أحدهما مع ضوء الآخر ، لأن ضوء القمر ليلاً وضوء الشمس نهاراً ، فإذا جاء سلطان أحدهما ذهب سلطان الآخر ، قاله قتادة .
الثالث : معناه أنهما إذا اجتمعا في السماء كان أحدهما بين يدي الآخر في منازل لا يشتركان فيها ، قاله ابن عباس .
الرابع : أنهما لا يجتمعان في السماء ليلة الهلال خاصة ، قاله الحسن .
الخامس : أنه لا تدرك الشمس القمر ليلة البدر خاصة لأنه يبادر بالمغيب قبل طلوعها ، حكاه يحيى بن سلام .
{ ولا الليلُ سابق النهار } فيه وجهان :
أحدهما : يعني أنه لا يتقدم الليل قبل استكمال النهار وهو معنى قول يحيى بن سلام .
الثاني : أنه لا يأتي ليل بعد ليل متصل حتى يكون بينهما نهار منفصل ، وهو معنى قول عكرمة .
ومن الناس من يجعل هذا دليلاً على أن أول الشهر النهار دون الليل ، لأنه إذا لم يسبق الليل النهار واستحال اجتماعهما وجب أن يكون النهار سابقاً . وهذا قول يدفعه الشرع ويمنع منه الإجماع .
{ وكلٌّ في فلك يسْبَحون } قال الحسن : الشمس والقمر والنجوم في فلك بين السماء والأرض غير ملتصقة بالسماء ، ولو كانت ملتصقة ما جرت .
وفي قوله تعالى : { يسبحون } ثلاثة أقاويل :
أحدها : يجرون ، قاله ابن عباس .
الثاني : يدورون كما يدور المغزل في الفلكة ، قاله عكرمة ومجاهد .
الثالث : يعملون ، قاله الضحاك .
وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (44)

قوله عز وجل : { وآية لهم } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : عبرة لهم لأن في الآيات اعتباراً .
الثاني : نعمة عليهم لأن في الآيات إنعاماً .
الثالث : إنذار لهم لأن في الآيات إنذاراً .
{ أنَّا حَملْنا ذُرّيتَهم في الفلك المشحون } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن الذرية الآباء حملهم الله تعالى في سفينة نوح عليه السلام ، قاله أبان بن عثمان ، وسمى الآباء ذرية لأن منهم ذرء الأبناء .
الثاني : أن الذرية الأبناء والنساء لأنهم ذرء الآباء حملوا في السفن ، والفلك هي السفن الكبار ، قاله السدي .
الثالث : أن الذرية النطف حملها الله تعالى في بطون النساء تشبيهاً بالفلك المشحون ، قاله عليّ رضي الله عنه .
وفي { المشحون } قولان :
أحدهما : الموقر ، قاله ابن عباس .
الثاني : المملوء ، حكاه ابن عباس أيضاً .
{ وخلقنا لهم من مثله ما يركبون } فيه أربعة تأويلات : أحدها : أنه خلق مثل سفينة نوح مما يركبونها من السفن ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنها السفن الصغار خلقها لهم مثل السفن الكبار ، قاله أبو مالك .
الثالث : أنها سفن الأنهار خلقها لهم مثل سفن البحار ، قاله السدي .
الرابع : أنها الإبل خلقها لهم للركوب في البر مثل السفن المركوبة في البحر ، قاله الحسن وعبد الله بن شداد . والعرب تشبه الإبل بالسفن ، قال طرفة :
كأنَّ حدوج المالكية غدوةً ... خلايا سَفينٍ بالنواصِف من رَدِ
ويجيء على مقتضى تأويل عليّ رضي الله عنه في أن الذرية في الفلك المشحون هي النطف في بطون النساء . قولٌ خامس في قوله : { وخلقنا لهم من مثله ما يركبون } :
أن يكون تأويله النساء خلقن لركوب الأزواج ، لكن لم أره محكياً .
قوله عز وجل : { وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم } فيه وجهان :
أحدهما : فلا مغيث لهم ، رواه سعيد عن قتادة .
الثاني : فلا منعة لهم ، رواه شيبان عن قتادة .
{ ولا هم ينقذون } فيه وجهان :
أحدهما : من الغرق .
الثاني : من العذاب .
{ إلا رحمة منا } فيه وجهان :
أحدهما : إلا رحمتنا ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : إلا نعمة منا ، قاله مقاتل .
{ ومتاعاً إلى حين } فيه وجهان :
أحدهما : إلى الموت ، قاله قتادة .
الثاني : إلى القيامة ، قاله يحيى .
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (46) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (47)

قوله عز وجل : { وإذا قيل لهم اتَّقوا ما بين أيديكم وما خلْفكم } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : ما بين أيديكم ما مضى من الذنوب ، وما خلفكم ما يأتي من الذنوب ، قاله مجاهد .
الثاني : ما بين أيديكم من الدنيا ، وما خلفكم من عذاب الآخرة ، قاله سفيان .
الثالث : ما بين أيديكم عذاب الله لمن تقدم من عاد وثمود ، وما خلفكم من أمر الساعة ، قاله قتادة .
ويحتمل تأويلاً رابعاً : ما بين أيديكم ما ظهر لكم ، وما خلفكم ما خفي عنكم .
{ لعلكم ترحمون } معناه لكي ترحموا فلا تعذبوا . ولهذا الكلام جواب محذوف تقديره : إذا قيل لهم هذا أعرضوا عنه .
قوله عز وجل : { وما تأتيهم مِن آيةٍ مِنْ آيات ربِّهم } فيها ثلاثة تأويلات :
أحدها : من آية من كتاب الله ، قاله قتادة .
الثاني : من رسول ، قاله الحسن .
الثالث : من معجز ، قاله النقاش .
ويحتمل رابعاً : ما أنذروا به من زواجر الآيات والعبر في الأمم السالفة .
قوله عز وجل : { وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم اللهُ قال الذين كفروا } الآية . فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنهم اليهود أمروا بإطعام الفقراء فقالوا { أنطعم من لو يشاء الله أطعمه } قال الحسن .
الثاني : أنهم الزنادقة أمروا فقالوا ذلك ، قاله قتادة .
الثالث : أنهم مشركو قريش جعلوا لأصنامهم في أموالهم سهماً فلما سألهم الفقراء أجابوهم بذلك ، قاله النقاش .
ويحتمل هذا القول منهم وجهين :
أحدهما : إنكارهم وجوب الصدقات في الأموال .
الثاني : إنكارهم على إغناء من أفقره الله تعالى ومعونة من لم يعنه الله تعالى .
{ إن أنتم إلا في ضلال مبين } فيه قولان :
أحدهما : أنه من قول الكفار لمن أمرهم بالإطعام ، قاله قتادة .
الثاني : أنه من قول الله تعالى لهم حين ردوا بهذا الجواب ، حكاه ابن عيسى .
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50)

قوله عز وجل : { ويقولون متى هذا الوعدُ إن كنتم صادقين } فيه وجهان :
أحدهما : ما وعدوا به من العذاب ، قاله يحيى بن سلام . الثاني : ما وعدوا به من الظفر بهم ، قاله قتادة .
قوله عز وجل : { ما ينظرون إلا صيحةً واحدة تأخذهم } قال السدي : هي النفخة الأولى من إسرافيل ينتظرها آخر هذه الأمة من المشركين ، وروى نعيم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « تقوم الساعة والرجلان قد نشرا ثوبهما يتبايعانه فما يطويانه حتى تقوم ، والرجل يخفض ميزانه فما يرفعه حتى تقوم ، والرجل يليط حوضه ليسقي ماشيته فما يسقيها حتى تقوم ، والرجل يرفع أكلته إلى فيه فما تصل إلى فيه حتى تقوم
» . { وهم يخصمون } فيه وجهان :
أحدهما : يتكلمون في معايشهم ومتاجرهم ، قاله السدي .
الثاني : يخصمون في دفع النشأة الثانية ، حكاه ابن عيسى .
{ فلا يستطيعون توصية } أي يستطيع بعضهم أن يوصي إلى بعض بما في يديه من حق .
ويحتمل وجهاً ثانياً : أنه لا يستطيع أن يوصي بعضهم بعضاً بالتوبة والإقلاع .
{ ولا إلى إهلهم يرجعون } أي إلى منازلهم ، قال قتادة لأنهم أعجلوا عن ذلك .
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54)

قوله عز وجل : { ونفخ في الصور } وهذه هي النفخة الثانية للنشأة وقيل إن بينهما أربعين سنة . روى المبارك بن فضالة عن الحسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « بين النفختين أربعون : الأولى يميت الله سبحانه بها كل حي ، والآخرة يحيي الله بها كل ميت »
والنفخة الثانية من الآخرة . وفي الأولى قولان : أحدهما : أنها من الدنيا ، قاله عكرمة .
الثاني : أنها من الآخرة ، قاله الحسن .
{ فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون } والأجداث القبور ، وأحدها جدث . وفي قوله تعالى { ينسلون } ثلاثة تأويلات :
أحدها : يخرجون ، قاله ابن عباس وقتادة ، قال الشاعر :
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... فسلي ثيابي من ثيابك تنسلي
الثاني : يسرعون ، كقول الشاعر :
عسلان الذئب أمسى قاربا ... بَرَدَ الليلُ عليه فنسل
الثالث : يتخلصون من السلو ، قاله ابن بحر .
قوله عز وجل : { قالوا يا ويلنا من بعثنا مِن مَرقدنا } قال قتادة : هي النومة بين النفختين لا يفتر عنهم عذاب القبر إلا فيها . وفي تأويل هذا القول قولان :
أحدهما : أنه قول المؤمنين ثم يجيبون أنفسهم فيقولون : { هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون } حكاه ابن عيسى .
الثاني : أنه قول الكفار لإنكارهم البعث فيقال لهم : { هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون } .
وفي قائل ذلك لهم قولان :
أحدهما : أنه قول المؤمنين لهم عند قيامهم من الأجداث معهم ، قاله قتادة .
الثاني : أنه قول الملائكة لهم ، قاله الحسن .
وفي { هذا } وجهان :
أحدهما : أنه إشارة إلى المرقد تماماً لقوله تعالى { من بعثنا من مرقدنا هذا } وعليه يجب أن يكون الوقف .
الثاني : أنه ابتداء { هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون } فيكون إشارة إلى الوعد ويكون الوقف قبله والابتداء منه .
إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ (56) لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57) سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58)

قوله عز وجل : { إن أصحاب الجنة اليوم في شُغُل فاكهون } فيه أربعة أقاويل :
أحدها : في افتضاض الأبكار ، قاله الحسن وسعيد بن جبير وابن مسعود وقتادة .
الثاني : في ضرب الأوتار ، قاله ابن عباس ومسافع بن أبي شريح .
الثالث : في نعمة ، قاله مجاهد .
الرابع : في شغل مما يَلقى أهل النار ، قاله إسماعيل بن أبي خالد وأبان بن تغلب . وروي بضم الغين وقرىء بتسكينها وفيها وجهان :
أحدهما : أن الشغل بالضم المحبوب .
الثاني : الشغل بالإسكان يعني المروة ، فعلى هذا لا يجوز أن يقرأ بالإسكان في أهل الجنة ولا يقرأ بالضم في أهل النار .
{ فاكهون } ويقرأ : فكهون ، بغير ألف . وفي اختلاف القراءتين وجهان :
أحدهما : أنها سواء ومعناهما واحد يقال فاكه وفكه كا يقال حاذر وحذر قاله الفراء .
الثاني : أن معناهما في اللغة مختلف فالفكه الذي يتفكه بأعراض الناس . والفاكه ذو الفاكهة ، قاله أبو عبيد وأنشد :
فكه إلى جنب الخوان إذا عدت ... نكْباء تقلع ثابت الأطنابِ
وفيه ها هنا أربعة تأويلات :
أحدها : فرحون ، قاله ابن عباس .
الثاني : ناعمون ، قاله قتادة .
الثالث : معجبون ، قاله مجاهد .
الرابع : ذو فاكهة كما يقال شاحم لاحم أي ذو شحم ولحم ، وكما قال الشاعر :
وغررتني وزعمت أنَّك لابنٌ بالصيف تامر ... أي ذو لبن وتمر .
قوله عز وجل : { هم وأزواجُهم في ظلال } فيه وجهان :
أحدهما : وأزواجهم في الدنيا من وافقهم على إيمانهم .
الثاني : أزواجهم اللاتي زوّجهم الله تعالى بهن في الجنة من الحور العين .
{ في ظِلال } يحتمل وجهين :
أحدهما : في ظلال النعيم .
الثاني : في ظلال تسترهم من نظر العيون إليهم .
قوله عز وجل : { لهم فيها فاكهةٌ ولهُم ما يَدَّعون } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : ما يشتهون ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : ما يسألون ، قاله ابن زياد . الثالث : ما يتمنون ، قاله أبو عبيدة .
الرابع : ما يدعونه فيأتيهم ، قاله الكلبي قال الزجاج : وهو مأخوذ من الدعاء .
ويحتمل خامساً : ما يدّعون أنه لهم فهو لهم لا يدفعون عنه ، وهم مصروفون عن دعوى ما لا يستحقون .
قوله عز وجل : { سلامٌ قولاً مِن رَبِّ رحيم } فيه وجهان :
أحدهما : أنه سلام الله تعالى عليهم إكراماً لهم ، قاله محمد بن كعب .
الثاني : أنه تبشير الله تعالى لهم بسلامتهم .
وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62)

قوله عز وجل : { وامتازوا اليوم أيُّها المجرمون } فيه وجهان :
أحدهما : قاله الكلبي ، لأن المؤمنين والكفار يحشرون مع رسلهم فلذلك يؤمرون بالامتياز .
الثاني : يمتاز المجرمون بعضهم من بعض ، فيمتاز اليهود فرقة ، والنصارى فرقة ، والمجوس فرقة ، والصابئون فرقة ، وعبدة الأوثان فرقة ، قاله الضحاك .
فيحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون الامتياز عند الوقوف .
الثاني : عند الانكفاء إلى النار .
قال دواد بن الجراح : فيمتاز المسلمون من المجرمين إلا صاحب الهوى فيكون مع المجرمين .
قوله عز وجل : { ولقد أَضَلَّ منكم جبلاً كثيراً } فيه ثلاثة أوجه : أحدها : جموعاً كثيرة ، قاله قتادة .
الثاني : أمماً كثيرة ، قاله الكلبي .
الثالث : خلقاً كثيراً ، قاله مجاهد ومطرف . وحكى الضحاك أن الجِبِلّ الواحد عشرة آلاف ، والكثير ما لا يحصيه إلاّ الله تعالى .
هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65) وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ (67)

قوله عز وجل : { اليوم نختم على أفواههم } فيه وجهان :
أحدهما : أن يكون منعها من الكلام هو الختم عليها .
الثاني : أن يكون ختماً يوضع عليها فيرى ويمنع من الكلام .
وفي سبب الختم أربعة أوجه :
أحدها : لأنهم قالوا { والله ربنا ما كنا مشركين } فختم الله تعالىعلى أفواههم حتى نطقت جوارحهم ، قاله أبو موسى الأشعري .
الثاني : لِيَعرفهم أهل الموقف فيتميزون منهم ، قاله ابن زياد .
الثالث : لأن إقرار غير الناطق أبلغ في الإلزام من إقرار الناطق لخروجه مخرج الإعجاز وإن كان يوماً لا يحتاج فيه إلى الإعجاز .
الرابع : ليعلم أن أعضاءه التي كانت لهم أعواناً في حق نفسه صارت عليه شهوداً في حق ربه .
{ وتُكلِّمنا أيديهم وتشهدُ أرجلهم بما كانوا يكسبون } وفي كلامها ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه يظهر منها سِمة تقوم [ مقام ] كلامها كما قال الشاعر :
وقد قالت العينان سمعاً وطاعة ... وحَدَّرنا كالدر لما يثَقّبِ
الثاني : أن الموكلين بها يشهدون عليها .
الثالث : أن الله تعالى يخلق فيها ما يتهيأ معه الكلام منها . روى الشعبي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « يقال لأركانه انطقي فتنطق بعمله ثم يخلى بينه وبين الكلام فيقول : بُعداً لكنَّ وسحقاً فعنكن كنت أناضل » . فإن قيل فلم قال { وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم } فجعل ما كان من اليد . كلاماً ، وما كان من الرجل شهادة؟
قيل لأن اليد مباشرة لعمله والرجل حاضرة ، وقول الحاضر على غيره شهادة ، وقول الفاعل على نفسه إقرار ، فلذلك عبّر عما صدر من الأيدي بالقول ، وعما صدر من الأرجل بالشهادة . وقد روى شريح بن عبيد عن عقبة بن عامر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « أول عظم من الإنسان يتكلم يوم يختم على الأفواه فخذه من الرجل اليسرى
» . فاحتمل أن يكون تقدم الفخذ بالكلام على سائر الأعضاء لأن لذة معاصيه يدركها بحواسه التي في الشطر الأعلى من جسده ، وأقرب أعضاء الشطر الأسفل منها الفخذ ، فجاز لقربه منها أن يتقدم في الشهادة عليها ، وتقدمت اليسرى لأن الشهوة في ميامن الأعضاء أقوى منها في مياسرها ، فلذلك تقدمت اليسرى على اليمنى لقلة شهوتها .
قوله عز وجل : { ولو نشاءُ لطمسنا على أعينهم فاستبقوا الصِّراطَ } فيه وجهان :
أحدهما : لأعمينا أبصار المشركين في الدنيا فضلوا عن الطريق فلا يبصرون عقوبة لهم ، قاله قتادة .
الثاني : لأعمينا قلوبهم فضلوا عن الحق فلم يهتدوا إليه ، قاله ابن عباس .
قال الأخفش وابن قتيبة : المطموس هو الذي لا يكون بين جفنيه شق مأخوذ من طمس الريح الأثر .
{ ولو نشاء لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ } فيه ثلاث تأويلات :
أحدها : لأقعدناهم على أرجلهم ، قاله الحسن وقتادة .
الثاني : لأهلكناهم في مساكنهم ، قاله ابن عباس .
الثالث : لغيّرنا خلْقهم فلا ينقلبون ، قاله السدي .
{ فما استطاعوا مُضِيّاً ولا يرجعون } فيه وجهان :
أحدهما : فما استطاعوا لو فعلنا ذلك بهم أن يتقدموا ولا يتأخروا ، قاله قتادة .
الثاني : فما استطاعوا مُضِيّاً في الدنيا ، ولا رجوعاً فيها ، قاله أبو صالح .
وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ (68) وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70)

قوله عز وجل : { ومَن نعمِّره ننكِّسهُ في الخَلْق } في قوله { نعمره } قولان :
أحدهما : بلوغ ثمانين سنة ، قاله سفيان .
الثاني : هو الهرم ، قاله قتادة . وفي قوله تعالى { ننكِّسْه } تأويلان :
أحدهما : نردُّه في الضعف إلى حال الضعف فلا يعلم شيئاً ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : نغير سمعه وبصره وقوته ، قاله قتادة .
و { في الخلق } وجهان :
أحدهما : جميع الخلق ويكون معناه : ومن عمرناه من الخلق نكسناه في الخلق .
والوجه الثاني : أنه عنى خلقه ، ويكون معنى الكلام : من أطلنا عمره نكسنا خلقه ، فصار مكان القوة الضعف ، ومكان الشباب الهرم ، ومكان الزيادة النقصان .
{ أفلا تعقلون } أن من فعل هذا بكم قادر على بعثكم .
قوله عز وجل : { وما علّمْناه الشِّعر وما ينبغي له } يحتمل وجهين :
أحدهما : أي ليس الذي علمناه من القرآن شعراً .
الثاني : أي لم نعلم رسولنا أن يقول الشعر .
{ وما ينبغي له } يحتمل وجهين :
أحدهما : وما ينبغي له أن يقول شعراً .
الثاني : وما ينبغي لنا أن نعلمه شعراً .
{ إنْ هو لا ذكر وقرآن مُبين } يحتمل وجهين :
أحدهما : إنْ علّمناه إلا ذكراً وقرآناً مبيناً .
الثاني : إنْ هذا الذي يتلوه عليكم إلا ذكر وقرآن مبين .
قوله عز وجل : { لينذر من كان حَيّاً } فيه قولان :
أحدهما : لتنذر يا محمد من كان حياً ، وهذا تأويل من قرأ بالتاء .
الثاني : لينذر القرآن من كان حياً ، وهو تأويل من قرأ بالياء .
وفي { مَن كان حَيّاً } ها هنا أربعة تأويلات :
أحدها : من كان غافلاً ، قاله الضحاك .
الثاني : من كان حي القلب حي البصر ، قاله قتادة .
الثالث : من كان مؤمناً ، قاله يحيى بن سلام .
الرابع : من كان مهتدياً ، قاله السدي .
{ ويحِقَّ القَوْل على الكافرين } معناه : ويجب العذاب على الكافرين .
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (73)

قوله عز جل : { أو لم يروا أَنا خلقنا لهم مما عَمِلتْ أيدينا أنعاماً } فيه وجهان :
أحدهما يعني بقوتنا : قاله الحسن كقوله تعالى { والسماء بنيناها بأيد } [ الذاريات : 47 ] أي بقوة .
الثاني : يعني من فعلنا وعملنا من غير أن نكله إلى غيرنا ، قاله السدي . والأنعام : الإبل والبقر والغنم .
{ فهم لها مالكون } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : ضابطون ، قاله قتادة ، ومنه قول الشاعر :
أصبحت لا أحمل السِّلاح ولا ... أملِك رأس البعير إن نَفَرا
الثاني : مطبقون رواه معمر .
الثالث : مقتنون وهو معنى قول ابن عيسى .
قوله عز وجل : { وذللناها لهم } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : وطيبناها لهم؛ قاله ابن عيسى .
الثاني : سخرناها لهم ، قاله ابن زيد .
الثالث : ملكناها لهم .
{ فمنها ركوبُهم } والركوب بالضم مصدر ركب يركب ركوباً ، والركوب بالفتح الدابة التي تصلح أن تركب .
{ ومنها يأكلون } يعني لحوم المأكول منها .
{ ولهم فيها منافع } قال قتادة : هي لبس أصوافها .
{ ومشارب } يعني شرب ألبانها { أفلا يشكرون } يعني رب هذه النعمة بتوحيده وطاعته .
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75) فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (76)

قوله عز وجل : { . . . وهم لهم جندٌ محضرون } يعني أن المشركين لأوثانهم جند ، وفي الجند ها هنا وجهان :
أحدهما : شيعة ، قاله ابن جريج .
الثاني : أعوان .
{ محضرون } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : محضرون عند الحساب ، قاله مجاهد .
الثاني : محضرون في النار ، قاله الحسن .
الثالث : محضرون للدفع عنهم والمنع منهم ، قاله حميد . قال قتادة : يغضبون لآلهتهم ، وآلهتهم لا تنصرهم .
أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80)

قوله عز وجل : { أو لَمْ يَرَ الإنسان أَنَّا خلقناه مِن نفطةٍ } فيه قولان :
أحدهما : أنها نزلت في أبيّ بن خلف الجمحي أتى النبي صلى الله عليه وسلم يجادله في بعث الموتى ، قاله عكرمة ومجاهد والسدي .
الثاني : أنها نزلت في العاص بن وائل أخذ عظماً من البطحاء ففته بيده ثم قال لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم : أيحيي اللَّه هذا بعدما أرمّ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم « نعم ويميتك ثم يحييك ثم يدخلك نار جهنم » فنزلت هذه الآيات فيه ، قاله ابن عباس .
{ فإذا هو خصيمٌ مبينٌ } أي مجادل في الخصومة مبين للحجة ، يريد بذلك أنه صار بعد أن لم يكن شيئاً خصيماً مبيناً ، فاحتمل ذلك أمرين :
أحدهما : أن ينبهه بذلك على نعمه عليه .
الثاني : أن يدله بذلك على إحياء الموتى كما ابتدأه بعد أن لم يكن شيئاً .
قوله عز وجل : { وضَرب لنا مثلاً ونَسي خلقه } وهو من قدمنا ذكره ويحتمل وجهين :
أحدهما : أي ترك خلقه أن يستدل به .
الثاني : سها عن الاعتبار به .
{ قال مَن يُحْيِ العظَامَ وهي رَميمٌ } استبعاداً أن يعود خلقاً جديداً . فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يجيبه بما فيه دليل لأولي الألباب .
{ قل يحييها الذي أنشأها أول مَرَّة } أي من قدر عل إنشائها أول مرة من غير شيءٍ فهو قادرعلى إعادتها في النشأة الثانية من شيء .
{ وهو بكل خَلقٍ عليم } أي كيف يبدىء وكيف يعيد .
قوله عز وجل : { الذي جَعَلَ لكم مِنَ الشجر الأخضر ناراً } الآية أي الذي جعل النار المحرقة في الشجر الرطب المَطفي وجمع بينهما مع ما فيهما من المضادة ، لأن النار تأكل الحطب ، وأقدركم على استخراجها هو القادر على إعادة الموتى وجمع الرفات .
ويحتمل ذلك منه وجهين :
أحدهما : أن ينبه الله تعالى بذلك على قدرته التي لا يعجزها شيء .
الثاني : أن يدل بها على إحياء الموتى كما أحييت النار بالإذكاء .
قال الكلبي : كل الشجر يقدح منه النار إلا العناب .
وحكى أبو جعفر السمرقندي عن أحمد بن معاذ النحوي في قوله تعالى { الذي جعل لكم من الشجر الأخضر } يعني به إبراهيم ، { ناراً } أي نوراً يعني محمداً صلى الله عليه وسلم .
{ فإذا أنتم منه توقِدون } أي تقتبسون الدين .
أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)

قوله عز وجل : { إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون } فيه وجهان :
أحدهما : معناه أن يأمر فيوجد .
الثاني : ما قاله قتادة أنه ليس شيء أخف في الكلام من { كن } ولا أهون على لسان العرب من ذلك ، فجعله الله تعالى مثلاُ لأمره في السرعة .
{ فسبحان الذي بيده ملكوت كلِّ شيءٍ } فيه وجهان :
أحدهما : خزائن كل شيء .
الثاني : ملك كل شيء إلا أن فيه مبالغة .
{ وإليه ترجعون } يعني يوم القيامة ، فيجازي المحسن ويعاقب المسيء .
وروى الضحاك عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن لكل شيءٍ قلْباً وإنَّ قلْبَ القرآن يس ، ومن قرأها في ليلة أعطي يُسْر تلك الليلة ، ومن قرأها في يوم أعطي يُسْرَ ذلك اليوم ، وإنّ أهل الجنة يرفع عنهم القرآن فلا يقرأون منه شيئاً إلا طه ويس
» .
وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (2) فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا (3) إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ (5)

قوله عز وجل : { والصافات صفّاً } فيها ثلاثة أوجه :
أحدها : أنهم الملائكة ، قاله ابن مسعود وعكرمة وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة .
الثاني : أنهم عبّاد السماء ، قاله الضحاك ورواه عن ابن عباس .
الثالث : أنهم جماعة المؤمنين إذا قاموا في صفوفهم للصلاة ، حكاه النقاش لقوله تعالى { صفّاً كأنهم بنيان مرصوص } [ الصف : 4 ] .
ويحتمل رابعاً : أنها صفوف المجاهدين في قتال المشركين .
واختلف من قال الصافات الملائكة في تسميتها بذلك على ثلاثة أقاويل :
أحدها : لأنها صفوف في السماء ، قاله مسروق وقتادة .
الثاني : لأنها تصف أجنحتها في الهواء واقفة فيه حتى يأمرها الله تبارك وتعالى بما يريد ، حكاه ابن عيسى .
الثالث : لصفوفهم عند ربهم في صلاتهم ، قاله الحسن .
قوله عز وجل : { فالزاجرات زجراً } فيه ثلاثة أقاول :
أحدها : الملائكة ، قاله ابن مسعود ومسروق وقتادة وعكرمة وسعيد بن جبير ومجاهد .
الثاني : آيات القرآن ، قاله الربيع .
الثالث : الأمر والنهي الذي نهى الله تعالى به عباده عن المعاصي ، حكاه النقاش .
ويحتمل رابعاً : أنها قتل المشركين وسبيهم .
واختلف من قال إن الزاجرات الملائكة في تسميتها بذلك على قولين :
أحدهما : لأنها تزجر السحاب ، قاله السدي .
الثاني : لأنها تزجر عن المعاصي قاله ابن عيسى .
قوله عز وجل : { فالتاليات ذكراً } أي فالقارئات كتاباً ، وفيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : الملائكة تقرأ كتب الله تعالى ، قاله ابن مسعود والحسن وسعيد بن جبير والسدي .
الثاني : ما يتلى في القرآن من أخبار الأمم السالفة ، قاله قتادة .
الثالث : الأنبياء يتلون الذكر على قومهم ، قاله ابن عيسى .
قوله عز وجل : { إنَّ إلهكم لواحد } كل هذا قَسَم أن الإِله واحد ، وقيل إن القسم بالله تعالى على تقدير ورب الصافات ولكن أضمره تعظيماً لذكره .
ثم وصف الإله الواحد فقال :
{ رب السموات والأرض وما بينهما } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : خالق السموات والأرض وما بينهما ، قاله ابن إسحاق .
الثاني : مالك السموات والأرض وما بينهما .
الثالث : مدبر السموات والأرض وما بينهما .
{ ورب المشارق } فيه وجهان :
الأول : قال قتادة : ثلاثمائة وستون مشرقاً ، والمغارب مثل ذلك ، تطلع الشمس كل يوم من مشرق ، وتغرب في مغرب ، قاله السدي .
الثاني : أنها مائة وثمانون مشرقاً تطلع كل يوم في مطلع حتى تنتهي إلى آخرها ثم تعود في تلك المطالع حتى تعود إلى أولها ، حكاه يحيى بن سلام ، ولا يذكر المغارب لأن المشارق تدل عليها ، وخص المشارق بالذكر لأن الشروق قبل الغروب .
إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7) لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9) إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (10)

قوله عز وجل : { إنا زينا السماء الدنيا بزينةٍ الكواكب } يحتمل تخصيص سماء الدنيا بالذكر وجهين :
أحدهما : لاختصاصها بالدنيا .
الثاني : لاختصاصها بالمشاهدة ، وقوله بزينة الكواكب لأن من الكواكب ما خلق للزينة ، ومنها ما خلق لغير الزينة .
حكى عقبة بن زياد عن قتادة قال : خلقت النجوم لثلاث : رجوماً للشياطين ونوراً يهتدى به ، وزينة لسماء الدنيا .
{ وحفظاً مِن كُلِّ شيطان مارِدٍ } فيه وجهان :
أحدهما : يعني من الكواكب حفظاً من كل شيطان ، قاله السدي .
الثاني : أن الله سبحانه حفظ السماء من كل شيطان مارد ، قاله قتادة .
وفي المارد ثلاثة أوجه :
أحدها : الممتنع ، قاله ابن بحر .
الثاني : العاتي مأخوذ من التمرد وهو العتو .
الثالث : أنه المتجرد من الخير ، من قولهم شجرة مرداء ، إذا تجردت من الورق .
قوله عز وجل : { لا يسمعون إلى الملإِ الأعلى } فيه قولان :
أحدهما : أنهم منعوا بها أن يسمعوا أو يتسمعوا ، قاله قتادة .
الثاني : أنهم يتسمعون ولا يسمعون ، قاله ابن عباس .
وفي الملإ الأعلى قولان :
أحدهما : السماء الدنيا ، قاله قتادة .
الثاني : الملائكة ، قاله السدي .
{ ويُقذفون من كل جانب } قال مجاهد : يرمون من كل مكان من جوانبهم ، وقيل من جوانب السماء .
{ دُحوراً } فيه تأويلان :
أحدهما : قذفاً في النار ، قاله قتادة .
الثاني : طرداً بالشهب ، وهو معنى قول مجاهد .
قال ابن عيسى : والدحور : الدفع بعنف .
{ ولهم عذابٌ واصبٌ } فيه وجهان :
أحدهما : دائم .
الثاني : أنه الذي يصل وجعه إلى القلوب ، مأخوذ من الوصب .
قوله عز وجل : { إلا من خَطِفَ الخطفَة } فيه تأويلان :
أحدهما : إلا من استرق السمع ، قاله سعيد بن جبير ، مأخوذ من الاختطاف وهو الاستلاب بسرعة ، ومنه سمي الخطاف .
الثاني : من وثب الوثبة ، قاله علي بن عيسى . { فأتبعه شهابٌ ثاقب } فيه وجهان :
أحدهما : أنه الشعلة من النار .
الثاني : أنه النجم .
وفي الثاقب ستة أوجه :
أحدها : أنه الذي يثقب ، قاله زيد الرقاشي .
الثاني : أنه المضيء ، قاله الضحاك .
الثالث : أنه الماضي ، حكاه ابن عيسى .
الرابع : أنه العالي ، قاله الفراء .
الخامس : أنه المحرق ، قاله السدي .
السادس : أنه المستوقد ، من قولهم : اثقب زندك أي استوقد نارك ، قاله زيد بن أسلم والأخفش ، وأنشد قول الشاعر :
بينما المرء شهابٌ ثاقب ... ضَرَبَ الدَّهر سناه فخمد
و { إلا } ها هنا بمعنى لكن عند سيبويه . وقيل : إن الشهاب يحرقهم ليندفعوا عن استراق السمع ولا يموتون منه .
فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ (11) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (15) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ (18) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ (19)

قوله عز وجل : { فاستفتهم أهم أشد خلقاً } فيه وجهان :
أحدهما : فسلهم قال قتادة ، مأخوذ من استفتاء المفتي .
الثاني : فحاجِّهم أيهم أشد خلقاً ، قاله الحسن .
{ أم مَنْ خلقنا } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : من السموات والأرض والجبال ، قاله مجاهد .
الثاني : من الملائكة ، قاله سعيد بن جبير .
الثالث : من الأمم الماضية فقد هلكوا وهم أشد خلقاً منهم ، حكاه ابن عيسى .
{ إنَّاخلقناهم مِن طينٍ لازبٍ } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : لاصق ، قاله ابن عباس منه قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه :
تعلم فإن الله زادك بسطة ... وأخلاق خير كلها لك لازب
الثاني : لزج ، قاله عكرمة .
الثالث : لازق ، قاله قتادة .
والفرق بين اللاصق واللازق أن اللاصق هو الذي قد لصق بعضه ببعض ، واللازق هو الذي يلزق بما أصابه .
الرابع : لازم ، والعرب تقول طين لازب ولازم ، وقال النابغة :
ولا تحسبون الخير لا شر بعده ... ولا تحسبون الشر ضربة لازب
نزلت هذه الآية في ركانة بن زيد بن هاشم بن عبد مناف وأبي الأشد ابن أسيد بن كلاب الجمحي .
قوله عز وجل : { بل عجبت ويسخرون } وفي { عجبت } قراءتان :
إحداهما : بضم التاء ، قرأ بها حمزة والكسائي ، وهي قراءة ابن مسعود ، ويكون التعجب مضافاً إلى الله تعالى ، وإن كان لا يتعجَّبُ من شيء لأن التعجب من حدوث العلم بما لم يعلم ، واللَّه تعالى عالم بالأشياء قبل كونها .
وفي تأويل ذلك على هذه القراءة وجهان :
أحدهما : يعني بل أنكرت حكاه النقاش .
الثاني : هو قول علي بن عيسى أنهم قد حلّوا محل من يتعجب منه .
والقراءة الثانية : بفتح التاء قرأ بها الباقون ، وأضاف التعجب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه قال : بل عجبت يا محمد ، قاله قتادة .
وفيما عجبت منه قولان :
أحدهما : من القرآن حين أعطيه ، قاله قتادة .
الثاني : من الحق الذي جاءهم به فلم يقبلوه ، وهو معنى قول ابن زياد . وفي قوله { وتسخرون } وجهان :
أحدهما : من الرسول إذا دعاهم .
الثاني : من القرآن إذا تلي عليهم .
قوله عز وجل : { وإذا ذكِّروا لا يذكرون } فيه وجهان :
أحدهما : وإذا ذكروا بما نزل من القرآن لا ينتفعون ، وهو معنى قول قتادة .
والثاني : وإذا ذكروا بمن هلك من الأمم لا يبصرون ، وهو معنى ما رواه سعيد .
قوله عز وجل : { وإذا رأوا آيةً يَسْتَسْخِرُونَ } وفي هذه الآية قولان : أحدهما : أنه انشقاق القمر ، قاله الضحاك .
الثاني : ما شاهدوه من هلاك المكذبين ، وهو محتمل .
وفي قوله { يستسخِرون } وجهان :
أحدهما : يستهزئون ، قاله مجاهد .
الثاني : هو أن يستدعي بعضهم من بعض السخرية بها لأن الفرق بين سخر واستسخر كالفرق بين علم واستعلم .
وقيل إن ذلك في ركانة بن زيد وأبي الأشد بن كلاب .
قوله عز وجل : { فانما هي زجرةٌ واحدةٌ } أي صيحة واحدة ، قاله الحسن : وهي النفخة الثانية وسميت الصيحة زجرة لأن مقصودها الزجر .
{ فإذا هم ينظرون } يحتمل ثلاثة أوجه :
أحدها : البعث الذي كذبوا به .
الثاني : ينظرون سوء أعمالهم .
الثالث : ينتظرون حلول العذاب بهم ، ويكون النظر بمعنى الانتظار .
وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (20) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24) مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26)

قوله عز وجل : { وقالوا يا ويلنا هذا يومُ الدين } الآية . فيه وجهان :
أحدهما : يوم الحساب ، قاله ابن عباس .
الثاني : يوم الجزاء ، قاله قتادة .
{ هذا يوم الفصل } الآية . فيه وجهان :
أحدهما : يوم القضاء بين الخلائق ، قاله يحيى .
الثاني : يفصل فيه بين الحق والباطل ، قاله ابن عيسى .
قوله عز وجل : { احشروا الذين ظلموا } الآية . فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : المكذبون بالرسل .
الثاني : هم الشُرَط ، حكاه الثوري .
الثالث : هم كل من تعدى على الخالق والمخلوق .
وفي { وأزواجهم } أربعة أوجه :
أحدها : أشباههم فيحشر صاحب الزنى مع صاحب الزنى ، وصاحب الخمر مع صاحب الخمر ، قاله عمر بن الخطاب رضي الله عنه .
الثاني : قرناؤهم ، قاله ابن عباس .
الثالث : أشياعهم ، قاله قتادة ، ومنه قول الشاعر :
فكبا الثور في وسيل وروض ... مونق النبت شامل الأزواج
الرابع : نساؤهم الموافقات على الكفر ، رواه النعمان بن بشير عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه .
{ وما كانوا يعبدون من دون الله } وفيهم ثلاثة أقاويل :
أحدها : إبليس ، قاله ابن زياد .
الثاني : الشياطين ، وهو مأثور .
الثالث : الأصنام ، قاله قتادة وعكرمة .
{ فاهدُوهم إلى صراط الجحيم } أي طريق النار .
وفي قوله تعالى : { فاهدوهم } ثلاثة أوجه :
أحدها : فدلوهم ، قاله ابن .
الثاني : فوجهوهم ، رواه معاوية بن صالح .
الثالث : فادعوهم ، قاله السدي .
قوله عز وجل : { وقفُوهم إنَّهم مسئولون } أي احبسوهم عن دخول النار .
{ إنهم مسئولون } فيه ستة أوجه :
أحدها : عن لا إله إلا الله ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : عما دعوا إليه من بدعة ، رواه أنس مرفوعاً .
الثالث : عن ولاية علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، حكاه أبو هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري .
الرابع : عن جلسائهم ، قاله عثمان بن زيادة .
الخامس : محاسبون ، قاله ابن عباس .
السادس : مسئولون .
{ ما لكم لا تناصرون } على طريق التوبيخ والتقريع لهم ، وفيهم ثلاثة أوجه :
أحدها : لا ينصر بعضكم بعضاً ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : لا يمنع بعضكم بعضاً من دخول النار ، قاله السدي .
الثالث : لا يتبع بعضكم بعضاً في النار يعني العابد والمعبود ، قاله قتادة .
فإن قيل : فهلا كانوا مسئولين قبل قوله { فاهْدوهم . . . } الآية؟
قيل : لأن هذا توبيخ وتقريع فكان نوعاً من العذاب فلذلك صار بعد الأمر بالعذاب .
قال مجاهد : ولا تزول من بين يدي الله تعالى قدم عبد حتى يُسأل عن خصال أربع : عمره فيهم أفناه ، وجسده فيم أبلاه ، وماله مم اكتسبه وفيم أنفقه ، وعلمه ما عمل فيه .
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (27) قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ (28) قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37)

قوله عز وجل : { وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون } فيهم قولان :
أحدهما : أنه أقبل الإنس على الجن ، قاله قتادة .
الثاني : بعضهم على بعض ، قاله ابن عباس .
ويحتمل ثالثاً : أقبل الاتباع على المتبوعين .
وفي { يتساءلون } وجهان :
أحدهما : يتلاومون ، قاله ابن عباس .
الثاني : يتوانسون ، وهذا التأويل معلول لأن التوانس راحة ، ولا راحة لأهل النار .
ويحتمل ثالثاً : يسأل التابع متبوعه أن يتحمل عنه عذابه .
قوله عز وجل : { إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين } وفي تأويل ذلك قولان :
أحدهما : قاله الإنس للجن . قاله قتادة .
الثاني : قاله الضعفاء للذين استكبروا ، قاله ابن عباس .
وفي قوله : { تأتوننا عن اليمين } ثمانية تأويلات :
أحدها : تقهروننا بالقوة ، قاله ابن عباس ، واليمين القوة ، ومنه قول الشاعر :
اذا ما رايةٌ رفعت لمجدٍ ... تَلقاها عَرابةُ باليمين
أي بالقوة والقدرة .
الثاني : يعني من قبل ميامنكم ، قاله ابن خصيف .
الثالث : من قبل الخير فتصدوننا عنه وتمنعوننا منه ، قاله الحسن .
الرابع : من حيث نأمنكم ، قاله عكرمة .
الخامس : من قبل الدين أنه معكم ، وهو معنى قول الكلبي .
السادس : من قبل النصيحة واليمين ، والعرب تتيمن بما جاء عن اليمين ويجعلونه من دلائل الخير ويسمونه السانح ، وتتطير بما جاء عن الشمال ويجعلونه من دلائل الشر ويسمونه البارح ، وهو معنى قول عليّ بن عيسى .
السابع : من قبل الحق أنه معكم ، قاله مجاهد .
الثامن : من قبل الأموال ترغبون فيها أنها تنال بما تدعون إليه فتتبعون عليه ، وهو معنى قول الحسن .
إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ (38) وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (44) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (47) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49)

قوله عز وجل : { يُطاف عليهم بكأسٍ من مَعينٍ } أي من خمر معين وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه الجاري؛ قاله الضحاك .
الثاني : الذي لا ينقطع ، حكاه جويبر .
الثالث : أنه الذي لم يعصر ، قاله سعيد بن أبي عروبة .
ويحتمل رابعاً : أنه الخمر بعينه الذي لم يمزج بغيره .
وفي المعين من الماء خمسة أوجه :
أحدها : أنه الظاهر للعين ، قاله الكلبي .
الثاني : ما مدّته العيون فاتصل ولم ينقطع ، قاله الحسن .
الثالث : أنه الشديد الجري من قولهم أمعن في كذا إذا اشتد دخوله فيه .
الرابع : أنه الكثير مأخوذ من المعين وهو الشيء الكثير .
الخامس : أنه المنتفع به مأخوذ من الماعون ، قاله الفراء .
{ بيضاء لذَّةٍ للشاربين } يعني أن خمر الجنة بيضاء اللون ، وهي في قراءة ابن مسعود صفراء .
ويحتمل أن تكون بيضاء الكأس صفراء اللون فيكون اختلاف لونهما في منظرهما قال الشاعر :
فكأن بهجتها وبهجة كأسها ... نار ونور قيّدا بوعاء .
قوله عز وجل : { لا فيها غَوْلٌ } فيه خمسة تأويلات :
أحدها : أي ليس فيها صداع ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس .
الثاني : ليس فيها وجع البطن ، قاله مجاهد .
الثالث : ليس فيها أذى ، قاله الفراء وعكرمة وهذه الثلاثة متقاربة لاشتقاق الغول من الغائلة .
الرابع : ليس فيها إثم ، قاله الكلبي .
الخامس : أنها لا تغتال عقولهم ، قاله السدي وأبو عبيدة ، ومنه قول الشاعر :
وهذا من الغيلة أن ... يصرع واحد واحدا
{ ولا هم عنها ينزفون } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : لا تنزف العقل ولا تذهب الحلم بالسكر ، قاله عطاء ، ومنه قول الشاعر :
لعمري لئن أنزفتم أو صحوتُم ... لبئس الندامى كنتم آل أبجرا
الثاني : لا يبولون ، قاله ابن عباس ، وحكى الضحاك عنه أنه قال : في الخمر أربع خصال : السكر والصداع والقيء والبول ، فذكر الله تعالى خمر الجنة فنزهها عن هذه الخصال .
الثالث : أي لا تفنى مأخوذ من نزف الركية ، قاله أبو عمرو بن العلاء ، ومنه قول الشاعر :
دعيني لا أبا لك أن تطيقي ... لحاك الله قد أنزفت ريقي
وقد يختلف هذا التأويل باختلاف القراءة ، فقرأ حمزة والكسائي ، ينزفون بكسر الزاي ، وقرأ الباقون يُنزَفون بفتح الزاي ، والفرق بينهما أن الفتح من نزف فهو منزوف إذا ذهب عقله بالسكر ، والكسر من أنزف فهو منزوف إذا فنيت خمره ، وإنما صرف الله تعالى السكر عن أهل الجنة لئلا ينقطع عنهم التذاذ نعيمهم .
قوله عز وجل : { وعندهم قاصِراتُ الطّرفِ عينٌ } يعني بقاصرات الطرف النساء اللاتي قصرن أطرافهن على أزواجهن فلا يردن غيرهم مأخوذ من قولهم : قد اقتصر على كذا إذا اقتنع به وعدل عن غيره ، قال امرؤ القيس :
من القاصرات الطرف لو دب مُحولٌ ... من الذّرّ فوق الخد منها لأثّرا
وفي العين وجهان :
أحدهما : الحسان العيون ، قاله مجاهد ومقاتل .
الثاني : العظام الأعين ، قاله الأخفش وقطرب .
{ كأنهن بيضٌ مكنون } فيه وجهان :
أحدهما : يعني اللؤلؤ في صدفه ، قاله ابن عباس ، ومنه قول الشاعر :
وهي بيضاء مثل لؤلؤة الغوا ... ص ميزت من جوهر مكنون
الثاني : يعني البيض المعروف في قشره ، والمكنون المصون .
وفي تشبيههم بالبيض المكنون أربعة أوجه :
أحدها : تشبيهاً ببيض النعام يُكنّ بالريش من الغبار والريح فهو أبيض إلى الصفرة ، قاله الحسن .
الثاني : تشبيهاً ببطن البيض إذا لم تمسه يد ، قاله سعيد بن جبير .
الثالث : تشبيهاً ببياض البيض حين ينزع قشرة ، قاله السدي .
الرابع : تشبيهاً بالسحاء الذي يكون بين القشرة العليا ولباب البيض ، قاله عطاء .
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61)

قوله عز وجل : { فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون } يعني أهل الجنة كما يسأل أهل النار .
{ قال قائلٌ منهم } يعني من أهل الجنة .
{ إني كان لي قرين } يعني في الدنيا ، وفيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه الشيطان كان يغويه فلا يطيعه ، قاله مجاهد .
الثاني : شريك له كان يدعوه إلى الكفر فلا يجيبه ، قاله ابن عباس .
الثالث : أنهما اللذان في سورة الكهف { واضرب لهم مثلاً رجلين } إلى آخر قصتهما ، فقال المؤمن منهما في الجنة للكافر في النار .
{ يقول أئنك لمن المصدقين } يعني بالبعث .
{ أئذا مِتْنَا وكُنَّا تراباً وعظاماً أئنا لمدينون } فيه تأويلان :
أحدهما : لمحاسبون ، قاله مجاهد وقتادة والسدي .
الثاني : لمجازون ، قاله ابن عباس ومحمد بن كعب من قوله : كما تدين تدان .
قوله عز وجل : { قال هل أنتم مطلعون } وهذا قول صاحب القرين للملائكة وقيل لأهل الجنة ، هل أنتم مطلعون يعني في النار . يحتمل ذلك وجهين :
أحدهما : لاستخباره عن جواز الاطلاع .
الثاني : لمعاينة القرين .
{ فاطّلَعَ } يعني في النار . { فرآه } يعني قرينه { في سواءِ الجحيم } قال ابن عباس في وسط الجحيم ، وإنما سمي الوسط سواءً لاستواء المسافة فيه إلى الجوانب قال قتادة : فوالله لولا أن الله عَرّفه إياه ما كان ليعرفه ، لقد تغير حبْرُهُ وسبرُه يعني حسنه وتخطيطه .
قوله عز وجل : { قال تالله إن كِدْتَ لتُرْدين } هذا قول المؤمن في الجنة لقرينه في النار ، وفيه وجهان :
أحدهما : لتهلكني لو أطعتك ، قاله السدي .
الثاني : لتباعدني من الله تعالى ، قاله يحيى .
{ ولولا نعمة ربي } يعني بالإيمان { لكنت من المحْضَرين } يعني في النار ، لأن أحضر لا يستعمل مطلقاً إلا في الشر .
أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69) فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74)

قوله عز وجل : { أذلك خيرٌ نزلاً أم شجرة الزقوم } والنُّزل العطاء الوافر ومنه إقامة الإنزال ، وقيل ما يعد للضيف والعسكر . وشجرة الزقوم هي شجرة في النار يقتاتها أهل النار ، مرة الثمر خشنة اللمس منتنة الريح .
واختلف فيها هل هي من شجر الدنيا التي يعرفها العرب أولا؟ على قولين :
أحدهما : أنها معروفة من شجر الدنيا ، ومن قال بهذا اختلفوا فيها فقال قطرب : إنها شجرة مرّة تكون بتهامة من أخبث الشجر ، وقال غيره بل كل نبات قاتل .
القول الثاني : أنها لا تعرف في شجر الدنيا ، فلما نزلت هذه الآية في شجرة الزقوم قال كفار قريش : ما نعرف هذه الشجرة ، فقال ابن الزبعرى : الزقوم بكلام البربر : الزبد والتمر فقال أبو جهل لعنه الله : يا جارية ابغينا تمراً وزبداً ثم قال لأصحابه تزقموا هذا الذي يخوفنا به محمد يزعم أن النار تنبت الشجر ، والنار تحرق الشجر .
{ إنا جعلناها فتنة للظالمين } فيه قولان :
أحدهما : أن النار تحرق الشجر فكيف ينبت فيها الشجر وهذا قول أبي جهل إنما الزقوم التمر والزبد أتزقمه فكان هذا هو الفتنة للظالمين ، قاله مجاهد .
الثاني : أن شدة عذابهم بها هي الفتنة التي جعلت لهم ، حكاه ابن عيسى .
قوله عز وجل : { إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم } فكان المقصود بهذا الذكر أمرين :
أحدهما : وصفها لهم لاختلافهم فيها .
الثاني : ليعلمهم جواز بقائها في النار لأنها تنبت من النار .
قال يحيى بن سلام : وبلغني أنها في الباب السادس وانها تحيا بلهب النار كما يحيا شجركم ببرد الماء .
{ طلعها كأنه رؤُوس الشياطين } يعني بالطلع الثمر ، فإن قيل فكيف شبهها برؤوس الشياطين وهم ما رأوها ولا عرفوها؟
قيل عن هذا أربعة أجوبة :
أحدها : أن قبح صورتها مستقر في النفوس ، وإن لم تشاهد فجاز أن ينسبها بذلك لاستقرار قبحها في نفوسهم كما قال امرؤ القيس :
ايقتُلني والمشرفيّ مضاجعي ... ومسنونةٍ زُرقٍ كأنياب أغوال
فشببها بأنياب الأغوال وإن لم يرها الناس .
الثاني : أنه أراد رأس حية تسمى عندالعرب شيطاناً وهي قبيحة الرأس .
الثالث : أنه أراد شجراً يكون بين مكة واليمن يسمى رؤوس الشياطين ، قاله مقاتل .
قوله عز وجل : { ثم إنّ لهم عليها لشوباً من حميم } يعني لمزاجاً من حميم والحميم الحار الداني من الإحراق قال الشاعر :
كأن الحميم على متنها ... إذا اغترفته بأطساسها
جُمان يجول على فضة ... عَلَتْه حدائد دوّاسها
ومنه سمي القريب حميماً لقربه من القلب ، وسمي المحموم لقرب حرارته من الإحراق ، قال الشاعر :
أحم الله ذلك من لقاءٍ ... آحاد آحاد في الشهر الحلال
أي أدناه فيمزج لهم الزقوم بالحميم ليجمع لهم بين مرارة الزقوم وحرارة الحميم تغليظاً لعذابهم وتشديداً لبلاتهم .
قوله عز وجل : { ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم } فيه أربعة أوجه : أحدها : يعني بأن مأواهم لإلى الجحيم ، قاله عبد الرحمن بن زيد .
الثاني : أن منقلبهم لإلى الجحيم ، قاله سفيان .
الثالث : يعني أن مرجعهم بعد أكل الزقوم إلى عذاب الجحيم ، قاله ابن زياد .
الرابع : أنهم فيها كما قال الله تعالى { يطوفون بينها وبين حميم آن } ثم يرجعون إلى مواضعهم ، قاله يحيى بن سلام .
وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82)

قوله عز وجل : { ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون } أي دعانا ، ودعاؤه كان على قومه عند إياسه من إيمانهم ، وإنما دعا عليهم بالهلاك بعد طول الاستدعاء لأمرين :
أحدهما : ليطهر الله الأرض من العصاة .
الثاني : ليكونوا عبرة يتعظ بها من بعدهم من الأمم .
وقوله : { فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ } يحتمل وجهين :
أحدهما : فلنعم المجيبون لنوح في دعائه .
الثاني : فلنعم المجيبون لمن دعا لأن التمدح بعموم الإجابة أبلغ .
{ ونجيناه وأهله } قال قتادة : كانوا ثمانية : نوح وثلاثة بنين ونساؤهم ، أربعة [ أي ] رجال وأربعة نسوة .
{ من الكرب العظيم } فيه وجهان :
أحدهما : من غرق الطوفان ، قاله السدي .
الثاني : من الأذى الذي كان ينزل من قومه ، حكاه ابن عيسى .
{ وجعلنا ذريته هم الباقين } قال ابن عباس : والناس كلهم بعد نوح من ذريته وكان بنوه ثلاثة : سام وحام ويافث ، فالعرب والعجم أولاد سام ، والروم والترك والصقالبة أولاد يافث والسودان من أولاد حام ، قال الشاعر :
عجوز من بني حام بن نوح ... كأن جبينها حجر المقام
قوله عز وجل : { وتركنا عليه في الآخرين } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : معناه أبقى الله الثناء الحسن في الآخرين ، قاله قتادة .
الثاني : لسان صدق للأنبياء كلهم ، قاله مجاهد .
الثالث : هو قوله سلام عل نوح في العالمين ، قاله الفراء .
وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83) إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87)

قوله عز وجل : { وإن من شيعته لإبراهيم } فيه وجهان :
أحدهما : من أهل دينه ، قاله ابن عباس .
الثاني : على منهاجه وسنته ، قاله مجاهد .
وفي أصل الشيعة في اللغة قولان :
أحدهما : أنهم الأتباع ومنه قول الشاعر :
قال الخليط غداً تصدُّ عَنّا ... أو شيعَه أفلا تشيعنا
قوله أو شيعه أي اليوم الي يتبع غداً ، قاله ابن بحر .
الثاني : وهو قول الأصمعي الشيعة الأعوان ، وهو مأخوذ من الشياع وهو الحطب الصغار الذي يوضع مع الكبار حتى يستوقد لأنه يعين على الوقود .
ثم فيه قولان :
أحدهما : إن من شيعة محمد لإبراهيم عليهما السلام ، قاله الكلبي والفراء .
الثاني : من شيعة نوح لإبراهيم ، قاله مجاهد ومقاتل .
وفي إبراهيم وجهان :
أحدهما : أنه اسم أعجمي وهو قول الأكثرين .
الثاني : مشتق من البرهمة وهي إدّامة النظر .
قوله عز وجل : { إذ جاء ربّه بقَلْب سليم } فيه أربعة أوجه :
أحدها : سليم من الشك ، قاله قتادة .
الثاني : سليم من الشرك ، قاله الحسن .
الثالث : مخلص ، قاله الضحاك .
الرابع : ألا يكون لعاناً ، قاله عروة بن الزبير .
ويحتمل مجيئه إلى ربه وجهين :
أحدهما : عند دعائه إلى توحيده وطاعته .
الثاني : عند إلقائه في النار .
فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ (92) فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96) قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98)

قوله عز وجل : { فنظر نظرة في النجوم } فيها أربعة تأويلات :
أحدها : أنه رأى نجماً طالعاً ، فعلم بذلك أن له إلهاً خالقاً ، فكان هذا نظره في النجوم ، قاله سعيد بن المسيب .
الثاني : أنها كلمة من كلام العرب إذا تفكر الرجل في أمره قالوا قد نظر في النجوم ، قاله قتادة .
الثالث : أنه نظر فيما نجم من قولهم ، وهذا قول الحسن .
الرابع : أن علم النجوم كان من النبوة ، فلما حبس الله تعالى الشمس على يوشع بن نون أبطل ذلك ، فنظر إبراهيم فيها [ كان ] علماً نبوياً ، قاله ابن عائشة .
وحكى جويبر عن الضحاك أن علم النجوم كان باقياً إلى زمن عيسى ابن مريم عليه السلام حتى دخلوا عليه في موضع لا يطلع عليه فقالت لهم مريم من أين علمتم موضعه؟ قالوا : من النجوم ، فدعا ربه عند ذلك فقال : اللهم فوهمهم في علمها فلا يعلم علم النجوم أحد ، فصار حكمها في الشرع محظوراً وعلمها في الناس مجهولاً . قال الكلبي وكانوا بقرية بين البصرة والكوفة يقال لها هرمزجرد وكانوا ينظرون في النجوم .
{ فقال إني سقيم } فيه سبعة تأويلات :
أحدها : أنه استدل بها على وقت حمى كانت تأتيه .
الثاني : سقيم بما في عنقي من الموت .
الثالث : سقيم بما أرى من قبح أفعالكم في عبادة غير الله .
الرابع : سقيم لشكه .
الخامس : لعلمه بأن له إلهاً خالقاً معبوداً ، قاله ابن بحر .
السادس : لعلة عرضت له .
السابع : أن ملكهم أرسل إليه أن غداً عيدنا فاخرج ، فنظر إلى نجم فقال : إن ذا النجم لم يطلع قط إلا طلع بسقمي ، فتولوا عنه مدبرين ، قاله عبد الرحمن بن زيد قال سعيد بن المسيب : كابد نبي الله عن دينه فقال إني سقيم . وقال سفيان : كانوا يفرون من المطعون فأراد أن يخلوا بآلهتهم فقال : إني سقيم أي طعين وهذه خطيئته التي قال اغفر لي خطيئتي يوم الدين وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « لم يكذب إبراهيم غير ثلاث : ثنتين في ذات الله عز وجل قوله إني سقيم ، وقوله بل فعله كبيرهم هذا ، وقوله في سارة هي أختي
» . { فراغ إلى ءَالَهِتِهِمْ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : ذهب إليهم ، قاله السدي .
الثاني : مال إليهم ، قاله قتادة .
الثالث : صال عليهم ، قاله الأخفش .
الرابع : أقبل عليهم ، قاله الكلبي وقطرب ، وهذا قريب من المعنيين المتقدمين .
{ فقال ألا تأكلون } فيه قولان :
أحدهما : أنه قال ذلك استهزاء بهم ، قاله ابن زياد .
الثاني : أنه وجدهم حين خرجوا إلى عيدهم قد صنعوا لآلهتهم طعاماً لتبارك لهم فيه فلذلك قال للأصنام وإن كانت لا تعقل عنه الكلام احتجاجاً على جهل من عبدها . وتنبيهاً على عجزها ، ولذلك قال :
{ ما لكم لا تنطقون } .

{ فراغ عليهم ضرباً باليمين } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : يده اليمنى . قاله الضحاك ، لأنها أقوى والضرب بها أشد .
الثاني : باليمين التي حلفها حين قال { وتالله لأكيدن أصنامكم } حكاه ابن عيسى .
الثالث : يعني بالقوة ، وقوة النبوة أشد ، قاله ثعلب .
{ فأقبلوا إليه يزفون } فيه خمسة تأويلات :
أحدها : يخرجون ، قاله ابن عباس .
الثاني : يسعون ، قاله الضحاك .
الثالث : يتسللون ، حكاه ابن عيسى .
الرابع : يرعدون غضباً ، حكاه يحيى بن سلام .
الخامس : يختالون وهو مشي الخيلاء ، وبه قال مجاهد ، ومنه أخذ زفاف العروس إلى زوجها ، وقال الفرزدق :
وجاء قريع الشول قَبل إفالها ... يزفّ وجاءت خَلْفه وهي زفّف
قوله عز وجل : { والله خلقكم وما تعملون } فيه وجهان :
أحدهما : أن الله خلقكم وخلق عملكم .
الثاني : خلقكم وخلق الأصنام التي عملتموها .
{ فأرادوا به كيداً } يعني إحراقه بالنار التي أوقدوها له .
{ فجعلناهم الأسفلين } فيه أربعة أوجه :
أحدها : الأسفلين في نار جهنم ، قاله يحيى .
الثاني : الأسفلين في دحض الحجة ، قال قتادة : فما ناظروه بعد ذلك حتى أهلكوا .
الثالث : يعني المهلكين فإن الله تعالى عقب ذلك بهلاكهم .
الرابع : المقهورين لخلاص إبراهيم من كيدهم . قال كعب : فما انتفع بالنار يومئذٍ أحد من الناس وما أحرقت منه يومئذٍ إلا وثاقه .
وروت أم سبابة الأنصارية عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثها أن « إبراهيم لما ألقي في النار كانت الدواب كلها تطفىء عنه النار إلا الوزغة فإنها كانت تنفخ عليها » فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتلها .
وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113)

{ وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين } وفي زمان هذا القول منه قولان :
أحدهما : أنه قال عند إلقائه في النار ، وفيه على هذا القول تأويلان :
أحدهما : إني ذاهب إلى ما قضى به عليّ ربي .
الثاني : إني ميت كما يقال لمن مات قد ذهب إلى الله تعالى لأنه عليه السلام تصور أنه يموت بإلقائه في النار على المعهود من حالها في تلف ما يلقى فيها إلى أن قيل لها كوني برداً وسلاماً ، فحينئذٍ سلم إبراهيم منها .
وفي قوله : { سيهدين } على هذا القول تأويلان :
أحدهما : سيهدين إلى الخلاص من النار .
الثاني : إلى الجنة .
فاحتمل ما قاله إبراهيم من هذا وجهين :
أحدهما : أن بقوله لمن يلقيه في النار فيكون ذلك تخويفاً لهم .
الثاني : أن بقوله لمن شاهده من الناس الحضور فيكون ذلك منه إنذارً لهم ، فهذا تأويل ذلك على قول من ذكر أنه قال قبل إلقائه في النار .
والقول الثاني : أنه قاله بعد خروجه من النار .
{ إني ذاهب إلى ربي } وفي هذا القول ثلاثة تأويلات :
أحدها : إني منقطع إلى الله بعبادتي ، حكاه النقاش .
الثاني : ذاهب إليه بقلبي وديني وعملي ، قاله قتادة .
الثالث : مهاجر إليه بنفسي فهاجر من أرض العراق . قال مقاتل : هو أول من هاجر من الخلق مع لوط وسارة .
وفي البلد الذي هاجر إليه قولان :
أحدهما : إلى أرض الشام .
الثاني : إلى أرض حران ، حكاه النسائي .
وفي قوله : سيهدين على هذا القول تأويلان :
أحدهما : سيهدين إلى قول : حسبي الله عليه توكلت ، قاله سليمان .
الثاني : إلى طريق الهجرة ، قاله يحيى .
واحتمل هذا القول منه وجهين :
أحدهما : أن بقوله لمن فارقه من قومه فيكون ذلك توبيخاً لهم .
الثاني : أن بقوله لمن هاجر معه من أهله فيكون ذلك منه ترغيباً .
قوله عز وجل : { فبشرناه بغُلام حليم } أي وقور . قال الحسن : ما سمعت الله يحل عباده شيئاً أجل من الحلم .
وفي قولان :
أحدهما : أنه إسحاق ، ولم يثن الله تعالى على أحد بالحلم إلا على إسحاق وإبراهيم قاله قتادة .
الثاني : إسماعيل وبشر بنبوة إسحاق بعد ذلك ، قاله عامر الشعبي . قال الكلبي وكان إسماعيل أكبر من إسحاق بثلاث عشرة سنة .
قوله عز وجل : { فلما بلغ معه السعي } فيه أربعة أوجه :
أحدها : يمشي مع أبيه ، قاله قتادة .
الثاني : أدرك معه العمل ، قاله عكرمة .
الثالث : أنه سعي العمل الذي تقوم به الحجة ، قاله الحسن .
الرابع : أنه السعي في العبادة ، قاله ابن زيد .
قال ابن عباس : صام وصلى ، ألم تسمع الله يقول { وسعى لها سعيها } [ الإسراء : 19 ] قال الفراء والكلبي ، وكان يومئذٍ ابن ثلاث عشرة سنة .
{ قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحُك } فروى سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم

« رؤيا الأنبياء في المنام وحي
» . { فانظُرْ ماذا تَرَى } لم يقل له ذلك على وجه المؤامرة في أمر الله سبحانه ، وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه قاله إخباراً بما أمره الله تعالى به ليكون أطوع له .
الثاني : أنه قاله امتحاناً لصبره على أمر الله تعالى .
الثالث : أي ماذا تريني من صبرك أو جزعك ، قاله الفراء .
{ قال يا أبت افْعَلْ ما تؤمرُ } الآية . فيه وجهان :
أحدهما : على الذبح ، قاله مقاتل .
الثاني : على القضاء ، حكاه الكلبي ، فوجده في الامتحان صادق الطاعة سريع الإجابة قوي الدين .
قوله عز وجل : { فلما أسْلَما } فيه وجهان :
أحدهما : اتفقا على أمر واحد ، قاله أبو صالح .
الثاني : سلما لله تعالى الأمر ، وهو قول السدي .
قال قتادة : سلم إسماعيل نفسه لله ، وسلم إبراهيم ابنه لله تعالى .
{ وتله للجبين } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : معناه صرعه على جبينه ، قاله ابن عباس ، والجبين ما عن يمين الجبهة وشمالها ، قال الشاعر :
وتله أبو حكم للجبين ... فصار إلى أمِّه الهاوية
الثاني : أنه أكبَّه لوجهه ، قاله مجاهد .
الثالث : أنه وضع جبينه على تل ، قاله قطرب .
وحكى مجاهد عن إسحاق أنه قال : يا أبت اذبحني وأنا ساجد ، ولا تنظر إلى وجهي فعسى أن ترحمني فلا تذبحني .
{ وناديناه أن يا إبراهيم قد صَدَّقْتَ الرؤيا } أي عملت ما رأيته في المنام ، وفي الذي رآه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن الذي رآه أنه قعد منه مقعد الذابح ينتظر الأمر بإمضاء الذبح .
الثاني : أن الذي رآه أنه أمر بذبحه بشرط التمكين ولم يمكن منه لما روي أنه كان كلما اعتمد بالشفرة انقلبت وجعل على حلقه صفيحة من نحاس .
الثالث : أن الذي رآه أنه ذبحه وقد فعل ذلك وإنما وصل الله تعالى الأوداج بلا فصل .
{ إنا كذلك نجزِي المحسنين } بالعفو عن ذبح ابنه .
وفي الذبيح قولان مثل اختلافهم في الحليم الذي بشر به .
أحدهما : أنه إسحاق ، قاله علي رضي الله عنه وعبد الله بن مسعود وكعب الأحبار وقتادة والحسن . قال ابن جريج ذبح إبراهيم ابنه إسحاق وهو ابن سبع سنين وولدته سارة وهي بنت تسعين سنة .
وفي الموضع الذي أراد ذبحه فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : بمكة في المقام .
الثاني : في المنحر بمنى .
الثالث : بالشام ، قاله ابن جريج وهو من بيت المقدس على ميلين . ولما علمت سارة ما أراد بإسحاق بقيت يومين وماتت في اليوم .
القول الثاني : أنه إسماعيل ، قاله ابن عباس وعبد الله بن عمر ومحمد بن كعب وسعيد بن المسيب ، وأنه ذبحه بمنى عند الجمار التي رمى إبليس في كل جمرة بسبع حصيات حين عارضه في ذبحه حتى جمر بين يديه أي أسرع فسميت جماراً .
وحكى سعيد بن جبير أنه ذبحه على الصخرة التي بأصل ثبير بمنى :
قوله عز وجل : { إنَّ هذا لهو البلاءُ المبين } فيه وجهان :
أحدهما : الاختبار العظيم ، قاله ابن قتيبة .

الثاني : النعمة البينة ، قاله الكلبي ومقاتل وقطرب وأنشد قول الحطيئة :
وإن بلاءهم ما قد علمتم ... على الأيام إن نفع البلاءُ
قوله عز وجل : { وفديناه بذبح عظيم } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه فدى بوعل أنزل عليه من ثبير ، قاله ابن عباس ، وحكى عنه سعيد ابن جبير أنه كبش رعي في الجنة أربعين خريفاً .
الثاني : أنه فدي بكبش من غنم الدنيا ، قاله الحسن .
الثالث : أنه فدي بكبش أنزل عليه من الجنة وهو الكبش الذي قربه هابيل بن آدم فقيل منه . قال ابن عباس حدثني من رأى قرني الكبش الذي ذبحه إبراهيم عليه السلام معلقين بالكعبة . والذبح بالكسر هو المذبوح ، والذبح بالفتح هو فعل الذبح .
وفي قوله : { عظيم } خمسة تأويلات :
أحدها : لأنه قد رعى في الجنة ، قاله ابن عباس .
الثاني : لأنه ذبح بحق ، قاله الحسن .
الثالث : لأنه عظيم الشخص .
الرابع : لأنه عظيم البركة .
الخامس : لأنه متقبل ، قاله مجاهد .
قوله عز وجل : { وتركنا عليه في الآخِرين } فيه قولان :
أحدهما : الثناء الحسن ، قاله قتادة .
الثاني : هو السلام على إبراهيم ، قاله عكرمة .
وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (114) وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (116) وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (118) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ (119) سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (120) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122)

قوله عز وجل : { ولقد مننا على موسى وهارون } فيه قولان :
أحدهما : بالنبوة ، قاله مقاتل .
الثاني : بالنجاة من فرعون ، قاله الكلبي .
{ ونجيناهما } الآية . فيه قولان :
أحدهما : من الغرق .
الثاني : من الرق .
وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129) سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132)

قوله عز وجل : { وإن إلياس لمن المرسلين } فيه قولان :
أحدهما : أنه إدريس قاله ابن عباس وقتادة ، وهي قراءة ابن مسعود : وابن إدريس .
الثاني : أنه من ولد هارون ، قاله محمد بن إسحاق ، قال مقاتل : هو إلياس بن بحشر ، وقال الكلبي هو عم اليسع . وجوز قوم أن يكون هو إلياس بن مضر .
وقيل لما عظمت الأحداث في بني إسرائيل بعد حزقيل بعث الله إليهم إلياس عليه السلام نبياً ، وتبعه اليسع وآمن به ، فلما عتا عليه بنو إسرائيل دعا ربه أن يقبضه إليه ففعل وقطع عنه لذة المطعم والمشرب وصار مع الملائكة إنيساً ملكياً ، أرضياً سماوياً ، والله أعلم .
قوله عز وجل : { أتدعون بعلاً } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : يعني ربّاً ، قاله عكرمة ومجاهد . قال مقاتل هي لغة أزد شنوءة ، وسمع ابن عباس رجلاً من أهل اليمن يسوم ناقة بمنى فقال : من بعل هذه أي ربها ، ومنه قول أبي دؤاد :
ورأيت بعلك في الوغى ... متقلداً سيفاً ورمحا
الثاني : أنه صنم يقال له بعل كانوا يعبدونه وبه سميت بعلبك ، قاله الضحاك وابن زيد وقال مقاتل : كسره إلياس وذهب .
الثالث : أنه اسم امرأة كانوا يعبدونها ، قاله ابن شجرة .
{ وتذرون أحْسَنَ الخالقين } فيه وجهان :
أحدهما : من قيل له خالق .
الثاني : أحسن الصانعين لأن الناس يصنعون ولا يخلقون .
قوله عز وجل :
{ سلامٌ على إِلْ يَاسِينَ } قرأ نافع وابن عامر : سلامٌ على آل ياسين بفتح الهمزة ومدها وكسر اللام ، وقرأ الباقون بكسر الهمزة وتسكين اللام ، وقرأ الحسن : سلام على ياسين بإسقاط الألف واللام ، وقرأ ابن مسعود : سلام على ادراسين ، لأنه قرأ وإن إدريس لمن المرسلين .
فمن قرأ الياس ففيه وجهان :
أحدهما : أنه جمع يدخل فيه جميع آل إلياس بمعنى أن كل واحد من أهله يسمى الياس .
الثاني : أنه إلياس فغير بالزيادة لأن العرب تغير الأسماء الأعجمية بالزيادة كما يقولون ميكال وميكاييل وميكائين . قال الشاعر :
يقول أهل السوق لما جينا ... هذا وربِّ البيت إسرائينا
ومن قرأ آل ياسين ففي قراءته وجهان :
أحدهما : أنهم آل محمد صلى الله عليه وسلم ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنهم آل إلياس .
فعلى هذا في دخول الزيادة في ياسين وجهان :
أحدهما : أنها زيدت لتساوي الآي ، كما قال في موضع طور سيناء ، وفي موضع آخر طور سينين ، فعلى هذا يكون السلام على أهله دونه وتكون الإضافة إليه تشريفاً له .
الثاني : أنها دخلت للجمع فيكون داخلاً في جملتهم ويكون السلام عليه وعليهم .
وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (138)

{ إلا عجوزاً في الغابرين } فيها أربعة أوجه :
أحدها : الهالكين ، قاله السّدي .
الثاني : في الباقين من الهالكين ، قاله ابن زيد .
الثالث : في عذاب الله تعالى ، قاله قتادة .
الرابع : في الماضين في العذاب ، حكاه مقاتل .
وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (148)

قوله عز وجل : { وإن يونس لمن المرسلين } قال السدي : يونس بن متى نبي من أنبياء الله تعالى بعثه إلى قرية يقال لها نينوى على شاطىء دجلة : قال قتادة : وهي من أرض الموصل .
{ إذ أبق إلى الفُلك المشحون } والآبق الفارّ إلى حيث لا يعلم به ، قال الحسن : فر من قومه وكان فيما عهد إليهم أنهم إن لم يؤمنوا أتاهم العذاب ، وجعل علامة ذلك خروجاً من بين أظهرهم ، فلما خرج عنه جاءتهم ريح سوداء فخافوها فدعوا الله بأطفالهم وبهائمهم فأجابهم وصرف العذاب عنهم فخرج مكايداً لقومه مغاضباً لدين ربه حتى أتى البحر فركب سفينة وقد استوقرت حملاً ، فلما اشتطت بهم خافوا الغرق .
وفيما خافوا الغرق به قولان :
أحدهما : أمواج من ريح عصفت بهم قاله ابن عباس .
الثاني : من الحوت الذي عارضهم ، حكاه ابن عيسى ، فقالوا عند ذلك : فينا مذنب لا ننجو إلا بإلقائه ، فاقترعوا فخرجت القرعة على يونس فألقوه ، وهو معنى قوله تعالى :
{ فساهَم } أي قارع بالسهام ، قاله ابن عباس والسدي .
{ فكان من المدحضين } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : من المقروعين ، قاله ابن عباس ومجاهد .
الثاني : من المغلوبين ، قاله سعيد بن جبير ، ومنه قول أبي قيس :
قتلنا المدحضين بكل فج ... فقد قرت بقتلهم العيون
الثالث : أنه الباطل الحجة ، قاله السدي مأخوذ من دحض الحجة وهو بطلانها فلما ألقوه في البحر آمنوا .
قوله عز وجل : { فالتقمه الحوت وهُو مليم } قال ابن عباس : أوحى الله تعالى إلى سمكة يقال لها اللخم من البحر الأخضر أن شقي البحار حتى تأخذي يونس ، وليس يونس لك رزقاً ، ولكن جعلت بطنك له سجناً ، فلا تخدشي له جلداً ولا تكسري له عظماً ، فالتقمه الحوت حين ألقي .
وفي قوله : { وهو مليم } ثلاثة تأويلات :
أحدها : أي مسيء مذنب ، قاله ابن عباس .
الثاني : يلوم نفسه على ما صنع ، وهو معنى قول قتادة .
الثالث : يلام على ما صنع ، قاله الكلبي .
والفرق بين الملوم والمليم أن المليم اذا أتى بما يلام عليه ، والملوم إذا ليم عليه .
{ فلولا أنه كان مِن المسبحين } فيه أربعة أوجه :
أحدها : من القائلين لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ، قاله الحسن .
الثاني : من المصلين قاله ابن عباس .
الثالث : من العابدين ، قاله وهب بن منبه .
الرابع : من التائبين ، قاله قطرب . وقيل تاب في الرخاء فنجاه الله من البلاء .
{ للبث في بطنه إلى يوم يبعثون } قال قتادة : إلى يوم القيامة حتى يَصير الحوت له قبراً ، وفي مدة لبثه في بطن الحوت أربعة أقاويل :
أحدها : بعض يوم ، قال الشعبي : التقمه ضحى ولفظه عشية .
الثاني : ثلاثة أيام ، قاله قتادة .
الثالث : سبعة أيام ، قاله جعفر .
الرابع : أربعون يوماً ، قاله أبو مالك ، وقيل إنه سار بيونس حتى مر به إلى الإيلة ثم عاد في دجلة إلى نينوى .

{ فنبذناه بالعراء } فيه أربعة أوجه :
أحدها : بالساحل ، قاله ابن عباس .
الثاني : بالأرض ، قاله السدي ، قال الضحاك : هي أرض يقال لها بلد .
الثالث : موضع بأرض اليمن .
الرابع : الفضاء الذي لا يواريه نبت ولا شجر ، قال الشاعر :
ورفعت رِجْلاً لا أخاف عثارها ... ونبذت بالبلد العراء ثيابي
{ وهو سقيم } فيه وجهان :
أحدهما : كهيئة الصبي ، قاله السدي .
الثاني : كهيئة الفرخ الذي ليس له ريش ، قاله ابن مسعود لأنه ضعف بعد القوة ، ورق جلده بعد الشدة .
قوله عز وجل : { وأنبتنا عليه شجرة من يقطين } فيها خمسة أقاويل :
أحدها : أنه القرع ، قاله ابن مسعود .
الثاني : أنه كل شجرة ليس فيها ساق يبقى من الشتاء إلى الصيف ، قاله سعيد بن جبير .
الثالث : أنها كل شجرة لها ورق عريض ، قاله ابن عباس .
الرابع : أنه كل ما ينبسط على وجه الأرض من البطيخ والقثاء ، رواه القاسم بن أبي أيوب .
الخامس : أنها شجرة سماها الله تعالى يقطيناً أظلته رواه هلال بن حيان . وهو تفعيل من قطن بالمكان أي أقام إقامة زائل لا إقامة راسخ كالنخل والزيتون ، فمكث يونس تحتها يصيب منها ويستظل بها حتى تراجعت نفسه إليه ، ثم يبست الشجرة فبكى حزناً عليها ، فأوحى الله تعالى إليه : أتبكي على هلاك شجرة ولا تبكي على هلاك مائة ألف أو يزيدون؟ حكاه ابن مسعود .
وحكى سعيد بن جبير أنه لما تساقط ورق الشجر عنه أفضت إليه الشمس فشكاه فأوحى الله تعالى إليه : يا يونس جزعت من حر الشمس ولم تجزع لمائة ألف أو يزيدون تابوا إليّ فتبت عليهم .
قوله عز وجل : { وأرسلناه إلى مائة ألفٍ أو يزيدون } فيهم قولان :
أحدهما : أنه أرسل إليهم بعدما نبذه الحوت ، قاله ابن عباس ، فكان أرسل إلى قوم بعد قوم .
الثاني : أنه أرسل إلى الأولين فآمنوا بشريعته ، وهو معنى قول ابن مسعود .
وفي قوله : { أو يزيدون } ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه للإبهام كأنه قال أرسلناه إلى أحد العددين .
الثاني : أنه على شك المخاطبين .
الثالث : أن معناه : بل يزيدون ، قاله ابن عباس وعدد من أهل التأويل ، مثله قوله فكان قاب قوسين أو أدنى يعنى بل أدنى ، قال جرير :
أثعلبة الفوارس أو رباحاً ... عدلت بهم طهية والخشابا
والمعنى أثعلبة بل رباحاً .
واختلف من قال بهذا في قدر زيادتهم على مائة ألف على خمسة أقاويل :
أحدها : يزيدون عشرين ألفاً ، رواه أُبي بن كعب مرفوعاً .
الثاني : يزيدون ثلاثين ألفاً ، قاله ابن عباس .
الثالث : يزيدون بضعة وثلاثين ألفاً ، قاله الحكم .
الرابع : بضعة وأربعين ألفاً رواه سفيان بن عبد الله البصري .
الخامس : سبعين ألفاً ، قاله سعيد بن جبير .
فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (150) أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (157) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160)

قوله عز وجل : { أم لكم سلطان مبين } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : عذر مبين ، قاله قتادة .
الثاني : حجة بينة ، قاله ابن قتيبة .
الثالث : كتاب بيّن ، قاله الكلبي .
قوله عز وجل : { وجعلوا بينه وبين الجِنة نسباً } فيه أربعة أوجه :
أحدها : أنه إشراك الشيطان في عبادة الله تعالى فهو النسب الذي جعلوه ، قاله الحسن .
الثاني : هو قول يهود أصبهان أن الله تعالى صاهر الجن فكانت الملائكة من بينهم ، قاله قتادة .
الثالث : هو قول الزنادقة : إن الله تعالى وإبليس أخوان ، وأن النور والخير والحيوان النافع من خلق الله ، والظلمة والشر والحيوان الضار من خلق إبليس ، قاله الكلبي وعطية العوفي .
الرابع : هو قول المشركين ، إن الملائكة بنات الله فقال لهم أبو بكر : فمن أمهاتهم؟ قالوا : بنات سروات الجن ، قاله مجاهد .
وفي تسمية الملائكة على هذا الوجه جنة ثلاثة أوجه :
أحدها : أنهم بطن من بطون الملائكة يقال لهم الجنة ، قاله مجاهد .
الثاني : لأنهم على الجنان ، قاله أبو صالح .
الثالث : لاستتارهم عن العيون كالجن المستخفين .
قوله عز وجل : { ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون } وفي الجنة قولان :
أحدهما : أنهم الملائكة ، قاله السدي .
الثاني : أنهم الجن ، قاله مجاهد .
وفيما علموه قولان :
أحدهما : أنهم علموا أن قائل هذا القول محضرون ، قاله علي بن عيسى .
الثاني : علموا أنهم في أنفسهم محضرون ، وهو قول من زعم أن الجنة هم الجن .
وفي قوله محضرون تأويلان :
أحدهما : للحساب ، قال مجاهد .
الثاني : محضرون في النار ، قاله قتادة .
فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (163) وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166) وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169)

قوله عز وجل : { فإنكم وما تعبدون } يعني المشركين وما عبدوه من آلهتهم .
{ ما أنتم عليه بفاتنين } أي بمضلين ، قال الشاعر :
فرد بنعمته كيده ... عليه وكان لها فاتناً
{ إلا من هو صالِ الجحيم } فيه وجهان :
أحدهما : إلا من سبق في علم الله تعالى أنه يصلى الجحيم ، قاله ابن عباس .
قوله عز وجل { وما مِنّا إلا له مقامٌ معلوم } فيه قولان :
أحدهما : ما منا ملك إلا له في السماء مقام معلوم ، قاله ابن مسعود وسعيد بن جبير .
الثاني : ما حكاه قتادة قال : كان يصلي الرجال والنساء جميعاً حتى نزلت { وما منا إلا له مقام معلوم } قال فتقدم الرجال وتأخر النساء .
ويحتمل إن لم يثبت هذا النقل .
ثالثاً : وما منا يوم القيامة إلا من له فيها مقام معلوم بين يدي الله عز وجل .
قوله عز وجل : { وإنا لنحن الصّافون } فيه قولان :
أحدهما : أنهم الملائكة يقفون صفوفاً في السماء ، قيل حول العرش ينتظرون ما يؤمرون به ، وقيل في الصلاة مصطفين . وحكى أبو نضرة أن عمر رضي الله كان إذا قام إلى الصلاة قال : يريد ، الله بكم هدى الملائكة { وإنا لنحن الصافون } تأخر يا فلان ، ثم يتقدم فيكبر .
الثاني : ما حكاه أبو مالك قال كان الناس يصلون متبددين فأنزل الله عز وجل { وإنا لنحن الصافون } فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يصطفوا
. وقوله عز وجل : { وإنا لنحن المسبحون } فيه قولان :
أحدهما : المصلّون ، قاله قتادة .
الثاني : المنزِّهون الله عما أضافه إليه المشركون أي فكيف لا تعبدونه ونحن نعبده .
فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170) وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ (177) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179)

قوله عز وجل : { ولقد سبقت كلمتُنا لعبادنا المرسلين } فيه قولان :
أحدهما : سبقت بالحجج ، قاله السدي .
الثاني : أنهم سينصرون ، قال الحسن : لم يقتل من الرسل أصحاب الشرائع أحد قط .
{ إنهم لهم المنصرون } فيه قولان :
أحدهما : بالحجج في الدنيا والعذاب في الآخرة ، قاله السدي والكلبي .
الثاني : بالظفر إما بالإيمان أو بالانتقام ، وهو معنى قول قتادة .
قوله عز وجل : { فتولَّ عنهم حتى حين } فيه أربعة أقاويل :
أحدها : يوم بدر ، قاله السدي .
الثاني : فتح مكة ، حكاه النقاش .
الثالث : الموت ، قاله قتادة .
الرابع : يوم القيامة ، وهو قول زيد بن أسلم .
وفي نسخ هذه الآية قولان :
أحدهما : أنها منسوخة ، قاله قتادة .
الثاني : أنها ثابتة .
قوله عز وجل : { وأبْصِر فسوف يبصرون } فيه أربعة أوجه :
أحدها : أبصر ما ضيعوا من أمر الله فسوف يبصرون ما يحل بهم من عذاب الله وهو معنى قول ابن زيد .
الثاني : أبصرهم في وقت النصرة عليهم فسوف يبصرون ما يحل لهم ، حكاه ابن عيسى .
الثالث : أبصر حالهم بقلبك فسوف يبصرون ذلك في القيامة .
الرابع : أعلمهم الآن فسوف يعلمونه بالعيان وهو معنى قول ثعلب .
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)

قوله عز وجل : { سبحان ربك رب العزة عما يصفون } روى الشعبي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من سرَّه أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة فليقل آخر مجلسه حين يريد أن يقوم : { سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلامٌ على المرسلين والحمد لله رب العالمين }
» . قوله تعالى : { رب العزة } يحتمل وجهين :
أحدهما : مالك العزة .
الثاني : رب كل شيء متعزز من مالك أو متجبر .
{ وسلامٌ على المرسلين } يحتمل وجهين :
أحدهما : سلامه عليهم إكرماً لهم .
الثاني : قضاؤه بسلامتهم بعد إرسالهم فإنه ما أمر نبي بالقتال إلا حرس من القتل .
{ والحمد لله رب العالمين } يحتمل وجهين :
أحدهما : على إرسال الأنبياء مبشرين ومنذرين .
الثاني : على جميع ما أنعم به على الخلق أجمعين .
ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (3)

قوله عز وجل : { ص } فيه تسعة تأويلات :
أحدها : أنه فواتح الله تعالى بها القرآن ، قاله مجاهد .
الثاني : أنه اسم من أسماء القرآن ، قاله قتادة .
الثالث : أنه اسم من أسماء الله تعالى أقسم به ، قاله ابن عباس .
الرابع : أنه حرف هجاء من أسماء الله تعالى ، قاله السدي .
الخامس : أنه بمعنى صدق الله ، قاله الضحاك .
السادس : أنه من المصادة وهي المعارضة ومعناه عارض القرآن لعلمك ، قاله الحسن .
السابع : أنه من المصادة وهي الاتباع ومعناه اتبع القرآن بعلمك ، قاله سفيان .
{ والقرآن ذي الذكر } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : ذي الشرف ، قاله ابن عباس وسعيد بن جبير والسدي .
الثاني : بالبيان ، قاله قتادة .
الثالث : بالتذكير ، قاله الضحاك .
الرابع : ذكر ما قبله من الكتب ، حكاه ابن قتيبة . قال قتادة : ها هنا وقع القسم .
واختلف أهل التأويل في جوابه على قولين :
أحدهما : أن جواب القسم محذوف وحذفه أفخم له لأن النفس تذهب فيه كل مذهب . ومن قال بحذفه اختلفوا فيه على قولين :
أحدهما : أن تقدير المحذوف منه لقد جاء الحق .
الثاني : تقديره ما الأمر كما قالوا .
والقول الثاني : من الأصل أن جواب القسم مظهر ، ومن قال بإظهاره اختلفوا فيه على قولين :
أحدهما : قوله تعالى { كم أهلكنا من قبلهم من قرن } قاله الفراء .
الثاني : من قوله تعالى { إن ذلك لحق تخاصم أهل النار } وهو قول مقاتل .
أحدها : يعني في حمية وفراق ، قاله قتادة .
الثاني : في تعزز واختلاف ، قاله السدي .
الثالث : في أنفة وعداوة .
ويحتمل رابعاً : في امتناع ومباعدة .
{ كم أهلكنا مِن قَبْلِهم } يعني قبل كفار هذه الأمة .
{ من قرن } فيه قولان :
أحدهما : يعني من أمة ، قاله أبو مالك .
الثاني : أن القرن زمان مقدور وفيه سبعة أقاويل :
أحدها : أنه عشرون سنة ، قاله الحسن .
الثاني : أربعون سنة ، قاله إبراهيم .
الثالث : ستون سنة ، رواه أبو عبيدة الناجي .
الرابع : سبعون سنة ، قاله قتادة .
الخامس : ثمانون سنة ، قاله الكلبي .
السادس : مائة سنة ، رواه عبد الله بن بشر عن النبي صلى الله عليه وسلم .
السابع : عشرون ومائة سنة ، قاله زرارة بن أوفى .
قوله عز وجل : { فنادوا ولات حين مناص } يحتمل وجهين :
أحدهما : استغاثوا .
الثاني : دعوا . ولات حين مناص التاء من لات مفصولة من الحاء وهي كذلك في المصحف ، ومن وصلها بالحاء فقد أخطأ . وفيها وجهان :
أحدها : أنها بمعنى لا وهو قول أبي عبيدة .
الثاني : أنها بمعنى ليس ولا تعمل إلا في الحين خاصة ، قال الشاعر :
تذكر حب ليلى لات حيناً ... وأضحى الشيب قد قطع القرينا
وفي تأويل قوله تعالى { ولات حين مناص } خمسة أوجه :
أحدها : وليس حين ملجأ ، قاله زيد بن أسلم .
الثاني : وليس حين مَغاث ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، ومنه قول علي رضي الله عنه في رجز له :
لأصبحنّ العاصي بن العاصي ... سبعين ألفاً عاقِدي النواصي
قد جنبوا الخيل على الدلاصِ ... آساد غيل حين لا مناص

الثالث : وليس حين زوال ، وراه أبو قابوس عن ابن عباس ، ومنه قول الشاعر :
فهم خشوع لدية لا مناص لهم ... يضمهم مجلس يشفي من الصيد
الرابع : وليس حين فرار ، قاله عكرمة والضحاك وقتادة قال الفراء مصدر من ناص ينوص . والنوص بالنون التأخر ، والبوص بالباء التقدم وأنشد قول امريء القيس :
أمِن ذكر ليلى إن نأتك تنوص ... فتقصر عنها خطوة وتبوص
فجمع في هذا البيت بين البوص والنوص فهو بالنون التأخر وبالباء التقدم .
الخامس : أن النوص بالنون التقدم ، والبوص بالباء التأخر ، وهو من الأضداد ، وكانوا إذا أحسوا في الحرب بفشل قال بعضهم لبعض : مناص : أي حملة واحدة ، فينجو فيها من نجا ويهلك فيها من هلك ، حكاه الكلبي : فصار تأويله على هذا الوجه ما قاله السدي أنهم حين عاينوا الموت لم يستطيعوا فراراً من العذاب ولا رجوعاً إلى التوبة .
وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ (10) جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ (11)

قوله عز وجل : { أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب } أمرهم أن يقولوا لا إله إلا الله أيسع لحاجَاتنا جميعاً إله واحد إن هذا لشيء عجاب بمعنى عجيب كما يقال رجل طوال وطويل ، وكان الخليل يفرق بينهما في المعنى فيقول العجيب هو الذي قد يكون مثله والعجاب هو الذي لا يكون مثله ، وكذلك الطويل والطوال .
قوله عز وجل : { وانطلق الملأ منهم } والانطلاق الذهاب بسهولة ومنه طلاقة الوجه وفي الملأ منهم قولان :
أحدهما : أنه عقبة بن معيط ، قاله مجاهد .
الثاني : أنه أبو جهل بن هشام أتى أبا طالب في مرضه شاكياً من رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم انطلق من عنده حين يئس من كفه ، قاله ابن عباس .
{ أَنِ امشوا واصبروا على آلهتكم } فيه وجهان :
أحدهما : اتركوه واعبدوا آلهتكم .
الثاني : امضوا على أمركم في المعاندة واصبروا على آلهتكم في العبادة ، والعرب تقول : امش على هذا الأمر ، أي امض عليه والزمه .
{ إن هذا لشيء يراد } فيه وجهان :
أحدهما : أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما أسلم وقوي به الإسلام شق على قريش فقالوا إن الإسلام عمر فيه قوة للإسلام وشيء يراد ، قاله مقاتل .
الثاني : أن خلاف محمد لنا ومفارقته لديننا إنما يريد به الرياسة علينا والتملك لنا .
قوله عز وجل : { ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة } فيه أربعة أقويل :
أحدها : في النصرانية لأنها كانت آخر الملل ، قاله ابن عباس وقتادة والسدي .
الثاني : فيما بين عيسى ومحمد عليهما السلام ، قاله الحكم .
الثالث : في ملة قريش ، قاله مجاهد .
الرابع : معناه أننا ما سمعنا أنه يخرج ذلك في زماننا ، قاله الحسن .
{ إن هذا إلا اختلاق } أي كذب اختلقه محمد صلى الله عليه وسلم .
قوله عز وجل : { أم عندهم خزائن رحمة ربك } قال السدي مفاتيح النبوة فيعطونها من شاؤوا ويمنعونها من شاءُوا .
قوله عز وجل : { فليرتقوا في الأسباب } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : في السماء ، قاله ابن عباس .
الثاني : في الفضل والدين ، قاله السدي .
الثالث : في طرق السماء وأبوابها ، قاله مجاهد .
الرابع : معناه فليعلوا في أسباب القوة إن ظنوا أنها مانعة ، وهو معنى قول أبي عبيدة .
قوله عز وجل : { جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب } قال سعيد بن جبير : هم مشركو مكة و { ما } صلة للتأكيد ، تقول : جئتك لأمر ما . قال الأعشى :
فاذهبي ما إليك ادركني الحلم ... عداني عن هيجكم أشغالي
ومعنى قوله جند أي أتباع مقلِّدون ليس فيهم عالم مرشد .
{ مهزوم من الأحزاب } يعني مشركي قريش أنه أحزاب إبليس وأتباعه وقيل لأنهم تحازبوا على الجحود لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم . قال قتادة : فبشره بهزيمتهم وهو بمكة فكان تأويلها يوم بدر .
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ (14) وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (15) وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (16)

قوله عز وجل : { كذبت قبلهم قوم نوح } ذكر الله عز وجل القوم بلفظ التأنيث ، واختلف أهل العربية في تأنيثه على قولين :
أحدهما : أنه قد يجوز فيه التأنيث والتذكير .
الثاني : أنه مذكر اللفظ لا يجوز تأنيثه إلا أن يقع المعنى على العشيرة فيغلب في اللفظ حكم المعنى المضمر تنبيهاً عليه كقوله تعالى { كلا إنها تذكرة فمن شاء ذكره } ولم يقل ذكرها لأنه لما كان المضمر فيه مذكوراً ذكره وإن كان اللفظ مقتضياً للتأنيث .
{ وعادٌ } وهم قوم هود كانوا بالأحقاف من أرض اليمن ، قال ابن اسحاق : كانوا أصحاب أصنام يعبدونها ، وكانت ثلاثة يقال لأحدها هدر وللآخر صمور للآخر الهنا ، فأمرهم هود أن يوحدوا الله سبحانه ولا يجعلوا معه إِلهاً غيره ويكفوا عن ظلم الناس ولم يأمرهم إلا بذلك .
{ وفرعون ذُو الأوتاد } وفي تسميته بذي الأوتاد أربعة أقاويل :
أحدها : أنه كان كثير البنيان ، والبنيان يسمى أوتاداً ، قاله الضحاك .
الثاني : أنه كانت له ملاعب من أوتاد يلعب عليها ، قاله ابن عباس وقتادة .
الثالث : لأنه كان يعذب الناس بالأوتاد ، قاله السدي .
والرابع : أنه يريد ثابت الملك شديد القوة كثبوت ما يشج بالأوتاد كما قال الأسود بن يعفر :
ولقد غنوا فيها بأنعم عيشة ... في ظل ملك ثابت الأوتاد
{ وثمود } وهم عرب وحكى مقاتل أن عاداً وثمود أبناء عم ، وكانت منازل ثمود بالحجر بين الحجاز والشام منها وادي القرى ، بعث الله إليهم صالحاً ، واختلف في إيمانهم به ، فذكر ابن عباس أنهم آمنوا ثم مات فرجعوا بعده عن الإيمان فأحياه الله تعالى وبعثه إليهم وأعلمهم أنه صالح فكذبوه وقالوا قد مات صالح فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين فأتاهم الله الناقة ، فكفروا وعقروها ، فأهلكهم الله .
وقال ابن إسحاق : إن الله بعث صالحاً شاباً فدعاهم حتى صار شيخاً ، فقروا الناقة ولم يؤمنوا حتى هلكوا .
{ وقوم لوط } لم يؤمنوا حتى أهلكهم الله تعالى . قال مجاهد : وكانوا أربعمائة ألف بيت في كل بيت عشرة . وقال عطاء ما من أحد من الأنبياء إلا يقوم معه يوم القيامة قوم من أمته إلا آل لوط فإنه يقوم القيامة وحده .
{ وأصحاب الأيكة } بعث الله إليهم شعيباً . وفي { الأيكة } قولان :
أحدهما : أنها الغيضة ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنه الملتف من النبع والسدر قاله أبو عمرو بن العلاء . قال قتادة : بعث شعيب إلى أمتين من الناس إلى أصحاب الإيكة وإلى مدين ، وعذبتا بعذابين .
{ أولئك الأحزاب } يحتمل وجهين :
أحدهما : أحزاب على الأنبياء بالعداوة .
الثاني : أحزاب الشياطين بالموالاة .
قوله عز وجل : { وما ينظر هؤلاء } يعني كفار هذه الأمة .
{ إلا صيحة واحدة } يعني النفخة الأولى .
{ ما لها من فواق } قرأ حمزة والكسائي بضم الفاء ، والباقون بفتحها ، واختلف في الضم والفتح على قولين :
أحدهما : أنه بالفتح من الإفاضة وبالضم فُواق الناقة وهو قدر ما بين الحلبتين تقديراً للمدة .

الثاني : معناهما واحد ، وفي تأويله سبعة أقاويل :
أحدها : معناه ما لها من ترداد ، قاله ابن عباس .
الثاني : ما لها من حبس ، قاله حمزة بن إسماعيل .
الثالث : من رجوع إلى الدنيا ، قاله الحسن وقتادة .
الرابع : من رحمة . وروي عن ابن عباس أيضاً .
الخامس : ما لها من راحة ، حكاه أبان بن تغلب .
السادس : ما لها من تأخير لسرعتها قال الكلبي ، ومنه قول أبي ذؤيب :
إذا ماتت عن الدنيا حياتي ... فيا ليت القيامة عن فواق
السابع : ما لهم بعدها من إقامة ، وهو بمعنى قول السدي .
قوله عز وجل : { وقالوا ربنا عَجَّل لنا قِطنا . . . } الآية . فيه خمسة تأويلات :
أحدها : معنى ذلك عجل لنا حظنا من الجنة التي وعدتنا ، قاله ابن جبير .
الثاني : عجل لنا نصيبنا من العذاب الذي وعدتنا استهزاء منهم بذلك ، قاله ابن عباس .
الثالث : عجل لنا رزقنا ، قاله إسماعيل بن أبي خالد .
الرابع : أرنا منازلنا ، قاله السدي .
الخامس : عجل لنا في الدنيا كتابنا في الآخرة وهو قوله { فأما من أوتي كتابه بيمينه . . . وأما من أوتي كتابه بشماله } استهزاء منهم بذلك . وأصل القط القطع ، ومنه قط القلم وقولهم ما رأيته قط أي قطع الدهر بيني وبينه وأطلق على النصيب . والكتاب والرزق لقطعه من غيره إلا أنه في الكتاب أكثر استعمالاً وأقوى حقيقة ، قال أمية بن أبي الصلت :
قوم لهم ساحة العراق وما ... يجبى إليه والقط والقلح
وفيه لمن قال بهذا قولان :
أحدهما أنه ينطلق على كل كتاب يتوثق به .
الثاني : أنه مخص بالكتاب الذي فيه عطية وصلة ، قاله ابن بحر .
اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20)

قوله عز وجل : { اصبر على ما يقولون } يعني كما صبر أولو العزم من الرسل لا كمن لم يصبر مثل يونس .
{ واذكر عبدنا داود } أي فإنا نحسن إليك كما أحسنا إلى داود قبلك بالصبر .
{ ذا الأيد } فيه قولان :
أحدهما : ذا النعم التي أنعم الله بها عليه لأنها جمع يد حذفت منه الياء ، واليد النعمة .
الثاني : ذا القوة ، قاله ابن عباس وقتادة ومجاهد ، ومنه { والسماء بنيناها بأيد } أي بقوة . وفيما نسب داود إليه من القوة قولان :
أحدهما : القوة في طاعة الله والنصر في الحرب ، قاله مجاهد .
الثاني : ذا القوة في العبادة والفقه في الدين قاله قتادة . وذكر أنه كان يقوم نصف الليل ويصوم نصف الدهر .
{ إنه أواب } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : أنه التواب ، قاله مجاهد وابن زيد .
الثاني : أنه الذي يؤوب إلى الطاعة ويرجع إليها ، حكاه ابن زيد .
الثالث : أنه المسبح ، قاله الكلبي .
الرابع : أنه الذي يذكر ذنوبه في الخلاء فيستغفر منها ، قاله المنصور .
قوله عز وجل : { وشَدَدنا ملكه } فيه وجهان :
أحدهما : بالتأييد والنصر .
الثاني : بالجنود والهيبة . قال قتادة : باثنين وثلاثين ألف حرس .
{ وآتيناه الحكمة } فيها خمسة تأويلات :
أحدها : النبوة ، قاله السدي .
الثاني : السنّة ، قاله قتادة .
الثالث : العدل ، قاله ابن نجيح .
الرابع : العلم والفهم ، قاله شريح .
الخامس : الفضل والفطنة .
{ وفصل الخطاب } فيه خمسة تأويلات :
أحدها : على القضاء والعدل فيه ، قاله ابن عباس والحسن .
الثاني : تكليف المدعي البينة والمدعَى عليه اليمين ، قاله شريح وقتادة .
الثالث : قوله أما بعد ، وهو أول من تكلم بها ، قاله أبو موسى الأشعري والشعبي .
الرابع : أنه البيان الكافي في كل غرض مقصود .
الخامس : أنه الفصل بين الكلام الأول والكلام الثاني .
وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22) إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23) قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24) فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (25)

قوله عز وجل : { وهل أتاك نبأ الخَصْم } والخصم يقع على الواحد والاثنين والجماعة لأن أصله المصدر .
{ إذ تسوروا المحراب } ومعنى تسوروا أنهم أتوه من أعلى سورة وفي المحراب أربعة أقاويل :
أحدها : أنه صدر المجلس ، ومنه محراب المسجد ، قاله أبو عبيدة .
الثاني : مجلس الأشراف الذي يتحارب عليه لشرف صاحبه ، حكاه ابن عيسى .
الثالث : أنه المسجد ، قاله يحيى بن سلام .
الرابع : أنه الغرفة لأنهم تسوروا عليه فيها .
{ إذ دخلوا على داود ففزع منهم } وسبب ذلك ما حكاه ابن عيسى : إن داود حدث نفسه إن ابتلي أن يعتصم ، فقيل له إنك ستبتلى وتعلم اليوم الذي تبتلى فيه فخذ حذرك ، فأخذ الزبور ودخل المحراب ومنع من الدخول عليه ، فبينما هو يقرأ الزبور إذ جاء طائر كأحسن ما يكون من الطير فجعل يدرج بين يديه ، فهمّ أن يستدرجه بيده فاستدرج حتى وقع في كوة المحراب فدنا منه ليأخذه فانتفض فاطلع لينظره فأشرف على امرأة تغتسل فلما رأته غطت جسدها بشعرها ، قال السدي فوقعت في قلبه ، قال ابن عباس وكان زوجها غازياً في سبيل الله ، قال مقاتل وهو أوريا بن حنان ، فكتب داود إلى أمير الغزاة أن يجعل زوجها في حملة التابوت ، وكان حملة التابوت إما أن يفتح الله عليهم أو يقتلوا ، فقدمه فيهم فقتل ، فلما انقضت عدتها خطبها داود فاشترطت عليه إن ولدت غلاماً أن يكون الخليفة بعده ، وكتبت عليه بذلك كتاباً وأشهدت عليه خمسين رجلاً من بني إسرائيل فلم يشعر بفتنتها حتى ولدت سليمان وشب وتسور عليه الملكان وكان من شأنهما ما قَصَّه الله في كتابه .
وفي فزعه منهما قولان :
أحدهما : لأنهم تسوروا عليه من غير باب .
الثاني : لأنهم أتوه في غير وقت جلوسه للنظر .
{ قالوا لا تخف خصمان بَغَى بعضنا على بعض } وكانا ملكين ولم يكونا خصمين ولا باغيين ، ولا يأتي منهما كذب ، وتقدير كلامها : ما تقول إن أتاك خصمان وقالا بغى بعضنا على بعض .
وثنى بعضهم هنا وجمعه في الأول حيث قال : { وهل أتاك نبأ الخصم } لأن جملتهم جمعت ، وهم فريقان كل واحد منهما خصم .
{ فاحكم بيننا بالحق } أي بالعدل .
{ ولا تشطط } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : لا تملْ ، قاله قتادة .
الثاني : لا تَجُر ، قاله السدي .
الثالث : لا تسرف ، قاله الأخفش .
وفي أصل الشطط قولان :
أحدهما : أن أصله البعد من قولهم شطط الدار إذا بعدت ، قال الشاعر :
تشطط غداً دار جيراننا ... والدار بعد غد أبعد
الثاني : الإفراط . قال الشاعر :
ألا يالقومي قد اشطّت عواذلي ... وزعمن أن أودى بحقّي باطلي
{ واهدِنا إلى سواءِ الصراط } فيه وجهان :
أحدهما : أرشدنا إلى قصد الحق ، قاله يحيى .
الثاني : إلى عدل القضاء ، قاله السدي .
{ إن هذا أخي } فيه وجهان :
أحدهما : يعني على ديني ، قاله ابن مسعود .
الثاني : يعني صاحبي ، قاله السدي .

{ له تسع وتسعونَ نعجةً وليَ نعجةٌ واحدةٌ } فيها وجهان :
أحدهما : أنه أراد تسعاً وتسعين امرأة ، فكنى عنهن ، بالنعاج ، قاله ابن عيسى . قال قطرب : النعجة هي المرأة الجميلة اللينة .
الثاني : أنه أراد النعاج ليضربها مثلاً لداود ، قاله الحسن .
{ فقال أكفلنيها } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : ضمها إليَّ ، قاله يحيى .
الثاني : أعطنيها ، قاله الحسن .
الثالث : تحوّل لي عنها ، قاله ابن عباس وابن مسعود .
{ وعزّني في الخطاب } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أي قهرني في الخصومة ، قاله قتادة .
الثاني : غلبني على حقي ، من قولهم من عزيز أي من غلب سلب ، قاله ابن عيسى .
الثالث : معناه إن تكلم كان أبين ، وإن بطش كان أشد مني ، وإن دعا كان أكثر مني ، قاله الضحاك .
قوله عز وجل : { قال لقد ظَلَمَكَ بسؤال نعجتِك إلى نعِاجه } فإن قيل فكيف يحكم لأحد الخصمين على الآخر بدعواه؟ ففيه جوابان :
أحدهما : أن الآخر قد كان أقر بذلك فحكم عليه داود عليه السلام بإقراره ، فحذف اكتفاء بفهم السامع ، قاله السدي .
الثاني : إن كان الأمر كما تقول لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه .
{ وإنَّ كثيراً من الخُلَطاءِ } يحتمل وجهين :
أحدهما : الأصحاب .
الثاني : الشركاء .
{ لَيَبْغِي بعضهم على بعض } أي يتعدى .
{ إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات } تقديره فلا يبغي بعضهم على بعض ، فحذف اكتفاء بفهم السامع .
{ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ } فيه وجهان :
أحدهما : وقليل ما فيه من يبغي بعضهم على بعض ، قاله ابن عباس .
الثاني : وقليل من لا يبغي بعضهم على بعض ، قاله قتادة .
وفي { ما } التي في قوله { وقليل ما هم } وجهان :
أحدهما : انها فضلة زائدة تقديره : وقليل هم .
الثاني : أنها بمعنى الذي : تقديره : وقليل الذي هم كذلك .
{ وظن داود أنما فتناه } قال قتادة أي علم داود أنما فتناه وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها : اختبرناه ، قاله ابن عباس .
الثاني : ابتليناه ، قاله السدي .
الثالث : شددنا عليه في التعبد ، قاله ابن عيسى .
{ فاستغفر ربَّه } من ذنبه . قال قتادة : قضى نبي الله على نفسه ولم يفطن لذلك ، فلما تبين له الذنب استغفر ربه .
واختلف في الذنب على أربعة أقاويل :
أحدها : أنه سمع من أحد الخصمين وحكم له قبل سماعه من الآخر .
الثاني : هو أن وقعت عينه على امرأة أوريا بن حنان واسمها اليشع وهي تغتسل فأشبع نظره منها حتى علقت بقلبه .
الثالث : هو ما نواه إن قتل زوجها تزوج بها وأحسن الخلافة عليها ، قاله الحسن .
وحكى السدي عن علي كرم الله وجهه قال : لو سمعت رجلاً يذكر أن داود قارف من تلك المرأة محرَّماً لجلدته ستين ومائة لأن حد الناس ثمانون وحد الأنبياء ستون ومائة ، حَدّان .
{ وخَرّ راكعاً وأناب } أي خرّ ساجداً وقد يعبر عن السجود بالركوع ، قال الشاعر :
فخر على وجهه راكعاً ... وتاب إلى الله من كل ذنب
قال مجاهد : مكث أربعين يوماً ساجداً لا يرفع رأسه حتى نبت المرعى من دموع عينه فغطى رأسه إلى أن قال الله تعالى :
{ فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب } أي مرجع .

في الزلفى وجهان :
أحدهما : الكرامة ، وهو المشهور .
الثاني : الرحمة قاله الضحاك . فرفع رأسه وقد قرح جبينه .
واختلف في هذه السجدة على قولين :
أحدهما : أنها سجدة عزيمة تسجد عند تلاوتها في الصلاة وغير الصلاة ، قاله أبو حنيفة .
الثاني : أنها سجدة شكر لا يسجد عند تلاوتها لا في الصلاة ، ولا في غير الصلاة وهو قول الشافعي .
قال وهب بن منبه : فمكث داود حيناً لا يشرب ماء إلا مزجه بدموعه ، ولا يأكل طعاماً إلا بلّه بدموعه ، ولا ينام على فراش إلا غرقه بدموعه . وحكي عن داود أنه كان يدعو على الخطائين فلما أصاب الخطيئة كان لا يمر بواد إلا قال : اللهم اغفر للخاطئين لعلك تغفر لي معهم .
يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26)

قوله عز وجل : { يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض } فيه وجهان :
أحدهما : خليفة لله تعالى وتكون الخلافة هي النبوة .
الثاني : خليفة لمن تقدمك لأن الباقي خليفة الماضي وتكون الخلافة هي الملك .
{ فاحكم بين الناس بالحق } فيه وجهان :
أحدهما : بالعدل .
الثاني : بالحق الذي لزمك لنا .
{ ولا تتبع الهوى } فيه وجهان :
أحدهما : أن تميل مع من تهواه فتجور .
الثاني : أن تحكم بما تهواه فتزلّ .
{ فيضلك عن سبيل الله } فيه وجهان :
أحدهما : عن دين الله .
الثاني : عن طاعة الله .
{ إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نَسُوا يوم الحساب } فيه وجهان :
أحدهما : بما تركوا العمل ليوم الحساب ، قاله السدي .
الثاني : بما أعرضوا عن يوم الحساب ، قاله الحسن .
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29) وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31) فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32) رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (33)

قوله عز وجل : { إذ عُرِض عليه بالعشي الصافنات الجياد } الخيل وفيه وجهان :
أحدهما : أن صفونها قيامها ومنه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « من سره أن يقوم الرجال له صفوفاً فليتبوأ مقعده من النار » أي يديمون له القيام حكاه قطرب وأنشد قول النابغة :
لنا قبة مضروبة بفنائها ... عتاق المهاري والجياد الصوافن
الثاني : أن صفونها رفع احدى اليدين على طرف الحافر حتى تقوم على ثلاث كما قال الشاعر :
ألف الصفون فما يزل كأنه ... مما يقوم على الثلاث كسيرا
وفي { الجياد } وجهان :
أحدهما : أنها الطوال العناق مأخوذ من الجيد وهو العنق لأن طول أعناق الخيل من صفات فراهتها .
الثاني : أنها السريع ، قاله مجاهد واحدها جواد سمي بذلك لأنه يجود بالركض .
قوله عز وجل : { فَقَالَ إِني أحببت حُبَّ الخَيْرِ } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : يعني حب المال ، قاله ابن جبير والضحاك .
الثاني : حب الخيل قاله قتادة والسدي . ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم « الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة » وفي قراءة ابن مسعود : حب الخيل .
الثالث : حب الدنيا ، قاله أسباط .
وفي { أحببت حب الخير } وجهان :
أحدهما : أن فيه تقديماً وتأخيراً تقديره : أحببت الخير حباً فقدم ، فقال : أحببت حب الخير ثم أضاف فقال أحب الخير ، قاله بعض النحويين .
الثاني : أن الكلام على الولاء في نظمه من غير تقديم ولا تأخير ، وتأويله : آثرت حب الخير .
{ عَن ذِكر ربي } فيه وجهان :
أحدهما : عن صلاة العصر ، قاله علي رضي الله عنه .
الثاني : عن ذكر الله تعالى ، قاله ابن عباس .
وروى الحارث عن علي كرم الله وجهه قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة الوسطى فقال : « هي صلاة العصر التي فرط فيها نبي الله سليمان عليه السلام » .
{ حتى توارت بالحجاب } فيه قولان :
أحدهما : حت توارت الشمس بالحجاب ، والحجاب جبل أخضر محيط بالخلائق ، قاله قتادة وكعب .
الثاني : توارت الخيل بالحجاب أي شغلت بذكر ربها إلى تلك الحال ، حكاه ابن عيسى .
والحجاب الليل يسمى حجاباً لأنه يستر ما فيه .
قوله عز وجل : { رُدُّوها عليَّ } يعني الخيل لأنها عرضت عليه فكانت تجري بين يديه فلا يستبين منها شيء لسرعتها وهو اللهم أغضَّ بصري ، حتى غابت الحجاب ثم قال ردوها عليّ .
{ فطفق مسحاً بالسوق والأعناق } فيه قولان :
أحدهما : أنه من شدة حبه لها مسح عراقيبها وأعناقها ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنه لما رآها قد شغلته عن الصلاة ضرب عراقيبها وأعناقها ، قاله الحسن وقتادة .
ولم يكن ما اشتغل عنه من الصلاة فرضاً بل كان نفلاً لأن ترك الفرض عمداً فسق ، وفعل ذلك تأديباً لنفسه . والخيل مأكولة اللحم فلم يكن ذلك منه إتلافاً يأثم به .
قال الكلبي : كانت ألف فرس فعرقب تسعمائة وبقي منها مائة . فما في أيدي الناس من الخيل العتاق من نسل تلك المائة .
وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (34) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38) هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (40)

قوله عز وجل : { ولقد فتنا سُليمان } فيه وجهان :
أحدهما : يعني ابتليناه قاله السدي .
الثاني : عاقبناه ، حكاه النقاش .
وفي فتنته التي عوقب بها ستة أقاويل :
أحدهما : أنه كان قارب بعض نسائه في بعض الشيء من حيض أو غيره قاله الحسن .
الثاني : ما حكاه ابن عباس قال كانت لسليمان امرأة تسمى جرادة وكان بين أهلها وبين قوم خصومة فاختصموا إلى سليمان ففصل بينهم بالحق ولكنه ود أن الحق كان لأهلها فقيل له إنه سيصيبك بلاء فجعل لا يدري أمن الأرض يأتيه البلاء أم من السماء .
الثالث : ما حكاه سعيد بن المسيب أن سليمان احتجب عن الناس ثلاثة أيام لا يقضي بين أحد ولم ينصف مظلوماً من ظالم فأوحى الله تعالى إليه إني لم أستخلفك لتحجب عن عبادي ولكن لتقضي بينهم وتنصف مظلومهم .
الرابع : ما حكاه شهر بن حوشب أن سليمان سبى بنت ملك غزان في جزيرة من جزائر البحر يقال لها صيدون ، فألقيت عليه محبتها وهي معرضة عنه تذكر أمر أبيها لا تنظر إليه إلا شزراً ولا تكلمه إلا نزراً ، ثم إنها سألته أن يضع لها تمثالاً على صورته فصنع لها فعظمته وسجدت له وسجد جواريها معها ، وصار صنماً معبوداً في داره وهو لا يعلم به حتى مضت أربعون يوماً وفشا خبره في بني إسرائيل وعلم به سليمان فكسره وحرقه ثم ذراه في الريح .
الخامس : ما حكاه مجاهد أن سليمان قال لآصف الشيطان كيف تضلون الناس؟ فقال له الشيطان أعطني خاتمك حتى أخبرك ، فأعطاه خاتمه فألقاه في البحر حتى ذهب ملكه .
السادس : ما حكاه أبان عن أنس أن سليمان قال ذات ليلة : والله لأطوفن على نسائي في هذه الليلة وهن ألف امرأة كلهن تشتمل بغلام ، كلهم يقاتل في سبيل الله ، ولم يستثن . قال أنس سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « والذي نفس محمد بيده لو استثنى لكان ما قال » فما حملت له تلك الليلة إلا امرأة واحدة فولدت له شق إنسان .
{ وألقينا على كُرْسيِّه جسداً } فيه قولان :
أحدهما : معناه وجعلنا في ملكه جسداً ، والكرسي هو الملك .
الثاني : وألقينا على سرير ملكه جسداً .
وفي هذا الجسد أربعة أقاويل :
أحدها : أنه جسد سليمان مرض فكان جسده ملقى على كرسيه ، قاله ابن بحر .
الثاني : أنه ولد له ولد فخاف عليه فأودعه في السحاب يغذى في اليوم كالجمعة ، وفي الجمعة كالشهر وفي الشهر كالسنة ، فلم يشعر إلا وقد وقع على كرسيه ميتاً ، قاله الشعبي .
الثالث : أنه أكثر من وطء جواريه طلباً للولد ، فولد له نصف إنسان ، فهو كان الجسد الملقى على كرسيه ، حكاه النقاش .
الرابع : أن الله كان قد جعل ملك سليمان في خاتمه فكان إذا أجنب أو ذهب للغائط خلعه من يده ودفعه إلى أوثق نسائه حتى يعود فيأخذه ، فدفعه مرة إلى بعض نسائه وذهب لحاجته فجاء شيطان فتصور لها في صورة سليمان فطلب الخاتم منها فأعطته إياه ، وجاء سليمان بعده فطلبه ، فقالت قد أخذته فأحس سليمان .

واختلف في اسم امرأته هذه على قولين :
أحدهما : جرادة ، قاله ابن عباس وابن جبير .
الثاني : الأمينة ، قاله شهر بن حوشب .
وقال سعيد بن المسيب : كان سليمان قد وضع خاتمه تحت فراشه فأخذه الشيطان من تحته . وقال مجاهد : بل أخذه الشيطان من يده لأن سليمان سأل الشيطان كيف تضل الناس؟ فقال الشيطان : أعطني خاتمك حتى أخبرك فأعطاه خاتمه ، فلما أخذ الشيطان الخاتم جلس على كرسي سليمان متشبهاً بصورته داخلاً على نسائه ، يقضي بغير الحق ويأمر بغير صواب . واختلف في إصابته النساء ، فحكي عن ابن عباس : أنه كان يأتيهن في حيضهن . وقال مجاهد : منع من إتيانهن ، وزال عن سليمان ملكه فخرج هارباً إلى ساحل البحر يتضيف الناس ويحمل سموك الصيادين بالأجرة ، وإذا أخبر الناس أنه سليمان أكذبوه ، فجلس الشيطان على سريره ، وهو معنى قوله تعالى وألقينا على كرسيه جسداً .
واختلف في اسم هذا الشيطان على أربعة أقاويل :
أحدها : أن اسمه صخر ، قاله ابن عباس .
الثاني : آصف ، قاله مجاهد .
الثالث : حقيق ، قاله السدي .
الرابع : سيد ، قاله قتادة .
ثم إن سليمان بعد أن استنكر بنو إسرائيل حكم الشيطان أخذ حوته من صياد قيل إنه استطعمها ، وقال ابن عباس أخذها أجراً في حمل حوت حمله ، فلما شق بطنه وجد خاتمه فيها ، وذكل بعد أربعين يوماً من زوال ملكه عنه ، وهي عدة الأيام التي عُبد الصنم في داره . قاله مقاتل وملك أربعين سنة ، عشرين سنة قبل الفتنة وعشرين بعدها . وكانت الأربعون يوماً التي خرج فيها عن ملكه ذا القعدة وعشراً من ذي الحجة ، فسجد الناس له حين عاد الخاتم إليه وصار إلى ملكه .
وحكى يحيى بن أبي عمرو الشيباني أن سليمان وجد خاتمه بعسقلان فمشى منها إلى بيت المقدس تواضعاً لله .
قال ابن عباس : ثم إن سليمان ظفر بالشيطان فجعله في تخت من رخام وشده بالنحاس وألقاه في البحر . فهذا تفسير قوله تعالى { وألقينا على كرسيه جسداً } .
{ ثم أناب } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : ثم رجع إلى ملكه ، قاله الضحاك .
الثاني : ثم أناب من ذنبه ، قاله قتادة .
الثالث : ثم برأ من مرضه ، قاله ابن بحر .
قوله عز وجل : { قال ربِّ اغفر لي وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : ليكون ذلك معجزاً له يعلم به الرضا ويستدل به على قبول التوبة .
الثاني : ليقوى به على من عصاه من الجن ، فسخرت له الريح حينئذٍ .
الثالث : لا ينبغي لأحد من بعدي في حياتي أن ينزعه مني كالجسد الذي جلس على كرسيه ، قاله الحسن .

{ إنك أنت الوهاب } أي المعطي ، قال مقاتل : سأل الله تعالى ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده بعد الفتنة فزاده الله تعالى الريح والشياطين بعدما ابتلى ، وقال الكلبي حكم سليمان في الحرث وهو ابن إحدى عشرة سنة ، وملك وهو ابن اثنتي عشرة سنة .
قوله عز وجل : { فسخرنا له الريح } أي ذللناها لطاعته .
{ تجري بأمره } يحتمل وجهين :
أحدهما : تحمل ما يأمرها .
الثاني : تجري إلى حيث يأمرها .
{ رخاء } فيه خمسة تأويلات :
أحدها : طيبة ، قاله مجاهد .
الثاني : سريعة ، قاله قتادة .
الثالث : مطيعة ، قاله الضحاك .
الرابع : لينة ، قاله ابن زيد .
الخامس : ليست بالعاصفة المؤذية ولا بالضعيفة المقصرة ، قاله الحسن .
{ حيث أصاب } فيه وجهان :
أحدهما : حيث أراد ، قاله مجاهد وقال قتادة : هو بلسان هجر . قال الأصمعي : العرب تقول أصاب الصواب فأخطأ الجواب ، أي أراد الصواب .
الثاني : حيث ما قصد مأخوذ من إصابة السهم الغرض المقصود .
قوله عز وجل : { والشياطين كلَّ بناءٍ وغواص } يعني سخرنا له الشياطين كل بناء يعني في البر ، وغواص يعني في البحر على حليّه وجواهره .
{ وآخرين مقرنين في الأصفاد } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : في السلاسل : قاله قتادة .
الثاني : في الأغلال ، قاله السدي .
الثالث : في الوثاق ، قاله ابن عيسى ، قال الشاعر :
فآبُوا بالنهابِ وبالسبايا ... وأبنا بالملوك مُصَفّدينا
قال يحيى بن سلام : ولم يكن يفعل ذلك إلا بكفرهم ، فإذا آمنوا أطلقهم ولم يسخرهم . ووجد على سور مدينة سليمان عليه السلام :
لو أن حيّاً ينال الخُلد في مهل ... لنال ذاك سليمان بن داوِد
سالت له العين عين القطر فائضة ... فيه ومنه عطاءٌ غير موصود
لم يبق من بعدها في الملك مرتقياً ... حتى تضمن رمْساً بعد أخدود
هذا التعْلَم أنّ الملك منقطع ... إلاّ من الله ذي التقوى وذي الجود
قوله عز وجل : { هذا عطاؤنا . . . } في المشار إليه بهذا ثلاثة أقاويل :
أحدها : ما تقدم ذكره من الملك الذي لا ينبغي لأحد من بعده بتسخير الريح والشياطين .
فعلى هذا في قوله { فامنن أو أمسك بغير حساب } وجهان :
أحدهما : امنن على من شئت من الجن بإطلاقه ، أو امسك من شئت منهم في عمله من غير حرج عليك فيما فعلته بهم ، قاله قتادة والسدي .
الثاني : اعط من شئت من الناس وامنع من شئت منهم .
{ بغير حساب } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : بغير تقدير فيما تعطي وتمنع حكاه ابن عيسى .
الثاني : بغير حرج ، قاله مجاهد .
الثالث : بغير حساب تحاسب عليه يوم القيامة ، قاله سعيد بن جبير .
قال الحسن : ما أنعم الله على أحد نعمة إلا عليه فيها تبعة إلا سليمان فإن الله تعالى يقول : { هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب } وحكى ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله { هذا عطاؤنا } الآية . قال سليمان عليه السلام : أوتينا ما أوتي الناس وما لم يؤتوا ، وعلمنا ما علم الناس وما لم يعلموا فلم نر شيئاً هو أفضل من خشية الله في الغيب والشهادة ، والقصد في الغنى والفقر ، وكلمة الحق في الرضا والغضب .

والقول الثاني : أن في الكلام تقديماً وتأخيراً تقديره هذا عطاؤنا بغير حساب فامنن أو أمسك ، فعلى هذا في قوله فامنن أو أمسك وجهان :
أحدهما : بغير جزاء .
الثاني : بغير قلة .
والقول الثالث : إن هذا إشارة إلى مضمر غير مذكور وهو ما حكي أن سليمان كان في ظهره ماء مائة رجل وكان له ثلاثمائة امرأته وسبعمائة سرية فقال الله تعالى { هذا عطاؤنا } يعني الذي أعطيناك من القوة على النكاح { فامنن } بجماع من تشاء من نسائِك { أو أمسك } عن جماع من تشاء من نسائِك . فعلى هذا في قوله بغير حساب وجهان :
أحدهما : بغير مؤاخذة فيمن جامعت أو عزلت .
الثاني : بغير عدد محصور فيمن استبحت أو نكحت . وهذا القول عدول من الظاهر إلى ادعاء مضمر بغير دليل لكن قيل فذكرته .
وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42) وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44)

قوله عز وجل : { واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصبٍ وعذابٍ } قيل هو أيوب بن حوص بن روعويل وكان في زمن يعقوب بن إسحاق ، وتزوج بنته إليا بنت يعقوب وكانت أمّه بنت لوط عليه السلام ، وكان أبوه حوص ممن آمن بإبراهيم عليه السلام .
وفي قوله { مسني الشيطان } وجهان :
أحدهما : أن مس الشيطان وسوسته وتذكيره بما كان فيه من نعمة وما صار إليه من محنة ، حكاه ابن عيسى .
الثاني : الشيطان استأذن الله تعالى أن يسلطه على ماله فسلطه ، ثم أهله وداره فسلطه ، ثم جسده فسلطه ، ثم على قلبه فلم يسلطه ، قال ابن عباس فهو قوله : { مسني الشيطان } الآية .
{ بنصب وعذاب } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : يعني بالنصب الألم وبالعذاب السقم ، قاله مبشر بن عبيد .
الثاني : النصب في جسده ، والعذاب في ماله ، قاله السدي .
الثالث : أن النصب العناء ، والعذاب البلاء .
قوله عز وجل : { اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشرابٌ } قال قتادة هما عينان بأرض الشام في أرض يقال لها الجابية . وفيهما قولان :
أحدهما : أنه اغتسل من إحداهما فأذهب الله تعالى ظاهر دائه وشرب من الأخرى فأذهب الله باطن دائه ، قاله الحسن .
الثاني : أنه اغتسل من إحداهما فبرىء ، وشرب من الأخرى فروي ، قاله قتادة .
وفي المغتسل وجهان :
أحدهما : أنه كان الموضع الذي يغتسل منه ، قاله مقاتل .
الثاني : أنه الماء الذي يغتسل به ، قاله ابن قتيبة .
وفي مدة مرضه قولان :
أحدهما : سبع سنين وسبعة أشهر ، قاله ابن عباس .
الثاني : ثماني عشرة سنة رواه أنس مرفوعاً .
قوله عز وجل : { ووهبنا له أهله ومثلهم معهم } وفيما أصابهم ثلاثة أقويل :
أحدها : أنهم كانوا مرضى فشفاهم الله .
الثاني : أنهم غابوا عنه فردهم الله عليه ، وهذا القولان حكاهما ابن بحر .
الثالث : وهو ما عليه الجمهور أنهم كانوا قد ماتوا .
فعلى هذا في هبتهم له ومثلهم معهم خمسة أقاويل :
أحدها : أن الله تعالى رد عليه أهله وولده ومواشيه بأعيانهم ، لأنه تعالى أماتهم قبل آجالهم ابتلاء ووهب له من أولادهم مثلهم ، قاله الحسن .
الثاني : أن الله سبحانه ردهم عليه بأعيانهم ووهب له مثلهم من غيرهم قاله ابن عباس .
الثالث : أنه رد عليه ثوابهم في الجنة ووهب له مثلهم في الدنيا ، قاله السدي .
الرابع : أنه رد عليه أهله في الجنة ، وأصاب امرأته فجاءته بمثلهم في الدنيا .
الخامس : أنه لم يرد عليه منهم بعد موتهم أحداً وكانوا ثلاثة عشرا ابناً فوهب الله تعالى له من زوجته التي هي أم من مات مثلهم فولدت ستة وعشرين ابناً ، قاله الضحاك .
{ رحمة منا } أي نعمة منا .
{ وذكرَى لأولي الألباب } أي عبرة لذوي العقول .
قوله عز وجل : { وخُذْ بيدك ضِغْثاً فاضرب له ولا تحنثْ } كان أيوب قد حلف في مرضه على زوجته أن يضربها مائة جلدة .

وفي سبب ذلك ثلاثة أقاويل :
أحدها : ما قاله ابن عباس أن إبليس لقيها في صورة طبيب فدعته لمداواة أيوب ، فقال أداويه على أنه إذا برىء قال أنت شفيتني لا أريد جزاء سواه قالت نعم ، فأشارت على أيوب بذلك فحلف ليضربنها .
الثاني : ما حكاه سعيد بن المسيب أنها جاءته بزيادة على ما كانت تأتيه به من الخبز فخاف خيانتها فحلف ليضربنها .
الثالث : ما حكاه يحيى بن سلام أن الشيطان أغواها على أن تحمل أيوب على أن يذبح سخلة ليبرأ بها فحلف ليجلدنها فلما برىء أيوب وعلم الله تعالى بإيمان امرأته أمره رفقاً بها وبراً له يأخذ بيده ضغثاً .
وفيه سبعة أقاويل :
أحدها : أنه أشكال النخل الجامع لشماريخه ، قاله ابن عباس .
الثاني : الأثل ، حكاه مجاهد وقاله مجاهد .
الثالث : السنبل ، حكاه يحيى بن سلام .
الرابع : الثمام اليابس ، قاله سعيد بن المسيب .
الخامس : الشجر الرطب ، قاله الأخفش .
السادس : الحزمة من الحشيش ، قاله قطرب وأنشد قول الكميت :
تحيد شِماساً إذا ما العسيفُ ... بضِغثِ الخلاء إليها أشارا
السابع : أنه ملء الكف من القش أو الحشيش أو الشماريخ ، قاله أبوعبيدة .
{ فاضرب } فاضرب بعدد ما حلفت عليه وهو أن يجمع مائة من عدد الضغث فيضربها به في دفعة يعلم فيها وصول جميعها إلى بدنها فيقوم ذلك فيها مقام مائة جلدة مفردة .
{ ولا تحنث } يعني في اليمين وفيه قولان :
أحدهما : أن ذلك لأيوب خاصة ، قاله مجاهد .
الثاني : عام في أيوب وغيره من هذه الأمة ، قاله قتادة . والذي نقوله في ذلك مذهباً : إن كان هذا في حد الله تعالى جاز في المعذور بمرض أو زمانة ولم يجز في غيره ، وإن كان في يمين جاز في المعذور وغيره إذا اقترن به ألم المضروب ، فإن تجرد عن ألم ففي بره وجهان :
أحدهما : يبر لوجود العدد المحلوف عليه .
الثاني : لا يبر لعدم المقصود من الألم .
{ إنا وجدناه صابراً } يحتمل وجهين :
أحدهما : على الطاعة .
الثاني : على البلاء .
{ نِعم العبد } يعني نعم العبد في صبره .
{ إنه أوّاب } إلى ربه .
وفي بلائه قولان :
أحدهما : أنه بلوى اختبار ودرجة ثواب من غير ذنب عوقب عليه .
الثاني : أنه بذنب عوقب عليه بهذه البلوى وفيه قولان :
أحدهما : أنه دخل على بعض الجبابرة فرأى منكراً فسكت عنه .
الثاني : أنه ذبح شاة فأكلها وجاره جائع لم يطعمه .
وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (47) وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ (48)

قوله عز وجل : { واذكُرْ عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار } فيه خمسة أوجه :
أحدها : أن الأيدي القوة على العبادة ، والأبصار الفقه في الدين ، قاله ابن عباس .
الثاني : أن الأيدي القوة في أمر الله ، والأبصار العلم بكتاب الله ، قاله قتادة .
الثالث : أن الأيدي النعمة رواه الضحاك ، والأبصار العقول ، قاله مجاهد .
الرابع : الأيدي القوة في أبدانهم ، والأبصار القوة في أديانهم ، قاله عطية .
الخامس : أن الأيدي العمل والأبصار العلم ، قاله ابن بحر .
قال مقاتل : ذكر الله إبراهيم واسحاق ويعقوب ولم يذكر معهم إسماعيل لأن إبراهيم صبر على إلقائه في النار ، وصبر إسحاق على الذبح ، وصبر يعقوب على ذهاب بصره ولم يبتل إسماعيل ببلوى .
قوله عز وجل : { إنا أخلصناهم بخالصةٍ ذكرى الدار } فيه خمسة أوجه :
أحدها : نزع الله ما في قلوبهم من الدنيا وذكرها ، وأخلصهم بحب الآخرة وذكرها ، قاله مالك بن دينار .
الثاني : اصطفيناهم لأفضل ما في الآخرة وأعطيناهم ، قاله ابن زياد .
الثالث : أخلصناهم بخالصة الكتب المنزلة التي فيها ذكرى الدار الآخرة ، وهذا قول مأثور .
الرابع : أخلصناهم بالنبوة وذكرى الدار الآخرة ، قاله مقاتل .
الخامس : أخلصناهم من العاهات والآفات وجعلناهم ذاكرين الدار الآخرة ، حكاه النقاش .
هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ (51) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ (52) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ (53) إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (54)

قوله عز وجل : { وعندهم قاصرات الطرف أتراب } يعني قاصرات الطرف على أزواجهم .
{ أتراب } فيه خمسة تأويلات :
أحدها : أقران ، قاله عطية .
الثاني : أمثال ، قاله مجاهد .
الثالث : متآخيات لا يتباغضن ولا يتغايرن ، حكاه عبد الرحمن بن أبي حاتم .
الرابع : مستويات الأسنان بنات ثلاث وثلاثين قاله يحيى بن سلام .
الخامس : أتراب أزواجهن بأن خلقهن على مقاديرهم ، وقال ابن عيسى : الترب اللدة وهو مأخوذ من اللعب بالتراب .
هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ (56) هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58) هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ (59) قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ (60) قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ (61) وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ (62) أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ (63) إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64)

قوله عز وجل : { هذا فليذوقوه حميمٌ وغساق } أي منه حميم ومنه غساق والحميم الحار ، وفي الغساق ستة أوجه :
أحدها : أنه البارد الزمهرير ، قاله ابن عباس فكأنهم عذبوا بحارّ التراب وبارده .
الثاني : أنه القيح الذي يسيل من جلودهم ، قاله عطية .
الثالث : أنه دموعهم التي تسيل من أعينهم ، قاله قتادة .
الرابع : أنها عين في جهنم تسيل إليها حِمة كل ذي حِمة من حية أو عقرب ، قاله كعب الأحبار .
الخامس : أنه المنتن ، رواه أبو سعيد الخدري مرفوعاً .
السادس : أنه السواد والظلمة وهو ضد ما يراد من صفاء الشراب ورقته ، قاله ابن بحر .
وفي هذا الاسم وجهان :
أحدهما : حكاه النقاش أنه بلغة الترك .
الثاني : حكاه ابن بحر وابن عيسى أنه عربي مشتق واختلف في اشتقاقه على وجهين :
أحدهما : من الغسق وهو الظمة ، قاله ابن بحر .
الثاني : من غسقت القرحة تغسق غسقاً . إذا جرت ، وأنشد قطرب قول الشاعر :
فالعين مطروقة لبينهم ... تغسق في غربة سرها
وإليه ذهب ابن عيسى .
وفي { غساق } قراءتان بالتخفيف والتشديد وفيها وجهان :
أحدهما : أنهما لغتان معناهما واحد ، قاله الأخفش .
الثاني : معناهما مختلف والمراد بالتخفيف الاسم وبالتشديد الفعل وقيل إن في الكلام تقديماً وتأخيراً ، وتقديره : هذا حميم وهذا غساق فليذوقوه .
قوله عز وجل : { وآخر مِنْ شكله أزواج } فيه ثلاثة أوجه :
أحدهما : وآخر من شكل العذاب أنواع ، قاله السدي .
الثاني : وآخر من شكل عذاب الدنيا أنواع في الآخرة لم تر في الدنيا ، قاله الحسن .
الثالث : أنه الزمهرير ، قاله بن مسعود .
وفي الأزواج هنا ثلاثة أوجه :
أحدها : أنواع .
الثاني : ألوان .
الثالث : مجموعة .
قوله عز وجل : { هذا فوج مقتحم معكم . . . } فوج بعد فوج أي قوم بعد قوم ، مقتحمون النار أي يدخلونها . وفي الفوج قولان :
أحدهما : أنهم بنو إبليس .
والثاني : بنو آدم ، قاله الحسن .
والقول الثاني : أن كلا الفوجين بنو آدم إلى أن الأول الرؤساء والثاني الأتباع . وحكىلنقاش أن الفوج الأول قادة المشركين ومطعموهم يوم بدر ، والفوج الثاني أتباعهم ببدر .
وفي القائل { هذا فوجٌ مقتحم معكم } قولان :
أحدهما : الملائكة قالوا لبني إبليس لما تقدموا في النار هذا فوج مقتحم معكم إشارة لبني آدم حين دخلوها . قال بنو إبليس { لا مرحَباً بهم إنهم صالوا النار قالوا } أي بنو آدم : { بل أنتم لا مرحباً بكم أنتم قدمتموه لنا فبئس القرار } .
والقول الثاني : أن الله قال للفوج الأول حين أمر بدخول الفوج الثاني : { هذا فوج مقتحم معكم } فأجابوه { لا مرحباً بهم إنهم صالوا النار } فأجابهم الفوج الثاني { بل أنتم مرحباً بكم أنتم قدمتموه لنا } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : معناه أنتم شرعتموه لنا وجعلتم لنا إليه قدماً ، قاله الكلبي .
الثاني : قدمتم لنا هذا العذاب بما أضللتمونا عن الهدى { فبئس القرار } أي بئس الدار النار ، قاله الضحاك .
الثالث : أنتم قدمتم لنا الكفر الذي استوجبنا به هذا العذاب في النار ، حكاه ابن زياد .

{ قالوا ربنا من قدم لنا هذا } الآية . يحتمل وجهين :
أحدهما : أنه قاله الفوج الأول جواباً للفوج الثاني .
الثاني : قاله الفوج تبعاً لكلامهم الأول تحقيقاً لقولهم عند التكذيب .
وفي تأويل { من قدم لنا هذا } وجهان :
أحدهما : من سنه وشرعه ، قاله الكلبي .
الثاني : من زينه ، قاله مقاتل . والمرحب والرحب : السعة ومنه سميت الرحبة لسعتها ومعناه لا اتسعت لكم أماكنكم؛ وأنشد الأخفش قول أبي الأسود .
اذا جئت بوّاباً له قال مرحباً ... ألا مَرْحباً واديك غير مضيق
قوله عز وجل : { وقالوا ما لنا لا نرى رجالاً . . . } الآية . قال مجاهد هذا يقوله أبو جهل وأشياعه في النار : ما لنا لا نرى رجلاً كنا نعدهم في الدنيا من الأشرار لا نرى عماراً وخباباً وصهيباً وبلالاً .
{ أتخذناهم سخرياً } قال مجاهد اتخذناهم سخرياً في الدنيا فأخطأنا .
{ أم زاغت عنهم الأبصار } فلم نعلم مكانهم . قال الحسن : كل ذلك قد فعلوا اتخذوهم سخريا وزاغت عنهم أبصارهم محقرة لهم . وقال أبو عبيدة من كسر { سخرياً } جعله من الهزء ، ومن ضمه جعله من التسخير { أم زاغت عنهم الأبصار } يعني أهم معنا في النار أم زاغت أبصارنا فلا نراهم وإن كانوا معنا .
قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (65) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69) إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70)

قوله عز وجل : { قُلْ هو نبأ عظيم } فيه قولان :
أحدهما : أنه القيامة لأن الله تعالى قد أنبأنا بها في كتبه .
والقول الثاني : هو القرآن ، قاله مجاهد والضحاك والسدي .
{ أنتم عنه معرضون } قال الضحاك أنتم به مكذبون . قال السدي : يريد به المشركين .
وفي تسميته نبأ وجهان :
أحدهما : لأن الله أنبأ به فعرفناه .
الثاني : لأن فيه أنباء الأولين .
وفي وصفه بأنه عظيم وجهان :
أحدهما : لعظم قدره وكثرة منفعته .
الثاني : لعظيم ما تضمنه من الزواجر والأوامر .
قوله عز وجل : { ما كان لي من عِلم بالملإِ الأعلى } قال ابن عباس يعني الملائكة .
{ إذ يختصمون } فيه وجهان :
أحدهما : في قوله تعالى للملائكة : { إني جاعلٌ في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها } الآية . فهذه الخصومة ، قاله ابن عباس .
الثاني : ما رواه أبو الأشهب عن الحسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « سألني ربي فقال يا محمد فيم اختصم الملأ الأعلى؟ قلت في الكفارات والدرجات ، قال وما الكفارات؟ قلت المشي على الأقدام إلى الجماعات ، وإسباغ الوضوء في السبرات ، والتعقيب في المساجد انتظار الصلوات بعد الصلوات . قال وما الدرجات؟ قلت إفشاء السلام وإطعام الطعام والصلاة بليل والناس نيام
» .
إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)

قوله عز وجل : { قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خَلَقْتُ بيديَّ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : بقوتي ، قاله علي بن عاصم .
الثاني : بقدرتي ، ومنه قول الشاعر :
تحملت من عفراء ، ما ليس لي به ... ولا للجبال الراسيات يدان
الثالث : لما توليت خلقه بنفسي ، قاله ابن عيسى .
{ أستكبرت } أي عن الطاعة أم تعاليت عن السجود؟
قوله عز وجل : { قال فالحق والحق أقول } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنا الحق ، وأقول الحق ، قاله مجاهد .
الثاني : الحق مني والحق قولي ، رواه الحكم .
الثالث : معناه حقاً لأملأن جهنم منك ومن تبعك منهم أجمعين ، قاله الحسن .
قوله عز وجل : { قل ما أسألكم عليه من أجْر } فيه وجهان :
أحدهما : قل يا محمد للمشركين ما أسألكم على ما أدعوكم إليه من طاعة الله أجراً قاله ابن عباس .
الثاني : ما أسألكم على ما جئتكم به من القرآن أجراً ، قاله عطاء .
{ وما أنا من المتكلفين } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : وما أنا من المتكلفين لهذا القرآن من تلقاء نفسي .
الثاني : وما أنا من المتكلفين لأن آمركم بما لم أؤمر به .
الثالث : وما أنا بالذي أكلفكم الأجر وهو معنى قول مقاتل .
قوله عز وجل : { ولتعلَمُنَّ نبأه بَعْد حين } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : نبأ القرآن أنه حق .
الثاني : نبأ محمد صلى الله عليه وسلم أنه رسول .
الثالث : نبأ الوعيد أنه صدق .
{ بعد حين } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : بعد الموت ، قاله قتادة . وقال الحسن : يا ابن آدم عند الموت يأتيك الخبر اليقين .
الثاني : يوم بدر ، قاله السدي .
الثالث : يوم القيامة ، قاله ابن زيد وعكرمة ، والله أعلم .
تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3) لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (4)

قوله عز وجل : { تنزيل الكتاب } والكتاب هو القرآن سمي بذلك لأنه مكتوب .
{ من الله العزيز الحكيم } فيه وجهان :
أحدهما : العزيز في ملكه الحكيم في أمره .
الثاني : العزيز في نقمته الحكيم في عدله . قوله عز وجل : { فاعبد الله مخلصاً له الدين } فيه وجهان :
أحدهما : أنه الإخلاص بالتوحيد ، قاله السدي .
الثاني : إخلاص النية لوجهه ، وفي قوله { له الدين } وجهان :
أحدهما : له الطاعة ، قاله ابن بحر .
الثاني : العبادة .
{ ألا لله الدين الخالص } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : شهادة أن لا إله إلا الله ، قاله قتادة .
الثاني : الإسلام ، قاله الحسن .
الثالث : ما لا رياء فيه من الطاعات .
{ والذين اتخذوا من دونه أولياء } يعني آلهة يعبدونها .
{ ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى } قال كفار قريش هذه لأوثانهم وقال من قبلهم ذلك لمن عبدوه من الملائكة وعزير وعيسى ، أي عبادتنا لهم ليقربونا إلى الله زلفى ، وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن الزلفى الشفاعة في هذا الموضع ، قاله قتادة .
الثاني : أنها المنزلة ، قاله السدي .
الثالث : أنها القرب ، قاله ابن زيد .
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6)

قوله عز وجل : { يكوِّر الليل على النهار ويكور النهار على الليل } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : يحمل الليل على النهار ، ويحمل النهار على الليل ، قاله ابن عباس .
الثاني : يغشى الليل على النهار فيذهب ضوءَه ، ويغشى النهارعلى الليل فيذهب ظلمته ، قاله قتادة .
الثالث : هو نقصان أحدهما عن الآخر ، فيعود نقصان الليل في زيادة النهار ونقصان النهار في زيادة الليل ، قاله الضحاك .
ويحتمل رابعاً : يجمع الليل حتى ينتشر النهار ، ويجمع النهار حتى ينتشر الليل .
قوله عز وجل : { خلقكم من نفسٍ واحدة } يعني من آدم .
{ ثم جعل منها زوجها } يعني حواء . فيه وجهان :
أحدهما : أنه خلقها من ضلع الخَلْف من آدم وهو أسفل الأضلاع ، قاله الضحاك .
الثاني : أنه خلقها من مثل ما خلق منه آدم ، فيكون معنى قوله { جعل منها } أي من مثلها ، قاله ابن بحر .
{ وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج } قال قتادة : من الإبل اثنين ، ومن البقر اثنين ، ومن الضأن اثنين ، ومن المعز اثنين ، كل واحد زوج .
وفي قوله { أنزل } وجهان :
أحدهما : يعني جعل ، قاله الحسن .
الثاني : أنزلها بعد أن خلقها في الجنة ، حكاه ابن عيسى .
{ يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقاً من بعد خلق } فيه وجهان :
أحدهما : نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظاماً ثم لحماً ، قاله قتادة والسدي .
الثاني : خلقاً في بطون أمهاتكم من بعد خلقكم في ظهرآدم ، قاله السدي .
ويحتمل ثالثاً : خلقاً في ظهر الأب ثم خلقاً في بطن الأم ثم خلقاً بعد الوضع .
{ في ظلمات ثلاث } فيه وجهان :
أحدهما : ظلمة البطن وظلمة الرحم وظلمة المشيمة ، قاله ابن عباس وعكرمة ومجاهد وقتادة .
الثاني : ظلمة صلب الرجل وظلمة بطن المرأة وظلمة الرحم ، حكاه ابن عيسى .
ويحتمل ثالثاً : أنها ظلمة عتمة الليل التي تحيط بظلمة المشيمة مظلمة الأحشاء وظلمة البطن .
إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7) وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (8)

قوله عز وجل : { وإذا مس الإنسان ضُرٌّ دعا ربَّهُ منيباً إليه } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : مخلصاً إليه ، قاله الضحاك .
الثاني : مستغيثاً به ، قاله السدي .
الثالث : مقبلاً عليه ، قاله الكلبي وقطرب .
{ ثم إذا خوّله منه نسي ما كان يدعو إليه من قبل } فيه وجهان :
أحدهما : إذا أصابته نعمة ترك الدعاء ، قاله الكلبي .
الثاني : إذا أصابته نعمة ترك الدعاء ، قاله الكلبي .
الثاني : إذا أصابته عافية نَسي الضر . والتخويل العطية العظيمة من هبة أو منحة ، قال أبو النجم :
أعطى فلم يبخل ولم يبخلِ ... كوم الذّرى من خول المخوِّلِ
أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9)

قوله عز وجل : { أمَّن هو قانتٌ } في الألف التي في { أمّن } وجهان :
أحدهما : أنها ألف استفهام .
الثاني : ألف نداء .
وفي قانت أربعة أوجه :
أحدها : أنه المطيع ، قاله ابن مسعود .
الثاني : أنه الخاشع في صلاته ، قاله ابن شهاب .
الثالث : القائم في صلاته ، قاله يحيى بن سلام .
الرابع : أنه الداعي لربه .
{ آناء الليل } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : طرف الليل ، قاله ابن عباس .
الثاني : ساعات الليل ، قاله الحسن .
الثالث : ما بين المغرب والعشاء ، قاله منصور .
{ ساجداً وقائماً يحذر الآخرة ويرجوا رحمة ربه } قال السدي : يحذر عذاب الآخرة ويرجوا نعيم الجنة .
وفيمن أريد به هذا الكلام خمسة أقاويل :
أحدها : أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حكاه يحيى بن سلام .
الثاني : أبو بكر ، قاله ابن عباس في رواية الضحاك عنه .
الثالث : عثمان بن عفان ، قاله ابن عمر .
الرابع : عمار بن ياسر وصهيب وأبو ذر وابن مسعود ، قاله الكلبي .
الخامس : أنه مرسل فيمن كان على هذه الحال قانتاً آناء الليل .
فمن زعم أن الألف الأولى استفهام أضمر في الكلام جواباً محذوفاً تقديره : أمن هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً كمن جعل لله أنداداً؟ قاله يحيى . وقال ابن عيسى : المحذوف من الجواب : كمن ليس كذلك .
ومن زعم أن الألف للنداء لم يضمر جواباً محذوفاً ، وجعل تقدير الكلام : أمن هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه .
{ قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : هل يستوي الذين يعلمون هذا فيعملون به والذين لا يعلمون هذا فلا يعملون به ، قاله قتادة .
الثاني : أن الذين يعلمون هم المؤمنون يعلمون أنهم لاقو ربهم ، والذين لا يعلمون هم المشركون الذين جعلوا لله أنداداً قاله يحيى .
الثالث : ما قاله أبو جعفر محمد بن علي قال : الذين يعلمون نحن ، والذين لا يعلمون عدونا .
ويحتمل رابعاً : أن الذين يعلمون هم الموقنون ، والذين لا يعلمون هم المرتابون .
قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10) قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12)

قوله عز وجل : { للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنةٌ } فيه وجهان :
أحدهما : معناه ، للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة في الآخرة ، وهي الجنة .
الثاني : للذين أحسنوا في الدنيا حسنة في الدنيا فيكون ذلك زائداً على ثواب الآخرة .
وفيما أريد بالحسنة التي لهم في الدنيا أربعة أوجه :
أحدها : العافية والصحة ، قاله السدي .
الثاني : ما رزقهم الله من خير الدنيا ، قاله يحيى بن سلام .
الثالث : ما أعطاهم من طاعته في الدنيا وجنته في الآخرة ، قاله الحسن .
الرابع : الظفر والغنائم ، حكاه النقاش .
ويحتمل خامساً : إن الحسنة في الدنيا الثناء وفي الآخرة الجزاء .
{ وأرض الله واسعة } فيها قولان :
أحدهما : أرض الجنة رغبهم في سعتها ، حكاه ابن عيسى .
الثاني : هي أرض الهجرة ، قاله عطاء .
ويحتمل ثالثاً : أن يريد بسعة الأرض سعة الرزق لأنه يرزقهم من الأرض فيكون معناه . ورزق الله واسع ، وهو أشبه لأنه أخرج سعتها مخرج الامتنان بها .
{ إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب } فيه أربعة أوجه :
أحدها : يعني بغير مَنٍّ عليهم ولا متابعة ، قاله السدي .
الثاني : لا يحسب لهم ثواب عملهم فقط ولكن يزدادون على ذلك ، قاله ابن جريج .
الثالث : لا يعطونه مقدراً لكن جزافاً .
الرابع : واسعاً بغير تضييق قال الراجز :
يا هند سقاك بلا حسابه ... سقيا مليك حسن الربابة
وحكي عن علي كرم الله وجهه قال : كل أجر يكال كيلاً ويوزن وزناً إلا أجر الصابرين فإنه يحثى حثواً .
قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ (16)

قوله عز وجل : { قل إن الخاسرين الَّذِينَ خَسِروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : خسروا أنفسهم بإهلاكها في النار ، وخسروا أهليهم بأن لا يجدوا في النار أهلاً ، وقد كان لهم في الدنيا أهل ، قاله مجاهد وابن زيد .
الثاني : خسروا أنفسهم بما حرموها من الجنة وأهليهم من الحور العين الذين أعدوا [ لهم ] في الجنة ، قاله الحسن وقتادة .
الثالث : خسروا أنفسهم وأهليهم بأن صاروا هم بالكفر إلى النار ، وصار أهلوهم بالإيمان إلى الجنة وهو محتمل .
وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ (20)

قوله عز وجل : { والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها } فيه قولان :
أحدهما : أن الطاغوت الشيطان ، قاله مجاهد وابن زيد .
الثاني : الأوثان ، قاله الضحاك والسدي .
وفيه وجهان :
أحدهما : أنه اسم أعجمي مثل هاروت وماروت .
الثاني : عربي مشتق من الطغيان .
{ وأنابوا إلى الله } فيه وجهان :
أحدهما : أقبلوا الى الله ، قاله قتادة .
الثاني : استقاموا إلى الله ، قاله الضحاك .
ويحتمل ثالثاً : وأنابوا الى الله من ذنوبهم .
{ لهم البشرى } فيه وجهان :
أحدهما : أنها الجنة ، قاله مقاتل ويحيى بن سلام .
الثاني : بشرى الملائكة للمؤمنين ، قاله الكلبي .
ويحتمل ثالثاً : أنها البشرى عند المعاينة بما يشاهده من ثواب عمله .
قوله عز وجل : { فبشر عبادِ الذين يستمعون القول } فيه قولان :
أحدهما : أن القول كتاب الله ، قاله مقاتل ويحيى بن سلام .
الثاني : أنهم لم يأتهم كتاب من الله ولكن يستمعون أقاويل الأمم ، قاله ابن زيد .
{ فيتبعون أحسنَه } فيه خمسة أوجه :
أحدها : طاعة الله ، قاله قتادة .
الثاني : لا إله إلا الله ، قاله ابن زيد .
الثالث : أحسن ما أمروا به ، قاله السدي .
الرابع : أنهم إذا سمعوا قول المسلمين وقول المشركين اتبعوا أحسنه وهو الإسلام ، حكاه النقاش .
الخامس : هو الرجل يسمع الحديث من الرجل فيحدث بأحسن ما يسمع منه ، ويمسك عن أسوإه فلا يتحدث به ، قاله ابن عباس .
ويحتمل سادساً : أنهم يستمعون عزماً وترخيصاً فيأخذون بالعزم دون الرخص .
{ أولئك الذين هداهم الله } الآية . قال عبد الرحمن بن زيد : نزلت في زيد بن عمرو بن نفيل وأبي ذر الغفاري وسلمان الفارسي اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها في جاهليتهم ، واتبعوا أحسن ما صار من العقول إليهم .
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (21) أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22)

قوله عز وجل : { أفمن شرح الله صدره للإسلام } فيه وجهان :
أحدهما : وسع صدره للإسلام حتى يثبت فيه ، قاله ابن عباس والسدي .
الثاني : وسع صدره بالإسلام بالفرح به والطمأنينة إليه ، فعلى هذا لا يجوز أن يكون الشرح قبل الإسلام ، وعلى الوجه الأول يجوز أن يكون الشرح قبل الإسلام .
{ فهو على نور من ربه } فيه وجهان :
أحدهما : على هدى من ربه ، قاله السدي .
الثاني : أنه كتاب الله الذي به يأخذ وإليه ينتهي ، قاله قتادة .
وروى عمرو بن مرّة عن عبد الله بن سدر قال : تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية ، فقالوا : يا رسول الله ما هذا الشرح؟ فقال : « نور يقذف به في القلب » قالوا : يا رسول الله هل لذلك من أمارة؟ قال : « نعم » قالوا : ما هي؟ قال : « الإنابة إلى دار الخلود ، والتجافي عن دار الغرور ، والاستعداد للموت قبل الموت .
» وفي من نزلت فيه هذه الآية ثلاثة أقاويل :
أحدها : في رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قاله الكلبي .
الثاني : في عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، حكاه النقاش .
الثالث : في عمار بن ياسر ، قاله مقاتل .
{ فويل للقاسية قلوبُهم من ذِكر الله } قيل أنه عنى أبا جهل وأتباعهُ من كفار قريش ، وفي الكلام مضمر محذوف تقديره ، فهو على نور من ربه كمن طبع الله على قلبه فويل للقاسية قلوبهم .
اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23)

قوله عز وجل : { الله نزّل أحسن الحديث } يعني القرآن ، ويحتمل تسميته حديثاً وجهين :
أحدهما : لأنه كلام الله ، والكلام يسمى حديثاً كما سمي كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً .
الثاني : لأنه حديث التنزيل بعدما تقدمه من الكتب المنزلة على من تقدم من الأنبياء .
ويحتمل وصفه بأحسن الحديث وجهين :
أحدهما : لفصاحته وإعجازه .
الثاني : لأنه أكمل الكتب وأكثرها إحكاماً .
{ كِتاباً متشابها } فيه قولان :
أحدهما : يشبه بعضه بعضاً من الآي والحروف ، قاله قتادة .
الثاني : يشبه بعضه بعضاً في نوره وصدقه وعدله ، قاله يحيى بن سلام .
ويحتمل ثالثاً : يشبه كتب الله المنزلة على أنبيائه لما يتضمنه من أمر ونهي وترغيب وترهيب ، وإن كان أعم وأعجز . ثم وصفه فقال :
{ مثاني } وفيه سبعة تأويلات :
أحدها : ثنى الله فيه القضاء ، قاله الحسن وعكرمة .
الثاني : ثنى الله فيه قصص الأنبياء ، قاله ابن زيد .
الثالث : ثنى الله فيه ذكر الجنة والنار ، قاله سفيان .
الرابع : لأن الآية تثنى بعد الآية ، والسورة بعد السورة ، قاله الكلبي .
الخامس : يثنى في التلاوة فلا يمل لحسن مسموعه ، قاله ابن عيسى .
السادس : معناه يفسر بعضه بعضاً ، قاله ابن عباس .
السابع : أن المثاني اسم لأواخر الآي ، فالقرآن اسم لجميعه ، والسورة اسم لكل قطعة منه ، والآية اسم لكل فصل من السورة ، والمثاني اسم لآخر كل آية منه ، قاله ابن بحر .
{ تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم الى ذكر الله } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها تقشعر من وعيده وتلين من وعده ، قال السدي .
الثاني : أنها تقشعر من الخوف وتلين من الرجاء ، قاله ابن عيسى .
الثالث : تقشعر الجلود لإعظامه ، وتلين عند تلاوته .
أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (26)

{ أفمن يتقي بوجهه سوءَ العذَاب يومَ القيامة } فيه وجهان :
أحدهما : أن الكافر يسحب على وجهه إلى النار يوم القيامة .
الثاني : لأن النار تبدأ بوجهه إذا دخلها .
قوله عز وجل : { فأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون } فيه وجهان :
أحدهما : من مأمنهم ، قاله السدي .
الثاني : فجأة ، قاله يحيى .
وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31)

قوله عز وجل : { قرآناً عربياً غير ذي عوج } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : غير ذي لبس ، قاله مجاهد .
الثاني : غير مختلف ، قاله الضحاك .
الثالث : غير ذي شك ، قاله السدي .
قوله عز وجل : { ضرب الله مثلاً رجلاً } يعني الكافر .
{ فيه شركاء } أي يعبد أوثاناً شتى .
{ متشاكسون } فيه أربعة أوجه :
أحدها : متنازعون ، قاله قتادة .
الثاني : مختلفون ، قاله ابن زياد .
الثالث : متعاسرون .
الرابع : متظالمون مأخوذ من قولهم : شكسني مالي أي ظلمني .
{ ورَجُلاً سَلَماً لرجُلٍ } يعني المؤمن سلماً لرجل أي مخلصاً لرجل ، يعني أنه بإيمانه يعبد إلهاً واحداً .
{ هل يستويان مثلاً } أي هل يستوي حال العابد لله وحده وحال من يعبد آلهة غيره؟ فضرب لهما مثلاً بالعبدين اللذين يكون أحدهما لشركاء متشاكسين ، لا يقدر أن يوفي كل واحد منهم حق خدمته ، ويكون الآخر لسيد واحد يقدر أن يوفيه حق خدمته .
{ الحمد لله } يحتمل وجهين :
أحدهما : على احتجاجه بالمثل الذي خَصم به المشركين .
الثاني : على هدايته التي أعان بها المؤمنين .
{ بل أكثرهم لا يعلمون } يحتمل وجهين :
أحدهما : لا يعلمون المثل المضروب .
الثاني : لا يعلمون بأن الله هو الإله المعبود .
قوله عز وجل : { إنك ميت وإنهم ميتون } هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أخبر بموته وموتهم ، فاحتمل خسمة أوجه : أحدها : أن يذكر ذلك تحذيراً من الآخرة .
الثاني : أن يذكره حثاً على العمل .
الثالث : أن يذكره توطئة للموت .
الرابع : لئلا يختلفوا في موته كما اختلفت الأمم في غيره حتى إن عمر لما أنكر موته احتج أبو بكر بهذه الآية فأمسك .
الخامس : ليعلمه أن الله تعالى قد سوى فيه بين خلقه مع تفاضلهم في غيره لتكثر فيه السلوى وتقل الحسرة . ومعنى إنك ميت أي ستموت ، يقال ميت بالتشديد للذي سيموت ، وميت بالتخفيف لمن قد مات .
قوله عز وجل : { ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون } فيه أربعة أوجه :
أحدها : في الدماء ، قاله عكرمة .
الثاني : في المداينة ، قاله الربيع بن أنس .
الثالث : في الإيمان والكفر ، قاله ابن زيد ، فمخاصمة المؤمنين تقريع ، ومخاصمة الكافرين ندم .
الرابع : ما قاله ابن عباس يخاصم الصادق الكاذب ، والمظلوم الظالم ، والمهتدي الضال ، والضعيف المستكبر . قال إبراهيم النخعي : لما نزلت هذه الآية جعل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقولون ما خصومتنا بيننا .
ويحتمل خامساً : أن تخاصمهم هو تحاكمهم إلى الله تعالى فيما تغالبوا عليه في الدنيا من حقوقهم خاصة دون حقوق الله ليستوفيها من حسنات من وجبت عليه في حسنات من وجبت له .
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (32) وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35)

قوله عز وجل : { والذي جاء بالصدق } الآية . وفي الذي جاء بالصدق أربعة أقاويل :
أحدها : أنه جبريل ، قاله السدي .
الثاني : محمد صلى الله عليه وسلم ، قاله قتادة ومجاهد .
الثالث : أنهم المؤمنون جاءوا بالصدق يوم القيامة ، حكاه النقاش .
الرابع : أنهم الأنبياء ، قاله الربيع وكان يقرأ : والذين جاءوا بالصدق وصدقوا به .
وفي ( الصدق ) قولان :
أحدهما : أنه لا إله إلا الله ، قاله ابن عباس .
الثاني : القرآن ، قاله مجاهد وقتادة .
ويحتمل ثالثاً : أنه البعث والجزاء .
وفي الذي صدق به خمسة أقاويل :
أحدها : أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قاله ابن عباس .
الثاني : المؤمنون من هذه الأمة ، قاله الضحاك .
الثالث : أتباع الأنبياء كلهم ، قاله الربيع .
الرابع : أنه أبو بكر ، رضي الله عنه حكاه الطبري عن علي رضي الله عنه ، وذكره النقاش عن عون بن عبد الله .
الخامس : أنه علي كرم الله وجهه ، حكاه ليث عن مجاهد .
ويحتمل سادساً : أنهم المؤمنون قبل فرض الجهاد من غير رغبة في غنم ولا رهبة من سيف .
{ أولئك هم المتقون } إنما جاز الجمع في { هم المتقون } و { الذي } واحد في مخرج لفظه وجمع في معناه على طريق الجنس كقوله تعالى { إن الإنسان لفي خسر } قوله عز وجل : { ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عَمِلوا } قبل الإيمان والتوبة ، ووجه آخر : أسوأ الذي عملوا من الصغائر لأنهم يتقون الكبائر .
{ ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون } أي يجزيهم بأجر أحسن الأعمال وهي الجنة .
أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ (37) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (40)

قوله عز وجل : { أليس الله بكافٍ عبده } في قراءة بعضهم ، يعني محمداً صلى الله عليه وسلم يكفيه الله المشركين ، وقرأ الباقون { عباده } وهم الأنبياء .
{ ويخوفونك بالذين من دونه } فيه وجهان :
أحدهما : أنهم كانوا يخوفونه بأوثانهم يقولون تفعل بك وتفعل ، قاله الكلبي ، والسدي .
الثاني : يخوفونه من أنفسهم بالوعيد والتهديد .
قوله عز وجل : { قل يا قوم اعملوا على مكانتكم } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : على ناحيتكم ، قاله الضحاك ومجاهد .
الثاني : على تمكنكم ، قاله ابن عيسى .
الثالث : على شرككم ، قاله يحيى .
{ إني عامل } على ما أنا عليه من الهدى .
{ فسوف تعلمون } وهذا وعيد .
إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41) اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42)

قوله عز وجل : { الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن الله عند توفي الأنفس يقبض أرواحها من أجسادها والتي لم تمت وهي في منامها يقبضها عن التصرف مع بقاء أرواحها في أجسادها .
{ فيمسك التي قضى عليها الموت } أنى تعود الأرواح إلى أجسادها .
{ ويرسلُ الأخرى } وهي النائمة فيطلقها باليقظة للتصرف إلى أجل موتها ، قاله ابن عيسى .
الثاني : ما حكاه ابن جريج عن ابن عباس أن لكل جسد نفساً وروحاً فيتوفى الله الأنفس في منامها بقبض أنفسها دون أرواحها حتى تتقلب بها وتتنفس ، فيمسك التي قضى عليها الموت أن تعود النفس إلى جسدها ويقبض الموت روحها ، ويرسل الأخرى وهي نفس النائم إلى جسدها حتىتجتمع مع روحها إلى أجل موتها .
الثالث : قاله سعيد بن جبير إن الله تعالى يقبض أرواح الموتى إذا ماتوا وأرواح الأحياء إذا ناموا فتتعارف ما شاء الله أن تتعارف فيمسك التي قضى عليها الموت فلا يعيدها ويرسل الأخرى فيعيدها . قال علي رضي الله عنه : فما رأته نفس النائم وهي في السماء قبل إرسالها إلى جسدها فهي الرؤيا الصادقة ، وما رأته بعد إرسالها وقبل استقرارها في جسدها تلقيها الشياطين وتخيل إليها الأباطيل فهي الرؤيا الكاذبة .
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44) وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45)

قوله عز وجل : { وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوبُ . . . } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : انقبضت ، قاله المبرد .
الثاني : نفرت .
الثالث : استكبرت .
قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (48)

قوله عز وجل : { قل اللهم فاطر السموات والأرض } أي خالقهما .
{ عالمَ الغيب والشهادة } يحتمل وجهين :
أحدهما : السر والعلانية .
الثاني : الدنيا والآخرة .
{ أنت تحكم بين عبادك في ما كانوا فيه يختلفون } من الهدى والضلالة .
ويحتمل ثانياً : من التحاكم إليه في الحقوق والمظالم .
قال ابن جبير ، اني لأعرف موضع آية ما قرأها أحدٌ فسأل الله شيئاً إلا أعطاه ، قوله { قل اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك في ما كانوا فيه يختلفون } .
فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)

قوله عز وجل : { فإذا مسّ الإنسان ضرٌّ دعانا } قيل إنها نزلت في أبي حذيفة . ابن المعيرة .
{ ثم إذا خوّلناه نعمة منا قال إنما أوتيتُه على عِلمٍ } فيه خسمة أوجه :
أحدها : على علم برضاه عني ، قاله ابن عيسى .
الثاني : بعلمي ، قاله مجاهد .
الثالث : بعلم علمني الله إياه ، قاله الحسن .
الرابع : علمت أني سوف أصيبه : حكاه النقاش .
الخامس : على خبر عندي ، قاله قتادة .
{ بل هي فتنة } فيه وجهان :
أحدهما : النعمة لأنه يمتحن بها .
الثاني : المقالة التي اعتقدها لأنه يعاقب عليها .
{ ولكن أكثرهم لا يعلمون } البلوى من النعمى .
قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (59)

قوله عز وجل : { قُلْ يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم } أي أسرفوا على أنفسهم في الشرك .
ويحتمل ثانياً : أسرفوا على أنفسهم في ارتكاب الذنوب مع ثبوت الإيمان والتزامه { لا تقنطوا من رحمة الله } أي لا تيأسوا من رحمته .
{ إن الله يغفر الذنوب جميعاً } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : يغفرها بالتوبة منها ، قاله الحسن .
الثاني : يغفرها بالعفو عنها إلا الشرك .
الثالث : يغفر الصغائر باجتناب الكبائر .
{ إنه هو الغفور الرحيم } قيل نزلت هذه الآية والتي بعدها في وحشي قاتل حمزة ، قاله الحسن والكلبي ، وقال علي عليه السلام : ما في القرآن آية أوسع منها . وروى ثوبان قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : « ما أحب أن لي الدنيا وما عليها بهذه الآية
» . قوله عز وجل : { واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم } فيه خمسة تأويلات :
أحدها : هو ما أمرهم الله به في الكتاب ، قاله السدي .
الثاني : أن يأخذوا ما أمر وينتهوا عما نهوا عنه ، قاله الحسن .
الثالث : هو الناسخ دون المنسوخ ، حكاه ابن عيسى .
الرابع : هو طاعة الله تعالى في الحرام والحلال قاله ابن زياد .
الخامس : تأدية الفرائض ، قاله زيد بن علي ، ومعاني أكثرها متقاربة .
ويحتمل سادساً : أنه الأخذ بالعزيمة دون الرخصة . وجعله منزلاً عليهم لأنه منزل إليهم على نبيهم صلى الله عليه وسلم .
قوله عز وجل : { أن تقول نفس يا حَسْرتَا } فيه وجهان :
أحدهما : معناه لئلا تقول نفس .
الثاني : أن لا تقول نفس ، والألف التي في يا حسرتا بدل من ياء الإضافة ففعل ذلك في الاستغاثة لمدة الصوت بها .
{ على ما فرطت في جنب الله } فيه ستة تأويلات :
أحدها : في مجانبة أمر الله ، قاله مجاهد والسدي .
الثاني : في ذات الله ، قاله الحسن .
الثالث : في ذكر الله ، قاله السدي ، وذكر الله هنا القرآن .
الرابع : في ثواب الله من الجنة حكاه النقاش .
الخامس : في الجانب المؤدي إلى رضا الله ، والجنب والجانب سواء .
السادس : في طلب القرب من الله ومنه قوله تعالى { والصاحب بالجنب } أي بالقرب .
{ وإن كنت لمن الساخرين } فيه وجهان : أحدهما : من المستهزئين في الدنيا بالقرآن ، قاله النقاش .
الثاني : بالنبي صلى الله عليه وسلم وبالمؤمنين ، قاله يحيى بن سلام .
وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (61) اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (63) قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66)

قوله عز وجل : { وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : بنجاتهم من النار .
الثاني : بما فازوا به من الطاعة .
الثالث : بما ظفروا من الإدارة .
ويحتمل رابعاً : بما سلكوا فيه مفاز ، الطاعات الشاقة ، مأخوذ من مفازة السفر .
{ لا يمسهم السُّوءُ } لبراءتهم منه . { ولا هم يحزنون } فيه وجهان :
أحدهما : لا يحزنون ، بألا يخافوا سوء العذاب .
الثاني : لا يحزنون على ما فاتهم من ثواب الدنيا .
وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)

{ وما قدروا الله حق قدرِه } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : وما عظموه حق عظمته إذ عبدوا الأوثان من دونه ، قاله الحسن .
الثاني : وما عظموه حق عظمته إذ دعوا إلى عبادة غيره ، قاله السدي .
الثالث : ما وصفوه حق صفته ، قاله قطرب .
{ والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة } فيه وجهان :
أحدهما : أن قبضه استبدالها بغيرها لقوله { يوم تبدل الأرض } [ إبراهيم : 48 ] وهو محتمل .
الثاني : أي هي في مقدوره كالذي يقبض عليه القابض في قبضته .
{ والسموات مطويات بيمينه } فيه وجهان :
أحدهما : بقوته لأن اليمين القوة .
الثاني : في ملكه كقوله { وماملكت أيمانكم } [ النساء : 36 ] .
ويحتمل طيها بيمينه وجهين :
أحدهما : طيها يوم القيامة . لقوله يوم نطوي السماء .
الثاني : أنها في قبضته مع بقاء الدنيا كالشيء المطوي لاستيلائه عليها .
{ سبحانه وتعالى عما يشركون } روى صفوان بن سليم أن يهودياً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا أبا القاسم إن الله أنزل عليك { والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه } فأين يكون الخلق؟ قال « يكونون في الظلمة عند الجسر حتى ينجي الله من يشاء . » قال : والذي أنزل التوراة على موسى ما على الأرض أحد يعلم هذا غيرى وغيرك .
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (70)

قوله عز وجل : { ونفخ في الصُّور فصعق مَنْ في السموات ومن في الأرض } فيه وجهان :
أحدهما : أن الصعق الغَشي ، حكاه ابن عيسى .
الثاني : وهو قول الجمهور أنه الموت وهذا عند النفخة الأولى .
{ إلا من شاء الله } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت عليهم السلام . وملك الموت يقبض أرواحهم بعد ذلك ، قاله السدي ورواه أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم .
الثاني : الشهداء ، قاله سعيد بن جبير .
الثالث : هو الله الواحد القهار ، قاله الحسن .
{ ثم نفخ فيه أخرى } وهي النفخة الثانية للبعث .
{ فإذا هم قيام ينظرون } قيل قيام على أرجلهم ينظرون إلى البعث الذي وعدوا به .
ويحتمل وجهاً آخر ينظرون ما يؤمرون به .
قوله عز وجل : { وأشرقتِ الأرض } إشراقها إضاءتها ، يقال أشرقت الشمس إذا أضاءت ، وشَرَقت إذا طلعت .
وفي قوله { بِنُورِ رَبِّها } وجهان :
أحدهما : بعدله ، قاله الحسن .
الثاني : بنوره وفيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه نور قدرته .
الثاني : نور خلقه لإشراق أرضه .
الثالث : أنه اليوم الذي يقضي فيه بين خلقه لأنه نهار لا ليل معه .
{ ووضع الكتاب } فيه وجهان :
أحدهما : الحساب ، قاله السدي .
الثاني : كتاب أعمالهم ، قاله قتادة .
{ وجيء بالنبين الشهداء } فيهم قولان :
أحدهما : أنهم الشهداء الذين يشهدون على الأمم للأنبياء أنهم قد بلغوا ، وأن الأمم قد كذبوا ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنهم الذين استشهدوا في طاعة الله ، قاله السدي .
{ وقضي بينهم بالحق } قال السدي بالعدل { وهم لا يظلمون } قال سعيد بن جبير لا ينقص من حسناتهم ولا يزاد على سيئاتهم .
وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72)

قوله عز وجل : { وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمراً } فيه أربعة أوجه :
أحدها : أفواجاً ، قاله الحسن .
الثاني : أمماً ، قاله الكلبي .
الثالث : جماعات ، قاله السدي . قال الأخفش جماعات متفرقة ، بعضها إثر بعض واحدها زمرة . قال خفاف بن ندبة :
كأن إخراجها في الصبح غادية ... من كل شائبةٍ في أنها زُمَر
الرابع : دفعاً وزجراً بصوت كصوت المزمار ، ومن قولهم مزامير داود .
وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74)

قوله عز وجل : { سلام عليكم طبتم } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : طبتم بطاعة الله قاله مجاهد .
الثاني : طبتم بالعمل الصالح ، قاله النقاش .
الثالث : ما حكاه مقاتل أن على باب الجنة شجرة ينبع من ساقها عينان يشرب المؤمنون من إحداهما فتطهر أجوافهم فذلك قوله { وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً } [ الإنسان : 21 ] ثم يغتسلون من الأخرى فتطيب أبشارهم ، فعندها يقول لهم خزنتها :
{ سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين } فإذا دخلوها قالوا { الحمد لله الذي صدقنا وعده } .
وفي معنى طبتم ثلاثة أوجه :
أحدها : نعمتم ، قاله الضحاك .
الثاني : كرمتم ، قاله ثعلب .
الثالث : زكوتم ، قاله الفراء وابن عيسى .
{ وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده } وعده في الدنيا بما نزل به القرآن ، وفيه وجهان :
أحدهما : أنه وعده بالجنة في الآخرة ثواباً على الإيمان .
الثاني : أنه وعده في الدنيا بظهور دينه على الأديان ، وفي الآخرة بالجزاء على الإيمان . { وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاءُ } وفي هذه الأرض قولان :
أحدهما : أرض الجنة ، قاله أبو العالية وأبو صالح وقتادة والسدي وأكثر المفسرين .
الثاني : أرض الدنيا . فإن قيل إنها أرض الجنة ففي تسميتها ميراثاً وجهان :
أحدهما : لأنها صارت إليهم في آخر الأمر كالميراث .
الثاني : لأنهم ورثوها من أهل النار ، وتكون هذه الأرض من جملة الجزاء والثواب ، والجنة في أرضها كالبلاد في أرض الدنيا لوقوع التشابه بينهما قضاء بالشاهد على الغائب .
{ نتبوأ من الجنة حيث نشآء } يعني منازلهم التي جوزوا بها ، لأنهم مصروفون عن إرادة غيرها .
وفي تأويل قوله { حيث نشاء } وجهان :
أحدهما : حيث نشاء من منزلة وعلو .
الثاني : حيث نشاء من منازل ومنازه ، فإن قيل إنها أرض الدنيا فهي من النعم دون الجزاء .
ويحتمل تأويله وجهين :
أحدهما : أورثنا الأرض بجهادنا نتبوأ من الجنة حيث نشاء بثوابنا .
الثاني : وأورثنا الأرض بطاعة أهلها لنا نتبوأ من الجنة حيث نشاء بطاعتنا له لأنهم أطاعوا فأطيعوا .
{ فنعم أجر العاملين } يحتمل وجهين :
أحدهما : فنعم أجر العاملين في الدنيا الجنة في الآخرة .
الثاني : فنعم أجر من أطاع أن يطاع .
وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75)

قوله عز وجل : { وترى الملائكة حافين من حول العرش } قال قتادة : محدقين .
{ يسبحون بحمد ربهم } وتسبيحهم تلذذ لا تعبد . وفي قوله .
{ بحمد ربهم } وجهان :
أحدهما : بمعرفة ربهم ، قاله الحسن .
الثاني : يذكرون بأمر ربهم ، قاله مقاتل .
{ وقضي بينهم بالحق } أي بالعدل وفيه قولان :
أحدهما : وقضي بينهم بعضهم لبعض .
الثاني : بين الرسل والأمم ، قاله الكلبي .
{ وقيل الحمد لله رب العالمين } وفي قائله قولان :
أحدهما : أنه من قول الملائكة ، فعلى هذا يكون حمدهم لله على عدله في قضائه .
الثاني : أنه من قول المؤمنين .
فعلى هذا يحتمل حمدهم وجهين :
أحدهما : على أن نجاهم مما صار إليه أهل النار .
الثاني : على ما صاروا إليه من نعيم الجنة ، فختم قضاؤه في الآخرة بالحمد كما افتتح خلق السموات والأرض بالحمد في قوله { الحمد لله الذي خلق السموات وَالأَرضَ } [ الأنعام : 1 ] فتلزم الاقتداء به والأخذ بهديه في ابتداء كل أمر بحمده وخاتمه بحمده وبالله التوفيق .
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)

قوله عز وجل : { حم } فيه خمسة أوجه :
أحدهما : أنه اسم من أسماء الله أقسم به ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنه اسم من أسماء القرآن ، قاله قتادة .
الثالث : أنها حروف مقطعة من اسم الله الذي هو الرحمن ، قاله سعيد بن جبير وقال : الر وحم ون هو الرحمن .
الرابع : هو محمد صلى الله عليه وسلم ، قاله جعفر بن محمد .
الخامس : فواتح السور ، قاله مجاهد قال شريح بن أوفى العبسي :
يذكرني حاميم والرمح شاجر ... فهلا تلا حاميم قبل التقدم
ويحتمل سادساً : أن يكون معناه حُم أمر الله أي قرب ، قال الشاعر :
قد حُمّ يومي فسر قوم ... قومٌ بهم غفلة ونوم
ومنه سميت الحمى لأنها تقرب منه المنية .
فعلى هذا يحتمل وجهين :
أحدهما : أنه يريد به قرب قيام الساعة لقول النبي صلى الله عليه وسلم : « بعثت في آخرها ألفاً
» الثاني : أنه يريد به قرب نصره لأوليائه وانتقامة من أعدائه يوم بدر .
قوله عز وجل : { غافر الذنب } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه غافره لمن استغفره ، قاله النقاش .
الثاني : ساتره على من يشاء ، قاله سهل بن عبد الله .
{ وقابل التوب } يجوز أن يكون جمع توبة ، ويجوز أن يكون مصدراً من تاب يتوب توباً ، وقبوله للتوبة إسقاط الذنب بها مع إيجاب الثواب عليها .
قوله عز وجل : { ذي الطول } فيه ستة تأويلات :
أحدها : ذي النعم ، قاله ابن عباس .
الثاني : ذي القدرة ، قاله ابن زيد .
الثالث : ذي الغنى والسعة ، قاله مجاهد .
الرابع : ذي الخير ، قاله زيد بن الأصم .
الخامس : ذي المن ، قاله عكرمة .
السادس : ذي التفضيل ، قاله محمد بن كعب .
والفرق بين المن والفضل أن المن عفو عن ذنب ، والفضل إحسان غير مستحق والطول مأخوذ من الطول كأنه إنعامه على غيره وقيل لأنه طالت مدة إنعامه .
مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ (4) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (5) وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (6)

قوله عز وجل : { ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا } فيه وجهان :
أحدهما : ما يماري فيها ، قاله السدي .
الثاني : ما يجحد بها ، قاله يحيى بن سلام .
وفي الفرق بين المجادلة والمناظرة وجهان :
أحدهما : ان المجادلة لا تكون إلا بين مبطلين أو مبطل ومحق ، والمناظرة بين محقين .
الثاني : أن المجادلة فتل الشخص عن مذهبه محقاً أو مبطلاً ، والمناظرة التوصل إلى الحق في أي من الجهتين كان .
وقيل إنه أراد بذلك الحارث بن قيس السهمي وكان أحد المستهزئين .
{ فلا يغررك تقلبهم في البلاد } قال قتادة : إقبالهم وإدبارهم وتقلبهم في أسفارهم ، وفيه وجهان :
أحدهما : لا يغررك تقلبهم في الدنيا بغير عذاب ، قاله يحيى .
الثاني : لا يغررك تقلبهم في السعة والنعمة قاله مقاتل وقيل إن المسلمين قالوا نحن في جهد والكفار في السعة ، فنزل { فلا يغررك تقلبهم في البلاد } حكاه النقاش وفيه حذف تقديره : فلا يغررك تقلبهم في البلاد سالمين فسيؤخذون .
قولة عز وجل : { وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه } فيه وجهان :
أحدهما : ليحبسوه ويعذبوه ، حكاه ابن قتيبة .
الثاني : ليقتلوه ، قاله قتادة والسدي . والعرب تقول : الأسير الأخيذ لأنه مأسور للقتل ، وأنشد قطرب قول الشاعر :
فإما تأخذوني تقتلوني ... ومن يأخذ فليس إلى خلود
وفي وقت أخذهم لرسولهم قولان :
أحدهما : عند دعائه لهم .
الثاني : عند نزول العذاب بهم .
{ وجادلوا بالباطل ليُدْحضوا به الحقَّ } قال يحيى بن سلام : جادلوا الأنبياء بالشرك ليبطلوا به الإيمان .
{ فأخذتهم } قال السدي : فعذبتهم .
{ فكيف كان عقاب } في هذا السؤال وجهان :
أحدهما : أنه سؤال عن صدق العقاب ، قال مقاتل وجدوه حقاً .
الثاني : عن صفته ، قال قتادة : شديد والله .
قوله عز وجل : { وكذلك حقت كلمة ربِّك على الذين كفروا } أي كما حقت على أولئك حقت على هؤلاء . وفي تأويلها وجهان :
أحدهما : وكذلك وجب عذاب ربك .
الثاني : وكذلك صدق وعد ربك .
{ أنهم أصحاب النار } جعلهم أصحابها لأنهم يلزمونها وتلزمهم .
الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)

قوله عز وجل : { ربنا وسعت كل شَيْءٍ رحمة وعلماً } فيه وجهان :
أحدهما : ملأت كل شيء رحمة وعلماً ، أو رحمة عليه وعلماً به ، وهو معنى قول يحيى بن سلام .
الثاني : معناه : وسعت رحمتك وعلمك كل شيء .
{ فاغفر للذين تابوا } قال يحيى : من الشرك .
{ واتبعوا سبيلك } قال الإسلام لأنه سبيل إلى الجنة .
{ وقهم عذاب الجحيم } بالتوفيق لطاعتك .
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ (10) قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11) ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (14)

قوله عز وجل : { إن الذين كفروا ينادَوْنَ } فيه وجهان :
أحدهما : أنهم ينادون يوم القيامة ، قاله قتادة .
الثاني : ينادون في النار ، قاله السدي .
{ لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم إذ تدعوْن إلى الإيمان فتكفرون } فيه وجهان :
أحدهما : لمقت الله بكم في الدنيا إذا دعيتم إلى الإيمان فكفرتم أكبر من مقتكم لأنفسكم في الآخرة حين عاينتم العذاب وعلمتم أنكم من أهل النار ، قاله الحسن وقتادة .
الثاني : معناه : إن مقت الله لكم إذ عصيتموه أكبر من مقت بعضكم لبعض حين علمتم أنهم أضلوكم ، حكاه ابن عيسى .
فإن قيل : كيف يصح على الوجه الأول أن يمقتوا أنفسهم؟
ففيه وجهان :
أحدهما : أنهم أحلوها بالذنوب محل الممقوت .
الثاني : أنهم لما صاروا إلى حال زال عنهم الهوى وعلموا أن نفوسهم هي التي أوبقتهم في المعاصي مقتوها .
وفي اللام التي في { لمقت الله } وجهان :
أحدهما : أنها لام الابتداء كقولهم لزيد أفضل من عمرو ، قاله البصريون .
الثاني : أنها لام اليمين تدخل على الحكاية وما ضارعها ، قاله ثعلب .
قوله عز وجل : { قالوا ربّنا أمتّنا اثنتين وأحييتنا اثنتين } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : أنه خلقهم أمواتاً في أصلاب آبائهم ، ثم أحياهم بإخراجهم ثم أماتهم عند انقضاء آجالهم ، ثم أحياهم للبعث ، فهما ميتتان إحداهما في أصلاب الرجال ، الثانية في الدنيا ، وحياتان : إحداهما في الدنيا والثانية في الآخرة ، قاله ابن مسعود وقتادة .
الثاني : أن الله أحياهم حين أخذ عليهم الميثاق في ظهر آدم قوله { وإذ أخذ رَبُكَ مِن ابني آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذرِيتَهُمْ } [ الأعراف : 171 ] الآية . ثم إن اللَّه أماتهم بعد أخذ الميثاق عليهم ، ثم أحياهم حين أخرجهم ، ثم أماتهم عند انقضاء آجالهم ، ثم أحياهم للبعث فتكون حياتان وموتتان في الدنيا وحياة في الآخرة ، قاله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم .
الثالث : أن الله أحياهم حين خلقهم في الدنيا ، ثم أماتهم فيها عند انقضاء أجالهم ، ثم أحياهم في قبورهم للمساءلة ، ثم أماتهم إلى وقت البعث . ثم أحياهم للعبث ، قاله السدي .
{ فاعترفنا بذنوبنا } أنكروا البعث في الدنيا وأن يحيوا بعد الموت ، ثم اعترفوا في الآخرة بحياتين بعد موتتين .
{ فهل إلى خروج مِن سبيل } فيه وجهان :
أحدهما : فهل طريق نرجع فيها إلى الدنيا فنقر بالبعث ، وهو معنى قول قتادة .
الثاني : فهل عمل نخرج به من النار ، ونتخلص به من العذاب؟ قاله الحسن .
وفي الكلام مضمر تقديره : لا سبيل إلى الخروج .
قوله عز وجل : { ذلكم بأنه إذا دُعي الله وحده كفرتم } أي كفرتم بتوحيد الله .
{ وإن يُشرك به تؤمنوا } فيه وجهان :
أحدهما : معناه تصدقوا من أشرك به ، قاله النقاش .
الثاني : تؤمنوا بالأوثان ، قاله يحيى بن سلام .
{ فالحكم لله } يعني في مجازاة الكفار وعقاب العصاة .
{ العلي الكبير } إنما جاز وصفه بأنه علي ولم تجز صفته بأنه رفيع لأنها صفة قد تنقل من علو المكان إلى علو الشأن والرفيع لا يستعمل إلا في ارتفاع المكان .
رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15) يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17)

قوله عز وجل : { رفيع الدرجات } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : رفع السموات السبع ، قاله سعيد بن جبير والكلبي .
الثاني : عظيم الصفات ، قاله ابن زياد .
الثالث : هو رفعه درجات أوليائه ، قاله يحيى .
{ ذو العرش } فيه وجهان :
أحدهما : أن عرشه فوق سماواته ، قاله سعيد بن جبير .
الثاني : أنه رب العرش ، قاله يحيى .
{ يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده } فيه ستة تأويلات :
أحدها : أن الروح الوحي ، قاله قتادة .
الثاني : النبوة ، قاله السدي .
الثالث : القرآن ، قاله ابن عباس .
الرابع : الرحمة ، حكاه إبراهيم الجوني .
الخامس : أرواح عباده ، لا ينزل ملك إلا ومعه منها روح ، قاله مجاهد .
السادس : جبريل يرسله الله بأمره ، قاله الضحاك .
{ لينذر يوم التلاق } فيه قولان :
أحدهما : لينذر الله به يوم القيامة ، قاله الحسن .
الثاني : لينذر أنبياؤه يوم التلاق وهو يوم القيامة وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها : لأنه يلتقي فيه أهل السماء وأهل الأرض ، قاله السدي وابن زيد .
الثاني : لأنه يلتقي فيه الأولون والآخرون ، وهو معنى قول ابن عباس .
الثالث : يلتقي فيه الخلق والخالق ، قاله قتادة .
قوله عز وجل : { يومَ هم بارزون } يعني من قبورهم .
{ لا يخفى على الله منهم شَيْءٌ } فيه وجهان :
أحدهما : أنه أبرزهم جميعاً لأنه لا يخفى على الله منهم شيء .
الثاني : معناه يجازيهم من لا يخفى عليه من أعمالهم شيء .
{ لمن الملك اليوم } هذا قول الله ، وفيه قولان :
أحدهما : أنه قوله بين النفختين حين فني الخلائق وبقي الخالق فلا يرى - غير نفسه - مالكاً ولا مملوكاً : لمن الملك اليوم فلا يجيبه لأن الخلق أموات ، فيجيب نفسه فيقول : { لله الواحد القهار } لأنه بقي وحده وقهر خلقه ، قاله محمد بن كعب .
الثاني : أن هذا من قول الله تعالى في القيامة حين لم يبق من يدَّعي ملكاً ، أو يجعل له شريكاً .
وفي المجيب عن هذا السؤال قولان :
أحدهما : أن الله هو المجيب لنفسه وقد سكت الخلائق لقوله ، فيقول : لله الواحد القهار ، قاله عطاء .
الثاني : ان الخلائق كلهم يجيبه من المؤمنين . والكافرين ، فيقولون : لله الواحد القهار ، قاله ابن جريج .
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18) يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20)

قوله عز وجل : { وأنذرهم يوم الآزفة } فيه قولان :
أحدهما : يوم حضور المنية ، قاله قطرب .
الثاني : يوم القيامة وسميت الآزفة لدنوها ، وكل آزف دانٍ ، ومنه قوله تعالى { أزفت الآزفة } [ النجم : 57 ] أي دنت القيامة .
{ إذ القلوب لَدَى الحناجر } فيه قولان :
أحدهما : أن القلوب هي النفوس بلغت الحناجر عند حضور المنية ، وهذا قول من تأول يوم الآزفة بحضور المنية ، قاله قتادة . ووقفت في الحناجر من الخوف فهي لا تخرج ولا تعود في أمكنتها .
{ كاظمين } فيه أربعة أوجه :
أحدها : مغمومون قاله الكلبي .
الثاني : باكون ، قاله ابن جريج .
الثالث : ممسكون بحناجرهم ، ماخوذ من كظم القربة وهو شد رأسها .
الرابع : ساكتون ، قاله قطرب ، وأنشد قول الشماخ :
فظلت كأن الطير فوق رؤوسها ... صيامٌ تنائي الشمس وهي كظوم
{ ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع } في الحميم قولان :
أحدهما : انه القريب ، قاله الحسن .
الثاني : الشفيق ، قاله مجاهد ، ومعنى الكلام : ما لهم من حميم ينفع ولا شفيع يطاع أي يجاب إلى الشفاعة ، وسميت الإجابة طاعة لموافقتها إرادة المجاب .
قوله عز وجل : { يعلم خائنة الأعين } فيه خمسة أوجه :
أحدها : أنه الرمز بالعين ، قاله السدي .
الثاني : هي النظرة بعد النظرة ، قاله سفيان .
الثالث : مسارقة النظر ، قاله ابن عباس .
الرابع : النظر إلى ما نهى عنه ، قاله مجاهد .
الخامس : هو قول الإنسان ما رأيت وقد رأى ، أو رأيت وما رأى ، قاله الضحاك .
وفي تسميتها خائنة الأعين وجهان :
أحدهما : لأنها أخفى الإشارات فصارت بالاستخفاء كالخيانة .
الثاني : لأنها باستراق النظر إلى المحظور خيانة .
{ وما تُخفي الصدور } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : الوسوسة ، قاله السدي .
الثاني : ما تضمره [ عندما ترى امرأة ] إذا أنت قدرت عليها أتزني بها أم لا ، قاله ابن عباس .
الثالث : ما يسره الإنسان من أمانة أو خيانة ، وعبر عن القلوب بالصدور لأنها مواضع القلوب .
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (21) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (22)

قوله عز وجل : { . . . كانوا هم أشدَّ منهم قوة } فيه وجهان :
أحدهما : يعني بطشاً ، قاله يحيى .
الثاني : قدرة ، قاله ابن عيسى .
{ وآثاراً في الأرض } فيه خمسة أوجه :
أحدها : أنها آثارهم من الملابس والأبنية ، قاله يحيى .
الثاني : خراب الأرضين وعمارتها ، قاله مجاهد .
الثالث : المشي فيها بأرجلهم ، قاله ابن جريج .
الرابع : بُعْد الغاية في الطلب ، قاله الكلبي .
الخامس : طول الأعمار ، قاله مقاتل .
ويحتمل سادساً : ما سنوا فيها من خير وشر .
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (23) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (24) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (25) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26) وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (27)

قوله عز وجل : { وقال فرعون ذروني أقتُل موسى } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : معناه أشيروا عليّ بقتل موسى لأنهم قد كانوا أشاروا عليه بأن لا يقتله لأنه لو قتله منعوه ، قاله ابن زياد .
الثاني : ذروني أتولى قتله ، لأنهم قالوا إن موسى ساحر إن قتلته هلكت لأنه لو أمر بقتله خالفوه .
الثالث : أنه كان في قومه مؤمنون يمنعونه من قتله . فسألهم تمكينه من قتله .
{ وليدع ربه } فيه وجهان :
أحدهما : وليسأل ربه فإنه لا يجاب .
الثاني : وليستعن به فإنه لا يعان .
{ إني أخاف أن يبدِّل دينكم } فيها وجهان :
أحدهما : يغير أمركم الذي أنتم عليه ، قاله قتادة .
الثاني : معناه هو أن يعمل بطاعة الله ، رواه سعيد بن أبي عروبة .
الثالث : محاربته لفرعون بمن آمن به ، حكاه ابن عيسى .
الرابع : هو أن يقتلوا أبناءكم ويستحيوا نساءكم إذا ظهروا عليكم كما كنتم تفعلون بهم ، قاله ابن جريج .
ويحتمل خامساً : أن يزول به ملككم لأنه ما تجدد دين إلا زال به ملك .
وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29)

قوله عز وجل : { وقال رجلٌ مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه } فيه قولان :
أحدهما : أنه كان ابن عم فرعون ، قاله السدي ، قال وهو الذي نجا مع موسى .
الثاني : أنه كان قبطياً من جنسه ولم يكن من أهله ، قاله مقاتل .
قال ابن إسحاق : وكان أسمه حبيب .
وحكى الكلبي أن اسمه حزبيل ، وكان مَلِكَا على نصف الناس وله الملك بعد فرعون ، بمنزلة ولي العهد .
وقال ابن عباس : لم يكن من آل فرعون مؤمن غيره وامرأة فرعون وغير المؤمن الذي أنذر فقال { إن الملأ يأتمرون بك } [ القصص : 20 ] .
وفي إيمانه قولان :
أحدهما : أنه آمن بمجيء موسى وتصديقه له وهو الظاهر . الثاني : أنه كان مؤمناً قبل مجيء موسى وكذلك امرأة فرعون قاله الحسن ، فكتم إيمانه ، قال الضحاك كان يكتم إيمانه للرفق بقومه ثم أظهره فقال ذلك في حال كتمه .
{ أتقتلون رجلاً أن يقول ربي اللهُ } أي لقوله ربي الله .
{ وقد جاءَكم بالبينات من ربِّكم } فيها قولان :
أحدهما : أنه الحلال والحرام ، قاله السدي .
الثاني : أنها الآيات التي جاءتهم : يده وعصاه والطوفان وغيرها ، كما قال تعالى { ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقصٍ من الثمرات } [ الأعراف : 130 ] قاله يحيى .
{ وإن يك كَاذباً فعليه كَذِبُه } ولم يكن ذلك لشك منه في رسالته وصدقه ولكن تلطفاً في الاستكفاف واستنزالاً عن الأذى .
{ وإن يَكُ صادقاً يصبكم بعض الذي يعدُكم } فيه أربعة أوجه :
أحدها : أنه كان وعدهم بالنجاة إن آمنوا وبالهلاك إن كفروا ، فقال { يصبكم بعض الذي يعدكم } لأنهم إذا كانوا على إحدى الحالتين نالهم أحد الأمرين فصار ذلك بعض الوعد لا كله .
الثاني : لأنه قد كان أوعدهم على كفرهم بالهلاك في الدنيا والعذاب في الآخرة ، فصار هلاكهم في الدنيا بعض وما وعدهم .
الثالث : أن الذي يبدؤهم من العذاب هو أوله ثم يتوالى عليهم حالاً بعد حال حتى يستكمل فصار الذي يصيبهم هو بعض الذي وعدهم لأنه حذرهم ما شكوا فيه وهي الحالة الأولى وما بعدها يكونون على يقين منه .
الرابع : أن البعض قد يستعمل في موضع الكل تلطفاً في الخطاب وتوسعاً في الكلام كما قال الشاعر :
قد يُدْرِك المتأني بعض حاجته ... وقد يكون مع المستعجل الزلل
{ إن الله لا يهدي من هو مُسْرِفٌ كَذّابٌ } يحتمل وجهين :
أحدهما : مسرف على نفسه كذاب على ربه إشارة إلى موسى ، ويكون هذا من قول المؤمن .
الثاني : مسرف في عناده كذاب في ادعائه إشارة إلى فرعون [ ويكون ] هذا من قوله تعالى .
قوله عز وجل : { ويا قوم لكم الملك اليوم ظاهِرين في الأرض } قال السدي :
غالبين على أرض مصر قاهرين لأهلها ، وهذا قول المؤمن تذكيراً لهم بنعم اللَّه عليهم .
{ فمن ينصرنا من بأس الله إِن جاءَنا } أي من عذاب الله ، تحذيراً لهم من نقمة ، فذكر وحذر فعلم فرعون ظهور محبته .
{ قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى } قال عبد الرحمن بن زيد : معناه ما أشير عليكم إلا بما أرى لنفسي .
{ وما أهديكم إلا سبيل الرشاد } في تكذيب موسى والإيمان بي
.
وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (31) وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (34) الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35)

قوله عز وجل : { ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التنادِ } يعني يوم القيامة ، قال أمية بن أبي الصلت :
وبث الخلق فيها إذ دحاها ... فهم سكانها حتى التّنَادِ
سمي بذلك لمناداة بعضهم بعضاً ، قاله الحسن .
وفيما ينادي به بعضهم بعضاً قولان :
أحدهما : يا حسرتا ، يا ويلتا ، يا ثبوراه ، قاله ابن جريج .
الثاني : ينادي أهلُ الجنة أهل النار أن { قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً } [ الأعراف : 44 ] الآية .
وينادي أهل النار الجنة { أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم اللَّه } [ الأعراف : 50 ] قاله قتادة .
وكان الكلبي يقرؤها : يوم التنادّ ، مشدودة ، أي يوم الفرار ، قال يندّون كما يندّ البعير . وقد جاء في الحديث أن للناس جولة يوم القيامة يندون يطلبون أنهم يجدون مفراً ثم تلا هذه الآية .
{ يوم تولون مدبرين } فيه وجهان :
أحدهما : مدبرين في انطلاقهم إلى النار ، قاله قتادة .
الثاني : مدبرين في فِرارهم من النار حتى يقذفوا فيها ، قاله السدي .
{ ما لكم من الله من عاصم } فيه وجهان :
أحدهما : من ناصر ، قاله قتادة .
الثاني : من مانع ، وأصل العصمة المنع ، قاله ابن عيسى .
{ ومن يضلل الله فما له من هاد } وفي قائل هذا قولان :
أحدهما : أن موسى هو القائل له .
الثاني : أنه من قول مؤمن آلِ فرعون .
قوله عز وجل : { ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات } فيه قولان :
أحدهما : أن يوسف بن يعقوب ، بعثه الله رسولاً إلى القبط بعد موت الملك من قبل موسى بالبينات . قال ابن جريج : هي الرؤيا .
الثاني : ما حكاه النقاش عن الضحاك أن الله بعث اليهم رسولاً من الجن يقال له يوسف .
وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (37) وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40)

قوله عز وجل : { وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحاً } فيه أربعة أقاويل :
أحدها : يعني مجلساً ، قاله الحسن .
الثاني : قصراً ، قاله السدي .
الثالث : أنه الآجر ومعناه أوقد لي على الطين حتى يصير آجراً ، قاله سعيد بن جبير .
الرابع : أنه البناء المبني بالآجر ، وكانوا يكرهون أن يبنوا بالآجر ويجعلوه في القبر ، قاله إبراهيم .
{ لعلّي أبلغ الأسباب } يحتمل وجهين :
أحدهما : ما يسبب إلى فعل مرادي .
الثاني : ما أتوصل به إلى علم ما غاب عني ، ثم بين مراده فقال :
{ أسباب السموات } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : طرق السموات ، قاله أبو صالح .
الثاني : أبواب السموات ، قاله السدي والأخفش ، وأنشد قول الشاعر :
ومن هاب أسباب المنايا يَنَلنه ... ولو نال أسباب السماء بِسلَّمِ
الثالث : ما بين السموات ، حكاه عبد الرحمن بن أبي حاتم .
{ فأطَّلعَ إلى إله موسى وإني لأظنه كاذباً } فيه قولان :
أحدهما : أنه غلبه الجهل على قول هذا أو تصوره .
الثاني : أنه قاله تمويهاً على قومه مع علمه باستحالته ، قاله الحسن .
{ وما كَيْدُ فرعون إلا في تبابٍ } فيه وجهان :
أحدهما : في خسران قاله ابن عباس .
الثاني : في ضلال ، قاله قتادة .
وفيه وجهان :
أحدهما : في الدنيا لما أطلعه الله عليه من هلاكه .
الثاني : في الآخرة لمصيره إلى النار ، قاله الكلبي .
وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44) فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46) وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ (47) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (48) وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ (49) قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (50)

قوله عز وجل : { لا جَرَمَ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : معناه : لا بد ، قاله المفضل .
الثاني : معناه : لقد حق واستحق ، قاله المبرد .
الثالث : أنه لا يكون إلا جواباً كقول القائل : فعلوا كذا ، فيقول المجيب : لا جرم انهم سيندمون ، قاله الخليل .
{ أن ما تدعونني إليه } أي من عبادة ما تعبدون من دون الله .
{ ليس له دعوةٌ في الدنيا ولا في الآخرة } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : لا يستجيب لأحد في الدنيا ولا في الآخرة ، قاله السدي .
الثاني : لا ينفع ولا يضر في الدنيا ولا في الآخرة ، قاله قتادة .
الثالث : ليس له شفاعة في الدنيا ولا في الآخرة ، قاله الكلبي .
{ وأن مردنا إلى الله } أي مرجعنا بعد الموت إلى الله ليجازينا على أفعالنا .
{ وأن المسرفين هم أصحاب النار } فيهم قولان :
أحدهما : يعني المشركين ، قاله قتادة .
الثاني : يعني السفاكين للدماء بغير حق ، قاله الشعبي ، وقال مجاهد : سمى الله القتل سرفاً .
قوله عز وجل : { فستذكرون ما أقول لكم } فيه قولان :
أحدهما : يعني في الآخرة ، قاله ابن زيد .
الثاني : عند نزول العذاب بهم ، قاله النقاش .
{ وأفوّض أمري إلى الله } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : معناه : وأسلم أمري إلى الله ، قاله ابن عيسى .
الثاني : أشهد عليكم الله ، قاله ابن بحر .
الثالث : أتوكل على الله ، قاله يحيى بن سلام .
{ إن الله بصير بالعباد } فيه وجهان :
أحدهما : بأعمال العباد .
الثاني : بمصير العباد .
وفي قائل هذا قولان :
أحدهما : أنه من قول موسى .
الثاني : من قول مؤمن آل فرعون ، فعلى هذا يصير بهذا القول مظهراً لإيمانه . قوله عز وجل : { فوقاه الله سيئات ما مكروا } فيه قولان :
أحدهما : أن موسى وقاه الله سيئات ما مكروا ، فعلى هذا فيه قولان :
أحدهما : أن مؤمن آل فرعون نجاه الله مع موسى حتى عبر البحر واغرق الله فرعون ، قاله قتادة ، وقيل إن آل فرعون هو فرعون وحده ومنه قول أراكة الثقفي :
لا تبك ميتاً بعد موت أحبةٍ ... عليّ وعباس وآل أبي بكر
يريد أبا بكر .
الثاني : أن مؤمن آل فرعون خرج من عنده هارباً إلى جبل يصلي فيه ، فأرسل في طلبه ، فجاء الرسل وهو في صلاته وقد ذبت عنه السباع والوحوش أن يصلوا إليه ، فعادوا إلى فرعون فأخبروه فقتلهم فهو معنى قوله { فوقاه الله سيئات ما مكروا } .
{ وحاق بآل فرعون سوء العذاب } فيه وجهان :
أحدهما : أنهم قومه ، وسوء العذاب هو الغرق ، قاله الضحاك .
الثاني : رسله الذين قتلهم ، وسوء العذاب هو القتل .
قوله عز وجل : { النار يعرضون عليها غُدُوّاً وعشيّاً } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه يعرض عليهم مقاعدهم من النار غدوة وعشية ، فيقال : لآلِ فرعون هذه منازلكم ، توبيخاً ، قاله قتادة .
الثاني : أن أرواحهم في أجواف طير سود تغدو على جهنم وتروح فذلك عرضها ، قاله ابن مسعود .
الثالث : أنهم يعذبون بالنار في قبرهم غدواً وعشياً ، وهذا لآل فرعون خصوصاً . قال مجاهد : ما كانت الدنيا .
{ ويوم تقولم الساعةُ } وقيامها وجود صفتها على استقامة ، ومنه قيام السوق وهو حضور أهلها على استقامة في وقت العادة .
{ أدخلوا آل فرعون أشد العذاب } لأن عذاب جهنم مُخْتَلِف . وجعل الفراء في الكلام تقديماً وتأخيراً وتقديره : ادخلوا آل فرعون أشد العذاب النار يعرضون عليها غدواً وعشياً ، وهو خلاف ما ذهب إليه غيره من انتظام الكلام على سياقه .
إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ (53) هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (54) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (55) إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56)

قوله عز وجل : { إنا لننصُرُ رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا } فيه قولان :
أحدهما : بإفلاج حجتهم ، قاله أبو العالية .
الثاني : بالانتقام من أعدائهم قال السدي : ما قتل قوم قط نبياً أو قوماً من دعاة الحق من المؤمنين إلا بعث الله من ينتقم لهم فصاروا منصورين فيها وإن قُتلوا .
{ ويومَ يقَوم الأشْهاد } بمعنى يوم القيامة . وفي نصرهم قولان :
أحدهما : بإعلاء كلمتهم وإجزال ثوابهم .
الثاني : إنه بالانتقام من أعدائهم .
وفي { الأشهاد } ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنهم الملائكة شهدوا للأنبياء بالإبلاغ ، وعلى الأمم بالتكذيب ، قاله مجاهد والسدي .
الثاني : انهم الملائكة والأنبياء ، قاله قتادة .
الثالث : أنهم أربعة : الملائكة والنبيون والمؤمنون والأجساد ، قاله زيد بن أسلم ثم في { الأشهاد } أيضاً وجهان :
أحدهما : جمع شهيد مثل شريف ، وأشراف .
الثاني : أنه جمع شاهد مثل صاحب وأصحاب .
قوله عز وجل : { فاصبر إنَّ وعد الله حق } فيه قولان :
أحدهما : هو ما وعد الله رسوله في آيتين من القرآن أن يعذب كفار مكة ، قاله مقاتل .
الثاني : هو ما وعد الله رسوله أن يعطيه المؤمنين في الآخرة ، قاله يحيى بن سلام .
{ واستغفر لذنبك } اي من ذنب إن كان منك . قال الفضيل : تفسير الاستغفار أقلني .
{ وسبح بحمد ربِّك } قال مجاهد : وصَلِّ بأمر ربك .
{ بالعشي والإبكار } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها صلاة العصر والغداة ، قاله قتادة .
الثاني : أن العشي ميل الشمس إلى أن تغيب ، والإبكار أول الفجر ، قاله مجاهد .
الثالث : هي صلاة مكة قبل أن تفرض الصلوات الخمس ركعتان غدوة وركعتان عشية ، قاله الحسن .
قوله عز وجل : { إنّ الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم } أي بغير حجة جاءتهم .
{ إن في صدورهم إلا كبرٌ ما هم ببالغيه } فيه قولان :
أحدهما : أن اكبر العظمة التي في كفار قريش ، ما هم ببالغيها ، قاله مجاهد .
الثاني : ما يستكبر من الاعتقاد وفيه قولان :
أحدهما : هو ما أمله كفار قريش في النبي صلى الله عليه وسلم وفي أصحابه أن يهلك ويهلكوا ، قاله الحسن .
الثاني : هو أن اليهود قالوا إن الدجال منا وعظموا أمره ، واعتقدوا أنهم يملكون ، وينتقمون ، قاله أبو العالية .
{ فاستعذ بالله } من كبرهم .
{ إنه هو السميع } لما يقولونه { البصير } بما يضمرونه .
لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57) وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ (58) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (59)

قوله عز وجل : { لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : لخلق السموات والأرض أعظم من خلق الدجال حين عظمت اليهود شأنه ، قاله أبو العالية .
الثاني : أكبر من إعادة خلق الناس حين أنكرت قريش البعث ، قاله يحيى بن سلام .
الثالث : أكبر من أفعال الناس حين أذل الكفار بالقوة وتباعدوا بالقهر .
وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)

قوله عز وجل : { وقال ربكم ادعوني استجبْ لكم } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : معناه وحدوني بالربوبية أغفر لكم ذنوبكم ، قاله ابن عباس .
الثاني : اعبدوني استجب لكم ، قاله جرير بن عبد الله ، أي اتبعكم على عبادتكم .
الثالث : سلوني أعطكم ، قاله السدي . وإجابة الداعي عند صدق الرغبة مقيد بشرط الحكمة . وحكى قتادة أن كعب قال : أعطيت هذه الأمة ثلاثاً لم تعطهن أمّة قبلكم إلا نبي : كان إذا أرسل نبي قيل له : أنت شاهد على أمتك ، وجعلكم شهداء على الناس ، وكان يقال للنبي ، ليس عليك في الدين من حرج ، وقال لهذه الأمة : وما جعل عليكم في الدين من حرج ، وكان يقال للنبي : ادعني أستجب لك ، وقال لهذه الأمة : ادعوني أستجب لكم .
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (61) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (64) هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (66) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68)

قوله عز وجل : { الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : لتستريحوا فيه من عمل النهار .
الثاني : لتكفوا فيه عن طلب الأرزاق .
الثالث : لتحاسبوا فيه أنفسكم على ما عملتم بالنهار .
{ والنهار مبصراً } فيه وجهان :
أحدهما : مبصراً لقدرة الله في خلقه .
الثاني : مبصراً لمطالب الأرزاق .
قوله عز وجل : { كذلك يؤفك الذين كانوا بآيات الله يجحدون } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : كذلك يصرف ، قاله يحيى .
الثاني : كذلك يكذب بالتوحيد ، قاله مقاتل .
الثالث : كذلك يعدل عن الحق ، قاله ابن زيد .
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ (74) ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (77) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81)

قوله عز وجل : { ذلكم بما كنتم تفرحون . . } الآية . في الفرح والمرح وجهان :
أحدهما : أن الفرح : السرور والمرح : البطر ، فسرّوا بالإمهال وبطروا بالنعم
الثاني : الفرح والسرور ، قاله الضحاك ، والمرح العدوان .
روى خالد عن ثور عن معاذ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن الله تعالى يبغض البذخين الفرحين المرحين ، ويحب كل قلب حزين ويبغض أهل بيت لحمين ، ويبغض كل حبر سمين » فأما أهل بيت لحمين فهم الذين يأكلون لحوم الناس بالغيبة ، وأما الحبر السمين فالمتحبر بعلمه ولا يخبر به الناس ، يعني المستكثر من علمه ولا ينفع به الناس .
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85)

قوله عز وجل : { فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العِلمْ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : بقولهم نحن أعلم منهم لن نبعث لن نعذب ، قاله مجاهد .
الثاني : بما كان عندهم أنه علم وهو جهل ، قاله السدي .
الثالث : فرحت الرسل بما عندهم من العلم بنجاتهم وهلاك أعدائهم ، حكاه ابن عيسى .
الرابع : رضوا بعلمهم واستهزأوا برسلهم ، قاله ابن زيد .
{ وحاق بهم } فيه وجهان :
أحدهما : أحاط بهم ، قاله الكلبي .
الثاني : عاد عليهم .
{ ما كانوا به يستهزئون } فيه وجهان :
أحدهما : محمد صلى الله عليه وسلم أنه ساحر .
الثاني : بالقرآن أنه شِعْر .
حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5)

قوله عز وجل : { حم } قد مضى تأويله .
{ تنزيل من الرحمن الرحيم . كتاب } يحتمل وجهين :
أحدهما : أنه على التقديم والتأخير فيكون تقديره حم تنزيل الكتاب من الرحمن الرحيم .
الثاني : أن يكون فيه مضمر محذوف تقديره تنزيل القرآن من الرحمن الرحيم .
ثم وصفه فقال { كتابٌ فصلت آياتُه } وفي تفصيل آياته خمسة تأويلات :
أحدها : فسّرت ، قاله مجاهد .
الثاني : فصلت بالوعد والوعيد ، قاله الحسن .
الثالث : فصلت بالثواب والعقاب ، قاله سفيان .
الرابع : فصلت ببيان حلاله من حرامه وطاعته من معصيته ، قاله قتادة .
الخامس : فصلت من ذكر محمد صلى الله عليه وسلم ، فحكم فيما بينه وبين من خالفه ، قال عبد الرحمن بن زيد .
{ قرآناً عربياً لقوم يعلمون } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : يعلمون انه إله واحد في التوراة والإنجيل ، قاله مجاهد .
الثاني : أن القرآن من عند الله نزل ، قاله الضحاك .
الثالث : يعلمون العربية فيعجزون عن مثله .
قوله عز وجل : { وقالوا قلوبنا في أكنّة ما تدعونا إليه } فيه وجهان :
أحدهما : أغطية ، قاله السدي .
الثاني : كالجعبة للنبل ، قاله مجاهد .
{ وفي آذاننا وقر } أي صمم وهما في اللغة يفترقان فالوقر ثقل السمع والصمم ذهاب جميعه .
{ ومن بيننا وبينك حجاب } فيه أربعة أوجه :
أحدها : يعني ستراً مانعاً عن الإجابة ، قاله ابن زياد .
الثاني : فرقة في الأديان ، قاله الفراء .
الثالث : أنه تمثيل بالحجاب ليؤيسوه من الإجابة ، قاله ابن عيسى .
الرابع : أن أبا جهل استغشى على رأسه ثوباً وقال : يا محمد بيننا وبينك حجاب ، استهزاء منه ، حكاه النقاش .
{ فاعمل إننا عامِلون } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : فاعمل بما تَعْلَم من دينك فإنا نعمل بما نعلم من ديننا ، قاله الفراء .
الثاني : فاعمل في هلاكنا فإنَّا نعمل في هلاكك ، قاله الكلبي .
الثالث : فاعمل لإلهك الذي أرسلك فإنا نعمل لآلهتنا التي نعبدها ، قاله مقاتل .
ويحتمل رابعاً : فاعمل لآخرتك فإنا نعمل لدنيانا .
قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8)

قوله عز وجل : { وويل للمشركين . الذين لا يؤتون الزكاة } فيه خمسة أوجه :
أحدها : أنه قرعهم بالشح الذي يأنف منه الفضلاء ، وفيه دلالة على أن الكافر يعذب بكفره ، مع وجوب الزكاة عليه ، أكثر مما يعذب من لم تكن الزكاة واجبة عليه ، قاله ابن عيسى .
الثاني : معناه انهم لا يزكون أعمالهم ، قاله ابن عمر .
الثالث : معناه لا يأتون به أزكياء ، قاله الحسن .
الرابع : معناه لا يؤمنون بالزكاة ، قاله قتادة .
الخامس : معناه ليس هم من أهل الزكاة ، قاله معاوية بن قرة .
قوله تعالى : { لهم أجْرٌ غير ممنون } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : غير محسوب ، قاله مجاهد .
الثاني : غير منقوص ، قاله ابن عباس وقطرب ، وأنشد قول زهير :
فَضْل الجياد على الخيل البطاء فما ... يعطي بذلك ممنوناً ولا نزقا
الثالث : غير مقطوع ، قاله ابن عيسى ، مأخوذ من مننت الحبل إذا قطعته ، قال ذو الأصبع العدواني :
إني لعمرك ما بابي بذي غلق ... على الصديق ولا خيري بممنون
الرابع : غير ممنون عليهم به ، قاله السدي .
قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)

قوله عز وجل : { قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين } قال ابن عباس خلقها في يومي الأحد والاثنين ، وخلقها في يومين أدل على القدرة والحكمة من خلقها دفعة واحدة في طرفة عين ، لأنه أبعد من أن يظن به الاتفاق والطبع ، وليرشد خلقه إلى الأناة في أمورهم .
{ وتجعلون له أنداداً } فيه أربعة أوجه :
أحدها : أشباهاً ، قاله ابن عباس .
الثاني : شركاء ، قاله أبو العالية .
الثالث : كفواً من الرجال تطيعونهم في معاصي الله تعالى قاله السدي .
الرابع : هو قول الرجل لولا كلبة فلان لأتي اللصوص ، ولولا فلان لكان كذا ، رواه عكرمة عن ابن عباس .
قوله عز وجل : { وجعل فيها رواسي من فوقها } اي جبالاً ، وفي تسميتها رواسي وجهان :
أحدهما : لعلوّ رءوسها .
الثاني : لأن الأرض بها راسية أو لأنها على الأرض ثابتة راسية .
{ وبارك فيها } فيه وجهان :
أحدهما : أي أنبت شجرها من غير غرس وأخرج زرعها من غيره بذر ، قال السدي .
الثاني : أودعها منافع أهلها وهو معنى قول ابن جريج .
{ وقَدَّر فيه أقواتها } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : قدر أرزاق أهلها ، قاله الحسن .
الثاني : قدر فيها مصالحها من جبهالها وبحارها وأنهارها وشجرها ودوابها قاله قتادة .
الثالث : قدر فيها أقواتها من المطر ، قاله مجاهد .
الرابع : قدر في كل بلدة منها ما لم يجعله في الأخرى ليعيش بعضهم من بعض بالتجارة من بلد إلى بلد ، قاله عكرمة .
{ في أربعة أيام } يعني تتمة أربعة أيام ، ومنه قول القائل : خرجت من البصرة إلى بغداد في عشرة أيام ، وإلى الكوفة في خمسة عشر يوماً ، أي في تتمة خمسة عشريوماً .
وقد جاء في الحديث المرفوع أن الله عز وجل خلق الأرض يوم الأحد والاثنين وخلق الجبال يوم الثلاثاء ، وخلق يوم الأربعاء الشجر والماء والخراب والعمران ، فتلك أربعة أيام ، وخلق يوم الخميس السماء ، وخلق يوم الجمعة النجوم والشمس والقمر والملائكة وآدم .
وفي خلقها شيئاً بعد شيء قولان :
أحدهما : لتعتبر به الملائكة الذين أحضروا .
والثاني : ليعتبر به العباد الذين أخبروا .
{ سواء للسائلين } فيه تأويلان :
أحدهما : سواء للسائلين عن مبلغ الأجل في خلق الله الأرض ، قاله قتادة .
الثاني : سواء للسائلين في أقواتهم وأرزقاهم .
قوله عز وجل : { ثم استوى إلى السماء وهي دخان } فيه وجهان :
أحدهما : عمد إلى السماء ، قاله ابن عيسى .
الثاني : استوى أمره إلى السماء ، قاله الحسن .
{ فقال لها واللأرض ائتيا طوْعاً أو كرهاً } فيه قولان :
أحدهما : أنه قال ذلك قبل خلقها ، ويكون معنى ائتيا اي كونا فكانتا كما قال تعالى { إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كُن فيكون } قاله ابن بحر .
الثاني : قول الجمهور أنه قال ذلك لهما بعد خلقهما .
فعلى هذا يكون في معناها أربع تأويلات :
أحدها : معناه أعطيا الطاعة في السير المقدر لكما طوعاً أو كرهاً أي اختياراً أو إجباراً قاله سعيد بن جبير .

الثاني : ائتيا عبادتي ومعرفتي طوعاً أو كرهاً باختيار أو غير اختيار .
الثالث : ائتيا بما فيكما طوعاً أو كرهاً ، حكاه النقاش .
الرابع : كونا كما أمرت من شدة ولين ، وحزن وسهل ومنيع وممكن ، قاله ابن بحر .
وفي قوله { لَهَا } وجهان :
أحدهما : أنه قول تكلم به .
الثاني : أنها قدرة منه ظهرت لهما فقام مقام الكلام في بلوغ المراد { قالتا أتينا طائعين } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : معناه أعطينا الطاعة ، رواه طاووس .
الثاني : أتينا بما فينا . قال ابن عباس : أتت السماء بما فيها من الشمس والقمر والنجوم ، وأتت الأرض بما فيها من الأشجار والأنهار والثمار .
الثالث : معناه كما أراد الله أن نكون ، قاله ابن بحر . وفي قولهما وجهان :
أحدهما : أنه ظهور الطاعة منهما قائم مقام قولهما .
الثاني : أنهما تكلمتا بذلك . قال أبو النصر السكسكي : فنطق من الأرض موضع الكعبة ونطق من السماء ما بحيالها فوضع الله فيها حرمه .
قوله عز وجل : { فقضاهن سبع سماوات في يومين } أي خلقهن سبع سماوات في يومين ، قيل يوم الخميس والجمعة ، قال السدي : سمي يوم الجمعة لأنه جمع فيه خلق السماوات وخلق الأرضين . وقالت طائفة خلق السماوات قبل الأرضين في يوم الأحد والاثنين ، وخلق الأرضين والجبال في يوم الثلاثاء والأربعاء ، وخلق ما سواهما من العالم يوم الخميس والجمعة ، وقالت طائفة ثالثة أنه خلق السماء دخاناً قبل الأرض ثم فتقها سبع سماوات بعد الأرضين والله أعلم بما فعل فقد اختلفت فيه الأقاويل وليس للاجتهاد فيه مدخل .
{ وأوحى في كلِّ سماءٍ أمرها } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : معناه أسكن في كل سماء ملائكتها ، قاله الكلبي .
الثاني : خلق في كل سماء خلقها خلق فيها شمسها وقمرها ونجومها وصلاحها ، قاله قتادة .
الثالث : أوحى إلى أهل كل سماء من الملائكة ما أمرهم به من العبادة ، حكاه ابن عيسى .
{ وزينا السماءَ الدنيا بمصابيح وحِفْظاً } أي جعلناها زينة وحفظاً .
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (14) فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (16) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (18)

قوله عز وجل : { إذ جاءتهم الرسلُ مِن بين أيديهم ومِن خلفهم } فيه وجهان :
أحدهما : أرسل من قبلهم ومن بعدهم ، قاله ابن عباس والسدي .
الثاني : ما بين أيديهم عذاب الدنيا ، وما خلفهم عذاب الآخرة ، قاله الحسن .
قوله عز وجل : { فأرسلنا عليهم ريحاً صرصراً } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه الشديدة البرد ، قاله عكرمة وسعيد بن جبير ، وأنشد قطرب قول الحطيئة :
المطعمون إذا هبت بصرصرة ... والحاملون إذا استودوا على الناس
استودوا أي سئلوا الدية .
الثاني : الشديدة السموم ، قاله مجاهد .
الثالث : الشديدة الصوت ، قاله السدي مأخوذ من الصرير ، وقيل إنها الدبور .
{ في أيام نحسات } فيها أربعة أقاويل :
أحدها : مشئومات ، قاله مجاهد وقتادة ، كن آخر شوال من يوم الأربعاء إلى يوم الأربعاء وذلك { سبع ليال وثمانية أيام حسوماً } قال ابن عباس : ما عذب قوم إلا في يوم الأربعاء .
الثاني : باردات ، حكاه النقاش .
الثالث : متتابعات ، قاله ابن عباس وعطية .
الرابع : ذات غبار ، حكاه ابن عيسى ومنه قول الراجز :
قد أغتدي قبل طلوع الشمس ... للصيد في يوم قليل النحس
قوله عز وجل : { وأمّا ثمود فهديناهم } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : دعوناهم ، قاله سفيان .
الثاني : بيّنا لهم سبيل الخير والشر ، قاله قتادة .
الثالث : أعلمناهم الهدى من الضلالة ، قاله عبد الرحمن بن زيد .
{ فاستحبوا العَمى على الهدى } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : اختاروا العمى على البيان ، قاله أبو العالية .
الثاني : اختاروا الكفر على الإيمان .
الثالث : اختاروا المعصية على الطاعة ، قاله السدي .
{ فأخذتهم صاعقة العذاب الهون } وفي الصاعقة هنا أربعة أقاويل :
أحدها : النار ، قاله السدي .
الثاني : الصيحة من السماء ، قاله مروان بن الحكم .
الثالث : الموت وكل شيء أمات ، قاله ابن جريج .
الرابع : أن كل عذاب صاعقة ، وإنما سميت صاعقة لأن كل من سمعها يصعق لهولها .
وفي { الهون } وجهان :
أحدهما : الهوان ، قاله السدي .
الثاني : العطش ، حكاه النقاش .
وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24)

قوله عز وجل : { فهم يوزعُون } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : يدفعون ، قاله ابن عباس .
الثاني : يساقون ، قاله ابن زيد .
الثالث : يمنعون من التصرف ، حكاه ابن عيسى .
الرابع : يحبس أولهم على آخرهم ، قاله مجاهد ، وهو مأخوذ من وزعته أي كففته .
قوله عز وجل : { وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : لفروجهم ، قاله ابن زيد .
الثاني : لجلودهم أنفسها وهو الظاهر .
الثالث : أنه يراد بالجلود الأيدي والأرجل ، قاله ابن عباس وقيل إن أول ما يتكلم منه فخذه الأيسر وكفه الأيمن .
قوله عز وجل : { وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : يعني وما كنتم تتقون ، قاله مجاهد .
الثاني : وما كنتم تظنون ، قاله قتادة .
الثالث : وما كنتم تستخفون منها ، قاله السدي . قال الكلبي : لأنه لا يقدر على الاستتار من نفسه .
{ ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيراً مما تعملون } حكى ابن مسعود أنها نزلت في ثلاثة نفر تسارّوا فقالوا أترى الله يسمع إسرارنا؟
قوله عز وجل : { وإن يستعتبوا فيما هم مِن المعتبين } فيه خمسة أوجه :
أحدها : معناه وإن يطلبوا الرضا فما هم بمرضى عنهم ، والمعتب : الذي قُبل عتابه وأُجيب إلى سؤاله ، قاله ابن عيسى .
الثاني : إن يستغيثوا فما هم من المغاثين .
الثالث : وإن يستقيلوا فما هم من المقالين .
الرابع : وإن يعتذروا فما هم من المعذورين .
الخامس : وإن يجزعوا فما هم من الآمنين .
قال ثعلب : يقال عتب إذا غضب ، وأعتب إذا رضي .
وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (27) ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (28) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29)

قوله عز وجل : { وقيضنا لهم قرناءَ } فيه قولان :
أحدهما : هيأنا لهم شياطين ، قاله النقاش .
الثاني : خلينا بينهم وبين الشياطين ، قاله ابن عيسى .
{ فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم } فيه أربعة تأويلات :
أحدها ما بين أيديهم من أمر الدنيا ، وما خلفهم من أمر الآخرة ، قاله السدي ومجاهد .
الثاني : ما بين أيديهم من أمر الآخرة فقالوا لا جنة ولا نار ولا بعث ولا حساب ، وما خلفهم من أمر الدنيا فزينوا لهم اللذات ، قاله الكلبي .
الثالث : ما بين أيديهم هو فعل الفساد في زمانهم ، وما خلفهم هو ما كان قبلهم ، حكاه ابن عيسى .
الرابع : ما بين أيديهم ما فعلوه ، وما خلفهم ما عزموا أن يفعلوه .
ويحتمل خامساً : ما بين أيديهم من مستقبل الطاعات أن لا يفعلوها ، وما خلفهم من سالف المعاصي أن لا يتوبوا منها .
قوله عز وجل : { وقال الذين كفروا لا تسمعُوا لهذا القرآن } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : لا تتعرضوا لسماعه .
الثاني : لا تقبلوه .
الثالث : لا تطيعوه من قولهم السمع والطاعة .
{ والغوا فيه } وفيه أربعة تأويلات :
أحدها : يعني قعوا فيه وعيبوه ، قاله ابن عباس .
الثاني : جحدوه وأنكروه ، قاله قتادة .
الثالث : عادوه ، رواه سعيد بن أبي عروبة .
الرابع : الغوا فيه بالمكاء والتصدية ، والتخليط في النطق حتى يصير لغواً ، قاله مجاهد .
قوله عز وجل : { وقال الذين كفروا ربنا أرنا اللذين أضَلاّنا من الجن والإنس } فيهما قولان :
أحدهما : دعاة الضلالة من الجن والإنس ، حكاه بن عيسى .
الثاني : أن الذي من الجن إبليس ، يدعوه كل من دخل النار من المشركين ، والذي من الإنس ابن آدم القاتل أخاه يدعوه كل عاص من الفاسقين ، قاله السدي .
وفي قوله : { أرنا اللذَين } وجهان :
أحدهما : أعطنا اللذين أضلانا .
الثاني : أبصرنا اللذين أضلانا .
{ نجعلهما تحت أقدامنا } يحتمل وجهين :
أحدهما : انتقاماً منهم .
الثاني : استذلالاً لهم .
{ ليكونا من الأسفلين } يعني في النار ، قالوا ذلك حنقاً عليهما وعداوة لها .
ويحتمل قوله { من الأسفلين } وجهين :
أحدهما : من الأذلين .
الثاني : من الأشدين عذاباً لأن من كان في أسفل النار كان أشد عذاباً .
إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32)

قوله عز وجل : { إن الذين قالوا ربنا اللّهُ } قال ابن عباس : وحّدوا الله تعالى .
{ ثم استقاموا } فيه خمسة أوجه :
أحدها : ثم استقاموا على أن الله ربهم وحده ، وهو قول أبي بكر رضي الله عنه ومجاهد .
الثاني : استقاموا على طاعته وأداء فرائضه ، قاله ابن عباس والحسن وقتادة .
الثالث : على إخلاص الدين والعلم إلى الموت ، قاله أبو العالية والسدي .
الرابع : ثم استقاموا في أفعالهم كما استقاموا في أقوالهم .
الخامس : ثم استقاموا سراً كما استقاموا جهراً .
ويحتمل سادساً : أن الاستقامة أن يجمع بين فعل الطاعات واجتناب المعاصي لأن التكليف يشتمل على أمر بطاعة تبعث على الرغبة ونهي عن معصية يدعو إلى الرهبة .
{ تتنزل عليهم الملائكة } فيه قولان :
أحدهما : تتنزل عليهم عند الموت ، قاله مجاهد وزيد بن أسلم .
الثاني : عند خروجهم من قبورهم للبعث ، قاله ثابت ومقاتل .
{ ألا تخافوا ولا تحزنوا } فيه تأويلان :
أحدهما : لا تخافوا أمامكم ولا تحزنوا على ما خلفكم ، قاله عكرمة .
الثاني : لا تخافوا ولا تحزنوا على أولادكم . وهذا قول مجاهد .
{ وأبشروا بالجنة } الآية . قيل إن بشرى المؤمن في ثلاثة مواطن : أحدها عند الموت ، ثم في القبر ، ثم بعد البعث .
قوله عز وجل : { نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة } فيه وجهان :
أحدهما : نحن الحفظة لأعمالكم في الدنيا وأولياؤكم في الآخرة ، قاله السدي .
الثاني : نحفظكم في الحياة الدنيا ولا نفارقكم في الآخرة حتى تدخلوا الجنة .
ويحتمل ثالثاً : نحن أولياؤكم في الدنيا بالهداية وفي الآخرة بالكرامة .
{ ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم } فيه وجهان :
أحدهما : أنه الخلود لأنهم كانوا يشتهون البقاء في الدنيا ، قاله ابن زيد .
الثاني : ما يشتهونه من النعيم ، قاله أبو أمامة .
{ ولكم فيها ما تدَّعون } فيه وجهان :
أحدهما : ما تمنون ، قاله مقاتل .
الثاني : ما تدعي أنه لك فهو لك بحكم ربك ، قاله ابن عيسى .
{ نزلاً } فيه أربعة أوجه :
أحدها : يعني ثواباً .
الثاني : يعني منزلة .
الثالث : يعني منّاً ، قاله الحسن .
الرابع : عطاء ، مأخوذ من نزل الضيف ووظائف الجند { من غفور رحيم }
وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36)

قوله عز وجل : { ومَن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله } الآية . فيه قولان :
أحدهما : أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قاله الحسن والسدي .
الثاني : أنهم المؤمنون دعوا إلى الله ، قاله قيس بن أبي حازم ومجاهد .
{ وعمل صالحاً } فيه قولان :
أحدهما : أنه أداء الفرائض ، قاله الكلبي .
الثاني : أنهم المصلون ركعتين بين الأذان والإقامة ، قالته عائشة رضي الله عنها .
وروى هشام بن عروة عن عائشة قالت : كان بلال إذا قام يؤذن قالت اليهود قام غراب - لا قام- فنادى بالصلاة ، وإذا ركعوا في الصلاة قالوا قد جثوا - لا جثوا- فنزلت هذه الآية في بلال والمصلين .
قوله عز وجل : { ولا تستوي الحسنةُ ولا السيئةُ } فيه ستة تأويلات :
أحدها : أن الحسنة المداراة ، والسيئة الغلظة ، حكاه ابن عيسى .
الثاني : الحسنة الصبر والسيئة النفور .
الثالث : الحسنة الإيمان ، والسيئة الشرك ، قاله ابن عباس .
الرابع : الحسنة العفو والسيئة الانتصار ، حكاه ابن عمير .
الخامس : الحسنة الحلم والسيئة الفحش ، قاله الضحاك .
السادس : الحسنة حب آل رسول الله صلى الله عليه وسلم والسيئة بغضهم ، قاله علي كرم الله وجهه .
{ ادفع بالتي هي أحسنُ } فيه وجهان :
أحدهما : ادفع بحلمك جهل من يجهل ، قاله ابن عباس .
الثاني : ادفع بالسلامة إساءة المسيء ، قاله عطاء .
ويحتمل ثالثاً : ادفع بالتغافل إساءة المذنب ، والذنب من الأدنى ، والإساءة من الأعلى .
{ فإذا الذي بينك وبينه عداوةٌ كأنه ولي حميمٌ } قاله عكرمة : الولي الصديق ، والحميم القريب .
وقيل هذه الآية نزلت في أبي جهل بن هشام كان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمره بالصبر عليه والصفح عنه .
قوله عز وجل : { وما يلقاها إلا الذين صبروا } فيه وجهان :
أحدهما : ما يلقى دفع السيئة بالحسنة إلا الذين صبروا على الحلم .
الثاني : ما يلقى الجنة إلا الذين صبروا على الطاعة .
{ وما يلقاها إلا ذو حَظٍ عظيمٍ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : ذو جد عظيم ، قاله السدي .
الثاني : ذو نصيب [ وافر ] من الخير ، قاله ابن عباس .
الثالث : أن الحظ العظيم الجنة . قال الحسن : والله ما عظم حظ قط دون الجنة .
ويحتمل رابعاً : أنه ذو الخلق الحسن .
قوله عز وجل : { وإما ينزغنك مِن الشيطان نزغ } فيه خمسة تأويلات :
أحدها : أنه النزغ الغضب ، قاله ابن زيد .
الثاني : أنه الوسوسة وحديث النفس ، قاله السدي .
الثالث : أنه النجس ، قاله ابن عيسى .
الرابع : أنه الفتنة ، قاله ابن زياد .
الخامس : أنه الهمزات ، قاله ابن عباس .
{ فاستعذ بالله } أي اعتصم بالله .
{ إنه هو السميع } لاستعاذتك { العليم } بأذيتك .
وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)

قوله عز وجل : { ومن آياته الليل والنهار } ووجه الآيات فيهما تقديرهما على حد مستقر ، وتسييرهما على نظم مستمر ، يتغايران لحكمة ويختلفان لمصلحة .
{ والشمس والقمر } ووجه الآية فيهما ما خصهما به من نور ، وأظهره فيهما من تدبير وتقدير .
{ لا تسجُدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن } قال الزجاج : أي خلق هذه الآيات .
وفي موضع السجود من هذه الآية قولان :
أحدهما : عند قوله { إن كنتم إياه تعبدون } قاله ابن مسعود والحسن .
الثاني : عند قوله { وهم لا يسأمون } قاله ابن عباس وقتادة .
قوله عز وجل : { ومِن آياته أنك ترىلأرض خاشعةً } فيه وجهان :
أحدهما : غبراء دراسة ، قاله قتادة .
الثاني : ميتة يابسة ، قاله السدي .
ويحتمل ثالثاً : ذليلة بالجدب لأنها مهجورة ، وهي إذا أخصبت عزيزة لأنها معمورة .
{ فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت } فيه وجهان :
أحدهما : اهتزت بالحركة للنبات ، وربت بالارتفاع قبل أن تنبت ، قاله مجاهد .
الثاني : اهتزت بالنبات وربت بكثرة ريعها ، قاله الكلبي . فيكون على قول مجاهد تقديم وتأخير تقديره : ربت واهتزت .
{ إن الذي أحياها لمحيي الموتى } الآية ، جعل ذلك دليلاً لمنكري البعث على إحياء الخلق بعد الموت استدلالاً بالشاهد على الغائب .
إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (43)

قوله عز وجل : { إن الذين يلحدون في آياتنا } فيه خمسة تأويلات :
أحدها : يكذبون بآياتنا ، قاله قتادة .
الثاني : يميلون عن آياتنا ، قاله أبو مالك .
الثالث : يكفرون بنا ، قاله ابن زيد .
الرابع : يعاندون رسلنا ، قاله السدي .
الخامس : هو المكاء والتصفيق عند تلاوة القرآن ، قاله مجاهد .
{ لا يخفون علينا } وهذا وعيد .
{ أفمن يلقى في النار خير أم من يأتي آمناً يوم القيامة } فيه أربعة أقاويل :
أحدها : أن الذي يلقى في النار أبو جهل ، والذي يأتي آمناً عمار بن ياسر ، قاله عكرمة .
الثاني : أن الذي يلقى في النار أبو جهل ، والذي يأتي آمنا يوم القيامة عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، قاله ابن زياد .
الثالث : أن الذي يلقى في النار أبو جهل وأصحابه قال الكلبي ، والذي يأتي آمناً رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قاله مقاتل .
الرابع : أنهاعلى العموم فالذي يلقى في النار الكافر ، والذي يأتي آمناً يوم القيامة المؤمن ، قاله ابن بحر .
{ اعملوا ما شئتم } هذا تهديد .
{ إنه بما تعملون بصير } وعيد ، فهدد وتوعد .
قوله عز وجل : { إنّ الذين كفروا بالذكر لما جاءهم } الذكر هنا القرآن في قول الجميع ، وله جواب محذوف تقديره : هالكون أو معذبون .
{ وإنه لكتابٌ عزيز } فيه وجهان :
أحدهما : عزيز من الشيطان أن يبدله ، قاله السدي .
الثاني : يمتنع على الناس أن يقولوا مثله ، قاله ابن عباس .
{ لا يأتيه الباطل } في { الباطل } هنا أربعة أقاويل :
أحدها : أنه إبليس ، قاله قتادة .
الثاني : أنه الشيطان ، قاله ابن جريج .
الثالث : التبديل ، قاله مجاهد .
الرابع : التعذيب ، قاله سعيد .
ويحتمل خامساً : أن الباطل التناقض والاختلاف .
{ من بين يديه ولا من خلفِه } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : لا يأتيه الباطل من كتاب قبله ، ولا يأتيه من كتاب بعده ، قاله قتادة .
الثاني : لا يأتيه الباطل من أول التنزيل ولا من آخره .
الثالث : لا يأتيه الباطل في إخباره عما تقدم ولا في إخباره عما تأخر ، قاله ابن جريج .
ويحتمل رابعاً : ما بين يديه : لفظه وما خلفه : تأويله ، فلا يأتيه الباطل في لفظ ولا تأويل :
{ تنزيل من حكيم حميد } قال قتادة : حكيم في أمره حميد إلى خلقه .
قوله عز وجل : { ما يُقالُ لك إلا ما قد قِيل للرسل من قبلك } فيه وجهان :
أحدهما : ما يقول المشركون لك إلا ما قاله من قبلهم لأنبيائهم إنه ساحر أو مجنون ، قاله قتادة .
الثاني : ما تخبر إلا بما يخبر الأنبياء قبلك ب { إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب أليم } حكاه ابن عيسى وقاله الكلبي .
وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45)

قوله عز وجل : { ولو جعلناه قرآناً أعجمياً } فيه وجهان :
أحدهما : يعني بالأعجمي غير المبين وإن كان عربيّاً ، قاله المفضل .
الثاني : بلسان أعجمي .
{ لقالوا لولا فصلت آياته } أي بينت آياته لنا بالعربية على الوجه الثاني ، والفصح على الوجه الأول .
{ ءاعجميٌ } فيه وجهان :
أحدهما : كيف يكون القرآن أعجمياً ومحمد صلى الله عليه وسلم عربي؟ قاله سعيد بن جبير .
الثاني : كيف يكون القرآن أعجميّاً ونحن قوم عرب؟ قاله السدي . قال مجاهد أعجمي الكلام وعربي الرجل .
{ قل هو للذين آمنوا هُدىً وشفاءٌ } يحتمل وجهين :
أحدهما : هدى للأبصار وشفاء للقلوب .
الثاني : هدى من الضلال وشفاء من البيان .
{ والذين لا يؤمنون في آذنهم وقرٌ } أي صمم .
{ وهو عليهم عَمىً } أي حيرة ، وقال قتادة : عموا عن القرآن وصموا عنه .
{ أولئك ينادون من مكان بعيد } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : من مكان بعيد من قلوبهم ، قاله علي كرم الله وجهه ومجاهد .
الثاني : من السماء ، حكاه النقاش .
الثالث : ينادون بأبشع أسمائهم ، قاله الضحاك .
ويحتمل رابعاً : من مكان بعيد من الإجابة .
مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46) إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47) وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48)

قوله عز وجل : { وَظَنُّواْ مَا لَهُم مِّن مَّحِيصٍ } فيه وجهان :
أحدهما : علمواْ ما لهم من معدل .
الثاني : استيقنوا أن ليس لهم ملجأ من العذاب ، قاله السدي ، وقد يعبر بالظن عن اليقين فيما طريقه الخبر دون العيان لأن الخبر محتمل والعيان غير محتمل .
لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (50) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (51)

قوله عز وجل : { لاَّ يَسْأَمُ الإِنسَانُ مِن دُعَآءِ الْخَيْرِ } أي لا يمل من دعائه بالخير ، والخير هنا المال والصحة ، قاله السُدي ، والإنسان هنا يراد به الكافر .
{ وَإِن مَّسَّهُ الشَّرُ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ } يعني الفقر والمرض ، ويحتمل وجهين :
أحدهما : يؤوس من الخير قنوط من الرحمة .
الثاني : يؤوس من إجابة الدعاء ، قنوط بسوء الظن بربه .
قوله عز وجل : { وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ } يحتمل وجهين :
أحدهما : رخاء بعد شدة .
الثاني : غنى بعد فقر .
{ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي } فيه وجهان :
أحدهما : هذا باجتهادي .
الثاني : هذا باستحقاقي .
{ وَمَآ أَظُنُّ السَّاعَةَ قَآئِمَةً } إنكاراً منه للبعث والجزاء مع ما حظ به من النعمة والرخاء ودفع عنه من الضر والبلاء .
{ وَلَئِنِ رُّجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَى } الآية . إن كان كما زعمتم رجعة وجزاء فإن لي عنده آجلاً مثل ما أولانيه عاجلاً . وقيل إنها نزلت في النضر بن الحارث .
قوله عز وجل : { وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَئَا بِجَانِبِه } يحتمل ثلاثة أوجه :
أحدها : أعرض عن الإيمان وتباعد من الواجب .
الثاني : أعرض عن الشكر وبعد من الرشد .
الثالث : أعرض عن الطاعة وبعد من القبول .
{ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَآءٍ عَرِيضٍ } فيه وجهان :
أحدهما : تام لخلوص الرغبة فيه .
الثاني : كثير لدوام المواصلة له ، وهو معنى قول السدي ، وإنما وصف التام والكثير بالعريض دون الطويل لأن العرض يجمع طولاً وعرضاً فكان أعم ، قال ابن عباس : الكافر يعرف ربه في البلاء ولا يعرفه في الرخاء .
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (52) سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54)

قوله عز وجل : { سَنُرِيهِمْ ءَايَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ } فيه خمسة أقاويل :
أحدها : أن في الآفاق فتح أقطار الأرض ، وفي أنفسهم فتح مكة ، قاله السدي .
الثاني : في الآفاق ما أخبر به من حوادث الأمم ، وفي أنفسهم ما أنذرتهم به من الوعيد .
الثالث : أنها في الآفاق آيات السماء وفي أنفسهم حوادث الأرض .
الرابع : أنها في الآفاق إمساك القطر عن الأرض كلها وفي أنفسهم البلاء الذي يكون في أجسادهم ، قاله ابن جريج .
الخامس : أنها في الآفاق انشقاق القمر ، وفي أنفسهم كيف خلقناهم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة ، وكيف إدخال الطعام والشراب من موضع واحدٍ وإخراجه من موضعين آخرين ، قاله الضحاك .
{ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ } فيه وجهان :
أحدهما : يتبين لهم أن القرآن حق .
الثاني : أن ما جاءهم به الرسول صلى الله عليه وسلم إليه حق .
{ أَولَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ } يعني أولم يكفك من ربك .
{ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } يحتمل وجهين :
أحدهما : عليم .
الثاني : حفيظ .
قوله عز وجل : { أَلآ إِنَّهُمْ في مِرْيَةٍ مِّن لِّقَاءِ رَبِّهِمْ } قال السُّدي في شكٍ من البعث .
{ أَلآ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ } فيه وجهان :
أحدهما : أحاط علمه بكل شيء ، قاله السدي .
الثاني : أحاطت قدرته بكل شيء ، قاله الكلبي .
حم (1) عسق (2) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6)

قوله عز وجل : { حم عسق } فيه سبعة تأويلات .
أحدها : أنه اسم من أسماء القرآن ، قاله قتادة .
الثاني : أنه اسم من أسماء الله أقسم به ، قاله ابن عباس .
الثالث : فواتح السور ، قاله مجاهد .
الرابع : أنه اسم الجبل المحيط بالدنيا ، قاله عبد الله بن بريدة .
الخامس : أنها حروف مقطعة من أسماء الله فالحاء والميم من الرحمن والعين من العليم ، والسين من القدوس ، والقاف من القاهر ، قاله محمد بن كعب . السادس : أنها حروف مقطعة من حوادث آتية ، فالحاء من حرب والميم من تحويل ملك ، والعين من عدو مقهور ، والسين من استئصال سنين كسني يوسف ، والقاف من قدرة الله في ملوك الأرض ، قاله عطاء .
السابع : ما حُكي عن حذيفة بن اليمان أنها نزلت في رجلٍ يقال له عبد الإله كان في مدينة على نهر بالمشرق خسف الله بها ، فذلك قوله حم يعني عزيمة من الله تعالى ، عين يعني عدلاً منه : سين يعني سكون ، قاف يعني واقعاً بهم .
وكان ابن عباس يقرؤها : { حم سق } بغير عين ، وهي في مصحف ابن مسعود كذلك حكاه الطبري .
قوله عز وجل : { تَكَادُ السَّمَواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : يتشققن فَرَقاً من عظمة الله ، قاله الضحاك والسُّدي ، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه :
ليت السماء تفطرت أكنافها ... وتناثرت منها نجوم
الثاني : من علم الله ، قاله قتادة .
الثالث : ممن فوقهن ، قاله ابن عباس .
الرابع : لنزول العذاب منهن .
{ وَالْمَلآئِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ } فيه وجهان :
أحدهما : بأمر ربهم ، قاله السدي .
الثاني : بشكر ربهم .
وفي تسبيحهم قولان :
أحدهما : تعجباً مما يرون من تعرضهم لسخط الله ، قاله علي رضي الله عنه .
الثاني : خضوعاً لما يرون من عظمة الله ، قاله ابن عباس .
{ وَيَسْتَغْفِرُونَ لَمَن فِي الأَرْضِ } فيه قولان :
أحدهما : لمن في الأرض من المؤمنين ، قاله الضحاك والسدي .
الثاني : للحسين بن علي رضي الله عنهما ، رواه الأصبغ بن نباتة عن علي كرم الله وجهه .
وسبب استغفارهم لمن في الأرض ما حكاه الكلبي أن الملائكة لما رأت الملكين اللذين اختبرا وبعثا إلى الأرض ليحكما بينهم ، فافتتنا بالزهرة وهربا إلى إدريس وهو جد أبي نوح عليه السلام ، وسألاه أن يدعو لهما سبحت الملائكة بحمد ربهم واستغفرت لبني آدم .
وفي استغفارهم قولان :
أحدهما : من الذنوب والخطايا . وهو ظاهر قول مقاتل .
الثاني : أنه طلب الرزق لهم والسعة عليهم ، قاله الكلبي .
وفي هؤلاء الملائكة قولان :
أحدهما : أنهم جميع ملائكة السماء وهو الظاهر من قول الكلبي .
الثاني : أنهم حملة العرش . قال مقاتل وقد بين الله ذلك من حم المؤمن فقال { الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَن حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ } وقال مطرف : وجدنا أنصح عباد الله لعباد الله الملائكة ، ووجدنا أغش عباد الله لعباد الله الشياطين .
وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (8)

قوله عز وجل : { وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً } قال الضحاك أهل دين واحد أهل ضلالة أو أهل هدى .
{ وَلَكِن يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فَِي رَحْمَتِهِ } قال أنس بن مالك : في الإسلام .
{ وَالْظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِّن وَلِيٍّ } يمنع { وَلاَ نَصِيرٍ } يدفع .
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12)

قوله عز وجل : { جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً } يعني ذكوراً وإناثاً .
{ وَمِنَ الأَنْعَامِ أزْوَاجاً } يعني ذكوراً وإناثاً .
{ يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ } وفيه ستة تأويلات :
أحدها : يخلقكم فيه ، قاله السدي .
الثاني : يكثر نسلكم فيه ، قاله الفراء .
الثالث : يعيشكم فيه ، قاله قتادة .
الرابع : يرزقكم فيه ، قاله ابن زيد .
الخامس : يبسطكم فيه ، قاله قطرب .
السادس : نسلاً من بعد نسل من الناس والأنعام ، قاله مجاهد .
{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } فيه وجهان :
أحدهما : ليس كمثل الرجل والمرأة شيء ، قاله ابن عباس ، والضحاك .
الثاني : ليس كمثل الله شيء وفيه وجهان :
أحدهما : ليس مثله شيء والكاف زائدة للتوكيد ، قال الشاعر :
سعد بن زيد إذا أبصرت فضلهم ... ما إن كمثلهم في الناس من أحد
الثاني : ليس شيء ، والمثل زائد للتوكيد ، قاله ثعلب .
قوله عز وجل : { لَهُ مَقَالِيدُ السَّموَاتِ وَالأَرْضِ } فيه قولان :
أحدهما : خزائن السموات والأرض ، قاله السدي .
الثاني : مفاتيح السموات والأرض ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، والضحاك .
ثم فيهما قولان :
أحدهما : أنه المفاتيح بالفارسية ، قاله مجاهد .
الثاني : أنه عربي جمع واحده إقليد ، قاله ابن عيسى .
وفيما هو مفاتيح السموات والأرض خمسة أقاويل :
أحدها : أن مفاتيح السماء المطر ومفاتيح الأرض النبات .
الثاني : أنها مفاتيح الخير والشر .
الثالث : أن مقاليد السماء الغيوب ، ومقاليد الأرض الآفات .
الرابع : أن مقاليد السماء حدوث المشيئة ، ومقاليد الأرض ظهور القدرة .
الخامس : أنها قول لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله وبحمده ، وأستغفر الله ولا حول ولا قوة إلا بالله ، هو الأول والآخر والظاهر والباطن ، بيده الخير يحيي ويميت وهوعلى كل شيء قدير ، رواه ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قاله وعلمه لعثمان بن عفان وقد سأله عن مقاليد السماء والأرض .
{ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ } فيه وجهان :
أحدهما : يوسع ويضيق .
الثاني : يسهل ويعسر .
{ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } من البسط والقدرة .

==================

ج12. كتاب : النكت والعيون أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي



شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14)

قوله عز وجل : { شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً } وفي { شَرَعَ لَكُم } أربعة أوجه :
أحدها : سن لكم .
الثاني : بيَّن لكم .
الثالث : اختار لكم ، قاله الكلبي .
الرابع : أوجب عليكم .
{ مِنَ الدِّينِ } يعني الدين ومن زائدة في الكلام .
وفي { مَا وَصَّى بِهِ نوحاً } وجهان :
أحدهما : تحريم الأمهات والبنات والأخوات ، لأنه أول نبي أتى أمته بتحريم . ذلك ، قاله الحكم .
الثاني : تحليل الحلال وتحريم الحرام ، قاله قتادة .
{ وَالَّذِي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُواْ الدِّينَ } فيه وجهان :
أحدهما : اعملوا به ، قاله السدي .
الثاني : ادعوا إليه . قال مجاهد : دين الله في طاعته وتوحيده واحد .
ويحتمل وجهاً ثالثاً : جاهدوا عليه من عانده .
{ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ } وفيه وجهان :
أحدهما : لا تتعادوا عليه ، وكونوا عليه إخواناً ، قاله أبو العالية .
الثانية : لا تختلفوا فيه فإن كل نبي مصدق لمن قبله ، قاله مقاتل .
{ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ } قاله قتادة : من شهادة أن لا إله إلا الله .
ويحتمل أن يكون من الاعتراف بنبوته ، لأنه عليهم أشد وهم منه أنفر .
{ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَآءُ } الآية . فيه وجهان :
أحدهما : يجتبي إليه من يشاء هو من يولد على الإسلام .
{ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ } هو من يسلم من الشرك ، قاله الكلبي .
الثاني : يستخلص إليه من يشاء . قاله مجاهد ويهدي إليه من يقبل على طاعته ، قاله السدي .
قوله عز وجل : { وَمَا تَفَرَّقُواْ } فيه وجهان :
أحدهما : عن محمد صلى الله عليه وسلم .
الثاني : في القرآن .
{ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءهُمُ الْعِلْمُ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : إلا من بعد ما تبحروا في العلم ، قاله الأعمش .
الثاني : إلا من بعد ما علمواْ أن الفرقة ضلال ، قاله ابن زياد .
الثالث : إلا من بعد ما جاءهم القرآن ، وسماه علماً لأنه يتعلم منه .
{ بَغْياً بَيْنَهُمْ } فيه وجهان :
أحدهما : لابتغاء الدنيا وطلب ملكها ، قاله أُبي بن كعب .
الثاني : لبغي بعضهم على بعض ، قاله سعيد بن جبير .
{ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِكَّ } فيه وجهان :
أحدهما : في رحمته للناس على ظلمهم .
الثاني : في تأخير عذابهم ، قال قتادة .
{ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى } إلى قيام الساعة لأن الله تعالى يقول : { بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُم } الآية .
ويحتمل إلى الأجل الذي قُضِيَ فيه بعذابهم .
{ لَّقُضِيَ بَيْنَهُمْ } أي لعجل هلاكهم .
{ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُواْ الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ } فيهم قولان :
أحدهما : أنهم اليهود والنصارى ، قاله السدي .
الثاني : أنهم نبئوا من بعد الأنبياء ، قاله الربيع .
{ لفِي شَكٍ مِّنْهُ مُريبٍ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : لفي شك من القرآن ، قاله الربيع .
الثاني : لفي شك من الإخلاص ، قاله أبو العالية .
الثالث : لفي شك من صدق الرسول ، قاله السدي .


فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15)

قوله عز وجل : { فَلِذَالِكَ فَادْعُ } معناه فإلى ذلك فادع ، وفي المراد بذلك وجهان :
أحدهما : القرآن ، قاله الكلبي .
الثاني : التوحيد ، قاله مقاتل .
وفي قوله : { فَادْعُ } وجهان :
أحدهما : فاعتمد .
الثاني : فاستدع .
{ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ . . . } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : واستقم على أمر الله ، قاله قتادة .
الثاني : على القرآن ، قاله سفيان .
الثالث : فاستقم على تبليغ الرسالة ، قاله الضحاك .
وفي قوله : { . . . وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُم } وجهان :
أحدهما : في الأحكام .
الثاني : في التبليغ .
وفي قوله : { لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ } ثلاثة أوجه :
أحدها : لا خصومة بيننا وبينكم ، قاله مجاهد ، قال السدي : وهذه قبل السيف ، وقبل أن يؤمر بالجزية .
الثاني : معناه فإنكم بإظهار العداوة قد عدلتم عن طلب الحجة ، قاله ابن عيسى .
الثالث : معناه إنا قد أعذرنا بإقامة الحجة عليكم فلا حجة بيننا وبينكم نحتاج إلى إقامتها عليكم .
وقيل إن هذه الآية نزلت في الوليد ابن المغيرة وشيبة بن ربيعة وقد سألا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرجع عن دعوته ودينه إلى دين قريش على أن يعطيه الوليد نصف ماله ويزوجه شيبة بابنته .


وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16) اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (18)

قوله عز وجل : { وَالَّذِينَ يُحَآجُّونَ فِي اللَّهِ } فيه قولان :
أحدهما : في توحيد الله عز وجل .
الثاني : أنهم اليهود قالوا : كتابنا قبل كتابكم ، ونبينا قبل نبيكم ، ونحن خير منكم ، قاله قتادة .
{ مِن بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : من بعد ما أجابه الله إلى إظهاره من المعجزات .
الثاني : من بعد ما أجاب الله الرسول من المحاجة .
الثالث : من بعد ما استجاب المسلمون لربهم وآمنوا بكتابه ورسوله ، قاله ابن زيد .
{ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ } فيه وجهان :
أحدهما : باطلة ، قاله ابن عيسى .
الثاني : خاسرة ، قاله ابن زيد .
قوله عز وجل : { اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ } فيه وجهان : أحدهما : بالمعجز الدال على صحته .
الثاني : بالصدق فيما أخبر به من ماض ومستقبل .
{ وَالْمِيزَانَ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه الجزاء على الطاعة بالثواب وعلى المعصية بالعقاب .
الثاني : أنه العدل فيما أمر به ونهى عنه ، قاله قتادة .
الثالث : أنه الميزان الذي يوزن به ، أنزله الله من السماء وعلم عباده الوزن به لئلا يكون بينهم تظالم وتباخس ، قال قتادة : الميزان العدل . { وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ } فلم يخبره بها ، ولم يؤنث قريب لأن الساعة تأنيثها غير حقيقي لأنها كالوقت .


اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19) مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22)

قوله عز وجل : { مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ } الآية . فيه وجهان :
أحدهما : أن الله تعالى يعطي على نية الآخرة من شاء من أمر الدنيا ، ولا يعطي على نية الدنيا إلا الدنيا ، قاله قتادة .
الثاني : معناه من عمل للآخرة أعطاه الله بالحسنة عشر أمثالها ، ومن عمل للدنيا لم يزد على من عمل لها . { وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةَ مِن نَّصِيبٍ } في الجنة وهذا معنى قول ابن زيد وشبه العامل الطالب بالزارع لاجتماعهما في طلب النفع .


ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (24)

قوله عز وجل : { قُل لاَّ أسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى } فيه خمسة أوجه :
أحدها : معناه ألا تؤذوني في نفسي لقرابتي منكم ، وهذا لقريش خاصة لأنه لم يكن بطن من قريش إلا بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم قرابة ، قاله ابن عباس ، وعكرمة ، ومجاهد ، وأبو مالك .
الثاني : معناه إلا أن تؤدوا قرابتي ، وهذا قول علي بن الحسين وعمرو بن شعيب والسدي . وروى مقسم عن ابن عباس قال : سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم سيئاً فخطب فقال للأنصار « أَلَمْ تَكُونُواْ أَذِلاَّءَ فَأعِزَّكُمُ اللَّهُ بِي؟ أَلَمْ تَكُونُوا ضُلاَّلاً فَهَداَكُمْ اللَّهُ بِي؟ أَلَمْ تَكُونُوا خأَئِفِينَ فَأَمَّنَكُمُ اللَّهُ بِي؟ أَلاَ تَردُواْ عَلَيَّ » فقالواْ : بم نجيبك؟ فقال تَقُولُونَ : « أَلَمْ يَطْرُدْكَ قَوْمُكَ فَآوَيَنَاكَ؟ أَلَمْ يُكَذِّبْكَ قَومَكَ فَصَدَّقْنَاكَ؟ » فعد عليهم ، قال : فجثوا على ركبهم وقالواْ : أنفسنا وأموالنا لك « . فنزلت { قُل لاَّ أَسْأَلَكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى } .
الثالث : معناه إلا أن توادوني وتؤازروني كما توادون وتؤازرون قرابتكم ، قاله ابن زيد .
الرابع : معناه إلا أن تتوددوا وتتقربوا إلى الله بالطاعة والعمل الصالح ، قاله الحسن ، وقتادة .
الخامس : معناه إلا أن تودوا قرابتكم وتصلوا أرحامكم ، قاله عبد الله بن القاسم .
{ وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنةً } أي يكتسب ، وأصل القرف الكسب .
{ نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً } أي نضاعف له بالحسنة عشراً .
{ إِنَّ اللَّه غَفُورٌ شَكُورٌ } فيه وجهان :
أحدهما : غفور للذنوب ، شكور للحسنات ، قاله قتادة .
الثاني : غفور لذنوب آل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، شكور لحسناتهم ، قاله السدي .
قوله عز وجل : { فَإِن يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أي ينسيك ما قد آتاك من القرآن ، قاله قتادة .
الثاني : معناه يربط على قلبك فلا يصل إليه الأذى بقولهم افترى على الله كذباً ، قاله مقاتل .
الثالث : معناه لو حدثت نفسك أن تفتري على الله كذباً لطبع الله على قلبك ، قاله ابن عيسى .
{ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ } يحتمل وجهين :
أحدهما : ينصر دينه بوعده .
الثاني : يصدق رسوله بوحيه .


وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (26) وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28)

قوله عز وجل : { وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعدِ مَا قَنَطُواْ } والقنوط الإياس ، قاله قتادة .
قيل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه : جدبت الأرض وقنط الناس فقال : مطروا إذن . والغيث ما كان نافعاً في وقته ، والمطر قد يكون ضاراً ونافعاً في وقته وغير وقته .
{ ويَنشُرُ رَحْمَتَهُ } بالغيث فيما يعم ويخص .
{ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ } فيه وجهان :
أحدهما : الولي المالك ، والحميد مستحق الحمد .
الثاني : الولي المنعم والحميد المستحمد .


وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29) وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (31)

قوله عز وجل : { وَمَآ أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ } فيه قولان :
أحدهما : أنه الحدود على المعاصي ، قاله الحسن .
الثاني : أنها البلوى في النفوس والأموال عقوبة على المعاصي والذنوب .
قال النبي صلى الله عليه وسلم : « مَا يُصِيبُ ابنَ آدَمَ خَدْشُ عُوْدٍ وَلاَ عَثْرَةُ قَدَمٍ وَلاَ اخْتِلاَجُ عِرْقٍ إِلاَّ بِذَنبٍ وَمَا يَعْفُو عَنهُ أَكْثَرَ » وقال ثابت البناني . كان يقال ساعات الأذى يذهبن ساعات الخطايا .
ثم فيها قولان :
أحدهما : أنها خاصة في البالغين أن تكون عقوبة لهم؛ وفي الأطفال أن تكون مثوبة لهم .
الثاني : عقوبة عامة للبالغين في أنفسهم وللأطفال في غيرهم من والدٍ أو والدة ، قاله العلاء بن زيد .
{ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ } فيه وجهان :
أحدهما : عن كثير من المعاصي أن لا يكون عليها حدود ، وهو مقتضى قول الحسن .
الثاني : عن كثير من العصاة وأن لا يعجل عليهم بالعقوبة .
قال علي رضي الله عنه : ما عاقب الله به في الدنيا فالله أحلم من أن يثني عليه العقوبة يوم القيامة ، وما عفا الله عنه في الدنيا فالله أكرم من أن يعود في عفوه يوم القيامة .


وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35)

قوله عز وجل : { وَمِن ءَايَاتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلاَمِ } قال مجاهد هي السفن في البحر { كَالأَعْلاَمِ } أي كالجبال ، ومنه قول الخنساء :
وإنَّ صَخْراً لتأتَمُّ الهُدَاةُ به ... كأنَّه علمٌ في رأسِه نار
{ إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ } أي وقوفاً على ظهر الماء ، قال قتادة : لأن سفن هذا البحر تجري بالريح . فإذا أمسكت عنها ركدت .
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } صبار على البلوى ، شكور على النعماء .
قال قطرب : نعم العبد الصبار الشكور الذي إذا أعْطِي شكر ، وإذا ابتُلِيَ صبر .
قال عون بن عبد الله : فكم من منعم عليه غير شاكر ، وكم من مبتلٍ غير صابر .
{ أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُواْ } معناه يغرقهن بذنوب أهلها .
{ ويَعْفُ عَن كَثِيرٍ } من أهلها فلا يغرقهم معها .
{ مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ } فيه وجهان :
أحدهما : من فرار ومهرب ، قاله قطرب .
الثاني : ملجأ ، قاله السُدي مأخوذ من قولهم حاص به البعير حيصة إذا مال به ، ومنه قولهم فلان يحيص عن الحق أي يميل عنه .


فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39)

قوله عز وجل : { وَالَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمْ } قال عبد الرحمن بن زيد : هم الأنصار بالمدينة استجابوا إلى الإيمان بالرسول حين أنفذ إليهم قبل الهجرة اثني عشر نقيباً منهم .
{ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ } فيها وجهان :
أحدهما : أنه المحافظة على مواقيتها ، قاله قتادة .
الثاني : إتمامها بشروطها ، قاله سعيد بن جبير .
{ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ } فيه أربع أوجه :
أحدها : أنهم كانوا قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم إليهم إذا أرادوا أمراً تشاوروا فيه ثم عملواْ عليه فمدحهم الله تعالى به ، قاله النقاش .
الثاني : يعني أنهم لانقيادهم إلى الرأي في أمورهم متفقون لا يختلفون فمدحوا على اتفاق كلمتهم . قال الحسن : ما تشاور قوم قط إلا هدوا لأرشد أمورهم .
الثالث : هو تشاورهم حين سمعوا بظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم وورود النقباء إليهم حتى اجتمع رأيهم في دار أبي أيوب على الإيمان به والنصرة له ، قاله الضحاك .
الرابع : أنهم يتشاورون فيما يعرض لهم فلا يستأثر بعضهم بخير دون بعض .
{ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُم يُنفِقُونَ } فيه وجهان :
أحدهما : يريد به أداء الزكاة من أموالهم ، قاله السدي .
الثاني : إنفاق الحلال من أكسابهم ، وهو محتمل .
قوله عز وجل : { وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُم الْبَغْيُ هُم يَنتَصِرُونَ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أصابهم يعني المشركين على دينهم انتصروا بالسيف منهم . قاله ابن جريج .
الثاني : أصابهم يعني باغ عليهم كره لهم أن يستذلوا ، فإذا قدروا عفوا ، قاله إبراهيم .
الثالث : إذا أصابهم البغي تناصروا عليه حتى يزايلوه عنهم ويدفعوه عنهم ، قاله ابن بحر .


وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)

قوله عز وجل : { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } فيه قولان :
أحدهما : أنه محمول على الجراح التي تتمثل في القصاص دون غيرها من سب أو شتم ، قاله الشافعي ، وأبو حنيفة ، وسفيان .
الثاني : أنه محمول على مقابلة الجراح ، وإذا قال أخزاه الله أو لعنه الله أن يقول مثله ، ولا يقابل القذف بقذف ولا الكذب بكذب ، قاله ابن أبي نجيح والسدي . وسمي الجزاء سيئة لأنه في مقابلتها وأنها عند المعاقب بها سواء .
{ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ } فأذن في الجزاء وندب إلى العفو .
وفي قوله : { وأَصْلَحَ } وجهان :
أحدهما : أصلح العمل ، قاله سعيد بن جبير .
الثاني : أصلح بينه وبين أخيه ، قاله ابن زياد ، وهذا مندوب إليه في العفو عن التائب دون المصرّ . روى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إِذَا كَانَ يَومُ القِيَامَةِ نَادَى مُنَادٍ . مَن كَانَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ فَلْيَدْخُلِ الجَنَّةَ ، فَيُقَالُ مَن ذَا الَّذي أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ فَيَقُولُونَ العَافُونَ عَنِ النَّاسِ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ بِغَيرِ حِسَابٍ » .
{ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظّالِمِينَ } فيه وجهان :
أحدهما : الظالمين في الابتداء ، قاله سعيد بن جبير .
الثاني : المعتدي في الجزاء ، قاله ابن عيسى .
قوله عز وجل : { وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ } أي استوفى حقه بنفسه .
{ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ } وهذا ينقسم ثلاثة أقسام :
أحدها : أن يكون قصاصاً في بدن يستحقه آدمي فلا حرج عليه فيه إذا استوفاه من غير عدوان ، وثبت حقه عند الحكام ، لكن يزجره الإمام في تفرده بالقصاص لما فيه من الجرأة على سفك الدماء ، وإن كان حقه غير ثابت عند الحكام فليس عليه فيما بينه وبين الله حرج وهو في الظاهر مطالب وبفعله مؤاخذ .
والقسم الثاني : أن يكون حداً لله لا حق فيه لآدمي كحد الزني وقطع السرقة . فإن لم يثبت ذلك عند حاكم أخذ به وعوقب عليه ، وإن ثبت عند حاكم نظر فإن كان قطعاً في سرقة سقط به الحد لزوال العضو المستحق قطعه ، ولم يجب عليه في ذلك حق إلا التعزير أدباً ، وإن كان جلداً لم يسقط به الحد لتعديه به مع بقاء محله وكان مأخوذاً بحكمه .
القسم الثالث : أن يكون حقاً في مال فيجوز لصاحبه أن يغالب على حقه حتى يصل إليه إن كان من هو عليه عالماً به ، وإن كان غير عالم نظر ، فإن أمكنه الوصول إليه عند المطالبة لم يكن له الاستسرار بأخذه ، وإن كان لا يصل إليه بالمطالبة لجحود من هو عليه مع عدم بينة تشهد به ففي جواز الاستسرار بأخذه مذهبان :
أحدهما : جوازه ، وهو قول مالك ، والشافعي .
الثاني : المنع ، قاله أبو حنيفة .
قوله عز وجل : { إِنَّما السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ } فيه قولان :
أحدهما : يظلمون الناس بعدوانهم عليهم وهو قول كثير منهم .

الثاني : يظلمونهم بالشرك المخالف لدينهم ، قاله ابن جريج .
{ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه بغيهم في النفوس والأموال ، وهو قول الأكثرين .
الثاني : عملهم بالمعاصي ، قاله مقاتل .
الثالث : هو ما يرجوه كفار قريش أن يكون بمكة غير الإسلام ديناً ، قاله أبو مالك .
قوله عز وجل : { وَلَمِنَ صَبَرَ وَغَفَرَ } يحتمل وجهين :
أحدهما : صبر على الأذى وغفر للمؤذي .
الثاني : صبر عن المعاصي وستر المساوىء .
ويحتمل قوله : { إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ } وجهين :
أحدهما : لمن عزائم الله التي أمر بها .
الثاني : لمن عزائم الصواب التي وفق لها .
وذكر الكلبي والفراء أن هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه مع ثلاث آيات قبلها وقد شتمه بعض الأنصار فرد عليه ثم أمسك ، وهي المدنيات من هذه السورة .


وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44) وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ (45) وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46)

قوله عز وجل : { وَتَرَاهُمْ يُعْرَضَونَ عَلَيهَا } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنهم المشركون جميعاً يعرضون على جهنم عند إطلاقهم إليها ، قاله الأكثرون .
الثاني : آل فرعون خصوصاً تحبس أرواحهم في أجواف طير سود تغدو على جهنم وتروح ، فهم عرضهم ، قاله ابن مسعود .
الثالث : أنهم عامة المشركين ويعرضون على العذاب في قبورهم ، وهذا معنى قول أبي الحجاج .
{ خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ } قال السدي : خاضعين من الذل .
{ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : ينظرون بأبصار قلوبهم دون عيونهم لأنهم يحشرون عمياً ، قاله أبو سليمان .
الثاني : يسارقون النظر إلى النار حذراً ، قاله محمد بن كعب .
الثالث : بطرفٍ ذليل ، قاله ابن عباس .


اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ (48)

قوله عز وجل : { مَا لَكُم مِّن مَّلْجَإِ يَوْمَئِذٍ } فيه وجهان :
أحدهما : من منج .
الثاني : من حرز ، قاله مجاهد .
{ وَمَا لَكُم مِّن نِّكيرٍ } فيه وجهان :
أحدهما : من ناصر ينصركم ، قاله مجاهد .
الثاني : من منكر يغير ما حل بكم ، حكاه ابن أبي حاتم وقاله الكلبي .
قوله عز وجل : { وَإِنَّآ إِذَآ أَذَقْنَا الإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحخَ بِهَا } فيها وجهان :
أحدهما : أن الرحمة المطر ، قاله مقاتل .
الثاني : العافية ، قاله الكلبي .
{ وَإِن تُصِبْهُمْ سِّيئةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } فيها وجهان :
أحدهما : أنه السنة القحط ، قاله مقاتل .
الثاني : المرض ، قاله الكلبي .
{ فَإِنَّ الإِنسَانَ كَفُورٌ } يحتمل وجهين :
أحدهما : بالنعمة .
الثاني : بالله .


لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50)

قوله عز وجل : { يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذُّكُورَ } قال عبيدة : يهب لمن يشاء إناثاً لا ذكور فيهن ، ويهب لمن يشاء ذكوراً لا إناث فيهم . وأدخل الألف على الذكور دون الإناث لأنهم أشرف فميزهم بسمة التعريف .
{ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً } فيه وجهان :
أحدهما : هو أن تلد غلاماً ثم تلد جارية ثم تلد غلاماً ثم تلد جارية ، قاله مجاهد .
الثاني : هو أن تلد توأمين غلاماً وجارية ، قاله محمد بن الحنفية ، والتزويج هنا الجمع بين البنين والبنات . قال ابن قتيبة : تقول العرب زوجني إبلي إذا جمعت بين الصغار والكبار .
{ وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً } أي لا يولد له . يقال عقم فرجه عن الولادة أي منع .
وحكى النقاش أن هذه الآية نزلت في الأنبياء خصوصاً وإن عم حكمها ، فوهب للوط البنات ليس فيهن ذكر ، ووهب لإبراهيم الذكور ليس معهم أنثى ، ووهب لإسماعيل وإسحاق الذكور والإناث ، وجعل عيسى ويحيى عقيمين .


وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)

قوله عز وجل : { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً } الآية . سبب نزولها ما حكاه النقاش أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم ألا تكلم الله وتنظر إليه إن كنت نبياً صادقاً كما كلمه موسى ونظر إليه؟ فنزلت هذه الآية .
وفي قوله : { وَحْياً } وجهان :
أحدهما : أنه نفث ينفث في قلبه فيكون إلهاماً ، قاله مجاهد .
الثاني : رؤيا يراها في منامه ، قاله زهير بن محمد .
{ أَوْ مِن وَرَآءِي حِجَابٍ } قال زهير : كما كلم موسى .
{ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً } قال زهير : هو جبريل .
{ فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَآءُ } وهذا الوحي من الرسل خطاب منهم للأنبياء يسمعونه نطقاً ويرونه عياناً . وهكذا كانت حال جبريل إذا نزل بالوحي على النبي صلى الله عليه وسلم .
قال ابن عباس : نزل جبريل على كل نبي فلم يره منهم إلا محمد وعيسى وموسى وزكريا صلوات الله عليهم أجمعين ، فأما غيرهم فكان وحياً إلهاماً في المنام .
قوله عز وجل : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : رحمة من عندنا ، قاله قتادة .
الثاني : وحياً من أمرنا ، قاله السدي .
الثالث : قرآناً من أمرنا ، قاله الضحاك .
{ مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ } فيه وجهان :
أحدهما : ما كنت تدري ما الكتاب لولا الرسالة ، ولا الإيمان لولا البلوغ ، قاله ابن عيسى .
الثاني : ما كنت تدري ما الكتاب لولا إنعامنا عليك ، ولا الإيمان لولا هدايتنا لك وهو محتمل .
وفي هذا الإيمان وجهان :
أحدهما : أنه الإيمان بالله ، وهذا يعرفه بعد بلوغه وقبل نبوته .
الثاني : أنه دين الإٍسلام ، وهذا لا يعرفه إلا بعد النبوة .
{ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً . . . } فيه قولان :
أحدهما : جعلنا القرآن نوراً ، قاله السدي .
الثاني : جعلنا الإيمان نوراً . حكاه النقاش وقاله الضحاك .
{ وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } فيه قولان :
أحدهما : معناه : وإنك لتدعو إلى دين مستقيم ، قاله قتادة .
الثاني : إلى كتاب مستقيم ، قاله علي رضي الله عنه .
وقرأ عاصم الجحدري : وإنك لتُهدى ، بضم التاء أي لتُدْعَى .
قوله عز وجل : { صِرَاطِ اللَّهِ } فيه وجهان :
أحدهما : أن صراط الله هو القرآن ، قاله علي كرم الله وجهه .
الثاني : الإٍسلام ، رواه النواس بن سمعان الأنصاري عن النبي صلى الله عليه وسلم .
{ أَلاَ إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ } يحتمل وجهين :
أحدهما : أنه وعيد بالبعث .
الثاني : أنه وعيد بالجزاء ، والله أعلم .


حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ (5) وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (7) فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8)

قوله عز وجل : { حم . وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ } الكتاب هو القرآن : وفي تسميته مبيناً ثلاثة أوجه :
أحدها : لأنه بيِّن الحروف ، قاله أبو معاذ .
الثاني : لأنه بين الهدى والرشد والبركة ، قاله قتادة .
الثالث : لأن الله تعالى قد بين فيه أحكامه وحلاله وحرامه ، قاله مقاتل .
وفي هذا موضع القسم ، وفيه وجهان :
أحدهما : معناه ورب الكتاب .
الثاني : أنه القسم بالكتاب ، ولله عز وجل أن يقسم بما شاء ، وإن لم يكن ذلك لغيره من خلقه .
وجواب القسم { إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرءاناً عَرَبِيّاً } وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها : إنا أنزلناه عربياً ، قاله السدي .
الثاني : إنا قلناه قرآناً عربياً ، قاله مجاهد .
الثالث : إنا بيناه قرآناً عربياً ، قاله سفيان الثوري . ومعنى العربي أنه بلسان عربي ، وفيه قولان :
أحدهما : أنه جعل عربياً لأن لسان أهل السماء عربي ، قاله مقاتل .
الثاني : لأن كل نبي أنزل كتابه بلسان قومه ، قاله سفيان الثوري .
{ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } فيه وجهان :
أحدهما : تفهمون ، فعلى هذا يكون هذا القول خاصاً بالعرب دون العجم ، قاله ابن عيسى .
الثاني : يتفكرون قاله ابن زيد ، فعلى هذا يكون خطاباً عاماً للعرب والعجم .
قوله عز وجل : { وَإِنَّهُ فِي أَمِّ الْكِتَابِ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : جملة الكتاب .
الثاني : أصل الكتاب ، قاله ابن سيرين .
الثالث : أنها الحكمةالتي نبه الله عليها جميع خلقه ، قاله ابن بحر .
وفي { الْكِتَابِ } قولان :
أحدهما أنه اللوح المحفوظ؛ قاله مجاهد .
الثاني : أنه ذكر عند الله فيه ما سيكون من أفعال العباد مقابل يوم القيامة بما ترفعه الحفظة من أعمالهم ، قاله ابن جريج .
وفي المكنى عنه أنه في أمِّ الكتاب قولان :
أحدهما : أنه القرآن ، قاله الكلبي .
الثاني : أنه ما يكون من الخلق من طاعة ومعصية وإيمان أو كفر ، قاله ابن جريج .
{ لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ } فيه وجهان :
أحدهما : رفيع عن أن ينال فيبدل . حكيم أي محفوظ من نقص أو تغيير ، وهذا تأويل من قال أنه ما يكون من الطاعات والمعاصي .
الثاني : أنه علي في نسخه ما تقدم من الكتب ، وحكيم أي محكم الحكم فلا ينسخ ، وهذا تأويل من قال أنه القرآن .
قوله عز وجل : { أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : أفحسبتم أن نصفح ولما تفعلون ما أمرتم به؟ قاله ابن عباس .
الثاني : معناه أنكم تكذبون بالقرآن ولا نعاقبكم فيه ، قاله مجاهد .
الثالث : أي نهملكم فلا نعرفكم بما يجب عليكم ، حكاه النقاش .
الرابع : أن نقطع تذكيركم بالقرآن : وإن كذبتم به : قاله قتادة .
ويحتمل خامساً : أن نوعد ولا نؤاخذ ، ونقول فلا نفعل .
{ قَوْماً مُّسْرِفِينَ } فيه وجهان :
أحدهما : مشركين ، قاله قتادة .
الثاني : مسرفين في الرد .
ومعن صفحاً أي إعراضاً ، يقال صفحت عن فلان أي أعرضت عنه . قال ابن قتيبة : والأصل فيه إنك توليه صفحة عنقك . قال كثير في صفة امرأة :
صفحٌ فما تلقاك إلا بخيلة ... فمن قَلّ منها ذلك الوصل قلّت
أي تعرض عنه بوجهها .
قوله عز وجل : { وَمَضَى مَثَلُ الأَوَّلِينَ } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : سنة الأولين ، قاله مجاهد .
الثاني : عقوبة الأولين ، قاله قتادة .
الثالث : عِبرة الأولين ، قاله السدي .
الرابع : خبر الأولين أنهم أهلكوا بالتكذيب ، حكاه النقاش .


وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (14)

قوله عز وجل : { الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْداً } أي فراشاً .
{ وجَعَلَ لَكُم فِيهَا سُبُلاً } أي طرقاً .
ويحتمل ثانياً : أي معايش .
{ لَعَلَّكُم تَهْتَدُونَ } فيه وجهان :
أحدهما : تهتدون في أسفاركم ، قاله ابن عيسى .
الثاني : تعرفون نعمة الله عليكم ، قاله سعيد بن جبير .
ويحتمل ثالثاً : تهتدون إلى معايشكم .
قوله عز وجل : { وَالَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : الأصناف كلها ، قاله سعيد بن جبير .
الثاني : أزواج الحيوان من ذكر وأنثى ، قاله ابن عيسى .
الثالث : أن الأزواج الشتاء والصيف ، والليل والنهار ، والسموات والأرض ، والشمس والقمر ، والجنة والنار ، قاله الحسن .
ويحتمل رابعاً : أن الأزواج ما يتقلب فيه الناس من خيرٍ وشر ، وإيمان وكفر ، وغنى وفقر ، وصحة وسقم .
{ وَجَعَلَ لَكُم مِّن الْفُلْكِ } يعني السفن .
{ والأنعام ما تركبون } في الأنعام هنا قولان :
أحدهما : الإبل والبقر ، قاله سعيد بن جبير .
الثاني : الإبل وحدها : قاله معاذ . فذكرهم نعمه عليهم في تسييرهم في البر والبحر .
ثم قال { لِتَسْتَوُواْ عَلَى ظُهُورِهَا } وأضاف الظهور إلى واحد لأن المراد به الجنس فصار الواحد في معنى الجمع .
{ ثُمَّ تَذْكُرُواْ نِعمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ } أي ركبتم .
{ وَتَقُولُواْ سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا } أي ذلل لنا هذا المركب .
{ وَمَا كَنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : ضابطين ، قاله الأخفش .
الثاني : مماثلين في الأيد والقوة ، قاله قتادة من قولهم هو قرن فلان إذا كان مثله في القوة .
الثالث : مطيقين ، قاله ابن عباس والكلبي ، وأنشد قطرب لعمرو بن معدي كرب .
لقد علم القبائل ما عقيل ... لنا في النائبات بمقرنينا
وفي أصله قولان :
أحدهما : أن أصله مأخوذ من الإقران ، يقال أقرن فلان إذا أطاق . الثاني : أن أصله مأخوذ من المقارنة وهو أن يقرن بعضها ببعض في السير .
وحكى سليمان بن يسار أن قوماً كانوا في سفر ، فكانوا إذا ركبوا قالوا : { سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ } وكان فيهم رجل على ناقة له رازم وهي لا تتحرك هزالاً فقال أما أنا فإني لهذه مقرن ، قال فقصمت به فدقت عنقه .


وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19) وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20)

قوله عز وجل : { وَجَعَلُواْ لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءاً } فيه أربعة أوجه :
أحدها : عدلاً أي مثلاً ، قاله قتادة .
الثاني : من الملائكة ولداً ، قاله مجاهد .
الثالث : نصيباً ، قاله قطرب .
الرابع : أنه البنات ، والجزء عند أهل العربية البنات . يقال قد أجزأت المرأة إذا ولدت البنات . قال الشاعر :
إن أجزأت مرة قوماً فلا عجب ... قد تجزىء الحرة المذكارُ أحيانا
{ إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ } قال الحسن : يعد المصائب وينسى النعم .
قوله عز وجل : { وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلاً } أي بما جعل للرحمن البنات ولنفسه البنين .
{ ظَلَّ وَجْههُه مُسْوَداً } يحتمل وجهين :
أحدهما : ببطلان مثله الذي ضربه .
الثاني : بما بشر به من الأنثى .
{ وَهُوَ كَظِيمٌ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : حزين ، قاله قتادة .
الثاني : مكروب ، قاله عكرمة .
الثالث : ساكت ، حكاه ابن أبي حاتم . وذلك لفساد مثله وبطلان حجته .
قوله عز وجل : { أَوَمَن يُنَشَّؤُاْ فِي الْحِلْيَةِ } النشوء التربية ، والحلية الزينة . وفي المراد بها ثلاثة أوجه :
أحدها : الجواري ، قاله ابن عباس ومجاهد .
الثاني : البنات . قاله ابن قتيبة .
الثالث : الأَصنام ، قاله ابن زيد .
وفي { الْخِصَامِ } وجهان :
أحدهما : في الحجة .
الثاني : في الجدل .
{ غَيْرُ مُبِينٍ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه عني قلة البلاغة ، قاله السدي .
الثاني : ضعف الحجة ، قال قتادة : ما حاجت امرأة إلا أوشكت أن تتكلم بغير حجتها .
الثالث : السكوت عن الجواب ، قاله الضحاك وابن زيد ومن زعم أنها الأصنام .
قوله عز وجل : { وَجَعَلُواْ الْمَلآئِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمنِ إِنَاثاً } في قوله { عِبَادُ الرَّحْمَنِ } وجهان :
أحدهما : أنه سماهم عباده على وجه التكريم كما قال { وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الِّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً } .
الثاني : أنه جمع عابد .
وفي قوله : { إِنَاثاً } وجهان :
أحدهما : أي بنات الرحمن .
الثاني : ناقصون نقص البنات .
{ أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ } يحتمل وجهين :
أحدهما : مشاهدتم وقت خلقهم .
الثاني : مشاهدتهم بعد خلقهم حتى علموا أنهم إناث .
{ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ } أي ستكتب شهادتهم إن شهدوا ويسألون عنها إذا بعثوا .


أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25)

قوله عز وجل : { بَلْ قَالُواْ إِنَّا وَجَدْنَا ءَابَآءَنَا عَلَى أُمَّةٍ } فيه خمسة أوجه :
أحدها : على دين ، قاله قتادة وعطية ، ومنه قول قيس بن الخطيم :
كنا على أمة آبائنا ... قد يقتدي الآخر بالأول
الثاني : على ملة وهو قريب من معنى الأول ، قاله مجاهد وقطرب وفي بعض المصاحف . { قَالُواْ إِنَّا وَجَدْنَا ءَابَاءَنَا عَلَى مِلَّةٍ } .
الثالث : على قبلة ، حُكي ذلك عن الفراء .
الرابع : على استقامة ، قاله الأخفش ، وأنشد النابغة :
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة ... وهل يأثَمَن ذو أمة وهو طائع
الخامس : على طريقة ، قاله عمر بن عبد العزيز ، وكان يقرأ { عَلَى أُمَّةٍ } بكسر الألف والأمة الطريقة من قولهم أممت القوم . حكاه الفراء .
{ وَإِنَّا عَلَى ءَاثَارِهِم مُّهْتَدُونَ } قال قتادة متبعون . وحكى مقاتل أن هذه الآية نزلت في الوليد بن المغيرة ، وأبي سفيان ، وأبي جهل ، وعتبة ، وشيبة ابني ربيعة من قريش .


وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28) بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29) وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ (30) وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32) وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35)

قوله عز وجل : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَآءٌ } البراء مصدر موضع الوصف ، لا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث ، فكأنه قال إنني بريء .
{ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي } وهذا استثناء منقطع وتقديره ، لكن الذي فطرني أي خلقني :
{ فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ } وقيل فيه محذوف تقديره إلا الذي فطرني لا أبرأ منه { فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ } قال ذلك ثقة بالله وتنبيهاً لقومه أن الهداية من ربه .
قوله عز وجل : { وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيةً فِي عَقِبِهِ } فيها ثلاثة أقاويل :
أحدها : لا إله إلا الله ، لم يزل في ذريته من يقولها ، قاله مجاهد ، وقتادة .
الثاني : ألا تعبدوا إلا الله ، قاله الضحاك .
الثالث : الإسلام ، لقوله تعالى : { هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ } قاله عكرمة . وفي { عَقِبِهِ } ثلاثة أوجه :
أحدها : ولده ، قاله عكرمة .
الثاني : في آل محمد صلى الله عليه وسلم ، قاله السدي .
الثالث : من خلفه ، قاله ابن عباس .
{ لَعَلَّهُم يَرْجِعُونَ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : يرجعون إلى الحق ، قاله إبراهيم .
الثاني : يتوبون ، قاله ابن عباس .
الثالث : يذكرون ، قاله قتادة .
الرابع : يرجعون إلى دينك الذي هو دين إبراهيم ، قاله الفراء .
قوله عز وجل : { وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءَانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَينِ عَظِيمٍ } أما القريتان فإحداهما مكة والأخرى الطائف .
وأما عظيم مكة ففيه قولان : أحدهما : أنه الوليد بن المغيرة ، قاله ابن عباس .
الثاني : عتبة بن ربيعة ، قاله مجاهد .
وأما عظيم الطائف ففيه أربعة أقاويل :
أحدها : أنه حبيب بن عمر الثقفي ، قاله ابن عباس .
الثاني : [ عمير ] بن عبد ياليل ، [ الثقفي ] قاله مجاهد .
الثالث : عروة بن مسعود ، قاله قتادة .
الرابع : أنه كنانة [ عبد ] بن عمرو ، قاله السدي .
قوله عز وجل : { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ } يعني النبوة فيضعوها حيث شاءوا .
{ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنَْيَا } يعني أرزاقهم ، قال قتادة : فتلقاه ضعيف القوة قليل الحيلة عيي اللسان وهو مبسوط له ، وتلقاه شديد الحيلة بسيط اللسان وهو مقتر عليه .
{ وَرَفَعَنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ } فيه خمسة أوجه :
أحدها : بالفضائل ، فمنهم فاضل ومنهم مفضول ، قاله مقاتل .
الثاني : بالحرية والرق ، فبعضهم مالك وبعضهم مملوك .
الثالث : بالغنى والفقر ، فبعضهم غني ، وبعضهم فقير .
الرابع : بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
الخامس : قاله السدي ، التفضيل في الرزق إن الله تعالى قسم رحمته بالنبوة كما قسم الرزق بالمعيشة .
{ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً } فيه وجهان :
أحدهما : يعني خدماً ، قاله السدي .
الثاني : ملكاً ، قاله قتادة .
{ وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : أن النبوة خير من الغنى .
الثاني : أن الجنة خير من الدنيا .
الثالث : أن إتمام الفرائض خير من كثرة النوافل .
الرابع : أن ما يتفضل به عليهم خير مما يجازيهم عليه من أعمالهم ، قاله بعض أصحاب الخواطر .

قوله عز وجل : { وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ النَّاسُ أَمَّةً وَاحِدَةً } فيه وجهان :
أحدهما : على دين واحد كفاراً ، قاله ابن عباس والسدي .
الثاني : على اختيار الدنيا على الدين ، قاله ابن زيد .
{ لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِ سُقُفاً مَّن فِضَّةٍ } فيها قولان :
أحدهما : أنها أعالي البيوت ، قاله قتادة ، ومجاهد .
الثاني : الأبواب ، قاله النقاش .
{ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ } قال ابن عباس : المعارج الدرج ، وهو قول الجمهور وأحدها معراج .
{ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ } أي درج من فضة عليها يصعدون ، والظهور الصعود . وأنشد : نابغة بني جعدة رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله :
علونا السماء عفة وتكرما ... وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا
فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : « إِلَى أَينَ » قال : إلى الجنة .
قال : « أَجَل إِن شَاءَ اللَّهُ » قال الحسن : والله لقد مالت الدنيا بأكثر أهلها وما فعل ذلك فكيف لو فعل؟
{ وَزُخْرُفاً } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه الذهب : قاله ابن عباس . وأنشد قطرب قول ذي الأصبع :
زخآرف أشباهاً تخال بلوغها ... سواطع جمر من لظى يتلهب
الثاني : الفرش ومتاع البيت ، قاله ابن زيد .
الثالث : أنه النقوش ، قاله الحسن .


وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39) أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (40) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44) وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45)

قوله عز وجل : { وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : يعرض ، قاله قتادة .
الثاني : يعمى ، قاله ابن عباس .
الثالث : أنه السير في الظلمة ، مأخوذ من العشو وهو البصر الضعيف ، ومنه قول الشاعر :
لنعم الفتى تعشو إلى ضوءِ ناره ... إذا الريحُ هبّت والمكان جديب
وفي قوله : { عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ } ثلاثة أوجه :
أحدها : عن ذكر الله ، قاله قتادة .
الثاني : عما بيّنه الله من حلال وحرام وأمر ونهي ، وهو معنى قول ابن عباس .
الثالث : عن القرآن لأنه كلام الرحمن ، قاله الكلبي .
{ نُقِيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً } فيه وجهان :
أحدهما : نلقيه شيطاناً .
الثاني : نعوضه شيطاناً ، مأخوذ من المقايضة وهي المعاوضة .
{ فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ } فيه قولان :
أحدهما : أنه شيطان يقيض له في الدنيا يمنعه من الحلال ويبعثه على الحرام ، وينهاه عن الطاعة ويأمره بالمعصية ، وهو معنى قول ابن عباس .
الثاني : هو أن الكافر إذا بعث يوم القيامة من قبره شفع بيده شيطان فلم يفارقه حتى يصير بهما الله إلى النار ، قاله سعيد بن جبير .
قوله عز وجل : { حَتَّى إِذَا جَآءَنا } قرأ على التوحيد أبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي ، وحفص ، يعني ابن آدم ، وقرأ الباقون { جَاءَانَا } على التثنية يعني ابن آدم وقرينه .
{ قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بَعُدَْ الْمَشْرِقَيْنِ } هذا قول ابن آدم لقرينه وفي المشرقين قولان :
أحدهما : أنه المشرق والمغرب فغلب أحدهما على الآخر كما قيل : سنة العمرين ، كقول الشاعر :
أخذنا بآفاق السماء عليكم ... لنا قمراها والنجوم الطوالع
الثاني : أنه مشرق الشتاء ومشرق الصيف ، كقوله تعالى { رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ } .
قوله عز وجل : { فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ } وهذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، وفيه قولان :
أحدهما : إما نخرجنك من مكة من أذى قريش فإنا منهم منتقمون بالسيف يوم بدر .
الثاني : فإما نقبض روحك إلينا فإنا منتقمون من أمتك فيما أحدثوا بعدك . وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم أُرِي ما لقيت أمته بعده فما زال منقبضاً ما انبسط ضاحكاً حتى لقي الله تعالى .
قوله عز وجل : { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ } يعني القرآن ذكر لك [ ولقومك ] .
وفي { لَذِكْرٌ } قولان :
أحدهما : الشرف ، أي شرف لك ولقومك ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنه لذكر لك ولقومك تذكرون به أمر الدين وتعملون به ، حكاه ابن عيسى .
{ وَلِقَوْمِكَ } فيه قولان :
أحدهما : من اتبعك من أمتك ، قاله قتادة .
الثاني : لقومك من قريش فيقال : ممن هذا الرجل؟ فيقال : من العرب ، فيقال : من أي العرب؟ فيقال : من قريش ، قاله مجاهد .
{ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ } فيه وجهان :
أحدهما : عن الشكر ، قاله مقاتل .
الثاني : أنت ومن معك عما أتاك ، قاله ابن جريج .
وحكى ابن أبي سلمة عن أبيه عن مالك بن أنس في قوله { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ } أنه قول الرجل حدثني أبي عن جدي .

قوله عز وجل : { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : يعني الأنبياء الذين جمعوا له ليلة الإسراء ، قاله ابن عباس ، وابن زيد ، وكانوا سبعين نبياً منهم إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام ، فلم يسألهم لأنه كان أعلم بالله منهم ، قاله ابن عباس .
الثاني : أهل الكتابين التوراة والإنجيل ، قاله قتادة ، والضحاك ، ويكون تقديره سل أمم من أرسلنا من قبلك من رسلنا .
الثالث : جبريل ، ويكون تقديره . واسأل عما أرسلنا من قبلك من رسلنا ، حكاه النقاش .
{ أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ ءَالِهَةً يُعْبَدُونَ } وسبب هذا الأمر بالسؤال أن اليهود والمشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : إن ما جئت به مخالف لمن كان قبلك ، فأمره الله بسؤالهم لا لأنه كان في شك منه . واختلف في سؤال النبي صلى الله عليه وسلم لهم على قولين :
أحدهما : أنه سألهم ، فقالت الرسل بعثنا بالتوحيد ، قاله الواقدي .
الثاني : أنه لم يسأل ليقينه بالله تعالى ، حتى حكى ابن زيد أن ميكائيل قال لجبريل : هل سألك محمد ذلك؟ فقال جبريل : هو أشد إيماناً وأعظم يقيناً من أن يسألني عن ذلك .


وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (46) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ (47) وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (50)

قوله عز وجل : { وَقَالُواْ يَأَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : أنهم قالوا على وجه الاستهزاء ، قاله الحسن .
الثاني : أنه يجري على ألسنتهم ما ألفوه من اسمه ، قاله الزجاج .
الثالث : أنهم أرادوا بالساحر غالب السحرة ، وهو معنى قول ابن بحر .
الرابع : أن الساحر عندهم هو العالم ، فعظموه بذلك ولم تكن صفة ذم ، حكاه ابن عيسى وقاله الكلبي .
{ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ } قال مجاهد : لئن أمنا لتكشف العذاب عنا ، قال الضحاك ، وذلك أن الطوفان أخذهم ثمانية أيام لا يسكن ليلاً ولا نهاراً .
{ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ } أي يغدرون وكان موسى دعا لقومه فأجيب فيهم فلم يفواْ .


وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ (56)

قوله عز وجل : { وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ } فيه وجهان :
أحدهما : أن معنى نادى أي قال ، قاله أبو مالك .
الثاني : أمر من نادى في قومه ، قاله ابن جريج .
{ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ } فيه قولان :
أحدهما : أنها الإسكندرية ، قاله مجاهد .
الثاني : أنه ملك منها أربعين فرسخاً في مثلها ، حكاه النقاش .
{ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : كانت جنات وأنهاراً تجري من تحت قصره ، قاله قتادة . وقيل من تحت سريره .
الثاني : أنه أراد النيل يجري من تحتي أي أسفل مني .
الثالث : أن معنى قوله : { وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي } أي القواد والجبابرة يسيرون تحت لوائي ، قاله الضحاك .
ويحتمل رابعاً : أنه أراد بالأنهار الأموال ، وعبر عنها بالأنهار لكثرتها وظهورها وقوله { تَجْرِي مِن تَحْتِي } أي أفرقها على من يتبعني لأن الترغيب والقدرة في الأموال في الأنهار .
{ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ } يحتمل وجهين :
أحدهما : أفلا تبصرون إلى قوتي وضعف موسى؟ .
الثاني : قدرتي على نفعكم وعجز موسى .
ثم صرح بحاله فقال { أَمْ أَنَاْ خَيْرٌ } قال السدي : بل أنا خير .
{ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أي ضعيف ، قاله قتادة .
الثاني : حقير ، قاله سفيان .
الثالث : لأنه كان يمتهن نفسه في حوائجه ، حكاه ابن عيسى .
{ وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ } أي يفهم ، وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها : يعني أنه عيي اللسان ، قاله قتادة .
الثاني : أَلثغ قاله ، الزجاج .
الثالث : ثقيل اللسان لجمرة كان وضعها في فيه وهو صغير ، قاله سفيان .
قوله عز وجل : { فَلَوْلاَ أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ } فيه وجهان :
أحدهما : أنه قال ذلك لأنه كان عادة الوقت وزي أهل الشرف .
الثاني : ليكون ذلك دليلاً على صدقه ، والأساورة جمع أسورة ، والأسورة جمع سوار .
{ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلاَئِكَةُ مُقْتَرِنِينَ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : متتابعين ، قاله قتادة .
الثاني : يقارن بعضهم بعضاً في المعونة ، قاله السدي .
الثالث : مقترنين أي يمشون معاً ، قاله مجاهد .
وفي مجيئهم معه قولان :
أحدهما : ليكونوا معه أعواناً ، قاله مقاتل .
الثاني : ليكونوا دليلاً على صدقه ، قاله الكلبي . وليس يلزم هذا لأن الإعجاز كاف ، وقد كان في الجائز أن يكذب مع مجيء الملائكة كما يكذب مع ظهور الآيات .
وذكر فرعون الملائكة حكاية عن لفظ موسى لأنه لا يؤمن بالملائكة من لا يعرف خالقهم .
قوله عز وجل : { فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : استفزهم بالقول فأطاعوه على التكذيب ، قاله ابن زياد .
الثاني : حركهم بالرغبة فخفوا معه في الإجابة ، وهو معنى قول الفراء .
الثالث : استجهلهم فأظهروا طاعة جهلهم ، وهو معنى قول الكلبي . الرابع : دعاهم إلى باطله فخفوا في إجابته ، قاله ابن عيسى .
قوله عز وجل : { فَلَمَّا ءَاسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ } فيه وجهان :
أحدهما : أغضبونا ، رواه الضحاك عن ابن عباس .

الثاني : أسخطونا ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس . ومعناهما مختلف ، والفرق بينهما أن السخط إظهار الكراهة ، والغضب إرادة الانتقام .
والأسف هو الأسى على فائت . وفيه وجهان :
أحدهما : أنه لما جعل هنا في موضع الغضب صح أن يضاف إلى الله لأنه قد يغضب على من عصاه .
الثاني : أن الأسف راجع إلى الأنبياء لأن الله تعالى لا يفوته شيء ، ويكون تقديره : فلما آسفوا رسلنا انتقمنا منهم .
قوله عز وجل : { فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً } قرأ حمزة والكسائي بضم السين واللام ، وفيه تأويلان :
أحدهما : أهواء مختلفة ، قاله ابن عباس .
الثاني : جمع سلف أي جميع من قد مضى من الناس ، قاله ابن عيسى .
وقرأ الباقون بفتح السين واللام ، أي متقدمين ، وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها ، سلفاً في النار ، قاله قتادة .
الثاني : سلفاً لكفار أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، قاله مجاهد .
الثالث : سلفاً لمثل من عمل مثل عملهم ، قاله أبو مجلز .
{ وَمَثَلاً لِّلآخِرينَ } فيه وجهان :
أحدهما : عظة لغيرهم ، قاله قتادة .
الثاني : عبرة لمن بعدهم ، قاله مجاهد .


وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (59) وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62) وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (64) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65)

قوله عز وجل : { وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً } الآية . فيه أربعة أقاويل :
أحدها : ما رواه ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يَا مَعْشَرَ قُرَيشٍ إِنَّهُ لَيسَ أَحَدٌ يُعْبَدُ مِن دُونِ اللَّهِ فِيهِ خَيْرٌ » فقالوا : ألست تزعم أن عيسى كان نبياً وعبداً صالحاً؟ فقد كان يعبد من دون الله ، فنزلت .
الثاني : ما حكاه مجاهد أن قريشاَ قالت : إن محمداً يريد أن نعبده كما عبد قوم عيسى عيسى ، فنزلت .
الثالث : ما حكاه قتادة أن الله لما ذكر نزول عيسى في القرآن قالت قريش : يا محمد ما أردت إلى ذكر عيسى؟ فنزلت هذه الآية .
الرابع : ما ذكره ابن عيسى أنه لما ذكر الله خلق عيسى من غير ذكر كآدم أكبرته قريش فنزلت هذه الآية . وضربه مثلاً أن خلقه من أنثى بغير ذكر كما خلق آدم من غير أنثى ولا ذكر ولذلك غلت فيه النصارى حين اتخذته إلهاً .
{ . . . يَصِدُّونَ } فيه قراءتان :
إحداهما : بكسر الصاد .
والثانية : بضمها فاختلف أهل التفسير في اختلافهما على قولين :
أحدهما : معناه واحد وإن اختلف لفظهما في الصيغة مثل يشد ويشُد وينِم وينُم ، فعلى هذا في تأويل ذلك أربعة أوجه :
أحدها : يضجون ، قاله ابن عباس ، وعكرمة ، والضحاك .
الثاني : يضحكون ، قاله قتادة .
الثالث : يجزعون ، حكاه عبد الرحمن بن أبي حاتم .
الرابع : يعرضون ، قاله إبراهيم .
والقول الثاني : معناهما مختلف ، وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها بالضم يعدلون ، وبالكسر يتفرقون ، قاله الحسن .
الثاني : أنه بالضم يعتزلون ، وبالكسر يضجون ، قاله الأخفش .
الثالث : أنه بالضم من الصدود ، وبالكسر من الضجيج ، قاله قطرب .
{ وَقَالُواْ ءَأَلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ } وهذا قول قريش ، قالواْ : أآلهتنا وهي أصنامهم التي يبعدونها خير { أَمْ هُوَ } فيه قولان :
أحدهما : أم محمد صلى الله عليه وسلم ، قاله قتادة .
الثاني : أم عيسى ، قاله السدي .
{ مَا ضَرَبُوه لَكَ إِلاَّ جَدَلاً } قال السدي : هو قول قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم تزعم كل شيء عبد من دون الله في النار فنحن نرضى أن تكون آلهتنا مع عيسى وعزير والملائكة هؤلاء قد عبدوا من دون الله .
{ بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ } فيه وجهان :
أحدهما : أن الخصم الحاذق بالخصومة .
الثاني : أنه المجادل بغير حجة .
قوله عز وجل : { إِنْ هُوَ إِلاَّعَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ } قال قتادة : يعني عيسى .
{ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ } يحتمل وجهين :
أحدهما : بالنبوة .
الثاني : بخلقه من غير أب كآدم . وفيه وجه .
الثالث : بسياسة نفسه وقمع شهوته .
{ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِّبَنِي إِسْرَآئِيلَ } فيه وجهان :
أحدهما : يعني أنه لبني إسرائيل ، قاله قتادة .
الثاني : لتمثيله بآدم ، قاله ابن عيسى .
قوله عز وجل : { وَلَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَا مِنكم مَّلاَئِكَةً } فيه وجهان :
أحدهما : يعني لقلبنا بعضكم ملائكة من غير أب كما خلقنا عيسى من غير أب ليكونوا خلفاء من ذهب منكم .

الثاني : جعلنا بدلاً منكم ملائكة .
{ فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : ملائكة يخلف بعضها بعضاً ، قاله قتادة .
الثاني : ملائكة يكونون خلفاً منكم ، قاله السدي .
الثالث : ملائكة يعمرون الأرض بدلاً منكم ، قاله مجاهد .
الرابع : ملائكة يكونون رسلاً إليكم بدلاً من الرسل منكم .
قوله عز وجل : { وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن القرآن علم الساعة لما فيه من البعث والجزاء ، قاله الحسن وسعيد بن جبير .
الثاني : أن إحياء عيسى الموتى دليل على الساعة وبعث الموتى ، قاله ابن إسحاق .
الثالث : أن خروج عيسى علم الساعة لأنه من علامة القيامة وشروط الساعة ، قاله ابن عباس ، وقتادة ، ومجاهد ، والضحاك ، والسدي . وروى خالد عن الحسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « الأَنبِيَاءُ إِخْوَةٌ لَعِلاَّتُ أُمَّهَاتُهُم شَتَّى وَدِينُهُم وَاحِدٌ ، أَنَا أَولَى النَّاسِ بِعيسَى ابنِ مَرْيَمَ ، إِنَّهُ لَيسَ بَينِي وَبَيْنَهُ نَبِيٌّ ، وَإِنَّهُ أَوَّلُ نَازِلٍ ، فَيَكْسَرُ الصَّلِيبَ ، وَيَقْتُلُ الخنزيرَ ، وَيُقَاتِلُ النَّاسَ عَلَى الإِسْلاَمِ » .
وحكى ابن عيسى عن قوم أنهم قالوا : إذا نزل عيسى رفع التكليف لئلا يكون رسولاً إلى أهل ذلك الزمان يأمرهم عن الله تعالى وينهاهم ، وهذا قول مردود لثلاثة أمور : للحديث الذي قدمناه ، ولأن بقاء الدنيا يقتضي بقاء التكليف فيها ، ولأنه ينزل آمراً بالمعروف وناهياً عن المنكر وليس يستنكر أن يكون أمر الله تعالى مقصوراً على تأييد الإسلام والأمر به والدعاء إليه .
وحكى مقاتل أن عيسى ينزل من السماء على ثنية جبل بأرض الشام يقال له أفيف .
{ فَلاَ تَمْتَرُونَّ بِهَا } فيه وجهان :
أحدهما : لا تشكون فيها يعني الساعة . قاله يحيى بن سلام .
الثاني : فلا تكذبون بها ، قاله السُدي .
{ وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُّستَقِيمٌ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : القرآن صراط مستقيم إلى الجنة ، قاله الحسن .
الثاني : عيسى ، قاله ابن عباس .
الثالث : الإسلام ، قاله يحيى .
قوله عز وجل : { وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبِيِّنَاتِ } فيها وجهان :
أحدهما : أنه الإنجيل ، قاله قتادة .
الثاني : أنه الآيات التي جاء بها من إحياء الموتى وإبراء الأسقام ، والإخبار بكثير من الغيوب ، قاله ابن عباس .
{ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ } فيه قولان :
أحدهما : بالنبوة ، قاله السدي .
الثاني : بعلم ما يؤدي إلى الجميل ويكف عن القبيح ، قاله ابن عيسى .
ويحتمل ثالثاً : أن الحكمة الإنجيل الذي أنزل عليه .
{ وَلأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ } وفيه قولان :
أحدهما : تبديل التوراة ، قاله مجاهد .
الثاني : ما تختلفون فيه من أمر دينكم لا من أمر دنياكم ، حكاه ابن عيسى .
وفي قوله : { بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ } أي كل الذي تختلفون فيه ، فكان البعض هنا بمعنى الكل ما اقتصرعلى بيان بعض دون الكل ، قاله الأخفش ، وأنشد لبيد :
ترّاك أمكنة إذا لم أرضها ... أو يعتلق بعض النفوس حمامها
والموت لا يعتلق النفوس دون بعض .
الثاني : أنه بين لهم بعضه دون جميعه ، ويكون معناه أبين لكم بعض ذلك أيضاً وأكلكم في بعضه إلى الاجتهاد ، وأضمر ذلك لدلالة الحال عليه .
قوله عز وجل : { فَاخْتَلَفَ الأَحَْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ } قال قتادة يعني { مِن بَيْنِهِم } فيهم قولان :
أحدهما : أنهم أهل الكتاب من اليهود والنصارى خالف بعضهم بعضاً ، قاله مجاهد والسدي .
الثاني : فرق النصارى من النسطورية واليعاقبة والملكية اختلفوا في عيسى فقالت النسطورية : هو ابن الله . وقالت اليعاقبة هو الله . وقالت الملكية ثالث ثلاثة أحدهم الله ، قاله الكلبي ومقاتل .


هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (66) الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67) يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ (73)

قوله عز وجل : { الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ } فيه قولان :
أحدهما : أنهم أعداء في الدنيا ، لأن كل واحد منهم زين للآخر ما يوبقه ، وهو معنى قول مجاهد .
الثاني : أنهم أعداء في الآخرة مع ما كان بينهم من التواصل في الدنيا لما رأوا سوء العاقبة فيها بالمقارنة ، وهو معنى قول قتادة .
وحكى النقاش أن هذه الآية نزلت في أمية بن خلف الجمحي ، وعقبة بن أبي معيط كانا خليلين . وكان عقبة يجالس النبي صلى الله عليه وسلم فقالت قريش قد صبأ عقبة بن أبي معيط وقال له أمية : وجهي من وجهك حرام إن لقيت محمداً ولم تتفل في وجهه ففعل عقبة ذلك فنذر النبي صلى الله عليه وسلم قتله ، فقتله يوم بدر صبراً ، وقتل أمية في المعركة ، وفيهما نزلت هذه الآية .
قوله عز وجل : { أَنتُمْ وأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : هم وأزواجهم المؤمنات في الدنيا .
الثاني : ومن يزوجون من الحور في الآخرة .
الثالث : هم وقرناؤهم في الدنيا .
وفي { تُحْبَرُونَ } ستة تأويلات :
أحدها : تكرمون ، قاله ابن عباس ، والكرامة في المنزلة .
الثاني : تفرحون ، قاله الحسن ، والفرح في القلب .
الثالث : تتنعمون ، قاله قتادة ، والنعيم في البدن .
الرابع : تسرّون ، قاله مجاهد ، والسرور في العين .
الخامس : تعجبون ، قاله ابن أبي نجيح ، والعجب ها هنا درك ما يستطرف .
السادس : أنه التلذذ بالسماع ، قاله يحيى بن أبي كثير .
قوله عز وجل : { . . وَأَكْوَابٍ } فيها خمسة أقاويل :
أحدها : أنه الآنية المدورة الأفواه ، قاله مجاهد .
الثاني : أنها ليست لها آذن ، قاله السدي .
الثالث : أن الكوب : المدور القصير العنق القصير العروة ، والإبريق : الطويل العنق الطويل العروة ، قاله قتادة .
الرابع : أنها الأباريق التي لا خراطيم لها ، قاله الأخفش .
الخامس : أنها الأباريق التي ليس لها عروة ، قاله قطرب .
قوله عز وجل : { وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ وَتَلَذُ الأَعْيُنُ } قرأ نافع ، وابن عامر ، وعاصم في رواية حفص { تَشْتَهِيهِ } .
ويحتمل وجهين :
أحدهما : ما تشتهي الأنفس ما تتمناه ، وما تلذ الأعين هو ما رآه فاشتهاه .
الثاني : ما تشتهيه الأنفس هو ما كان طيب المخبر ، وما تلذ الأعين ما كان حسن المنظر .


إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (78) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80)

قوله عز وجل : { وَنَادَوْاْ يَا مَالِكُ } هذا نداء أهل النار لخزانها حين ذاقوا عذابها .
{ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ } أي يميتنا ، طلبوا الموت ليستريحوا به من عذاب النار .
{ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ } أي لابثون في عذابها أحياء ، وفي مدة ما بين ندائهم وجوابه أربعة أقاويل .
أحدها : أربعون سنة ، قاله عبد الله بن عمرو .
الثاني : ثمانون سنة ، قاله السدي .
الثالث : مائة سنة ، قاله نوف .
الرابع : ألف سنة ، قاله ابن عباس ، لأن بعد ما بين النداء والجواب أخزى لهم وأذل .
قوله تعالى : { أَمْ أَبْرَمُواْ أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أم أجمعوا على التكذيب فإنا مجمعون على الجزاء بالبعث ، قاله قتادة .
الثاني : أن أحكموا كيداً فإنا محكمون لها كيداً ، قاله ابن زيد .
الثالث : قضوا أمراً فإنا قاضون عليهم بالعذاب ، قاله الكلبي .
وقيل إن هذه الآية نزلت في كفار قريش حين اجتمع وجوههم في دار الندوة يتشاورون في أمر النبي صلى الله عليه وسلم حتى استقر رأيهم على ما أشار به أبو جهل عليهم أن يبرز من كل قبيلة رجل ليشتركوا في قتله فتضعف المطالبة بدمه ، فنزلت هذه الآية ، وقتل الله جميعهم عليهم اللعنة يوم بدر .


قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81) سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85) وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ (88) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89)

قوله عز وجل : { قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ الْعَابِدِينَ } فيه ستة أقاويل :
أحدها : إن كان للرحمن ولد فأنا أول من يعبد الله ليس له ولد ، قاله ابن زيد . ومجاهد .
الثاني : معناه فأنا أول العابدين ، ولكن لم يكن ولا ينبغي أن يكون ، قاله قتادة .
الثالث : قل لم يكن للرحمن ولد وأنا أول الشاهدين بأن ليس له ولد . قاله ابن عباس .
الرابع : قل ما كان للرحمن ولد ، وهذا كلام تام ثم استأنف فقال : فأنا أول العابدين أي الموحدين من أهل مكة ، قاله السدي .
الخامس : قل إن قلتم إن للرحمن ولداً فأنا أول الجاحدين أن يكون له ولد ، قاله سفيان .
السادس : إن كان للرحمن ولد فأنا أول الآنفين أن يكون له ولد ، قاله الكسائي وابن قتيبة ، ومنه قول الفرزدق :
أولئك آبائي فجئني بمثلهم ... وأعْبُدُ أن أهجو تميماً بدارم
قوله عز وجل : { وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَآءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ } وهذا إبطال أن يكون غير الله إلَهاً وأن الإلَه هو الذي يكون في السماء إلهاً وفي الأرض إلهاً وليست هذه صفة لغير الله ، فوجب أن يكون هو الإله .
وفي معنى الكلام وجهان :
أحدهما : أنه الموحد في السماء والأرض ، قاله مقاتل .
الثاني : أنه المعبود في السماء والأرض ، قاله الكلبي .
{ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ } يحتمل وجهين :
أحدهما : أنه يذكر ذلك صفة لتعظيمه .
الثاني : أنه يذكره تعليلاً لإلاهيته لأنه حكيم عليم وليس في الأصنام حكيم عليم .
قوله عز وجل : { وَلاَ يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دَونِهِ الشَّفَاعَةَ } فيها قولان :
أحدهما : الشركة ومنه أخذت الشفعة في البيع لاستحقاق الشريك لها . ويكون معنى الكلام أن الذين يدعون من دون الله لا يملكون مع الله شركة يستحقون أن يكونوا بها آلهة إلا أن يشهدوا عند الله بالحق على من عليه حق أو له حق ، وهذا معنى قول ابن بحر .
الثاني : أن الشفاعة استعطاف المشفوع إليه فيما يرجى ، واستصفاحه فيما يخشى وهو قول الجمهور .
وقيل إن سبب نزولها ما حكي أن النضر بن الحارث ونفراً من قريش قالوا إن كان ما يقوله محمد حقاً فنحن نتولى الملائكة ، وهم أحق بالشفاعة لنا منه فأنزل الله تعالى { وَلاَ يَمْلِكُ الِّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ } معناه الذين يعبدونهم من دون الله وهم الملائكة الشفاعة لهم . وقال قتادة : هم الملائكة وعيسى وعزير لأنهم عبدوا من دون الله .
{ إِلاَّ مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } فيه وجهان :
أحدهما : يعني أن الشهادة بالحق إنما هي لمن شهد في الدنيا بالحق وهم يعلمون أنه الحق فتشفع لهم الملائكة ، قاله الحسن .
الثاني : أن الملائكة لا تشفع إلا لمن شهد أن لا إله إلا الله وهم يعلمون أن الله ربهم .

قوله عز وجل : { وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاَءِ قَوْمٌ لاَّ يَؤْمِنُونَ } وهي تقرأ على ثلاثة أوجه بالنصب والجر والرفع .
فأما الجر فهي على قراءة عاصم وحمزة ، وهي في المعنى راجعة إلى قوله تعالى { وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ } وعلم قيلِه .
وأما الرفع فهو قراءة الأعرج ، ومعناها ابتداء ، وقيله ، قيل محمد ، يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون . والقيل هو القول .
وأما النصب فهي قراءة الباقين من أئمة القراء ، وفي تأويلها أربعة أوجه :
أحدها : بمعنى إلا من شهد بالحق وقال قيله يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون ، على وجه الإنكار عليهم ، قاله ابن عيسى .
الثاني : أنها بمعنى أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم وقيلَه يا رب ، قاله يحيى بن سلام .
الثالث : بمعنى وشكا محمد إلى ربه قيله ، ثم ابتداء فأخبر { يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلآءِ قَوْمٌ لاَّ يُؤْمِنُونَ } ، قاله الزجاج .
قوله عز وجل : { فَاصْفَحْ عَنْهُمْ } قال قتادة : أمره بالصفح عنهم ، ثم أمره بقتالهم فصار الصفح منسوخاً بالسيف . ويحتمل الصفح عن سفههم أن يقابلهم عليه ندباً له إلى الحلم .
{ وَقُلْ سَلاَمٌ } فيه خمسة أوجه :
أحدها : أي قل ما تسلم به من شرهم ، قاله ابن عيسى .
الثاني : قل خيراً بدلاً من شرهم؛ قاله السدي .
الثالث : أي احلم عنهم؛ قاله الحسن .
الرابع : أنه أمره بتوديعهم بالسلام ولم يجعله تحية لهم؛ حكاه النقاش .
الخامس : أنه عرفه بذلك كيف السلام عليهم؛ رواه شعيب بن الحباب .
{ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } يحتمل أمرين :
أحدهما : فسوف يعلمون حلول العذاب بهم .
الثاني : فسوف يعلمون صدقك في إنذارهم ، والله أعلم .


حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8)

قوله عز وجل : { حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ } يعني والقرآن المبين ، فأقسم به ، وفي قسمه ب { حم } وجهان من اختلافهم في تأويله .
{ إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ } يعني القرآن أنزله الله من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا .
{ فِي لَيلَةِ مُّبَارَكَةٍ } فيها قولان :
أحدهما : أنها ليلة النصف من شعبان؛ قاله عكرمة .
الثاني : أنها ليلة القدر .
روى قتادة عن وائلة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « نَزَلَتْ صُحُفُ إِبْرَاهِيمَ في أَوَّلِ لَيلَةٍ مِن رَمَضَانَ ، وَأُنزِلَت التَّوْرَاةُ لِسِتٍ مَضَيْنَ مِن رَمَضَانَ وَأُنزِلَ الزَّبُورُ لاثْنَتَي عَشْرَةَ مَضَتْ مِن رَمَضَانَ ، وَأُنزِلَ الإِنْجِيلُ لِثَمَانِيَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِن رَمَضَانَ . وَأُنزِلَ القْرآنُ لأَرْبعٍ وَعشرِينَ مِن رَمَضَانَ »
وفي تسميتها مباركة وجهان :
أحدهما : لما ينزل فيها من الرحمة .
الثاني : لما يجاب فيها من الدعاء .
{ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ } بالقرآن من النار .
ويحتمل : ثالثاً : منذرين بالرسل من الضلال .
{ فِيهَا } في هذه الليلة المباركة .
{ يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ } وفي يفرق أربعة أوجه :
أحدها : يقضى ، قاله الضحاك .
الثاني : يكتب ، قاله ابن عباس .
الثالث : ينزل ، قاله ابن زيد .
الرابع : يخرج ، قاله ابن سنان .
وفي تأويل { كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ } أربعة أوجه :
أحدها : الآجال والأرزاق والسعادة والشقاء من السنة إلى السنة ، قاله ابن عباس .
الثاني : كل ما يقضى من السنة إلى السنة ، إلا الشقاوة والسعادة فإنه في أم الكتاب لا يغير ولا يبدل ، قاله ابن عمر .
الثالث : كل ما يقضى من السنة إلى السنة إلا الحياة والموت ، قاله مجاهد .
الرابع : بركات عمله من انطلاق الألسن بمدحه ، وامتلاء القلوب من هيبته ، قاله بعض أصحاب الخواطر .
الحكيم هنا هو المحكم . وليلة القدر باقية ما بقي الدهر ، وهي في شهر رمضان في العشر الأواخر منه . ولا وجه لقول من قال إنها رفعت بموت النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا لقول من جوزها في جميع السنة لأن الخبر والأثر والعيان يدفعه . واختلف في محلها من العشر الأواخر من رمضان على أقاويل ذكرها في سورة القدر أولى .
قوله عز وجل : { أَمْراً مِنْ عِندِنَا } فيه قولان :
أحدهما : أن الأمر هو القرآن أنزله الله من عنده ، حكاه النقاش .
الثاني : أنه ما قضاه الله في الليلة المباركة من أحوال عباده قاله ابن عيسى .
ويحتمل :
ثالثاً : أنه إرسال محمد صلى الله عليه وسلم نبياً .
{ إنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : مرسلين الرسل للإنذار .
الثاني : منزلين ما قضيناه على العباد .
الثالث : مرسلين رحمة من ربك .
وفي { رَحْمَةً مِّن رِّبِّكَ } هنا وجهان :
أحدهما : أنها نعمة الله ببعثة رسوله صلى الله عليه وسلم .
الثاني : أنها رأفته بهداية من آمن به .
{ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ } لقولهم { الْعَلِيمُ } بفعلهم .


بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16)

قوله عز وجل : { فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَآءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ } في ارتقب وجهان :
أحدهما : معناه فانتظر يا محمد بهؤلاء يوم تأتي السماء بدخان مبين ، قاله قتادة .
الثاني : معناه فاحفظ يا محمد قولهم هذا لتشهد عليهم يوم تأتي السماء بدخان مبين ، ولذلك سمي الحافظ رقيباً ، قال الأعشى :
عليّ رقيب له حافظٌ ... فقل في امرىءٍ غِلقٍ مرتهن
وفي قوله تعالى { يَوْمَ تَأْتِي السَّمَآءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ } ثلاثة أقاويل :
أحدها : ما أصاب أهل مكة من شدة الجوع حتى صار بينهم وبين السماء كهيئة الدخان لما دعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في إبطائهم عن الإيمان وقصدهم له بالأذى ، فقال : « اللَّهُمَّ اكفِنِيهِم بِسَبْعٍ كَسَبْع يُوسُفَ » قاله ابن مسعود . قال أبو عبيدة والدخان الجدب . وقال ابن قتيبة : سمي دخاناً ليبس الأرض منه حتى يرتفع منها الدخان .
الثاني : أنه يوم فتح مكة لما حجبت السماء الغيوم ، قاله عبد الرحمن بن الأعرج .
الثالث : أنه دخان يهيج بالناس يوم القيامة يأخذ المؤمن منه كالزكمة ، وينفخ الكافر حتى يخرج من كل مسمع منه ، رواه أبو سعيد الخدري مرفوعاً .
قوله عز وجل : { رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا العَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه الدخان ، قاله قتادة .
الثاني : الجوع : قاله النقاش .
الثالث : أنه الثلج وهذا لا وجه له لأن هذا إما أن يكون في الآخرة أو في أهل مكة ، ولم تكن مكة من بلاد الثلج غير أنه مقول فحكيناه .
قوله عز وجل : { إِنَّا كَاشِفُواْ الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَآئِدُونَ } فيه قولان :
أحدهما : أي عائدون إلى نار جهنم .
الثاني : إلى الشرك ، قاله ابن مسعود . فلما كشف ذلك عنهم باستسقاء النبي صلى الله عليه وسلم لهم عادوا إلى تكذيبه .
قوله عز وجل : { يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى } والبطشة الكبرى هي العقوبة الكبرى ، وفيها قولان :
أحدهما : القتل بالسيف يوم بدر ، قاله ابن مسعود وأُبي بن كعب ومجاهد والضحاك .
الثاني : عذاب جهنم يوم القيامة ، قاله ابن عباس والحسن .
ويحتمل :
ثالثاً : أنها قيام الساعة لأنها خاتمة بطشاته في الدنيا .
{ إِنَّا مُنتَقِمُونَ } أي من أعدائنا . وفي الفرق بين النقمة والعقوبة ثلاثة أوجه :
أحدها : أن العقوبة بعد المعصية لأنها من العاقبة ، والنقمة قد تكون قبلها ، قاله ابن عيسى .
الثاني : أن العقوبة قد تكون في المعاصي ، والنقمة قد تكون في خلقه لأجله .
الثالث : أن العقوبة ما تقدرت ، والانتقام غير مقدر .


وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21) فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (28) فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ (29) وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31) وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (32) وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ (33)

قوله عز وجل : { وَلَقَدْ فَتَنَّا قَوْمَ فِرْعَوْنَ } أي ابتليناهم .
{ وَجَآءَهُمْ رَسُولُ كَرِيمٌ } وهو موسى بن عمران عليه السلام . وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها : كريم على ربه ، قاله الفراء .
الثاني : كريم في قومه .
الثالث : كريم الأخلاق بالتجاوز والصفح .
قوله عز وجل : { أَنْ أَدُّواْ إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أي أرسلوا معي بني إسرائيل ولا تستعبدوهم ، قاله مجاهد .
الثاني : أجيبوا عباد الله خيراً ، قاله أبو صالح .
الثالث : أدوا إليَّ يا عباد الله ما وجب عليكم من حقوق الله ، وهذا محتمل .
{ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ } يحتمل وجهين :
أحدهما : أمين على أن أؤديه لكم فلا أتزيد فيه .
الثاني : أمين على ما أستأديه منكم فلا أخون فيه .
قوله عز وجل : { وَأَن لاَّ تَعْلُواْ عَلَى اللَّهِ } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : لا تبغوا على الله ، قاله قتادة .
الثاني : لا تفتروا على الله ، قاله ابن عباس ، والفرق بين البغي والافتراء أن البغي بالفعل ، والافتراء بالقول .
الثالث : لا تعظموا على الله ، قاله ابن جريج .
الرابع : لا تستكبروا على عباد الله ، قاله يحيى . والفرق بين التعظيم والاستكبار أن التعظيم تطاول المقتدر ، والاستكبار ترفع المحتقر .
{ إِنِّي ءَاتِيكُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } فيه وجهان :
أحدهما : بعذر مبين ، قاله قتادة .
الثالث : بحجة بينة ، قاله يحيى .
قوله عز وجل : { وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ } فيه وجهان :
أحدهما : لجأت إلى ربي وربكم .
الثاني : استغثت . والفرق بينهما أن الملتجىء مستدفع والمستغيث مستنصر .
قوله : { بَرَبِّي وَرَبِّكُمْ } أي ربي الذي هو ربكم .
{ أَن تَرْجُمُونِ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : بالحجارة ، قاله قتادة .
الثاني : أن تقتلوني ، قاله السدي .
الثالث : أن تشتموني بأن تقولوا ساحر أو كاهن أو شاعر ، قاله أبو صالح .
{ وَإِن لَّمْ تُؤْمِنُواْ لِي فَاعْتَزِلُونِ } أي إن لم تؤمنوا بي وتصدقوا قولي فخلوا سبيلي وكفوا عن أذاي .
قوله عز وجل : { وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً } فيه سبعة تأويلات :
أحدها : سمتاً ، قاله ابن عباس .
الثاني : يابساً ، قاله ابن أبي نجيح .
الثالث : سهلاً ، قاله الربيع .
الرابع : طريقاً ، قاله كعب والحسن .
الخامس : منفرجاً ، قاله مجاهد .
السادس : غرقاً ، قاله عكرمة .
السابع : ساكناً ، قاله الكلبي والأخفش وقطرب . قال القطامي :
يمشين رهواً فلا الأعجاز خاذلةٌ ... ولا الصدور على الأعجاز تتكل
قال قتادة : لما نجا بنو إسرائيل من البحر وأراد آل فرعون أن يدخلوه خشي نبي الله موسى عليه السلام أن يدركوه فأراد أن يضرب البحر حتى يعود كما كان فقال الله تعالى : { وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً } أي طريقاً يابساً حتى يدخلوه .
{ إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ } قال مقاتل : هو النيل ، وكان عرضه يومئذٍ فرسخين ، قال الضحاك : كان غرقهم بالقلزم وهو بلد بين مصر والحجاز .
فإن قيل فليست هذه الأحوال في البحر من فعل موسى ولا إليه .

قيل يشبه أن يكون الله تعالى قد أعلمه أنه إنْ ضرب البحر بعصاه ثانية تغيرت أحواله ، فأمره أن يكف عن ضربه حتى ينفذ الله قضاءه في فرعون وقومه .
وتأويل سهل بن عبد الله { وَاتْرُكِ الْبَحْرَ } أي اجعل القلب ساكناً في تدبيري { إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُّغْرَقُونَ } أي إن المخالفين قد غرقوا في التدبير .
قوله عز وجل : { كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ } الجنات البساتين . وفي العيون قولان :
أحدهما : عيون الماء ، وهو قول الجمهور .
الثاني : عيون الذهب ، قاله ابن جبير .
{ وَزُرُوعٍ } قيل إنهم كانوا يزرعون ما بين الجبلين من أول مصر إلى آخرها ، وكانت مصر كلها تروى من ستة عشر ذراعاً لما دبروه وقدروه من قناطر وجسور .
{ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها المنابر ، قاله ابن عباس والحسن ومجاهد .
الثاني : المساكن ، قاله أبو عمرو والسدي ، لمقام أهلها فيها .
الثالث : مجالس الملوك لقيام الناس فيها .
ويحتمل رابعاً : أنه مرابط الخيل لأنها أكرم مذخور لعدة وزينة .
وفي الكريم ثلاثة أوجه :
أحدها : هو الحسن ، قاله سعيد بن جبير .
الثاني : هو المعطي لديه كما يعطي الرجل الكريم صلته ، قاله ابن عيسى .
الثالث : أنه كريم لكرم من فيه ، قاله ابن بحر .
قوله عز وجل : { وَنَعْمَةٍ كَانُواْ فِيهَا فَاكِهِينَ } في النعمة هنا أربعة أوجه :
أحدها : نيل مصر ، قاله ابن عمر .
الثاني : الفيّوم ، قاله ابن لهيعة .
الثالث : أرض مصر لكثرة خيرها ، قاله ابن زياد .
الرابع : ما كانوا فيه من السعة والدعة .
وقد يقال نعمة ونِعمة بفتح النون وكسرها ، وفي الفرق بينهما وجهان :
أحدهما : أنها بكسر النون في الملك ، وبفتحها في البدن والدين؛ قاله النضر بن شميل .
الثاني : أنها بالكسر من المنة وهو الإفضال والعطية ، وبالفتح من التنعم وهو سعة العيش والراحة ، قاله ابن زياد .
وفي { فاكهين } ثلاثة أوجه :
أحدها : فرحين ، قاله السدي .
الثاني : ناعمين ، قاله قتادة .
الثالث : أن الفاكه هو المتمتع بأنواع اللذة كما يتمتع الآكل بأنواع الفاكهة ، قاله ابن عيسى .
وقرأ يزيد بن القعقاع { فَكِهِينَ } ومعناه معجبين .
قوله عز وجل { كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً ءَاخَرِينَ } يعني بني إسرائيل ملكهم الله أرض مصر بعد أن كانوا فيها مستعبدين ، فصروا لها وارثين لوصول ذلك إليهم كوصول الميراث .
قوله عز وجل : { فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِم السَّمَآءُ وَالأَرْضُ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : يعني أهل السماء وأهل الأرض ، قاله الحسن .
الثاني : أن السماء والأرض تبكيان على المؤمن أربعين صباحاً؛ قاله مجاهد .
قال أبو يحيى : فعجبت من قوله ، فقال أتعجب؟ وما للأرض لا تبكي على عبد كان يعمرها بالركوع والسجود؟ وما للسماء لا تبكي على عبد كان لتكبيره وتسبيحه فيها دوي كدوي النحل؟
الثالث : أنه يبكي عليه مصلاه من الأرض ومصعد عمله من السماء ، قاله علي كرم الله وجهه . وتقديره فما بكت عليهم مصاعد عملهم من السماء ولا مواضع عبادتهم من الأرض .

وهو معنى قول سعيد بن جبير .
الرابع : ما رواه يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك . قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مَا مِنْ مُؤْمِنٍ إلا وله في السماء بابان ، باب ينزل منه رزقه ، وباب يدخل منه كلامه وعمله ، فإذا مات فقداه فبكيا عليه » ثم تلا هذه الآية .
وفي بكاء السماء والأرض ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه كالمعروف من بكاء الحيوان ويشبه أن يكون قول مجاهد .
الثاني : أنه حمرة أطرافها ، قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعطاء .
وحكى جرير عن يزيد بن أبي زياد قال : لما قتل الحسين بن علي رضي الله عنهما احمر له آفاق السماء أربعة أشهر ، واحمرارها بكاؤها .
الثالث : أنها أمارة تظهر منها تدل على حزن وأسف . كقول الشاعر :
والشمس طالعة ليست بكاسفة ... تبكي عليك نجوم الليل والقمرا
{ وَمَا كَانُواْ مُنظَرِينَ } فيه وجهان :
أحدهما : مؤخرين بالغرق ، قاله الكلبي .
الثاني : لم ينظروا بعد الآيات التسع حتى أغرقوا ، قاله مقاتل .
قوله عز وجل : { وَلَقَدْ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ } معناه على علم منا بهم . وفي اختياره لهم ثلاثة أوجه :
أحدها : باصطفائهم لرسالته ، والدعاء إلى طاعته .
الثاني : باختيارهم لدينه وتصديق رسله .
الثالث : بإنجائهم من فرعون وقومه .
وفي قوله : { عَلَى الْعَالَمِينَ } قولان :
أحدهما : على عالمي زمانهم ، لأن لكل زمان عالماً ، قاله قتادة .
الثاني : على كل العالمين بما جعل فيهم من الأنبياء . وهذا خاصة لهم وليس لغيرهم ، حكاه ابن عيسى .
قوله عز وجل : { وءَاتَيْنَاهُمْ مِّنَ الآيَاتِ مَا فِيهِ بَلآءٌ مُّبِينٌ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه أنجاهم من عدوهم وفلق البحر لهم وظلل عليهم الغمام وأنزل عليهم المن والسلوى ، قاله قتادة . ويكون هذا الخطاب متوجهاً إلى بني إسرائيل .
الثاني : أنها العصا ويده البيضاء ، ويشبه أن يكون قول الفراء . ويكون الخطاب متوجهاً إلى قوم فرعون .
الثالث : أنه الشر الذي كفهم عنه والخير الذي أمرهم به ، قاله عبد الرحمن بن زيد . ويكون الخطاب متوجهاً إلى الفريقين معاً من قوم فرعون وبني إسرائيل .
وفي قوله { مَا فِيهِ بَلآءٌ مُّبِينٌ } ثلاثة تأويلات :
أحدها : نعمة ظاهرة ، قاله الحسن وقتادة كما قال تعالى { وَليُبْلَي الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلآءً حَسَناً } وقال زهير :
فأبلاه خير البلاء الذي يبلو ... الثاني : عذاب شديد ، قاله الفراء .
الثالث : اختيار بيِّن يتميز به المؤمن من الكافر ، قاله عبد الرحمن بن زيد .


إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (36) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (37)

قوله عز وجل : { إِنَّ هَؤُلآءِ لَيَقُولُونَ } يعني كفار قريش .
{ إن هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ } أي بمبعوثين قيل : إن قائل هذا أبو جهل قال : يا محمد إن كنت صادقاً في قولك فابعث لنا رجلين من آبائنا أحدهما قصيّ بن كلاب فإنه كان رجلاً صادقاً ، لنسأله عما يكون بعد الموت وهذا القول من أبي جهل من أضعف الشبهات ، لأن الإعادة إنما هي للجزاء لا للتكليف . فكأنه قال : إن كنت صادقاً في إعادتهم للجزاء فأعدهم للتكليف . وهو كقول قائل لو قال : إن كان ينشأ بعدنا قوم من الأبناء ، فلم لا يرجع من مضى من الآباء .
قوله عز وجل : { أَهُمْ خَيرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ } فيه وجهان :
أحدهما : أهم أظهر نعمة وأكثر أموالاً .
الثاني : أهم أعز وأشد أم قوم تبع .
وحكى قتادة أن تبعاً كان رجلاً من حِمير سار بالجيوش حتى عبر الحيرة وأتى سمرقند فهدمها . وحكي لنا أنه كان إذا كتب؛ كتب باسم الله الذي سما وملك براً وبحراً وضحاً وريحاً .
وروي عن عمرو بن رجاء عن سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا تسبوا تبعاً فإنه كان قد أسلم . وحكى ابن قتيبة في المعارف شعراً ذكر أنه لتبع وهو :
منح البقاءَ تقلبُ الشمسِ ... وطلوعها من حيث لا تُمْسِي
وشروقها بيضاء صافية ... وغروبُها حمراءَ كالورْسِ
وتشتت الأهواءِ أزعجني ... سيراً لأبلغ مطلع الشمسِ
ولرب مطعمةٍ يعود لها ... رأي الحليم إلى شفا لبسِ
وفي تسميته تبعاً قولان :
أحدهما : لأنه تَبعَ من قبله من ملوك اليمن كما قيل خليفة لأنه خلف من قبله .
الثاني : لأنه اسم لملوك اليمن .
وذم الله قومه ولم يذمه ، وضرب بهم مثلاً لقريش لقربهم من دارهم ، وعظمهم في نفوسهم ، فلما أهلكهم الله ومن قبلهم - لأنهم كانوا مجرمين - كان من أجرم مع ضعف اليد وقلة العدد أحرى بالهلاك .


وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (39) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42)

قوله عز وجل : { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ } فيه وجهان :
أحدهما : غافلين ، قاله مقاتل .
الثاني : لاهين ، قاله الكلبي .
{ وَمَا خَلَقْنَاهُمَآ إِلاَّ بِالْحِقِّ } فيه وجهان :
أحدهما : للحق ، قاله الكلبي .
الثاني : بقول الحق ، قاله مقاتل .
قوله عز وجل : { إِنَّ يَوْمَ الْفَصَلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ } يعني يوم القيامة ، وفي تسميته بيوم الفصل وجهان :
أحدهما : [ إن الله ] يفصل فيه أمور عباده .
الثاني : لأنه يفصل فيه بين المرء وعمله .


إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50)

قوله عز وجل : { إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُومِ طَعَامُ الأَثِيمِ } قد ذكرنا ما في الزقوم من الأَقاويل ، وهو في اللغة ما أُكِلَ بكرْه شديد . ولهذا يقال قد تزقم هذا الطعام تزقماً أي هو في حكم من أكله بكره شديد لحشو فمه وشدة شره .
وحكى النقاش عن مجاهد أن شجرة الزقوم أبو جهل .
وفي الأثيم وجهان :
أحدهما : أنه الآثم ، قاله ابن عيسى .
الثاني : المشرك المكتسب للإثم ، قاله يحيى .
قوله عز وجل : { خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ } فيه خمسة أوجه :
أحدها : فجروه ، قاله الحسن .
الثاني : فادفعوه ، قاله مجاهد .
الثالث : فسوقوه ، حكاه الكلبي .
الرابع : فاقصفوه كما يقصف الحطب ، حكاه الأعمش :
الخامس : فردوه بالعنف ، قاله ابن قتيبة . قال الفرزدق :
ليس الكرام بناحليك أباهم ... حتى ترد إلى عطية تعتل
{ إلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ } فيه وجهان :
أحدهما : وسط الجحيم ، قاله ابن عباس والضحاك وقتادة .
الثاني : معظم الجحيم يصيبه الحر من جوانبها ، قاله الحسن .
قوله عز وجل : { ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ } قال قتادة : نزلت في أبي جهل ، وفيه أربعة أوجه :
أحدها : معناه أنك لست بعزيز ولا كريم ، لأنه قال توعدني محمد ، والله إني لأعز من مشى حبليها ، فرد الله عليه قوله ، قاله قتادة .
الثاني : أنك أنت العزيز الكريم عند نفسك ، قاله قتادة أيضاً .
الثالث : أنه قيل له ذلك استهزاء على جهة الإهانة ، قاله سعيد بن جبير .
الرابع : أنك أنت العزيز في قومك ، الكريم على أهلك حكاه ابن عيسى .


إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (53) كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59)

قوله عز وجل : { إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أمين من الشيطان والأحزان ، قاله قتادة .
الثاني : أمين من العذاب ، قاله الكلبي .
الثالث : من الموت ، قاله مقاتل .
قوله عز وجل : { يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ } فيهما ثلاثة أوجه :
أحدها : أن السندس الحرير الرقيق ، والاستبرق الديباج الغليظ ، قاله عكرمة .
الثاني : السندس يعمل بسوق العراق وهو أفخر الرقم ، قاله يحيى ، والاستبرق الديباج سمي استبرقاً لشدة بريقه ، قاله الزجاج .
الثالث : أن السندس ما يلبسونه ، والاستبرق ما يفترشونه .
وفي { مُّتَقَابِلينَ } وجهان :
أحدهما : متقابلين بالمحبة لا متدابرين بالبغضة ، قاله علي بن عيسى .
الثاني : متقابلين في المجالس لا ينظر بعضهم قفا بعض ، قاله مجاهد .
قوله عز وجل : { فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ } يعني القرآن ، وفيه وجهان :
أحدهما : معناه جعلناه بلسانك عربياً .
الثاني : أطلقنا به لسانك تيسيراً .
{ لَعَلَّهُم يَتَذَكَّرُونَ } يحتمل وجهين :
أحدهما : يرجعون .
الثاني : يعتبرون .
{ فَارْتَقِبْ إِنَّهُم مُّرْتَقِبُونَ } فيه وجهان :
أحدهما : فانتظر ما وعدتك من النصر عليهم . إنهم منتظرون بك الموت ، حكاه النقاش .
الثاني : وانتظر ما وعدتك من الثواب فإنهم من المنتظرين لما وعدتهم من العقاب ، والله أعلم .


حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5)

قوله عز وجل : { حم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ } يعني القرآن .
{ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } وفي إضافة التنزيل إليه في هذا الموضع وفي أمثاله وجهان :
أحدهما : افتتاح كتابه منه كما يفتتح الكاتب كتابه به .
الثاني : تعظيماً لقدره وتضخيماً لشأنه عليه في الابتداء بإضافته إليه .
قوله عز وجل : { وَاخْتِلاَفِ الليْلِ وَالنَّهَارِ } يحتمل وجهين :
أحدهما : يعني اختلافهما بالطول والقصر .
الثاني : اختلافهما بذهاب أحدهما ومجيء الآخر .
{ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَآءِ مِن رِّزْقٍ } يحتمل وجهين :
أحدهما : المطر الذي ينبت به الزرع وتحيا به الأرض .
الثاني : ما قضاه في السماء من أرزاق العباد .
{ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : تصريفها بإرسالها حيث يشاء .
الثاني : ينقل الشمال جنوباً والجنوب شمالاً ، قاله الحسن .
الثالث : أن يجعلها تارة رحمة وتارة نقمة؛ قاله قتادة .


تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8) وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (9) مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (10) هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11)

قوله عز وجل : { وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن الأفاك : الكذاب ، قاله ابن جريج .
الثاني : أنه المكذب بربه .
الثالث : أنه الكاهن ، قاله قتادة .
{ يَسْمَعُ ءَآيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيهِ } يعني القرآن .
{ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً } فيه تأويلان :
أحدها : يقيم على شركه مستكبراً عن طاعة ربه ، وهو معنى قول يحيى بن سلام .
الثاني : أن الإصرار على الشيء العقد بالعزم عليه ، وهو مأخوذ من صَرَّ الصُّرَّةَ إذا شدها ، قاله ابن عيسى .
{ كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا } في عدم الاتعاظ بها والقبول لها .
{ فَبِشَّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } قال ابن جريج نزلت هذه الآية في النضر بن الحارث .


اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13) قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15)

قوله عز وجل : { قُلْ لِّلَّذِينَ ءَامَنُوا يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : لا ينالون نعم الله ، قاله مجاهد .
الثاني : لا يخشون عذاب الله ، قاله الكلبي ومقاتل .
الثالث : لا يطمعون في نصر الله في الدنيا ولا في الآخرة ، قاله ابن بحر .
وفي المراد بأيام الله وجهان :
أحدهما : أيام إنعامه وانتقامه في الدنيا ، لأنه ليس في الآخرة ، وتكون الأيام وقتاً وإن تكن أياماً على الحقيقة .
وفي الكلام أمر محذوف فتقديره : قل للذين آمنوا إغفروا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله . الغفران ها هنا العفو وترك المجازاة على الأذى .
وحكى الكلبي أن هذه الآية نزلت في عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقد شتمه رجل من المشركين فهمَّ أن يبطش به ، فلما نزل ذلك فيه كف عنه .
وفي نسخ هذه الآية قولان :
أحدهما : أنها ثابتة في العفو عن الأذى في غير الدين .
الثاني : أنها منسوخة وفيما نسخها قولان :
أحدهما : بقوله سبحانه { فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } قاله قتادة .
الثاني : بقوله { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُم ظُلِمُواْ } قاله أبو صالح .


وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16) وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20)

قوله عز وجل : { وَءَاتَينَاهُم بَيِّنَاتٍ مِنَ الأَمْرِ } فيه وجهان :
أحدهما : ذكر الرسول وشواهد نبوته .
الثاني : بيان الحلال والحرام ، قاله السدي .
{ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْعِلْمُ } فيه قولان :
أحدهما : من بعد يوشع بن نون فآمن بعضهم وكفر بعضهم ، حكاه النقاش .
الثاني : بعدما أعلمهم الله ما في التوراة .
{ بَغْياً بَيْنَهُمْ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : طلباً للرسالة وأنفة من الإذعان للصواب ، حكاه ابن عيسى .
الثاني : بغياً على رسول الله صلى عليه وسلم في جحود ما في كتابهم من نبوة وصفته ، قاله الضحاك .
الثاني : أنهم أرادوا الدنيا ورخاءها فغيروا كتابهم وأحلوا فيه ما شاؤوا وحرموا ما شاؤوا ، قاله يحيى بن آدم .
قوله عز وجل : { ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ } أي على طريقة من الدين كالشريعة التي هي طريق إلى الماء ، ومنه الشارع لأنه طريق إلى القصد .
وفي المراد بالشريعة أربعة أقاويل :
احدها : أنها الدين ، قاله ابن زيد ، لأنه طريق للنجاة .
الثاني : أنها الفرائض والحدود والأمر والنهي ، قاله قتادة لأنها طريق إلى الدين .
الثالث : أنها البينة ، قاله مقاتل : لأنها طريق الحق .
الرابع : السنة ، حكاه الكلبي لأنه يستنّ بطريقة من قبله من الأنبياء .


أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21) وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (22) أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23)

قوله عز وجل : { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُواْ السَّيِّئَاتِ } أي اكتسبوا الشرك . قال الكلبي : الذين أريد بهم هذه الآية عتبه وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة .
{ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ } قال الكلبي أريد بهم علي بن أبي طالب وحمزة بن عبد المطلب وعبيدة بن الحارث حين برزوا إليهم يوم بدر فقتلوهم .
قوله عز وجل : { أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أفرأيت من اتخذ دينه ما يهواه ، فلا يهوى شيئاً إلا ركبه ، قاله ابن عباس .
الثاني : أفرأيت من جعل إلهه الذي يعبده ما يهواه ويستحسنه ، فإذا استحسن شيئاً وهو به اتخذه إلهاً ، قاله عكرمة ، قاله سعيد بن جبير : كان أحدهم يعبد الحجر . فإذا رأى ما هو أحسن منه رمى به وعبد الآخر .
الثالث : أفرأيت من ينقاد لهواه انقياده لإلهه ومعبوده تعجباً لذوي العقول من هذا الجهل .
{ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ } فيه تأويلان :
أحدهما : وجده ضالاً ، حكاه ابن بحر .
الثاني : معناه ضل عن الله . ومنه قول الشاعر :
هبوني امرأً منكم اضلَّ بعيره ... له ذمة إن الذمام كثير
أي ضل عنه بعيره .
وفي قوله : { عَلَى عِلْمٍ } وجهان :
أحدهما : على علم منه أنه ضال ، قاله مقاتل .
الثاني : قاله ابن عباس أي في سابق علمه أنه سيضل . { وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ } أي طبع على سمعه حتى لا يسمع الوعظ وطبع على قلبه حتى لا يفقه الهدى .
{ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غَشَاوَةً } حتى لا يبصرالرشد .
ثم في هذا الكلام وجهان :
أحدهما : أنه خارج مخرج الخبر عن أحوالهم .
الثاني : أنه خارج مخرج الدعاء بذلك عليهم .
وحكى ابن جريج أنها نزلت في الحارث بن قيس من الغياطلة ، وحكى الضحاك أنها نزلت في الحارث بن نوفل بن عبد مناف .


وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (26)

قوله عز وجل : { وَقَالُواْ مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا } وهذا القول منهم إنكار للآخرة وتكذيب بالبعث وإبطال للجزاء .
{ نَمُوتُ وَنَحْيَا } فيه وجهان :
أحدهما : أنه مقدم ومؤخر ، وتقديره : نحيا نموت . وهي كذلك في قراءة ابن مسعود .
الثاني : أنه على تربيته ، وفي تأويله وجهان :
أحدهما : نموت نحن ويحيا أولادنا ، قاله الكلبي .
الثاني : يموت بعضنا .
{ وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : وما يهلكنا إلا العمر ، قاله قتادة . وأنشد قول الشاعر :
لكل أمر أتى يوماً له سبب ... والدهر فيه وفي تصريفه عجب
الثاني : وما يهلكنا إلا الزمان ، قاله مجاهد .
وروى أبو هريرة قال : كان أهل الجاهلية يقولون إنما يهلكنا الليل والنهار ، والذي يهلكنا يميتنا ويحيينا ، فنزلت هذه الآية .
الثالث : وما يهلكنا إلا الموت ، قاله قطرب ، وأنشد لأبي ذؤيب :
أمن المنون وريبها تتوجع ... والدهر ليس بمعتب من يجزع
الرابع : وما يهلكنا إلا الله ، قاله عكرمة .
وروى الحسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « رجال يقولون : يا خيبة الدهر ، يا بؤس الدهر ، لا تسبوا الدهر فإن الله عز وجل هو الدهر ، وإنه يقبض الأيام ويبسطها » .


وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27) وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29)

قوله عز وجل : { وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً } الأمة أهل كل ملة . وفي الجاثية خمسة تأويلات :
أحدها : مستوفزة ، قاله مجاهد . وقال سفيان : المستوفز الذي لا يصيب منه الأرض إلا ركبتاه وأطراف أنامله .
الثاني : مجتمعة ، قاله ابن عباس .
الثالث : متميزة ، قاله عكرمة .
الرابع : خاضعة بلغة قريش ، قاله مؤرج .
الخامس : باركة على الركب ، قاله الحسن .
وفي الجثاة قولان :
أحدهما : أنه للكفار خاصة ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : أنه عام للمؤمن والكافر انتظاراً للحساب .
وقد روى سفيان بن عيينة عن عمرو بن عبد الله بن باباه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : كأني أراكم بالكوم جاثين دون جهنم .
{ كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : إلى حسابها ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : إلى كتابها الذي كان يستنسخ لها فيه ما عملت من خير وشر ، قاله الكلبي .
الثالث : إلى كتابها الذي أنزل على رسولها ، حكاه الجاحظ .
قوله عز وجل : { هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه القرآن يدلكم على ما فيه من الحق ، فكأنه شاهد عليكم ، قاله ابن قتيبة .
الثاني : أنه اللوح المحفوظ يشهد بما قضي فيه من سعادة وشقاء ، خير وشر ، قاله مقاتل ، وهو معنى قول مجاهد .
الثالث : أنه كتاب الأعمال الذي يكتب الحفظة فيه أعمال العباد ويشهد عليكم بما تضمنه من صدق أعمالكم ، قاله الكلبي .
{ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُم تَعْمَلُونَ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : يعني يكتب الحفظة ما كنتم تعملون في الدنيا ، قاله علي رضي الله عنه ومن زعم أنه كتاب الأعمال .
الثاني : أنه الحفظة تستنسخ الخزنة ما هو مدوَّن عندها من أحوال العباد ، قاله ابن عباس ومن زعم أن الكتاب هو اللوح المحفوظ .
الثالث : نستنسخ ما كتب عليكم الملائكة الحفظة ، قاله الحسن لأن الحفظة ترفع إلى الخزنة صحائف الأعمال .


فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ (31) وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (33) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (34) ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)

قوله عز وجل : { وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَذَا } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : اليوم نترككم في النار كما تركتم أمري ، قاله الضحاك .
الثاني : اليوم نترككم من الرحمة كما تركتم الطاعة ، وهو محتمل
الثالث : اليوم نترككم من الخير كما تركتمونا من العمل ، قاله سعيد بن جبير .
قوله عز وجل : { وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَواتِ وَالأَرْضِ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : أن الكبرياء العظمة ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : أنه السلطان ، قاله مجاهد .
الثالث : الشرف ، قاله ابن زياد .
الرابع : البقاء والخلود .
{ وَهُوَ الْعَزِيزُ } في انتقامه { الْحَكِيمُ } في تدبيره .


حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3) قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (6)

قوله عز وجل : { حم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } فيه وجهان :
أحدهما : معناه قُضِي نزول الكتاب من الله العزيز الحكيم ، قاله النقاش .
الثاني : هذا الكتاب يعني القرآن تنزيل من الله العزيز الحكيم ، قاله الحسن .
قوله عز وجل : { مَا خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَينَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : إلا بالصدق ، قاله ابن إسحاق .
الثاني : إلا بالعدل ، وهو مأثور .
الثالث : إلا للحق ، قاله الكلبي .
الرابع : إلا للبعث ، قاله يحيى .
{ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى } فيه وجهان :
أحدهما : أنه أجل القيامة ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنه الأجل المقدور لكل مخلوق ، وهو محتمل .
قوله عز وجل : { أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ } قرأ الحسن وطائفة معه { أَوْ أَثَرَةٍ } وفي تأويل { أَوْ أَثَارَةٍ } وهي قراءة الجمهور ثلاثة أوجه :
أحدها : رواية من علم ، قاله يحيى .
الثاني : بقية ، قاله أبو بكر بن عياش ، ومنه قول الشاعر :
وذات أثارة أكلت عليها ... نباتاً في أكمته قفارا
أي بقية من شحم .
الثالث : أو علم تأثرونه عن غيركم ، قاله مجاهد .
ويحتمل رابعاً : أو اجتهاد بعلم ، لأن أثارة العلم الاجتهاد .
ويحتمل خامساً : أو مناظرة بعلم لأن المناظر في العلم مثير لمعانيه .
ومن قرأ { أَوْ أَثَرَةٍ مِّنْ عِلْمٍ } ففي تأويله خمسة أوجه :
أحدها : أنه الخط ، وقد رواه ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم .
الثاني : ميراث من علم ، قاله عكرمة .
الثالث : خاصة من علم ، قاله قتادة .
الرابع : أو بقية من علم ، قاله عطية .
الخامس : أثرة يستخرجه فيثيره ، قاله الحسن .


وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8) قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (9)

قوله عز وجل : { قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ الرُّسُلِ } قال ابن عباس : معناه لست بأول الرسل . والبدع الأول . والبديع من كل شيء المبتدع ، وأنشد قطرب لعدي بن زيد :
فلا أنا بدع من حوادث تعتري ... رجالاً غدت من بعد بؤسي بأسعد
{ وَمَآ أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : يعني لا أدري ما يفعل بي ولا بكم في الدنيا لا في الآخرة ، فلا أدري ما يفعل بي أخرج كما أخرجت الأنبياء من قبلي ، أو أُقتل كما قتل الأنبياء من قبلي ولا أدري ما يفعل بكم ، إنكم مصدقون أو مكذبون ، أو معذبون أو مؤخرون ، قاله الحسن :
الثاني : لا أدري ما يفعل بي ولا بكم في الآخرة . وهذا قبل نزول { لِيَغْفِر لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } الآية . فلما نزل عليه ذلك عام الحديبية علم ما يفعل به في الآخرة وقال لأصحابه : « لَقَدْ أَنْزَلَ عَلَيَّ آيَةً هِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا جَمِيعِهَا » فلما تلاها قال رجل من القوم : هنيئاً يا رسول الله ، قد بين الله ما يفعل بك ، فماذا يفعل بنا؟ فأنزل الله تعالى : { لِيُدْخِلَ الْمُؤمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ } الآية . قاله قتادة .
الثالث : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال قبل الهجرة « لَقَدْ رَأَيْتُ فِي مَنَامِي أَرْضاً أَخْرُجُ إِلَيْهَا مِن مَكَّةَ » فلما اشتد البلاء على أصحابه بمكة قالوا : يا رسول الله حتى متى نلقى هذا البلاء؟ ومتى تخرج إلى الأرض التي رأيت؟ فقال صلى الله عليه وسلم : « مَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُم ، أَنَمُوتُ بِمَكَّةَ أَمْ نَخْرُجُ مِنهَا » قال الكلبي .
الرابع : معناه قل لا أدري ما أؤمر به ولا ما تؤمرون به ، قاله الضحاك .


قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ (12) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (14)

قوله عز وجل : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَكَفَرْتُم بِهِ } فيه قولان :
أحدهما : إن كان القرآن من عند الله وكفرتم به ، قاله يحيى .
الثاني : إن كان محمد صلى الله عليه وسلم نبياً من عند الله وكفرتم به ، قاله الشعبي .
{ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ بَني إِسْرَآئِيلَ عَلَى مِثْلِهِ } فيه خمسة أقاويل :
أحدها : أنه عبد الله بن سلام شهد على اليهود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مذكور في التوراة ، قاله ابن عباس ، وعكرمة ، وقتادة ، ومجاهد .
الثاني : أنه آمين بن يامين ، قال لما أسلم عبد الله بن سلام : أنا شاهد مثل شهادته ومؤمن كإيمانه ، قاله السدي .
الثالث : أن موسى مثل محمد صلى الله عليه وسلم يشهد بنبوته ، والتوراة مثل القرآن يشهد بصحته ، قاله مسروق . ولم يكن في عبد الله بن سلام لأنه أسلم بالمدينة والآية مكية .
الرابع : هو من آمن من بني إسرائيل بموسى والتوراة ، قاله الشعبي .
الخامس : أنه موسى الذي هو مثل محمد صلى الله عليهما شهد على التوراة . التي هي مثل القرآن ، حكاه ابن عيسى .
{ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ } أنتم عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ، قاله مسروق .
وفي قولان :
أحدهما : فآمن عبد الله بن سلام برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالقرآن واستكبر الباقون عن الإيمان ، قاله ابن عباس .
الثاني : فآمَن مَن آمن بموسى وبالتوراة واستكبرتم أنتم عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن ، قاله مسروق . وحكى النقاش أن في الآية تقديماً وتأخيراً تقديره : قل أرأيتم إن كان من عند الله وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن هو وكفرتم .
وقال ابن عيسى : الكلام على سياقه ولكن حذف منه جواب إن كان من عند الله وفي المحذوف ثلاثة أوجه :
أحدها : تقديره : وشهد شاهد من بني إسرائيل فآمن ، أتؤمنون؟ قاله الزجاج .
الثاني : تقدير المحذوف : فآمن واستكبرتم أفما تهلكون ، قاله مذكور .
الثالث : تقدير المحذوف من جوابه : فمن أضل منكم إن الله لا يهدي القوم الظالمين .
قوله عز وجل : { وَقَالَ الِّذِينَ كَفَرُواْ لِلِّذِينَ ءَامَنُواْ لَوْ كَانَ خَيراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ } وفي سبب نزول هذه الآية أربعة أقاويل :
أحدها : أن أبا ذر الغفاري دعاه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام بمكة فأجاب واستجاب به قومه فأتاه زعيمهم فأسلم ، ثم دعاهم الزعيم فأسلموا فبلغ ذلك قريشاً فقالوا : غفار الخلفاء لو كان خيراً ما سبقونا إليه . فنزلت ، قاله أبو المتوكل .
الثاني : أن زنيرة أسلمت فأصيب بصرها ، فقالوا لها : أصابك اللات والعزى ، فرد الله عليها بصرها ، فقال عظماء قريش : لو كان ما جاء به محمد خير ما سبقتنا إليه زنيرة فنزلت ، قاله عروة بن الزبير .

الثالث : أن الذين كفروا هم عامر وغطفان وأسد وحنظلة قالوا لمن أسلم من غفار وأسلم وغطفان وجهينة ومزينة وأشجع : لو كان ما جاء به محمد خيراً ما سبقتنا إليه رعاة البهم . فنزلت ، قاله الكلبي .
الرابع : أن الكفار قالوا : لو كان خيراً ما سبقتنا إليه اليهود فنزلت هذه الآية ، قاله مسروق .
وهذه المعارضة من الكفار في قولهم لو كان خيراً ما سبقونا إليه من أقبح المعارضات لانقلابها عليهم لكل من من خالفهم حتى يقال لهم : لو كان ما أنتم عليه خيراً ما عدنا عنه ، ولو كان تكذيبكم للرسول خيراً ما سبقتمونا إليه .
{ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُواْ بِهِ } يعني إلى الإيمان . وفيه وجهان :
أحدهما : وإذا لم يهتدوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، قاله مقاتل .
الثاني : بالقرآن .
{ فَسَيَقُولُونَ هَذَآ إِفْكٌ قَدِيمٌ } يحتمل وجهين :
أحدهما : فسيقولون هذا القرآن كذب قديم ، تشبيهاً بدين موسى القديم ، تكذيباً بهما جيمعاً .
قوله عز وجل : { إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُواْ } فيه خمسة أوجه :
أحدها : ثم استقاموا على أن الله ربهم ، قاله أَبو بكر الصديق رضي الله عنه .
الثاني : ثم استقاموا على شهادة أن لا إله إلا الله ، قاله ابن عباس .
الثالث : على أداء فرائض الله ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس .
الرابع : على أن أخلصوا له الدين والعمل ، قاله أبو العالية .
الخامس : ثم استقاموا عليه فلم يرجعوا عنه إلى موتهم ، رواه أنس مرفوعاً .
{ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيهِم } يعني في الآخرة .
{ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } يعني عند الموت ، قاله سعيد بن جبير .


وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16)

قوله عز وجل : { وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْه إحْسَاناً } في قراءة أهل الكوفة وقرأ الباقون حسناً . قال السدي : يعني براً .
{ حَمَلْتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً } أي حملته بمشقة ووضعته بمشقة . وقرىء كرهاً بالضم والفتح . قال الكسائي والفراء في الفرق بينهما أن الكره بالضم ما حمل الإنسان على نفسه ، وبالفتح ما حمل على غيره .
{ وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَ ثُونُ شَهْراً } الفصال مدة الرضاع ، فقدر مدة الحمل والرضاع ثلاثون شهراً ، وكان في هذا التقدير قولان :
أحدهما : أنها مدة قدرت لأقل الحمل وأكثر الرضاع ، فلما كان أكثر الرضاع أربعة وعشرين شهراً لقوله تعالى : { حَولَينِ كَامِلَينِ لِمَنْ أَرادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ } [ البقرة : 233 ] دل ذلك على أن مدة أقل الحمل ما بقي وهو ستة أشهر ، فإن ولدته لتسعة أشهر لم يوجب ذلك نقصان الحولين في الرضاع ، قاله الشافعي وجمهور الفقهاء .
الثاني : أنها مدة جمعت زمان الحمل ومدة الرضاع ، فإن كانت حملته تسعة أشهر؛ أرضعته أحداً وعشرين شهراً ، وإن كانت حملته عشرة أشهر أرضعته شهراً لئلا تزيد المدة فيهما عن ثلاثين شهراً ، قاله ابن عباس .
{ حَتَّى إذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ } وفي الأشد تسعة أقاويل :
أحدها : أنه البلوغ ، قاله ابن مالك والشعبي وزيد بن أسلم .
الثاني : خمسة عشر سنة ، قاله محمد بن أويس .
الثالث : ثماني عشرة سنة ، قاله ابن جبير .
الرابع : عشرون سنة ، قاله سنان .
الخامس : خمسة وعشرون سنة ، قاله عكرمة .
السادس : ثلاثون سنة ، قاله السدي .
السابع : ثلاثة وثلاثون سنة ، قاله ابن عباس .
الثامن : أربعة وثلاثون سنة ، قاله سفيان الثوري .
التاسع : أربعون سنة ، وهو قول عائشة ، والحسن .
{ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : لأنها زمان الأشد ، وهو قول من ذكرنا .
الثاني : لأنها زمان الاستواء ، قال زيد بن أسلم : لم يبعث الله نبياً حتى يبلغ الأربعين .
وقال ابن زيد : وقوله تعالى لموسى { وَاسْتَوَى } قال بلغ أربعين سنة . وقال الشعبي : يثغر الغلام لسبع ويحتلم لأربع عشرة ، وينتهي طوله لإحدى وعشرين سنة ، وينتهي عقله لثمان وعشرين ، فما زاد بعد ذلك فهو تجربة ويبلغ أشده لثلاث وثلاثين .
الثالث : لأنها أول عمر بعد تمام عمر ، قال ابن قيس .
{ رَبِّ أَوْزِعْنِي } قال سفيان معناه ألهمني .
قال ابن قتيبة : والأصل في الإيزاع هو الإغراء بالشيء ، ويقال فلان موزع بكذا أي مولع به .
{ أَن أَشْكُر نِعْمَتَكَ الَّتي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ } يحتمل وجهين :
أحدهما : أنعمت علي بالبر والطاعة ، وأنعمت على والدي بالتحنن والشفقة .
الثاني : أنعمت عليَّ بالعافية والصحة ، وعلى والديَّ بالغنى والثروة ، وفي النعمة على كل واحد منهما نعمة على الآخر لما بينهما من الممازجة والحقوق الملتزمة .
وحكى أبو زهير عن الأعمش قال : سمعتهم يقولون إن الولد يأتيه رزقه من أربع خلال : يأتيه رزقه وهو في بطن أمه ، ثم يولد فيكون رزقه في ثدي أمه ، فإذا تحرك كان رزقه على أبويه ، فإذا اجتمع وبلغ أشده جلس يهتم للرزق ويقول من أين يأتيني رزقي ، فاختصت الأم بخلتين من خلال رزقه ، واشترك أبوه في الثالثة ، وتفرد هو بالرابعة ، فذهب عنه الهم لما كان موكلاً إلى غيره ، واهتم لما صار موكلاً إلى نفسه ليتنبه بذلك على التوكل على خالقه ليكون نقى لهمته وأقل لحيرته وأدرّ لرزقه ، وليعلم أن لأمه عليه حقاً يعجز عن أدائه لما عانت من موارد رزقه ما عجز الخلق عن معاناته .

{ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ } يحتمل وجهين :
أحدهما : في بر الوالدين .
الثاني : في ديني .
{ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَتِي } يحتمل وجهين :
أحدهما : أن يدعو بإصلاحهم لبره وطاعته لإضافته ذلك إلى نفسه .
الثاني : أن يدعو بإصلاحهم لطاعة الله وعبادته وهو الأشبه ، لأن طاعتهم لله من بره ، ولأنه قد دعا بصلاح ذرية قد تكون من بعده .
وفيه لأصحاب الخواطر أربعة أوجه :
أحدها : قاله سهل : اجعلهم لي خلف صدق ولك عبيد حق .
الثاني : قاله أبو عثمان : اجعلهم أبراراً ، أي مطيعين لك .
الثالث : قاله ابن عطاء وفقهم لصالح أعمال ترضى بها عنهم .
الرابع : قاله محمد الباقر رضي الله عنه : لا تجعل للشيطان والنفس والهوى عليهم سبيلاً .
{ إنِّي تُبْتُ إِِلَيكَ } قال ابن عباس : رجعت عن الأمر الذي كنت عليه .
وفي هذه الآية قولان :
أحدهما : أنها نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، قاله مقاتل والكلبي .
الثاني : مرسلة نزلت على العموم ، قاله الحسن .
قوله عز وجل : { أُوْلَئكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنهم إذا أسلموا قبلت حسناتهم وغفرت سيئاتهم ، قاله زيد بن أسلم يحكيه مرفوعاً .
الثاني : هو إعطاؤهم بالحسنة عشراً رواه أبو هلال .
الثالث : هي الطاعات لأنها الأحسن من أعماله التي يثاب عليها وليس في المباح ثواب ولا عقاب ، حكاه ابن عيسى .
{ وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِم فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : نتجاوز عن سيئاتهم بالرحمة .
الثاني : نتجاوز عن صغائرهم بالمغفرة .
الثالث : نتجاوز عن كبائرهم بالتوبة .
{ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُواْ يُوعَدُونَ } وعد الصدق الجنة ، الذي كانوا يوعدون في الدنيا على ألسنة الرسل .


وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (18) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (19) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20)

قوله عز وجل : { وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لكُمَا أَتَعِدَانَنِي أَنْ أُخْرَجَ } : أي أبعث .
{ وَقَدْ خَلَتْ الْقُرُونُ مِن قَبْلِي } فلم يبعثوا . وفيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق وأمه أم رومان . يدعوانه إلى الإسلام ويعدانه بالبعث فيرد عليهما بما حكاه الله عنه ، وكان هذا منه قبل إسلامه ، قاله السدي .
قال السدي : فلقد رأيت عبد الرحمن بن أبي بكر بالمدينة ، وما بالمدينة أَعْبَدُ منه ، ولقد استجاب الله فيه دعوة أبي بكر رضي الله عنه ، ولما أسلم وحسن إسلامه ، نزلت توبته في هذه الآية { وَلِكُلِّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُواْ } .
الثاني : أنها نزلت في عبد الله بن أبي بكر ، وكان يدعوه أبواه إلى الإسلام فيجيبهما بما أخبر الله تعالى ، قاله مجاهد .
الثالث : أنها نزلت في جماعة من الكفار قالوا ذلك لآبائهم ولذلك قال : { أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيهِم الْقَوْلُ } والعرب قد تذكر الواحد وتريد به الجمع وهذا معنى قول الحسن . فأما ال { أُفٍّ } فهي كلمة تبرم يقصد بها إظهار السخط وقبح الرد . قال الشاعر :
ما يذكر الدهر إلا قلت أف له ... إذا لقيتك لولا قال لي لاقي
وفي أصل الأف والتف ثلاثة أوجه :
أحدها : أن الأف وسخ الأذن ، والتف وسخ الأنف .
الثاني : الأف وسخ الأظفار ، والتف الذي يكون في أصول الأظافر .
الثالث : أن الأف العليل الأنف ، والتف الإبعاد .
{ وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّه } أي يدعوان الله : اللهم اهده ، اللهم اقبل بقلبه ، اللهم اغفر له .
{ وَيْلَكَ ءَامِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ } في الثواب على الإيمان ، والعقاب على الكفر .
قوله عز وجل : { وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ في حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا } يحتمل أربعة أوجه :
أحدها : معناه أذهبتم طيباتكم في الآخرة بمعاصيكم في الدنيا .
الثاني : ألهتكم الشهوات عن الأعمال الصالحة .
الثالث : أذهبتم لذة طيباتكم في الدنيا بما استوجبتموه من عقاب معاصيكم في الآخرة .
الرابع : معناه اقتنعتم بعاجل الطيبات في الدنيا بدلاً من آجل الطيبات في الآخرة .
وروى الحسن عن الأحنف بن قيس أنه سمع عمر بن الخطاب يقول : لأنا أعلم بخفض العيش ، ولو شئت لجعلت أكباداً وأسنمة وصلاء وصناباً وسلائق ، ولكن أستبقي حسناتي ، فإن الله تعالى وصف قوماً فقال : { أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا } والصلاء ، والشواء ، والصناب الأصبغة والسلائق الرقاق العريض .
وقال ابن بحر فيه تأويل خامس : أن الطيبات : الشباب والقوة ، مأخوذ من قولهم : ذهب أطيباه أي شبابه وقوته . ووجدت الضحاك قاله أيضاً .
{ وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا } يحتمل وجهين :
أحدهما : بالدنيا .
الثاني : بالطيبات .
{ فَالْيَوْمَ تُجْزَونَ عَذَابَ الْهُونِ } قال مجاهد : الهون الهوان . قال قتادة بلغة قريش .
{ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيرِ الْحَقِّ } يحتمل ثلاثة أوجه :
أحدها : تستعلون على أهلها بغير استحقاق .
الثاني : تتغلبون على أهلها بغير دين .
الثالث : تعصون الله فيها بغير طاعة .
{ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ } يحتمل وجهين :
أحدهما : تفسقون في أعمالكم بغياً وظلماً .
الثاني : في اعتقادكم كفراً وشركاً .


وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25)

قوله عز وجل : { وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالأحْقَافِ } وهو هود بعث إلى عاد ، وكان أخاهم في النسب لا في الدين لأنه مناسب وإن لم يكن أخا أحد منهم .
{ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالأحْقَافِ } وهي جمع حقف ، وهو ما استطال واعوج من الرمل العظيم ، ولا يبلغ أن يكون جبلاً . ومنه قول العجاج :
بات إلى أرطاة حقف أحقفا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أي رمل مستطيل مشرق .
وفيما أريد بالأحقاف هنا خمسة أقاويل :
أحدها : أن الأحقاف رمال مشرقة كالجبال ، قاله ابن زيد ، وشاهده ما تقدم ، وقال هي رمال مشرقة على البحر بالسحر في اليمن .
الثاني : أن الأحقاف أرض من حسمي تسمى الأحقاف ، قاله مجاهد .
الثالث : أنه جبل بالشام يسمى الأحقاف ، قاله الضحاك .
الرابع : هو ما بين عمان وحضرموت ، قاله ابن إسحاق .
الخامس : هو واد بين عُمان ومهرة ، قاله ابن عباس .
وروى أبو الطفيل عن علي كرم الله وجهه أنه قال : خير واد بين في الناس واد بمكة ، وواد نزل به آدم بأرض الهند ، وشر واديين في الناس وادي الأحقاف ، ووادٍ بحضرموت يدعى برهوت تلقى فيه أرواح الكفار ، وخير بئر في الناس بئر زمزم ، وشر بئر في الناس بئر برهوت وهي ذلك الوادي حضرموت .
{ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ } أي قد بعث الرسل من قبل هود ومن بعده ، قال الفراء ، من بين يديه من قبله ، ومن خلفه من بعده وهي في قراءة ابن مسعود : { مِنْ بَيْنَ يَدَيْهِ وَمِنْ بَعدِهِ } .
قوله عز وجل : { قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَأفِكَنَا عَنْ ءَالِهَتِنَا } فيه وجهان :
أحدهما : لتزيلنا عن عبادتها بالإفك .
الثاني : لتصدنا عن آلهتنا بالمنع ، قاله الضحاك .
قوله عز وجل : { فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتهِمْ } يعني السحاب . وأنشد الأخفش لأبي كبير الهذلي :
وإذا نظرت إلى أسرة وجهه ... برقت كبرق العارض المنهال
وفي تسميته عارضاً ثلاثة أقاويل :
أحدها : لأنه أخذ في عرض السماء ، قال ابن عيسى .
الثاني : لأنه يملأ آفاق السماء ، قال النقاش .
الثالث : لأنه مار من السماء . والعارض هو المار الذي لا يلبث وهذا أشبه .
{ قَاُلواْ هَذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا } حسبوه سحاباً يمطرهم ، وكان المطر قد أبطأ عليهم .
{ بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذابٌ أَلِيمٌ } كانوا حين أوعدهم هود استعجلوه استهزاء منهم بوعيده ، فلما رأوا السحاب بعد طول الجدب أكذبوا هوداً وقالوا : هذا عارض ممطرنا .
ذكر أن القائل ذلك من قوم عاد ، بكر بن معاوية . فلما نظر هود إلى السحاب قال : بل هو ما استعجلتم به ، أي الذي طلبتم تعجيله ريح فيها عذاب أليم وهي الدبور .
وروي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « نُصِرْتُ بِالصبَا وَأُهْلِكَتْ عَادٌ بِالدَّبُورِ »

فنظر بكر بن معاوية إلى السحاب فقال : إني لأرى سحاباً مُرْمِداً ، لا يدع من عَادٍ أحداً . فذكر عمرو بن ميمون أنها كانت تأتيهم بالرجل الغائب حتى تقذفه في ناديهم .
قال ابن اسحاق : واعتزل هود ومن معه من المؤمنين في حظيرة ما يصيبه هو ومن معه فيها إلا ما يلين على الجلود وتلتذ الأنفس به ، وإنها لتمر من عاد بالظعن بين السماء والأرض .
وحكى الكلبي أن شاعرهم قال في ذلك :
فدعا هود عليهم ... دعوة أضحوا همودا
عصفت ريح عليهم ... تركت عاداً خمودا
سخرت سبع ليال ... لم تدع في الأرض عودا
وعمَّر هود في قومه بعدهم مائة وخمسين سنة
.


وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (26) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28)

قوله عز وجل : { وَلَقَدْ مََّكنَّاهُمْ فِيمَآ إِن مَّكنَّاكُمْ فِيهِ } فيه وجهان :
أحدهما : فيما لم نمكنكم فيه ، قاله ابن عباس .
الثاني : فيما مكناكم فيه وإن هنا صلة زائدة .
ويحتمل ثالثاً : وهو أن تكون ثابتة غير زائدة ويكون جوابها مضمراً محذوفاً ويكون تقديره : ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه كان بغيكم أكثر وعنادكم أشد .
ثم ابتدأ فقال : { وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأبْصَاراً وَأَفْئِدَةً } الآية . يحتمل وجهين :
أحدهما : أننا جعلنا لهم من حواس الهداية ما لم يهتدوا به .
الثاني : معناه جعلنا لهم أسباب الدفع ما لم يدفعوا به عن أنفسهم .


وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (32)

قوله عز وجل : { وَإذ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ القُرْءَانَ } فيه قولان :
أحدهما : أنهم صرفوا عن استراق سمع السماء برجوم الشهب ولم يكونوا بعد عيسى صرفوا عنه إلا عند مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : ما هذا الذي حدث في الأرض؟ فضربوا في الأَرض حتى وقفوا على النبي صلى الله عليه وسلم ببطن نخلة عائداً إلى عكاظ وهو يصلي الفجر ، فاستمعوا القرآن ونظروا كيف يصلي ويقتدي به أصحابه ، فرجعوا إلى قومهم فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجباً ، قاله ابن عباس .
وحكى عكرم أن السورة التي كان يقرأها ببطن نخلة { اقرأْ بِاسِمِ رَبِّكَ } [ العلق : 1 ] وحكى ابن عباس كان يقرأ في العشاء { كَادوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً } .
الثاني : أنهم صرفوا عن بلادهم بالتوفيق هداية من الله لهم حتى أتوا نبي الله ببطن نخلة .
وفيهم أربعة أقاويل :
أحدها : أنهم جن من أهل نصيبين ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنهم من أهل نينوى ، قاله قتادة .
الثالث : أنهم من جزيرة الموصل ، قاله عكرمة .
الرابع : من أهل نجران ، قاله مجاهد .
واختلف في عددهم على ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنهم كانوا اثني عشر ألفاً من جزيرة الموصل ، قاله عكرمة .
الثاني : أنهم كانوا تسعة أحدهم زوبعة ، قاله زر بن حبيش .
الثالث : أنهم كانوا سبعة : ثلاثة من أهل نجران وأربعة من أهل نصيبين ، وكانت أسماؤهم حسى ومسى وشاصر وناصر والأردن وأنيان الأحقم ، قاله مجاهد .
واختلف في علم النبي صلى الله عليه وسلم على قولين :
أحدهما : أنه ما شعر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أوحى الله إليه فيهم وأخبره عنهم ، قاله ابن عباس ، والحسن .
الثاني : أن الله قد كان أعلمه بهم قبل مجيئهم . روى شعبة عن قتادة أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : « إِنِّي أمِرْتُ أَنْ أَقْرَأَ عَلَى الْجِنِّ فَأَيُّكُمْ يَتْبَعُنِي » ؟فأطرقوا فاتبعه ابن مسعود فدخل نبي الله صلى الله عليه وسلم شعباً يقال له شعب الحجون وخط عليه وخط على ابن مسعود ليثبته بذلك ، قال عكرمة : وقال لابن مسعود : « لاَ تَبْرَحْ حَتَّى آتِيكَ » فلما خشيهم ابن مسعود كاد أن يذهب فذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم فلم يبرح ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : « لَوْ ذَهَبْتَ مَا التَقَيْنَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ »
ولما توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم تلا عليهم القرآن وقضى بينهم في قتيل منهم . وروى قتادة عن ابن مسعود أنهم سألوه الزاد فقال : « كُلُّ عَظْمٍ لَكُم عِرْقٌ ، وَكُلٌّ رَوَثَةٍ لَكُم خَضِرَةٌ » فقالوا يا رسول الله يقذرها الناس علينا ، فنهى سول الله صلى الله عليه وسلم أن يستنجى بأحدهما .
روى عبد الله بن عمرو بن غيلان عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

« إِنَّ وَفْدَ الجِنَّ سَأَلُونِي المَتَاع ، - وَالمَتَاعُ : الزَّادُ - فَمَتَّعْتُهُم بِكُلِّ عَظْمٍ حَائِلٍ وَبَعْرَةٍ أَوْ رَوَثَةٍ » فقلت : يا رسول الله وما يغني عن ذلك عنهم؟ فقال : « إنهم لا يجدون عظماً إلا وجدوا عليه لحمه يوم أكل ، ولا روثة ولا بعرة إلا وجدوا فيها حبها يوم أكلت ، فلا يستنجين أحدكم إذا خرج من الخلاء بعظم ولا بعرة ولا روثة » .
{ فَلَمَّا حَضَرُوه قَالُواْ أنصِتُواْ } يحتمل وجهين :
أحدهما : فلما حضروا قراءة القرآن قال بعضهم لبعض أنصتوا لسماع القرآن .
الثاني : لما حضروا رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا أنصتوا لسماع قوله .
{ فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْاْ إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ } فيه وجهان :
أحدهما : فلما فرغ من الصلاة ولوا إلى قومهم منذرين برسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال الكلبي : مخوفين : قاله الضحاك .
الثاني : فلما فرغ من قرءاة القرآن ولوا إلى قومهم منذرين ، حكاه عبد الرحمن بن أبي حاتم .
قوله عز وجل : { يَا قَوْمَنَا أَجِيبُواْ دَاعِيَ اللَّهِ } أي نبي الله يعني محمداً صلى الله عليه وسلم .
{ وَمَن لاَّ يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ } أي نبي الله يعني محمداً صلى الله عليه وسلم . { فَليسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ } أي سابق لله فيفوته هرباً .


أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34) فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35)

قوله عز وجل : { فَاصْبِر كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِن الرُّسُلِ } فيهم ستة أوجه :
أحدها : أن أولي العزم من الرسل الذين أمروا بالقتال من الأنبياء ، قاله السدي والكلبي .
الثاني : أنهم العرب من الأنبياء ، قاله مجاهد والشعبي .
الثالث : من لم تصبه فتنة من الأنبياء ، قاله الحسن .
الرابع : من أصابه منهم بلاء بغير ذنب ، قاله ابن جريج .
الخامس : أنهم أولوا العزم ، حكاه يحيى .
السادس : أنهم أولوا الصبر الذين صبروا على أذى قومهم فلم يجزعوا .
وروت عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إن الله عز وجل لم يرض عن أولي العزم من الرسل إلا بالصبر على مكروهها والصبر على مخبوئها » .
وفي أولي العزم منهم ستة أقاويل :
أحدها : أن جميع الأنبياء أولوا العزم ، ولم يبعث الله رسولاً إلا كان من أولي العزم . فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصبر كما صبروا ، قاله ابن زيد .
الثاني : أن أولي العزم منهم نوح وهود وإبراهيم ، فأمر الله رسوله أن يكون رابعهم ، قاله أبو العالية .
الثالث : أنهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ، قاله ابن عباس .
الرابع : أنهم نوح وهود وإبراهيم وشعيب وموسى ، قاله عبد العزيز .
الخامس : أنهم إبراهيم وموسى وداود وسليمان وعيسى ومحمد صلوات الله عليهم ، قاله السدي .
السادس : أن منهم إسماعيل ويعقوب وأيوب ، وليس منهم يونس ولا سليمان ولا آدم ، قاله ابن جريج .
{ وَلاَ تَسْتَعْجِلَ لَّهُمْ } فيه وجهان :
أحدهما : بالدعاء عليهم ، قاله مقاتل .
الثاني : بالعذاب وهذا وعيد .
{ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ } فيه وجهان :
أحدهما : من العذاب ، قاله يحيى .
الثاني : من الآخرة ، قاله النقاش .
{ لَمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِن نَّهَارٍ } فيه وجهان :
أحدهما : في الدنيا حتى جاءهم العذاب ، وهو مقتضى قول يحيى .
الثاني : في قبورهم حتى بعثوا للحساب ، وهو مقتضى قول النقاش .
{ بَلاَغٌ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن ذلك اللبث بلاغ ، قاله ابن عيسى .
الثاني : أن هذا القرآن بلاغ ، قاله الحسن .
الثالث : أن هذا الذي وصفه الله بلاغ ، وهو حلول ما وعده إما من الهلاك في الدنيا أو العذاب في الآخرة على ما تقدم من الوجهين :
{ فَهَلْ يُهْلَكُ } يعني بعد هذا البلاغ .
{ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ } قال يحيى : المشركون .
وذكر مقاتل أن هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد ، فأمره الله أن يصبر على ما أصابه كما صبر أولوا العزم من الرسل تسهيلاً عليه وتثبيتاً له ، والله أعلم .


الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2) ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (3)

قوله عز وجل : { الَّذِينَ كَفَرُواْ } يعني كفروا بتوحيد الله .
{ وَصَدُّواْ عَن سَبيلِ اللَّهِ } فيه وجهان :
أحدهما : عن الله وهو الإسلام بنهيهم عن الدخول فيه ، قاله السدي .
الثاني : عن بيت الله يمنع قاصديه إذا عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم - عليهم الإسلام أن يدخلوا فيه ، قاله الضحاك .
{ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ } يحتمل ثلاثة أوجه :
أحدها : أحبط ما فعلوه من الخير بما أقاموا عليه من الكفر .
الثاني : أبطل ما أنفقوا ببدر لما نالهم من القتل .
الثالث : أضلهم عن الهدى بما صرفهم عن التوفيق .
وحكى مقاتل بن حيان أن هذه الآية نزلت في اثني عشر رجلاً من كفار مكة ، ذكر النقاش أنهم أبو جهل وعتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عقبة وعقبة بن أبي معيط وأمية بن خلف ومنبه ونبيه ابنا الحجاج وأبو البختري وزمعة بن الأسود وحكيم بن حزام والحارث بن عامر بن نوفل .
قوله عز وجل : { وَالَّذِينَ ءَامَنواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ } فيهم قولان :
أحدهما : أنهم الأنصار ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنها نزلت خاصة في ناس من قريش ، قاله مقاتل .
وفي قوله : { وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ } فيه قولان :
أحدهما : المواساة بمساكنهم وأموالهم ، وهذا قول من زعم أنهم الأنصار .
الثاني : الهجرة وهذا قول من زعم أنهم قريش .
{ وَءَامَنُواْ بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ } أي آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما أنزل عليه من القرآن .
{ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ } يحتمل وجهين :
أحدهما : أن إيمانهم هو الحق من ربهم .
الثاني : أن القرآن هو الحق من ربهم .
{ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيّئَاتِهِمْ } فيه وجهان :
أحدهما : سترها عليهم .
الثاني : غفرها بإيمانهم .
{ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : أصلح شأنهم ، قاله مجاهد .
الثاني : أصلح حالهم ، قاله قتادة .
الثالث : أصلح أمرهم ، قاله ابن عباس ، والثلاثة متقاربة وهي متأولة على إصلاح ما تعلق بدنياهم .
الرابع : أصلح نياتهم . حكاه النقاش ، ومنه قول الشاعر :
فإن تقبلي بالود أقبل بمثله ... وإن تدبري أذهب إلى حال باليا
وهو على هذا التأويل محمول على إصلاح دينهم ، والبال لا يجمع لأنه أبهم إخوانه من الشأن والحال والأمر .
قوله عز وجل : { ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ اتَّبَعُواْ الْبَاطِلَ } فيه قولان :
أحدهما : أن الباطل الشيطان ، قاله مجاهد .
الثاني : إبليس ، قاله قتادة ، وسُمِّي بالباطل لأنه يدعو إلى الباطل .
ويحتمل ثالثاً : أنه الهوى .
{ وَأَنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّبعُواْ الْحَقَّ مِن رَّبِهِمْ } فيه وجهان :
أحدهما : اتبعوا الرسول ، لأنه دعاهم إلى الحق وهو الإسلام .
الثاني : يعني القرآن سمي حقاً لمجيئه بالحق .
{ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ } قال يحيى : صفات أعمالهم ، وفي الناس هنا قولان :
أحدهما : أنه محمد صلى الله عليه وسلم ، قاله الكلبي .
الثاني : جميع الناس ، قاله مقاتل .


فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (9)

قوله عز وجل : { فَإذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ } فيهم هنا قولان :
أحدهما : أنهم عبدة الأوثان ، قاله ابن عباس .
الثاني : كل من خالف دين الإسلام من مشرك أو كتابي إذا لم يكن صاحب عهد ولا ذمة .
وفي قوله : { فَضَرْبَ الرِّقَابِ } وجهان :
أحدهما : ضرب أعناقهم صبراً عند القدرة عليهم .
الثاني : أنه قتلهم بالسلاح واليدين ، قاله السدي .
{ حَتَّى إِذَآ أَثخَنُتُموهُمْ فَشُدُّواْ الْوَثَاقَ } يعني بالإثخان الظفر ، وبشد الوثاق الأسر .
{ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً } في المَنِّ هنا قولان : أحدهما : أنه العفو والإطلاق كما من رسول الله صلى الله عليه على ثمامة بن أثال بعد أسره .
الثاني : أنه العتق ، قاله مقاتل .
فأما الفداء ففيه وجهان :
أحدهما : أنه المفاداة على مال يؤخذ من أسير يطلق ، كما فادى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بدر كل أسير بأربعة آلاف درهم ، وفادى في بعض المواطن رجلاً برجلين .
الثاني : أنه البيع ، قاله مقاتل .
{ حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا } فيه خمسة أوجه :
أحدها : أن أوزار الحرب أثقالها ، والوزر الثقل ومنه وزير الملك لأنه يتحمل عنه الأثقال ، وأثقالها السلاح .
الثاني : هو [ وضع ] سلاحهم بالهزيمة أو الموادعة ، قال الشاعر :
وأعددت للحرب أوزارها ... رماحا طوالاً وخيلاً ذكوراً
الثالث : حتى تضع الحرب أوزار كفرهم بالإسلام ، قاله الفراء .
الرابع : حتى يظهر الإسلام على الدين كله ، وهو قول الكلبي .
الخامس : حتى ينزل عيسى ابن مريم ، قاله مجاهد .
ثم في هذه الآية قولان :
أحدهما : أنها منسوخة بقوله : { فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِم لَعَلَّهُمْ يَذَّكُرُونَ } [ الأنفال : 57 ] قاله قتادة .
الثاني : أنها ثابتة الحكم ، وأن الإمام مخير في من أسره منهم بين أربعة أمور : أن يقتل لقوله تعالى : { فَضَرْبَ الرِّقَابِ } ، أو يسترق لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم استرق العقيلي ، أو يَمُنُّ كما مَنَّ على ثمامة ، أو يفادي بمال أو أَسرى ، فإذا أسلموا أسقط القتل عنهم وكان في الثلاثة الباقية ، على خياره ، وهذا قول الشافعي .
{ ذلِك وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ لا نَتصَرَ مِنهُمْ } فيه وجهان :
أحدهما : بالملائكة ، قاله الكلبي .
الثاني : بغير قتال ، قاله الفراء .
قوله عز وجل : { وَالَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } قراءة أبي عمرو وحفص ، قال قتادة : هم قتلى أحد . وقرأ الباقون { قَاتَلُواْ } .
{ سَيَهْدِيهِمْ } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : يحق لهم الهداية ، قاله الحسن .
الثاني : يهديهم إلى محاجة منكر ونكير في القبر ، قاله زياد .
الثالث : يهديهم إلى طريق الجنة ، قاله ابن عيسى .
قوله عز وجل : { وَيُدْخِلُهُمُ الجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : عرفها بوصفها على ما يشوق إليها ، حكاه ابن عيسى .
الثاني : عرفهم ما لهم فيها من الكرامة ، قاله مقاتل .
الثالث : معنى عرفها أي طيبها بأنواع الملاذ ، مأخوذ من العرف وهي الرائحة الطيبة ، قاله بعض أهل اللغة .

الرابع : عرفهم مساكنهم فيها حتى لا يسألون عنها ، قاله مجاهد . قال الحسن : وصف الجنة لهم في الدنيا فلما دخلوها عرفوها بصفتها .
ويحتمل خامساً : أنه عرف أهل السماء انها لهم إظهاراً لكرامتهم فيها .
قوله عز وجل : { يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِن تَنصُرواْ اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ } فيه وجهان :
أحدهما : إن تنصروا دين الله ينصركم الله . الثاني : إن تنصروا نبي الله ينصركم الله ، قاله قطرب .
{ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامكُمْ } يحتمل وجهين :
أحدهما : ويثبت أقدامكم في نصره .
الثاني : عند لقاء عدوه .
ثم فيه وجهان :
أحدهما : يعني تثبيت الأقدام بالنصر .
الثاني : يريد تثبيت القلوب بالأمن .
قوله عز وجل : { وَالَّذِينَ كَفَرُواْ فَتَعْساً لَّهُمْ } فيه تسعة تأويلات :
أحدها : خزياً لهم ، قاله السدي .
الثاني : شقاء لهم ، قاله ابن زيد .
الثالث : شتماً لهم من الله ، قاله الحسن .
الرابع : هلاكاً لهم ، قال ثعلب .
الخامس : خيبة لهم ، قاله ابن زياد .
السادس : قبحاً لهم ، حكاه النقاش .
السابع : بعدائهم ، قاله ابن جريج .
الثامن : رغماً لهم ، قاله الضحاك .
التاسع : أن التعس الانحطاط والعثار ، حكاه ابن عيسى .


أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (10) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (11) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ (13)

قوله عز وجل : { وَكَأيّن مِّن قَرْيَةٍ } أي وكم من قرية ، وأنشد الأخفش للبيد :
وكائن رأينا من ملوك وسوقة ... ومفتاح قيد للأسير المكبل
فيكون معناه : وكم من أهل قرية .
{ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً } أي أهلها أشد قوة .
{ مِّن قَرْيَتِكَ } يعني مكة .
{ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ } أي أخرجك أهلها عند هجرتك منها .
{ أَهْلكْنَاهُمْ } يعني بالعذاب .
{ فَلاَ نَاصِرَ لَهُمْ } يعني فلا مانع لهم منا ، وهذا وعيد .


أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (14) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15)

قوله عز وجل : { أَفَمَن كَان عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبّهِ } فيه أربعة أقاويل :
أحدها : أنه القرآن ، قاله ابن زيد .
الثاني : أنه محمد صلى الله عليه وسلم ، قاله أبو العالية ، والبينة الوحي .
الثالث : أنهم المؤمنون ، قاله الحسن ، والبينة معجزة الرسول .
الرابع : أنه الدين ، قاله الكلبي .
{ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ } فيه قولان :
أحدهما : عبادتهم الأوثان ، قاله الضحاك .
الثاني : شركهم ، قاله قتادة ، وفيهم قولان :
أحدهما : أنهم كافة المشركين .
الثاني : أنهم الإثنا عشر رجلاً من قريش .
وفيمن زينه لهم قولان :
أحدهما : الشيطان .
الثاني : أنفسهم .
{ وَاتَّبَعُواْ أَهْوَآءَهُم } فيه قولان :
أحدهما : أنه نعت لمن زين له سوء عمله .
الثاني : أنهم المنافقون ، قاله ابن زيد .


وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ (18) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19)

قوله عز وجل : { وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ } هم المنافقون : عبد الله بن أُبيّ بن سلول ، ورفاعة بن التابوت ، وزيد بن الصليت ، والحارث بن عمرو ، ومالك بن الدخشم . وفيما يستمعونه قولان :
أحدهما : أنهم كانوا يحضرون الخطبة يوم الجمعة فإذا سمعوا ذكر المنافقين فيها أعرضوا عنه ، فإذا خرجوا سألوا عنه ، قاله الكلبي ومقاتل .
الثاني : أنهم كانوا يحضرون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم مع المؤمنين ، فيسمعون منه ما يقول ، فيعيه المؤمن ولا يعيه المنافق .
{ حَتَّى إِذا خَرَجُواْ مِن عِندِكَ } أي من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم .
{ قَالُواْ لِلَّذِينَ أوتُواْ الْعِلْمَ } فيهم أربعة أقاويل :
أحدها : أنه عبد الله بن عباس ، قاله عكرمة .
الثاني : عبد الله بن مسعود ، قاله عبد الله بن بريدة .
الثالث : أبو الدرداء ، قاله القاسم بن عبد الرحمن .
الرابع : أنهم الصحابة ، قاله ابن زيد .
{ مَاذَا قَالَ ءَانِفاً } هذا سؤال المنافقين للذين أُوتوا العلم إذا خرجوا من عند النبي صلى الله عليه وسلم . وفيه وجهان :
أحدهما : يعني قريباً .
الثاني : مبتدئاً .
وفي مقصودهم بهذا السؤال وجهان :
أحدهما : الإستهزاء بما سمعوه .
الثاني : البحث عما جهلوه .
قوله عز وجل : { وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن الإستهزاء زاد المؤمنين هدى ، قاله الفراء .
الثاني : أن القرآن زادهم هدى ، قاله ابن جريج .
الثالث : أن الناسخ والمنسوخ زادهم هدى ، قاله عطية .
وفي الهدى الذي زادهم أربعة أقاويل :
أحدها : زادهم علماً ، قاله الربيع بن أنس .
الثاني : علموا ما سمعوا ، وعلموا بما عملوا ، قاله الضحاك .
الثالث : زادهم بصيرة في دينهم وتصديقاً لنبيهم ، قاله الكلبي .
الرابع : شرح صدورهم بما هم عليه من الإيمان .
ويحتمل خامساً : والذين اهتدوا بالحق زادهم هدى للحق .
{ وَءَاتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ } فيه خمسة أوجه :
أحدها : آتاهم الخشية ، قاله الربيع .
الثاني : ثواب تقواهم في الآخرة ، قاله السدي .
الثالث : وفقهم للعمل الذي فرض عليهم ، قاله مقاتل .
الرابع : بين لهم ما يتقون ، قاله ابن زياد .
الخامس : أنه ترك المنسوخ والعمل بالناسخ ، قاله عطية .
قوله عز وجل : { فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَن تَأتِيَهُم بَغْتَةً } أي فجأة .
{ فَقَدْ جَآءَ أَشْرَاطُهَا } فيه أربعة أقاويل :
أحدها : أشراطها آياتها ، قاله ابن زيد .
الثاني : أوائلها ، قاله ابن عباس .
الثالث : أنه انشقاق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قاله الحسن .
الرابع : ظهور النبي ، قاله الضحاك . قال الضحاك لأنه آخر الرسل وأمته آخر الأمم ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « بُعِثْتُ وَالسَّاعَة كَهَاتِينِ » وأشار بأصبعيه السبابة والوسطى .
{ فَأَنَّى لَهُمْ } قال السدي : معناه فكيف لهم النجاة .
{ إذَا جَآءَتْهُمْ ذِكرَاهُمْ } فيه وجهان :
أحدهما : إذا جاءتهم الساعة ، قاله قتادة .
الثاني : إذا جاءتهم الذكرى عند مجيء الساعة ، قاله ابن زيد .

وفي الذكرى وجهان :
أحدهما : تذكيرهم بما عملوه من خير أو شر .
الثاني : هو دعاؤهم بأسمائهم تبشيراً أو تخويفاً . روى أبان عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « أَحْسِنُواْ أَسْمَآءَكُم فَإِنَّكُم تُدْعَوْنَ بِهَا يَوْمَ القِيَامَةِ ، يَا فُلاَنُ قُمْ إِلَى نُورِكَ ، يَا فُلاَنُ قُمْ فَلاَ نُورَ لَكَ » .
قوله عز وجل : { فَاعلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ } وفي - وإن كان الرسول صلى الله عليه وسلم عالماً به - ثلاثة أوجه :
أحدها : يعني اعلم أن الله أعلمك أن لا إله إلا الله .
الثاني : ما علمته استدلالاً فاعلمه خبراً يقيناً .
الثالث : يعني فاذكر أن لا إله إلا الله ، فعبر عن الذكر بالعلم لحدوثه عنه .
{ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ } يحتمل وجهين :
أحدهما : يعني استغفر الله أن يقع منك ذنب .
الثاني : استغفر الله ليعصمك من الذنوب .
{ وَلِلْمُؤمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } أي استغفر لهم ذنوبهم .
{ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ } يحتمل وجهين :
أحدهما : متقلبكم في أسفاركم ، ومثواكم في أوطانكم .
الثاني : متقلبكم في أعمالكم نهاراً ومثواكم في ليلكم نياماً .


وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ (20) طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ (21) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23)

قوله عز وجل : { وَيَقُولُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَوْلاَ نُزَّلِتْ سُورَةٌ } كان المؤمنون إذا تأخر نزول القرآن اشتاقوا إليه وتمنوه ليعلموا أوامر الله وتعبده لهم .
{ فَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ } وفي قراءة ابن مسعود : فإذا أنزلت سورة محدثة { وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ } .
في السورة المحكمة قولان :
أحدهما : أنها التي يذكر فيها الحلال والحرام ، قاله ابن زياد النقاش .
الثاني : أنها التي يذكر فيها القتال : وهي أشد القرآن على المنافقين ، قاله قتادة .
ويحتمل :
ثالثاً : أنها التي تضمنت نصوصاً لم يتعقبها ناسخ ولم يختلف فيها تأويل :
{ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ } هم المنافقون ، لأن قلوبهم كالمريضة بالشك . فإذا أنزلت السورة المحكمة سر بها المؤمنون وسارعوا إلى العمل بما فيها ، واغتم المنافقون ونظروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .
{ نَظَرَ الْمَغْشِّيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوتِ } غماً بها وفزعاً منها .
{ فَأَوْلَى لَهُمْ } فيه وجهان :
أحدهما : أنه وعيد ، كأنه قال : العقاب أولى لهم ، قاله قتادة .
الثاني : أولى لهم ، { طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ } من أن يجزعوا من فرض الجهاد عليهم ، قاله الحسن .
وفيه وجه ثالث : أن قوله { طَاعَةٌ وَقُوْلٌ مَعْرُوفٌ } حكاية من الله عنهم قبل فرض الجهاد عليهم ، ذكره ابن عيسى .
والطاعة هي الطاعة لله ورسوله في الأوامر والنواهي . وفي القول المعروف وجهان :
أحدهما : هو الصدق والقبول .
الثاني : الإجابة بالسمع والطاعة .
{ فَإِذَا عَزَمَ الأمْرُ } أي جد الأمر في القتال .
{ فَلَوْ صَدَقُواْ اللَّه } بأعمالهم { لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ } من نفاقهم .
قوله عز وجل : { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِي الأرْضِ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : فهل عسيتم إن توليتم أمور الأمة أن تفسدوا في الأرض بالظلم ، قاله الكلبي .
الثاني : فهل عسيتم إن توليتم الحكم فجعلتم حكاماً أن تفسدوا في الأرض بأخذ الرشا ، قاله أبو العالية .
الثالث : فهل عسيتم إن توليتم عن كتاب الله أن تفسدوا في الأرض بسفك الدماء الحرام . { وَتُقَطِّعُواْ أَرْحَامَكُمْ } ، قاله قتادة .
الرابع : فهل عسيتم إن توليتم عن الطاعة أن تفسدوا في الأرض بالمعاصي وقطع الأرحام ، قاله ابن جريج .
وفي هذه الآية ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه عنى بها المنافقين وهو الظاهر .
الثاني : قريشاً ، قاله أبو حيان .
الثالث : أنها نزلت في الخوارج ، قاله بكر بن عبد الله المزني .


أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (26) فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28)

قوله عز وجل : { إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى } فيهم قولان :
أحدهما : أنهم اليهود كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم من بعدما علموا في التوراة أنه نبي ، قاله قتادة وابن جريج .
الثاني : المنافقون قعدوا عن القتال من بعدما علموه في القرآن ، قاله السدي .
{ الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ } فيه وجهان :
أحدهما : أعطاهم سؤالهم ، قاله ابن بحر .
الثاني : زين لهم خطاياهم ، قاله الحسن .
{ وَأَمْلَى لَهُمْ } فيه وجهان :
أحدهما : أمهلهم ، قاله الكلبي ومقاتل فعلى هذا يكون الله تعالى هو الذي أملى لهم بالإمهال في عذابهم .
والوجه الثاني : أن معنى أملى لهم أي مد لهم في الأمل فعلى هذا فيه وجهان :
أحدهما : أن الله تعالى هو الذي أملى لهم في الأمل ، قاله الفراء والمفضل .
الثاني : أن الشيطان هو الذي أملى لهم في مد الأمل بالتسويف ، قاله الحسن .
{ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لِلَّذِينَ كَرِهُواْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعكُمْ فِي بَعْضِ الأمْرِ } وفي قائل ذلك قولان :
أحدهما : أنهم اليهود قالوا للمنافقين سنطيعكم في بعض الأمر . وفيما أرادوا بذلك وجهان :
أحدهما : سنطيعكم في ألا نصدق بشيء ، من مقالته ، قاله الضحاك .
الثاني : سنطيعكم في كتم ما علمنا من نبوته ، قاله ابن جريج .
القول الثاني : أنهم المنافقون قالوا لليهود سنطيعكم في بعض الأمر وفيما أرادوه بذلك ثلاثة أوجه :
أحدهما : سنطيعكم في غير القتال من بغض محمد صلى الله عليه وسلم والقعود عن نصرته ، قال السدي .
الثاني : سنطيعكم في الميل إليكم والمظاهر على رسول الله صلى الله عليه وسلم .
الثالث : سنطيعكم في الارتداد بعد الإيمان .
{ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ } يحتمل وجهين :
أحدهما : ما اسر بعضهم إلى بعض من هذا القول .
الثاني : ما أسروه في أنفسهم من هذا الاعتقاد .
قوله عز وجل : { فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلاَئِكَةُ } يحتمل وجهين :
أحدهما : بالقتال نصرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم .
الثاني : بقبض الأرواح عند الموت .
{ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارُهُمْ } يكون على احتمال وجهين :
أحدهما : يضربون وجوههم في القتال عند الطلب وأدبارهم عند الهرب .
الثاني : يضربون وجوههم عند الموت بصحائف كفرهم ، وأدبارهم في القيامة عند سوقهم إلى النار .


أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31)

قوله عز وجل : { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } فيه وجهان :
أحدهما : شك ، قاله مقاتل .
الثاني : نفاق ، قاله الكلبي .
{ أَن لن يُخْرِجَ أَضْغَانَهُمْ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : غشهم ، قاله السدي .
الثاني : حسدهم ، قاله ابن عباس .
الثالث : حقدهم ، قاله ابن عيسى .
الرابع : عدوانهم ، قاله قطرب وأنشد :
قل لابن هند ما أردت بمنطق ... ساء الصديق وسر ذا الأضغان
قوله عز وجل : { وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ } فيه وجهان :
أحدهما : في كذب القول ، قاله الكلبي .
الثاني : في فحوى كلامهم ، واللحن هو الذهاب بالكلام في غير جهته ، مأخوذ من اللحن في الإعراب وهو الذهاب عن الصواب ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : « إِنَّكُم لَتَحْتَكِمُونَ إِليَّ ، أَحَدَكُمْ أَن يَكُونَ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ » أي أذهب بها في الجهات لقوته على تصريف الكلام . قال مرار الأسدي :
ولحنت لحناً فيه غش ورابني ... صدودك ترصين الوشاة الأعاديا
قال الكلبي : فلم يتكلم بعد نزولها منافق عند النبي صلى الله عليه وسلم إلا عرفه .
{ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالُكُم } فيه وجهان :
أحدهما : المجاهدين في سبيل الله .
الثاني : الزاهدين في الدنيا .
{ وَالصَّابِرِينَ } فيه وجهان :
أحدهما : على الجهاد .
الثاني : عن الدنيا .
{ وَنَبْلُوَا أَخْبَارَكُمْ } يحتمل وجهين :
أحدهما : نختبر أسراركم .
الثاني : ما تستقبلونه من أفعالكم .


إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ (32) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34) فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35)

{ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ } فيه وجهان :
أحدهما : أطيعوا الله بتوحيده ، وأطيعوا الرسول بتصديقه .
الثاني : أطيعوا الله في حرمة الرسول ، وأطيعوا الرسول في تعظيم الله .
{ وَلاَ تُبْطِلُواْ أَعْمَالَكُم } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : لا تبطلوا حسناتكم بالمعاصي ، قاله الحسن .
الثاني : لا تبطلوها بالكبائر ، قاله الزهري .
الثالث : لا تبطلوها بالرياء والسمعة ، وأخلصوها لله ، قاله ابن جريج والكلبي .
قوله عز وجل : { وَلَن يَتِرَكُم أَعمَالَكْم } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : لن ينقصكم أعمالكم ، قاله مجاهد وقطرب . وأنشد قول الشاعر :
إن تترني من الإجارة شيئاً ... لا يفتني على الصراط بحقي
الثاني : لن يظلمكم ، قاله قتادة ، يعني أجور أعمالكم .
الثالث : ولا يستلبكم أعمالكم ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : « من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله » .


إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36) إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ (37) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)

قوله عز وجل : { وَلاَ يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُم } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : لا يسألكم أموالكم لنفسه .
الثاني : لا يسألكم جميع أموالكم في الزكاة ولكن بعضها .
الثالث : لا يسألكم أموالكم وإنما يسألكم أمواله ، لأنه أملك بها وهو المنعم بإعطائها .
{ إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُواْ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن الإخفاء أخذ الجميع ، قاله ابن زيد وقطرب .
الثاني : أنه الإلحاح وإكثار السؤال ، مأخوذ من الحفاء وهو المشي بغير حذاء ، قاله ابن عيسى .
الثالث : أن معنى فيحفكم أي فيجدكم تبخلوا ، قاله ابن عيينة .
{ وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ } يحتمل وجهين :
أحدهما : يظهر بامتناعكم ما أضمرتموه من عدوانكم .
الثاني : تظهرون عند مسألتكم ما أضمرتموه من عداوتكم .
قوله عز وجل : { وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَستَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : وإن تتولوا عن كتابي ، قاله قتادة .
الثاني : عن طاعتي ، حكاه ابن أبي حاتم .
الثالث : عن الصدقة التي أُمرتم بها ، قاله الكلبي .
الرابع : عن هذا الأمر فلا تقبلونه ، قاله ابن زيد .
{ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنهم أهل اليمن وهم الأنصار ، قاله شريح بن عبيد .
الثاني : أنهم الفرس . روى أبو هريرة قال : لما نزل { وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُم ثُمَّ لاَ يَكُونُوآ أمْثَالَكُم } كان سلمان إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله من هؤلاء الذين إن تولينا يستبدلوا بنا؟ فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على منكب سلمان وقال : « هذا وَقَومُهُ ، والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ الدِّينَ مُعَلَّقٌ بِالثُّرَيَّا لَنالَهُ رَِجَالٌ مِن أَبْنَاءِ فَارِس » .
الثالث : أنهم من شاء من سائر الناس ، قاله مجاهد .
{ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُم } فيه وجهان :
أحدهما : يعني في البخل بالإنفاق في سبيل الله ، قاله الطبري .
الثاني : في المعصية وترك الطاعة .
وحكي عن أبي موسى الأشعري أنه لما نزلت هذه الآية فرح بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : « هِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِن الدُّنْيَا » .


إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3)

قوله عز وجل : { إِنَّا فَتحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً } فيه قولان :
أحدهما : إنا أعلمناك علماً مبيناً فيما أنزلناه عليك من القرآن وأمرناك به من الدين . وقد يعبر عن العلم بالفتح كقوله { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ } [ الأنعام : 59 ] أي علم الغيب ، قاله ابن بحر . وكقوله { إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ الْفَتْحُ } [ الأنفال : 19 ] أي إن أردتم العلم فقد جاءكم العلم .
الثاني : إنا قضينا لك قضاء بيناً فيما فتحناه عليك من البلاد .
وفي المراد بهذا الفتح قولان :
أحدهما : فتح مكة ، وعده الله عام الحديبية عند انكفائه منها .
الثاني : هو ما كان من أمره بالحديبية . قال الشعبي : نزلت { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً } [ الفتح : 1 ] في وقت الحديبية أصاب فيها ما لم يصب في غيرها . بويع بيعة الرضوان ، وأطعموا نخل خيبر ، وظهرت الروم على فارس تصديقاً لخبره ، وبلغ الهدي محله ، فعلى هذا في الذي أراده بالفتح يوم الحديبية ، قال جابر : ما كنا نعد فتح مكة إلا يوم الحديبية .
الثاني : أنه بيعة الرضوان . قال البراء بن عازب : انتم تعدون الفتح فتح مكة ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية .
الثالث : أنه نحره وحلقه يوم الحديبية حتى بلغ الهدي محله بالنحر .
والحديبية بئر ، وفيها تمضمض رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد غارت فجاشت بالرواء .
{ لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } فيه وجهان :
أحدهما : ليغفر لك الله استكمالاً لنعمه عندك .
الثاني : يصبرك على أذى قومك .
وفيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : ما تقدم قبل الفتح وما تأخر بعد الفتح .
الثاني : ما تقدم قبل النبوة وما تأخر بعد النبوة .
الثالث : ما وقع وما لم يقع على طريق الوعد بأنه مغفور إذا كان .
ويحتمل رابعاً : ما تقدم قبل نزول هذه الآية وما تأخر بعدها .
{ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ } فيه قولان :
أحدهما : بفتح مكة والطائف وخيبر .
الثاني : بخضوع من استكبر . وطاعة من تجبر .
{ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً } يحتمل وجهين :
أحدهما : أنه الأسر والغنيمة كما كان يوم بدر .
الثاني : أنه الظفر والإسلام وفتح مكة .
وسبب نزول هذه الآية ، ما حكاه الضحاك عن ابن عباس أنه لما نزل قوله : { وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ } قال أهل مكة : يا محمد كيف ندخل في دينك وأنت لا تدري ما يفعل بك ولا بمن اتبعك فهلا أخبرك بما يفعل بك وبمن اتبعك كما أخبر عيسى ابن مريم؟ فاشتد ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه حتى قدم المدينة ، فقال عبد الله بن أبي بن سلول - رأس المنافقين - للأنصار : كيف تدخلون في دين رجل لا يدري ما يفعل به ولا بمن اتبعه؟ هذا والله الضلال المبين . فقال أبو بكر وعمر رضي الله عنهما ، يا رسول الله ألا تسأل ربك يخبرك بما يفعل بك وبمن اتبعك؟ فقال : إن له أجلاً فأبشرا بما يقر الله به أعينكما . إلى أن نزلت عليه هذه الآي وهو في دار أبي الدحداح على طعام مع أبي بكر وعمر فخرج وقرأها على أصحابه ، قال قائل منهم : هنيئاً مريئاً يا رسول الله قد بين الله لنا ما يفعل بك ، فماذا يفعل بنا؟ فأنزل الله { لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ } الآية .


هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (5) وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (7)

قوله عز وجل : { هُوَا الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ } فيها ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه الصبر على أمر الله .
الثاني : أنها الثقة بوعد الله .
الثالث : أنها الرحمة لعباد الله .
{ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ } يحتمل ثلاثة أوجه :
أحدها : ليزدادوا عملاً مع تصديقهم .
الثاني : ليزدادوا صبراً مع اجتهادهم .
الثالث : ليزدادوا ثقة بالنصر مع إيمانهم بالجزاء .
{ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَواتِ وَالأَرْضِ } يحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون معناه : ولله ملك السموات والأرض ترغيباً للمؤمنين في خير الدنيا وثواب الآخرة .
الثاني : معناه : ولله جنود السموات والأرض إشعاراً للمؤمنين أن لهم في جهادهم أعواناً على طاعة ربهم .
قوله عز وجل : { الظَّآنِّينَ باللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : هو ظنهم أن لله شريكاً .
الثاني : هو ظنهم أنه لن يبعث الله أحداً .
الثالث : هو ظنهم أن يجعلهم الله كرسوله .
الرابع : أن سينصرهم على رسوله .
قال الضحاك : ظنت أسد وغطفان في رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج إلى الحديبية أنه سيقتل أو ينهزم ولا يعود إلى المدينة سالماً ، فعاد ظافراً .
{ عَلَيْهِمْ دَآئرَهُ السَّوْءِ } يحتمل وجهين :
أحدهما : عليهم يدور سوء اعتقادهم .
الثاني : عليهم يدور جزاء ما اعتقدوه في نبيهم .


إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9) إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10)

قوله عز وجل : { إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : شاهداًعلى أمتك بالبلاغ ، قاله قتادة .
الثاني : شاهداًعلى أمتك بأعمالهم من طاعة أو معصية .
الثالث : مبيناً ما أرسلناك به إليهم .
{ وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً } فيه وجهان :
أحدهما : مبشراً للمؤمنين ونذيراً للكافرين .
الثاني : مبشراً بالجنة لمن أطاع ونذيراً بالنار لمن عصى ، قاله قتادة ، والبشارة والإنذار معاً خير لأن المخبر بالأمر السار مبشر والمحذر من الأمر المكروه منذر . قال النابغة الذبياني :
تناذرها الراقون من سوء سعيها ... تطلقها طوراً وطوراً تراجع
قوله عز وجل : { وَتُعَزِّرُوهُ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : تطيعوه ، قاله بعض أهل اللغة .
الثاني : تعظموه ، قاله الحسن والكلبي .
الثالث : تنصروه وتمنعوا منه ، ومنه التعزير في الحدود لأنه مانع ، قاله القطامي :
ألا بكرت مي بغير سفاهة ... تعاتب والمودود ينفعه العزر
وفي { وَتُوَقِّرُوهُ } وجهان :
أحدهما : تسودوه ، قاله السدي .
الثاني : أن تأويله مختلف بحسب اختلافهم فيمن أشير إليه بهذا الذكر : فمنهم من قال أن المراد بقوله : { وَتُعَزِّرُوهُ وَتَوَقِّرُوهُ } أي تعزروا الله وتوقروه لأن قوله : { وَتُسَبِّحُوهُ } راجع إلى الله وكذلك ما تقدمه ، فعلى هذا يكون تأويل قوله : { وَتُوَقِّرُوهُ } أي تثبتوا له صحة الربوبية وتنفوا عنه أن يكون له ولد أو شريك .
ومنهم من قال : المراد به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعزروه ويوقروه لأنه قد تقدم ذكرها ، فجاز أن يكون بعض الكلام راجعاً إلى الله وبعضه راجعاً إلى رسوله ، قاله الضحاك . فعلى هذا يكون تأويل { تُوَقِّرُوهُ } أي تدعوه بالرسالة والنبوة لا بالاسم والكنية .
{ وتُسَبِّحُوهُ } فيه وجهان :
أحدهما : تسبيحه بالتنزيه له من كل قبيح .
الثاني : هو فعل الصلاة التي فيها التسبيح .
{ بُكْرَةً وَأصِيلاً } أي غدوة وعشياً . قال الشاعر :
لعمري لأنت البيت أكرم أهله ... وأجلس في أفيائه بالأصائل


سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (12) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا (13) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (14)

قوله عز وجل : { وَكُنتُمْ قَوْماً بُوراً } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : فاسدين قاله قتادة .
الثاني : هالكين ، قاله مجاهد . قال عبد الله بن الزبعرى :
يا رسول المليك إن لساني ... راتق ما فتقت إذ أنا بور
الثالث : أشرار ، قاله ابن بحر . وقال حسان بن ثابت :
لا ينفع الطول من نوك الرجال وقد ... يهدي الإله سبيل المعشر البور


سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (15)

قوله عز وجل : { يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُواْ كَلاَمَ اللَّهِ } فيه وجهان :
أحدهما : ما وعد الله نبيّه من النصرة والفتح حين ظنوا ظن السوء بأنه يهلك أو لا يظفر ، قاله مجاهد وقتادة .
الثاني : قوله : { لَن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً وَلَن تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوّاً } حين سألوه الخروج معه لأجل المغانم بعد امتناعهم منه وظن السوء ، قاله ابن زيد .


قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (17)

قوله عز وجل : { قُل لّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ } وهؤلاء المخلفون هم أحد أصناف المنافقين ، لأن الله تعالى صنف المنافقين من أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب ثلاثة أصناف ، منهم من أعلم أنه لا يؤمن وأوعدهم العذاب في الدنيا مرتين ثم العذاب العظيم في الآخرة وذلك قوله { وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِّنَ الأَعَرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ } [ التوبة : 101 ] الآية . ومنهم من اعترف بذنبه وتاب ، وهم من قال الله فيهم : { وَءَاخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُبِهِم خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَءاخَرَ سَيِّئاً } [ التوبة : 102 ] الآية . ومنهم من وقفوا بين الرجاء لهم والخوف عليهم بقوله تعالى : { وَءَاخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمِرْ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإمَّا يَتَوبُ عَلَيْهِمْ } [ التوبة : 106 ] فهؤلاء المخاطبون بقوله : { سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ } دون الصنفين المتقدمين لترددهم بين أمرين .
قوله عز وجل : { سَتُدْعُوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ . . . } الآية . فيهم خمسة أوجه :
أحدها : أنهم أهل فارس ، قاله ابن عباس .
الثاني : الروم ، قاله الحسن وعبد الرحمن بن أبي ليلى .
الثالث : هوازن وغطفان بحنين ، قاله سعيد بن جبير وقتادة .
الرابع : بنو حنيفة مع مسيلمة الكذاب ، قاله الزهري .
الخامس : أنهم قوم لم يأتوا بعد ، قاله أبو هريرة .


لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (19)

قوله عز وجل : { لَقَدْ رِضِي اللَّهُ عَنِ الْمُؤمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجرَةِ } كانت سبب هذه البيعة وهي بيعة الرضوان تأخر عثمان رضي الله عنه بمكة حين أنفذه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية رسولاً إلى الإسلام فأبطأ وأرجف بقتله ، فبايع أصحابه وبايعوه على الصبر والجهاد ، وكانوا فيما رواه ابن عباس ألفاً وخمسمائة ، وقال جابر : كانوا ألفاً وأربعمائة وقال عبد الله بن أبي أوفى : ألفاً وثلاثمائةً .
وكانت البيعة تحت الشجرة بالحديبية والشجرة سمرة . وسميت بيعة الرضوان ، لقوله تعالى : { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ ، فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ } فيه وجهان :
أحدهما : من صدق النية ، قاله الفراء .
الثاني : من كراهة البيعة على أن يقاتلوا معه على الموت ، قاله مقاتل .
{ فَأَنزَلَ السَّكِينَة عَلَيْهِمْ } فيه وجهان :
أحدهما : فتح خيبر لقربها من الحديبية ، قاله قتادة .
الثاني : فتح مكة .


وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (20) وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (21) وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24)

قوله عز وجل : { وََعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا } فيه قولان :
أحدهما : هي مغانم خيبر ، قاله ابن زيد .
الثاني : هو كل مغنم غنمه المسلمون ، قاله مجاهد .
{ فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ } فيه قولان :
أحدهما : مغانم خيبر ، قاله مجاهد .
الثاني : صلح الحديبية ، قاله ابن عباس .
{ وَكَفَّ أيْدِيَ النَّاسِ عَنكُمْ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : اليهود كف أيديهم عن المدينة عند خروجهم إلى الحديبية .
الثاني : قريش كف أيديهم عن المدينة عند خروجهم إلى الحديبية .
الثالث : أسد وغطفان الحليفان عليهم عيينة بن حصن ومالك بن عوف جاءوا لينصروا أهل خيبر ، فألقى الله في قلوبهم الرعب فانهزموا .
{ وَلِتَكُونَ ءَايَةً لِّلْمُؤمِنِينَ } فيه وجهان :
أحدهما : ليكون كف أيديهم عنكم آية للمؤمنين .
الثاني : ليكون فتح خيبر آية أي علامة لصدق الله تعالى في وعده وصدق رسوله في خبره . قيل لتكون البيعة آية لهم .
قوله عز وجل : { وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا قَدْ أحَاطَ اللَّهُ بِهَا } فيها ثلاثة أقاويل :
أحدها : هي أرض فارس والروم وجميع ما فتحه المسلمون ، قاله ابن عباس .
الثاني : هي مكة ، قاله قتادة .
الثالث : هي أرض خيبر ، قاله الضحاك .
في قوله : { قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا } وجهان :
أحدهما : قدر الله عليها ، قاله ابن بحر .
الثاني : حفظها عليكم ليكون فتحها لكم .
قوله عز وجل : { سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً } يعني طريقة الله وعادته السالفة نصر رسله وأوليائه على أعدائه .
وفي قوله : { وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً } وجهان :
أحدهما : ولن تتغير سنة الله وعادته في نصرك على أعدائك وأعدائه .
الثاني : لن تجد لعادة الله في نصر رسله مانعاً من الظفر بأعدائه وهو محتمل .
قوله عز وجل : { وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : كف أيديهم عنكم بالرعب وأيديكم عنهم بالنهي .
الثاني : كف أيديهم عنكم بالخذلان ، وأيديكم عنهم بالاستبقاء لعلمه بحال من يسلم منهم .
الثالث : كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم بالصلح عام الحديبية .
{ بِبَطْنِ مَكَّةَ } فيه قولان :
أحدهما : يريد به مكة .
الثاني : يريد به الحديبية لأن بعضها مضاف إلى الحرام .
وفي قوله : { مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيهِمْ } ثلاثة أقاويل :
أحدها : أظفركم عليهم بفتح مكة وتكون هذه نزلت بعد فتح مكة ، وفيها دليل على أن مكة فتحت صلحاً لقوله { كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وأَيْدِيَكُمْ عَنهُم } .
الثاني : أظفركم عليهم بقضاء العمرة التي صدوكم عنها .
الثالث : أظفركم عليهم بما روي ثابت عن أنس أن ثمانين رجلاً من أهل مكة هبطوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه من قبل التنعيم عند صلاة الفجر ليقتلوا من ظفروا به ، فأخذهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعتقهم ، فأنزل الله هذه الآية ، فكان هذا هو الظفر .


هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (26)

قوله عز وجل : { هُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ } يعني قريشاً .
{ وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } يعني منعوكم عن المسجد الحرام عام الحديبية حين أحرم النبي صلى الله علي وسلم مع أصحابه بعمرة .
{ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : محبوساً .
الثاني : واقفاً .
الثالث : مجموعاً ، قاله أبو عمرو بن العلاء .
{ أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ } فيه قولان :
أحدهما : منحره ، قاله الفراء .
الثاني : الحرم ، قال الشافعي ، والمحِل بكسر الحاء هو غاية الشيء ، وبالفتح هو الموضع الذي يحله الناس ، وكان الهدي سبعين بدنة .
{ وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمْوهُمْ } أي لم تعلموا إيمانهم .
{ أَن تَطَئُوهُمْ } فيه قولان :
أحدهما : أن تطئوهم بخيلكم وأرجلكم فتقتلوهم ، قاله ابن عباس .
الثاني : لولا من في أصلاب الكفار وأرحام نسائهم من رجال مؤمنين ونساء مؤمنات لم يعلموهم أن يطئوا آباءهم فيهلك أبناؤهم ، قاله الضحاك .
{ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ } فيها ستة أقاويل :
أحدها : الإثم ، قاله ابن زيد .
الثاني : غرم الدية ، قاله ابن إسحاق .
الثالث : كفارة قتل الخطأ ، قاله الكلبي .
الرابع : الشدة ، قاله قطرب .
الخامس : العيب .
السادس : الغم .
قوله عز وجل : { لَوْ تَزَيَّلُواْ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : لو تميزوا ، قاله ابن قتيبة .
الثاني : لو تفرقوا ، قاله الكلبي .
الثالث : لو أزيلوا ، قاله الضحاك حتى لا يختلط بمشركي مكة مسلم .
{ لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً ألِيماً } وهو القتل بالسيف لكن الله يدفع بالمؤمنين عن الكفار .
قوله عز وجل : { إذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ } يعني قريشاً . وفي حمية الجاهلية قولان :
أحدهما : العصبية لآلهتهم التي كانوا يعبدونها من دون الله ، والأنفة من أن يعبدوا غيرها ، قاله ابن بحر .
الثاني : أنفتهم من الإقرار له بالرسالة والاستفتاح ببسم الله الرحمن الرحيم على عادته في الفاتحة ، ومنعهم له من دخول مكة ، قال الزهري .
ويحتمل ثالثاً : هو الاقتداء بآبائهم ، وألا يخالفوا لهم عادة ، ولا يلتزموا لغيرهم طاعة كما أخبر الله عنهم { إِنَّا وَجَدْنَا أَبَاءنا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى ءَاثَارِهِم مُّقْتَدُونَ } [ الزخرف : 23 ] .
{ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤمِنِينَ } يعني الصبر الذي صبروا والإجابة إلى ما سألوا ، والصلح الذي عقدوه حتى عاد إليهم في مثل ذلك الشهر من السنة الثانية قاضياً لعمرته ظافراً بطلبته .
{ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى } فيها أربعة أوجه :
أحدها : قول لا إله إلا الله ، قاله ابن عباس ، وهو يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم .
الثاني : الإخلاص ، قاله مجاهد .
الثالث : قول بسم الله الرحمن الرحيم ، قاله الزهري .
الرابع : قولهم سمعنا وأطعنا بعد خوضهم . وسميت كلمة التقوى لأنهم يتقون بها غضب الله .
{ وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا } يحتمل وجهين :
أحدهما : وكانوا أحق بكلمة التقوى أن يقولوها .
الثاني : وكانوا أحق بمكة أن يدخلوها .
وفي من كان أحق بكلمة التقوى قولان :
أحدهما : أهل مكة كانوا أحق بكلمة التقوى أن يقولوها لتقدم إنذارهم لولا ما سلبوه من التوفيق .
الثاني : أهل المدينة أحق بكلمة التقوى حين قالوها ، لتقدم إيمانهم حين صحبهم التوفيق .


لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28)

قوله عز وجل : { لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاءَ اللَّهُ ءَامِنينَ مُحَلِّقينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ } قال قتادة : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، رأى في المنام ، أنه يدخل مكة على هذه الصفة ، فلما صالح قريشاً بالحديبية ، ارتاب المنافقون ، حتى قال صلى الله عليه وسلم : « فَمَا رَأَيْتُ فِي هذَا العَامِ »
ثم قال : { فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُواْ } فيه قولان :
أحدهما : علم أن دخولها إلى سنة ولم تعلموه أنتم ، قاله الكلبي .
الثاني : علم أن بمكة رجالاً مؤمنين ونساء مؤمنات لم تعلموهم؛ الآية .
ثُمَّ قَالَ : { فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً } فيه قولان :
أحدهما : أنه الصلح الذي جرى بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وقريش بالحديبية ، قاله مجاهد .
الثاني : فتح مكة ، قاله ابن زيد والضحاك .
وفي قوله : { لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَآءَ اللَّهُ } ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه خارج مخرج الشرط والاستثناء .
الثاني : أنه ليس بشرط وإنما خرج مخرج الحكاية على عادة أهل الدين ، ومعناه لتدخلونه بمشيئة الله .
الثالث : إن شاء الله في دخول جميعكم أو بعضكم ، ولأنه علم أن بعضهم يموت .


مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)

قوله عز وجل : { سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ } فيه ستة تأويلات :
أحدها : أنه ثرى الأرض وندى الطهور ، قاله سعيد بن جبير .
الثاني : أنها صلاتهم تبدوا في وجوههم ، قاله ابن عباس .
الثالث : أنه السمت ، قاله الحسن .
الرابع : الخشوع ، قاله مجاهد .
الخامس : هو أن يسهر الليل فيصبح مصفراً ، قاله الضحاك .
السادس : هو نور يظهر على وجوههم يوم القيامة ، قاله عطية العوفي .
{ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطَأَهُ } فيه قولان :
أحدهما : أن مثلهم في التوراة بأن سيماهم في وجوههم . ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه .
الثاني : أن كلا الأمرين مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل .
وقوله : { كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن الشطأ شوك السنبل ، والعرب أيضاً تسميه السفا والبهمي ، قاله قطرب .
الثاني : أنه السنبل ، فيخرج من الحبة عشر سنبلات وتسع وثمان ، قاله الكلبي والفراء .
الثالث : أنه فراخه التي تخرج من جوانبه ، ومنه شاطىء النهر جانبه ، قاله الأخفش .
{ فَآزَرَهُ } فيه قولان :
أحدهما : فساواه فصار مثل الأم ، قاله السدي .
الثاني : فعاونه فشد فراخ الزرع أصول النبت وقواها .
{ فَاسْتَغْلَظَ } يعني اجتماع الفراخ مع الأصول .
{ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ } أي على عوده الذي يقوم عليه فيكون ساقاً له .
{ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ } يعني النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم ، لأن ما أعجب المؤمنين من قوتهم كإعجاب الزراع بقوة رزعهم هو الذي غاظ الكفار منهم .
ووجه ضرب المثل بهذا الزرع الذي أخرج شطأه ، هو أن النبي صلى الله عليه وسلم حين بدأ بالدعاء إلى دينه كان ضعيفاً ، فأجابه الواحد بعد الواحد حتى كثر جمعه وقوي أمره ، كالزرع يبدو بعد البذر ضعيفاً فيقوى حالا بعد حال يغلظ ساقه وأفراخه فكان هذا من أصح مثل وأوضح بيان ، والله أعلم .


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3)

قوله عز وجل : { يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } فيه خمسة أقاويل :
أحدها : أن ناساً كانوا يقولون : لو أنزل فيَّ كذا ، لو أنزل فيَّ كذا ، فنزلت هذه الآية ، قاله قتادة .
الثاني : أنهم نهوا أن يتكلموا بين يدي كلامه ، قاله ابن عباس .
الثالث : معناه ألا يقتاتوا على الله ورسوله ، حتى يقضي الله على لسان رسوله ، قاله مجاهد .
الرابع : أنها نزلت في قوم ضحوا قبل أن يصلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمرهم أن يعيدوا الذبح ، قاله الحسن .
الخامس : لا تقدموا أعمال الطاعات قبل وقتها الذي أمر به الله تعالى ورسوله ، قال الزجاج .
وسبب نزولها ما حكاه الضحاك عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم أنفذ أربعة وعشرين رجلاً من أصحابه إلى بني عامر فقتلوهم إلا ثلاثة تأخروا عنهم فسلموا وانكفئوا إلى المدينة فلقوا رجلين من بني سليم فسألوهما عن نسبهما فقالا : من بني عامر فقتلوهما ، فجاء بنو سليم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا : إن بيننا وبينك عهداً وقد قتل منا رجلان فوداهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بمائة بعير ونزلت عليه هذه الآية في قتلة الرجلين .
{ وَاتَّقُواْ اللَّهَ } يعني في التقدم المنهي عنه .
{ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ } لقولكم { عَلِيمٌ } بفعلكم .
قوله عز وجل : { يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَرْفَعُواْ أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوتِ النَّبِّيِ } قيل إن رجلين من الصحابة تماريا عنده فارتفعت أصوتهما ، فنزلت هذه الآية ، فقال أبو بكر رضي الله عنه عند ذلك : والذي بعثك بالحق لا أكلمك بعدها إلا كأخي السرار .
{ وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ } فيه وجهان :
أحدهما : أنه الجهر بالصوت . روي أن ثابت بن قيس بن شماس قال : يا نبي الله والله لقد خشيت أن أكون قد هلكت ، نهانا الله عن الجهر بالقول وأنا امرؤ جهير الصوت ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « يَا ثَابِتَ أَمَأ تَرْضَى أَن تَعِيشَ حَمِيداً وتُقْتَلَ شَهِيداً وَتَدْخُلَ الْجَنَّةَ » ؟ فعاش حميداً وقتل شهيداً يوم مسيلمة .
الثاني : أن النهي عن هذا الجهر هو المنع من دعائه باسمه أو كنيته كما يدعو بعضهم بعضاً بالاسم والكنية ، وهو معنى قوله { كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ } ، ولكنْ دعاؤه بالنبوة والرسالة كما قال تعالى { لاَ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُم بَعْضاً } [ النور : 63 ] .
{ أن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ } فيه وجهان :
أحدهما : أن معناه فتحبط أعمالكم .
الثاني : لئلا تحبط أعمالكم .
{ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ } بحبط أعمالكم .
قوله عز وجل : { . . . أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى } فيه تأويلان :
أحدهما : معناه أخلصها للتقوى ، قاله الفراء .
الثاني : معناه اختصها للتقوى ، قاله الأخفش .


إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)

قوله عز وجل : { إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ الْحُجُرَاتِ } الآية . اختلف في سبب نزولها ، فروى معمر عن قتادة أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فناداه من وراء الحجرة : يا محمد ، إن مدحي زين وشتمي شين ، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فقال : « وَيْلُكَ ذَاكَ اللَّهُ ، ذَاكَ اللَّهُ » فأنزل الله هذه الآية ، فهذا قول . وروى زيد بن أرقم قال : أتى ناس النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : انطلقوا بنا إلى هذا الرجل ، فإن يكن نبياً فنحن أسعد الناس باتباعه وإن يكن ملكاً نعش في جنابه ، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فجعلوا ينادونه ، وهو في حجرته يا محمد ، فأنزل الله هذه الآية . قيل : إنهم كانوا من بني تميم . قال مقاتل : كانوا تسعة نفر : قيس بن عاصم ، والزبرقان بن بدر ، والأقرع بن حابس ، وسويد بن هشام ، وخالد بن مالك ، وعطاء بن حابس ، والقعقاع بن معبد ، ووكيع بن وكيع ، وعيينة بن حصن .
وفي قوله : { أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } وجهان :
أحدهما : لا يعلمون ، فعبر عن العلم بالعقل لأنه من نتائجه ، قاله ابن بحر .
الثاني : لا يعقلون أفعال العقلاء لتهورهم وقلة أناتهم ، وهو محتمل .
والحجرات جمع حجر؛ والحجر جمع حجرة .
{ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ } فيه وجهان :
أحدهما : لكان أحسن لأدبهم في طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم .
الثاني : لأطلقت أسراهم بغير فداء ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان سبى قوماً من بني العنبر ، فجاءوا في فداء سبيهم وأسراهم .


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8)

قوله عز وجل : { يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِن جَآءَكُمْ فَاسِق بِنَبَإِ فَتَبَيَّنُواْ } الآية . نزلت هذه الآية في الوليد بن عقبة بن أبي معيط ، وسبب نزولها ما رواه سعيد عن قتادة أن نبي الله صلى الله عليه وسلم بعث الوليد ابن عقبة مصدقاً لبني المصطلق ، فلما أبصروه أقبلوا نحوه ، فهابهم فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فأخبره أنهم قد ارتدوا عن الإسلام ، فبعث نبي الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد وأمره أن يثبت ولا يعجل ، فانطلق خالد حتى أتاهم ليلاً فبعث عيونه ، فلما جاءوا أخبروا خالداً أنهم متمسكون بالإسلام ، وسمعوا أذانهم وصلاتهم ، فلما أصبحوا ، أتاهم خالد ورأى صحة ما ذكروه ، فعادوا إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه ، فنزلت هذه الآية . فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول : « التأني من الله والعجلة من الشيطان » وفي هذه الآية دليل على أن خبر الواحد مقبول إذا كان عدلاً .
قوله عز وجل : { وَاعْلَمُواْ أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الأمْرِ لَعَنِتَّمُ } فيه خمسة تأويلات :
أحدها : لأثمتم ، قاله مقاتل .
الثاني : لاتهمتم ، قاله الكلبي .
الثالث : لغويتم .
الرابع : لهلكتم .
الخامس : لنالتكم شدة ومشقة .
قال قتادة : هؤلاء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لو أطاعهم في كثير من الأمر لعنتوا ، فأنتم والله أسخف رأياً وأطيش عقولا .
{ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِيمَانَ } فيه وجهان :
أحدهما : حسنه عندكم ، قاله ابن زيد .
الثاني : قاله الحسن . بما وصف من الثواب عليه .
{ وَزَيَّنَةُ فِي قُلُوبِكُمْ } فيه وجهان :
أحدهما : بما وعد عليه في الدنيا من النصر وفي الآخرة من الثواب ، قاله ابن بحر .
الثاني : بالدلالات على صحته .
{ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ } فيه وجهان :
أحدهما : أنه الكذب خاصة ، قاله ابن زيد .
الثاني : كل ما خرج عن الطاعة .


وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)

قوله عز وجل : { وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا } اختلف في سبب نزولها على أربعة أقاويل :
أحدها : ما رواه عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير أن الأوس والخزرج كان بينهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قتال بالسعف والنعال ونحوه فنزلت هذه الآية فيهم . الثاني : ما رواه سعيد عن قتادة أنها نزلت في رجلين من الأنصار كانت بينهما مدارأة في حق بينهما ، فقال أحدهما للآخر : لآخذنه عنوة لكثرة عشيرته ، وأن الآخر دعاه ليحاكمه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبى أن يتبعه ، فلم يزل بهما الأمر حتى تواقعوا وتناول بعضهم بعضاً بالأيدي والنعال ، فنزلت فيهم .
الثالث : ما رواه أسباط عن السدي أن رجلاً من الأنصار كانت له امرأة تدعى أم زيد وأن المرأة أرادت أن تزور أهلها فحبسها زوجها وجعلها في علية له لا يدخل عليها أحد من أهلها ، وأن المرأة بعثت إلى أهلها ، فجاء قومها وأنزلوها لينطلقوا بها ، فخرج الرجل فاستعان أهله ، فجاء بنو عمه ليحولوا بين المرأة وأهلها فتدافعوا واجتلدوا بالنعال ، فنزلت هذه الآية فيهم .
الرابع : ما حكاه الكلبي ومقاتل والفراء أنها نزلت في رهط عبد الله بن أبي بن سلول من الخزرج ورهط عبد الله بن رواحة من الأوس ، وسببه أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف على حمار له على عبد الله بن أبي ، وهو في مجلس قومه ، فراث حمار النبي صلى الله عليه وسلم ، فأمسك عبد الله أنفه وقال : إليك حمارك ، فغضب عبد الله بن رواحة ، وقال : أتقول هذا لحمار رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فوالله هو أطيب ريحاً منك ومن أبيك ، فغضب قومه ، وأعان ابن رواحة قومه حتى اقتتلوا بالأيدي والنعال فنزلت هذه الآية فيهم ، فأصلح رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم .
{ فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى } البغي التعدي بالقوة إلى طلب ما ليس بمستحق .
{ فَقَاتِلُواْ الَّتِي تَبْغِي } فيه وجهان :
أحدهما : تبغي في التعدي في القتال .
الثاني : في العدول عن الصلح ، قاله الفراء .
{ حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ } فيه وجهان :
أحدهما : ترجع إلى الصلح الذي أمر الله به ، قاله سعيد بن جبير .
الثاني : ترجع إلى كتاب الله وسنة رسوله فيما لهم وعليهم ، قاله قتادة .
{ فَإِن فَآءَتْ } أي رجعت .
{ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ } فيه وجهان :
أحدهما : يعني بالحق .
الثاني : بكتاب الله ، قاله سعيد بن جبير .
{ وَأَقْسِطُواْ } معناه واعدلوا .
ويحتمل وجهين :
أحدهما : اعدلوا في ترك الهوى والممايلة .
الثاني : في ترك العقوبة والمؤاخذة .
{ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } أي العادلين قال أبو مالك : في القول والفعل .


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11)

قوله عز وجل : { يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مَِّن قَوْمٍ } الآية . أما القوم فهم الرجال خاصة ، لذلك ذكر بعدهم النساء . ويسمى الرجال قوماً لقيام بعضهم مع بعض في الأمور ، ولأنهم يقومون بالأمور دون النساء ، ومنه قول الشاعر :
وما أدري وسوف إخال أدري ... أقوم آل حصن أم نساء
وفي هذه السخرية المنهي عنها قولان :
أحدهما : أنه استهزاء الغني بالفقير إذا سأله ، قاله مجاهد .
الثاني : أنه استهزاء المسلم بمن أعلن فسقه ، قاله ابن زيد .
ويحتمل ثالثاً : أنه استهزاء الدهاة بأهل السلامة .
{ عَسَى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ } عند الله تعالى . ويحتمل : خيراً منهم معتقداً وأسلم باطناً . { وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسآءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرُا مِّنْهُنَّ } .
{ وَلاَ تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ } فيه وجهان :
أحدهما : ولا تلمزوا أهل دينكم .
الثاني : لا تلمزوا بعضكم بعضاً : واللمز : العيب .
وفي المراد به هنا ثلاثة أوجه :
أحدها : لا يطعن بعضكم على بعض ، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة وسعيد ابن جبير .
الثاني : لا تختالوا فيخون بعضكم بعضاً ، قاله الحسن .
الثالث : لا يلعن بعضكم بعضاً ، قاله الضحاك .
{ وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ } في النبز وجهان :
أحدهما : أنه اللقب الثابت ، قاله المبرد .
الثاني : أن النبز القول القبيح ، وفيه هنا أربعة أوجه :
أحدها : أنه وضع اللقب المكروه على الرجل ودعاؤه به . قال الشعبي : روي أن وفد بني سليم قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم وللرجل منهم اسمان وثلاثة فكان يدعوا الرجل بالاسم فيقال إنه يكره هذا ، فنزلت هذه الآية .
الثاني : أنه تسمية الرجل بالأعمال السيئة بعد الإسلام . . . يا فاسق . . . يا سارق ، يا زاني ، قاله ابن زيد .
الثالث : أنه يعيره بعد الإسلام بما سلف من شركه ، قاله عكرمة .
الرابع : أن يسميه بعد الإسلام باسم دينه قبل الإسلام ، لمن أسلم من اليهود . . . يا يهودي ، ومن النصارى . . . يا نصراني ، قاله ابن عباس ، والحسن . فأما مستحب الألقاب ومستحسنها فلا يكره ، وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم عدداً من أصحابه بأوصاف فصارت لهم من أجمل الألقاب .
واختلف في من نزلت فيه هذه الآية على أربعة أقاويل :
أحدها : أنها نزلت في ثابت بن قيس بن شمسان وكان في أذنه ثقل فكان يدنو من رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يسمع حديثه ، فجاء ذات يوم وقد أخذ الناس مجالسهم فقال : « تَفَسَّحُواْ » ففعلوا إلا رجلاً كان بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لم يفسح وقال : « قَدْ أَصَبْتَ مَوْضِعاً » فنبذه ثابت ، بلقب كان لأمه مكروهاً ، فنزلت ، قاله الكلبي والفراء .
الثاني : أنا نزلت في كعب بن مالك الأنصاري ، وكان على المغنم فقال لعبد الله بن أبي حدرد : يا أعرابي ، فقال له عبد الله : يا يهودي ، فتشاكيا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزلت فيهما ، حكاه مقاتل .
الثالث : أنها نزلت في الذين نادوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من وراء الحجرات عند استهزائهم بمن مع رسول الله من الفقراء والموالي فنزل ذلك فيهم .
الرابع : أنا نزلت في عائشة وقد عابت أم سلمة .
واختلفوا في الذي عابتها به فقال مقاتل : عابتها بالقصر ، وقال غيره : عابتها بلباس تشهرت به .


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)

قوله عز وجل : { يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اجْتَنِبُواْ كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ } يعني ظن السوء . بالمسلم توهماً من غير تعلمه يقيناً .
{ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ } فيه وجهان :
أحدهما : يعني ظن السوء .
الثاني : أن يتكلم بما ظنه فيكون إثماً ، فإن لم يتكلم به لم يكن إثماً ، قاله مقاتل بن حيان .
{ وَلاَ تَجَسَّسُوا } فيه وجهان :
أحدهما : هو أن يتبع عثرات المؤمن ، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة .
الثاني : هو البحث عم خفي حتى يظهر ، قاله الأوزاعي .
وفي التجسس والتحسس وجهان :
أحدهما : أن معناهما واحد ، قاله ابن عباس وقرأ الحسن بالحاء . وقال الشاعر :
تجنبت سعدى أن تشيد بذكرها ... إذا زرت سعدى الكاشح المتحسس
وقال أبو عمرو الشيباني : الجاسوس : صاحب سر الشر ، والناموس صاحب سر الخير .
والوجه الثاني : أنهما مختلفان . وفي الفرق بينهما وجهان :
أحدهما : أن التجسس بالجيم هو البحث ، ومنه قيل رجل جاسوس إذا كان يبحث عن الأمور وبالحاء هو ما أدركه الإنسان ببعض حواسه .
الثاني : أنه بالحاء أن يطلبه لنفسه وبالجيم أن يكون رسولاً لغيره . والتجسس أن يجس الأخبار لنفسه ولغيره .
{ وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً } والغيبة : ذكر العيب بظهر الغيب ، قال الحسن : الغيبة ثلاثة كلها في كتاب الله : الغيبة والإفك والبهتان ، فأما الغيبة ، فأن تقول في أخيك ما هو فيه . وإما الإفك ، فأن تقول فيه ما بلغك عنه . وأما البهتان فأن تقول فيه ما ليس فيه .
وروى العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الغيبة قال : « هُوَ أَن تَقُولَ لأَخِيكَ مَا فِيهِ فَإِن كُنتَ صَادِقَاً فَقَدِ اغْتَبْتَهُ ، وَإِن كُنتَ كَاذِباً فَقَدْ بَهَّتَّهُ » .
{ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً } فيه وجهان :
أحدهما : أي كما يحرم أكل لحمه ميتاً يحرم غيبته حياً .
الثاني : كما يمتنع أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً كذلك يجب أن يمتنع عن غيبته حياً ، قاله قتادة . واستعمل أكل اللحم مكان الغيبة لأن عادة العرب بذلك جارية قال الشاعر :
فإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم ... وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا
{ فَكَرِهْتُمُوهُ } فيه وجهان :
أحدهما : فكرهتم أكل الميتة ، كذلك فاكرهوا الغيبة .
الثاني : فكرهتم أن يعلم بكم الناس فاكرهوا غيبة الناس .


يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)

قوله عز وجل : { يَأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى } قصد بهذه الآية . النهي عن التفاخر بالأنساب ، وبين التساوي فيها بأن خلقهم من ذكر وأنثى يعني آدم وحواء .
ثم قال : { وَجَعَلْنَاكُم شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَرَفُواْ } فبين أن الشعوب والقبائل للتعارف لا للافتخار ، وفيها ثلاثة أوجه :
أحدها : أن الشعوب النسب الأبعد والقبائل النسب الأقرب ، قاله مجاهد ، وقتادة . وقال الشاعر :
قبائل من شعوب ليس فيهم ... كريم قد يعد ولا نجيب
وسموا شعوباً لأن القبائل تشعبت منها .
الثاني : أن الشعوب عرب اليمن من قحطان ، والقبيلة ربيعة ومضر وسائر عدنان .
الثالث : أن الشعوب بطون العجم ، والقبائل بطون العرب .
ويحتمل رابعاً : أن الشعوب هم المضافون إلى النواحي والشعاب ، والقبائل هم المشتركون في الأنساب ، قال الشاعر :
وتفرقوا شعباً فكل جزيرة ... فيها أمير المؤمنين ومنبر
والشعوب جمع شَعب بفتح الشين ، والشِّعب بكسر الشين هو الطريق وجمعه شعاب ، فكان اختلاف الجمعين مع اتفاق اللفظين تنبيهاً على اختلاف المعنيين .
{ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُم } إن أفضلكم ، والكرم بالعمل والتقوى لا بالنسب .


قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)

قوله عز وجل : { قَالَتِ الأَعْرَابُ ءَامَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَكِن قُولُواْ أَسْلَمْنَا . . . } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنهم أقروا ولم يعملوا ، فالإسلام قول والإيمان عمل ، قاله الزهري .
الثاني : أنهم أرادوا أن يتسموا باسم الهجرة قبل أن يهاجروا فأعلمهم أن اسمهم أعراب ، قاله ابن عباس .
الثالث : أنهم مَنُّوا على رسول الله صلى الله بإسلامهم فقالوا أسلمنا ، لم نقاتلك ، فقال الله تعالى لنبيه : قل لهم : لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا خوف السيف ، قاله قتادة . لأناهم آمنوا بألسنتهم دون قلوبهم ، فلم يكونوا مؤمنين ، وتركوا القتال فصاروا مستسلمين لا مسلمين ، فيكون مأخوذاً من الاستسلام لا من الإسلام كما قال الشاعر :
طال النهار على من لا لقاح له ... إلا الهدية أو ترك بإسلام
ويكون الإسلام والإيمان في حكم الدين على هذا التأويل واحداً وهو مذهب الفقهاء ، لأن كل واحد منهما تصديق وعمل .
وإنما يختلفان من وجهين :
أحدهما : من أصل الاسمين لأن الإيمان مشتق من الأمن ، والإسلام مشتق من السلم .
الثاني : أن الإسلام علم لدين محمد صلى الله عليه وسلم والإيمان لجميع الأديان ، ولذلك امتنع اليهود والنصارى أن يتسموا بالمسلمين ، ولم يمتنعوا أن يتسموا بالمؤمنين . قال الفراء : ونزلت هذه الآية في أعراب بني أسد .
قوله عز وجل : { . . . لاَ يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيئاً } فيه وجهان :
أحدهما : لا يمنعكم من ثواب عملكم شيئاً ، قال رؤبة :
وليلة ذات سرى سريت ... ولم يلتني عن سراها ليت
أي لم يمنعني عن سراها .
الثاني : ولا ينقصكم من ثواب أعمالكم شيئاً ، قال الحطيئة :
أبلغ سراة بني سعد مغلغلة ... جهد الرسالة لا ألتاً ولا كذباً
أي لا نقصاً ولا كذباً .
وفيه قراءتان : { يَلِتْكم } و { يألتكم } وفيها وجهان :
أحدها : [ أنهما ] لغتان معناهما واحد .
الثاني : يألتكم أكثر وأبلغ من يلتكم .
قوله عز وجل : { قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُم } الآية . هؤلاء أعراب حول المدينة أظهروا الإسلام خوفاً ، وأبطنوا الشرك اعتقاداً فأظهر الله ما أبطنوه وكشف ما كتموه ، ودلهم بعلمه بما في السموات والأرض علم علمه بما اعتقدوه ، وكانوا قد منوا بإسلامهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقالوا فضلنا على غيرنا بإسلامنا طوعاً .
فقال تعالى : { يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ قُل لاَّ تَمُونُّوا عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ } وهذا صحيح لأنه إن كان إسلامهم حقاً فهو لخلاص أنفسهم فلا مِنَّةَ فيه لهم ، وإن كان نفاقاً فهو للدفع عنهم ، فالمنة فيه عليهم .
ثم قال : { بِلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أن هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ } يحتمل وجهين :
أحدهما : أن الله أحق أن يمن عليكم أن هداكم للإيمان حتى آمنتم . وتكون المنة هي التحمد بالنعمة .
الثاني : أن الله تعالى ينعم عليكم بهدايته لكم ، وتكون المنة هي النعمة . وقد يعبر بالمنة عن النعمة تارة وعن التحمد بها أخرى .
{ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } يعني فيما قلتم من الإيمان .


ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (4) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5)

قوله عز وجل : { ق } فيه أربعة أوجه :
أحدها : أنه اسم من أسماء الله تعالى أقسم بها ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنه اسم من أسماء القرآن ، قاله قتادة .
الثالث : أن معناه قضى والله ، كما قيل في حم : حم والله ، وهذا معنى قول مجاهد .
الرابع : أنه اسم الجبل المحيط بالدنيا ، قاله الضحاك .
قال مقاتل : وعروق الجبال كلها منه .
ويحتمل خامساً : أن يكون معناه قف؛ كما قال الشاعر :
قلت لها قفي فقالت قاف ... . . . . . . . . . . . .
أي وقفت . ويحتمل ما أريد بوقفه عليه وجهين :
أحدهما : قف على إبلاغ الرسالة لئلا تضجر بالتكذيب .
الثاني : قف على العمل بما يوحى إليك لئلا تعجل على ما لم تؤمر به .
{ وَالْقُرْءَانِ الْمَجِيدِ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه الكريم ، قاله الحسن .
الثاني : أنه مأخوذ من كثرة القدرة والمنزلة ، لا من كثرة العدد من قولهم فلان كثير في النفوس ، ومنه قول العرب في المثل السائر : لها في كل الشجر نار ، واستجمد المرخ والعفار ، أي استكثر هذان النوعان من النار وزاد على سائر الشجر ، قاله ابن بحر .
الثالث : أنه العظيم ، مأخوذ من قولهم قد مجدت الإبل إذا أعظمت بطونها من كلأ الربيع . { والْقُرْءَانِ المَجِيدِ } قسم أقسم الله به تشريفاً له وتعظيماً لخطره لأن عادة جارية في القسم ألا يكون إلا بالمعظم . وجواب القسم محذوف ويحتمل وجهين :
أحدهما : هو أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم بدليل قوله تعالى : { بَلْ عَجِبُواْ أَن جَآءَهُم مُّنذِرٌ مِّنهُمْ } .
الثاني : أنكم مبعوثون بدليل قوله : { إِئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً } .
قوله عز وجل : { بَلْ عَجِبُواْ أَن جَآءَهُم مُّنذِرٌ مِّنهُمْ } يعني محمداً صلى الله عليه وسلم .
{ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيءٌ عَجِيبٌ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنهم عجبوا أن دعوا إلى إله واحد ، قاله قتادة .
الثاني : عجبوا أن جاءهم منذر منهم ، من قبل الله تعالى .
الثالث : أنهم عجبوا من إنذارهم بالبعث والنشور .
قوله عز وجل : { قَدْ عَلمْنَا مَا تَنقُصُ الأَرْضُ مِنْهُم } فيه وجهان :
أحدهما : من يموت منهم ، قاله قتادة .
الثاني : يعني ما تأكله الأرض من لحومهم وتبليه من عظامهم ، قاله الضحاك .
{ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ } يعني اللوح المحفوظ . وفي حفيظ وجهان :
أحدهما : حفيظ لأعمالهم .
الثاني : لما يأكله التراب من لحومهم وأبدانهم وهو الذي تنقصه الأرض منهم .
قوله عز وجل : { بَلْ كَذَّبُواْ بِالْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ . . . } الآية . الحق يعني القرآن في قول الجميع .
{ مَرِيجٍ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : أن المريج المختلط . قاله الضحاك .
الثاني : المختلف ، قاله قتادة .
الثالث : الملتبس ، قاله الحسن .
الرابع : الفاسد ، قاله أبو هريرة . ومنه قول أبي دؤاد :
مرج الدين فأعددت له ... مشرف الحارك محبوك الكتد


أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11)

قوله عز وجل : { وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ } فيه وجهان :
أحدهما : من شقوق .
الثاني : من فتوق ، قاله ابن عيسى إلا أن الملك تفتح له أبواب السماء عند العروج .
قوله عز وجل : { وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا } أي بسطناها .
{ وَألْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ } يعني الجبال الرواسي الثوابت ، واحدها راسية قال الشاعر :
رسا أصله تحت الثرى وسما به ... إلى النجم فرع لا ينال طويل
{ مِن كُلِّ زَوْجٍ } أي من كل نوع .
{ بَهِيجٍ } فيه وجهان :
أحدهما : حسن ، مأخوذ من البهجة وهي الحسن .
الثاني : سارّ مأخوذ من قولهم قد أبهجني هذا الأمر أي سرني ، لأن السرور يحدث في الوجه من الإسفار والحمرة ما يصير به حسناً . قال الشعبي : الناس نبات الأرض فمن دخل الجنة فهو كريم ، ومن دخل النار فهو لئيم .
قوله عز وجل : { تَبْصِرَةً } فيها ثلاثة أوجه :
أحدها : يعني بصيرة للإنسان ، قاله مجاهد .
الثاني : نعماً بصر الله بها عباده ، قاله قتادة .
الثالث : يعني دلالة وبرهاناً .
{ وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن المنيب المخلص ، قاله السدي .
الثاني : أنه التائب إلى ربه ، قاله قتادة .
الثالث : أنه الراجع المتذكر ، قاله ابن بحر .
وقد عم الله بهذه التبصرة والذكرى وإن خص بالخطاب كل عبد منيب لانتفاعه بها واهتدائه إليها .
قوله عز وجل : { وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مََآءً مُّبَارَكاً } يعني المطر ، لأنه به يحيا النبات والحيوان .
{ فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ } فيها هنا وجهان :
أحدهما : أنها البساتين ، قاله الجمهور .
الثاني : الشجر ، قاله ابن بحر .
{ وَحَبَّ الْحَصِيدِ } يعني البر والشعير ، وكل ما يحصد من الحبوب ، إذا تكامل واستحصد سمي حصيداً ، قال الأعشى :
لسنا كما إياد دارها ... تكريث ينظر حبه أن يحصدا
قوله عز وجل : { وَالنَّخْلَ بِاسَقَاتٍ } فيها وجهان :
أحدهما : أنها الطوال ، قاله ابن عباس ومجاهد . قاله الشاعر :
يا ابن الذين بفضلهم ... بسقت على قيس فزاره
أي طالت عليهم .
( الثاني ) أنها التي قد ثقلت من الحمل ، قاله عكرمة . وقال الشاعر :
فلما تركنا الدار ظلت منيفة ... بقران فيه الباسقات المواقر
{ نَضِيدٌ } أي منضود ، فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن النضيد المتراكم المتراكب ، قاله ابن عباس في رواية عكرمة عنه .
الثاني : أنه المنظوم ، وهذا يروى عن ابن عباس أيضاً .
الثالث : أنه القائم المعتدل ، قاله ابن الهاد .
قوله عز وجل : { رِزْقاً لِلْعِبَادِ } يعني ما أنزله من السماء من ماء مبارك ، وما أخرجه من الأرض بالماء من نبات وحب الحصيد وطلع نضيد .
{ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مِّيتاً كَذِلكَ الْخُرُوجُ } جعل هذا كله دليلاً على البعث والنشور من وجهين :
أحدهما : أن النشأة الأولى إذا خلقها من غير أصل كانت النشأة الثانية بإعادة ما له أصل أهون .
الثاني : أنه لما شوهد من قدرته ، إعادة ما مات من زرع ونبات كان إعادة من مات من العباد أولى للتكليف الموجب للجزاء .


كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15)

قوله عز وجل : { كَذَّبَتْ قَبْلَهُم قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ } في الرس وجهان :
أحدهما : أنه كل حفرة في الأرض من بئر وقبر .
الثاني : أنها البئر التي لم تطو بحجر ولا غيره .
وأما أصحاب الرس ففيهم أربعة أقاويل :
أحدها : أنها بئر قتل فيها صاحب ياسين ورسوه ، قاله الضحاك .
الثاني : أنهم أهل بئر بأذربيجان ، قاله ابن عباس .
الثالث : أنهم قوم باليمامة كان لهم آبار ، قاله قتادة . قال الزهير :
بكرن بكوراً واستحرن بسحرة ... فهن ووادي الرس كاليد في الفم
الرابع : أنهم أصحاب الأخدود .
{ وَثَمُودُ } وهم قوم صالح ، وكانوا عرباً بوادي القرى وما حولها . وثمود مأخوذ من الثمد وهو الماء القليل الكدر ، قال النابغة :
واحكم بحكم فتاة الحي إذ نظرت ... إلى حمام سراع وارد الثمد
{ وَعَادٌ } وهو اسم رجل كان من العماليق كثر ولده ، فصاروا قبائل وكانوا باليمن بالأحقاف ، والأحقاف الرمال ، وهم قوم هود .
{ فِرْعَوْنَ } وقد اختلف في أصله فحكي عن مجاهد أنه كان فارسياً من أهل إصطخر . وقال ابن لهيعة : كان من أهل مصر وحكي عن ابن عباس أنه عاش ثلاثمائة سنة منها مائتان وعشرون سنة لا يرى ما يقذي عينه ، فدعاه موسى ثمانين سنة . وحكى غيره أنه عاش أربعمائة سنة .
واختلف في نسبه فقال بعضهم هو من لخم ، وقال آخرون هو من تبَّع .
{ وَإِخْوَانُ لُوطٍ } يعني قومه وأتباعه ، قال مجاهد : كانوا أربعمائة ألف بيت ، في كل بيت عشرة مردة ، فكانوا أربعة آلاف ألف .
وقال عطاء : ما من أحد من الأنبياء إلا وقد يقوم معه قوم إلا لوط فإنه يقوم وحده .
{ وَأَصَحَابُ الأَيْكَةِ } والأيكة الغيضة ذات الشجر الملتف كما قال أبو داود الإيادي :
كأن عرين أيكته تلاقى ... بها جمعان من نبط وروم
قال قتادة : وكان عامة شجرها الدوم ، وكان رسولهم شعيباً ، وأرسل إليهم ، وإلى أهل مدين ، أرسل إلى أمتين من الناس ، وعذبتا بعذابين ، أما أهل مدين فأخذتهم الصيحة ، وأما أصحاب الأيكة فكانوا أهل شجر متكاوس .
{ وَقَوْمُ تُبَّعٍ } وتبع كان رجلاً من ملوك العرب من حِمير ، سُمّي تبعاً لكثرة من تبعه . قال وهب : إن تبعاً أسلم وكفر قومه ، فلذلك ذكر قومه ، ولم يذكر تبع . قال قتادة وهو الذي حير الحيرة وفتح سمرقند حتى أخربها ، وكان يكتب إذا كتب : بسم الله الذي تَسمَّى وملك براً وبحراً وضحى وريحاً .
{ كُلٌّ كَذَّبَ الرَّسَلَ فَحَقَّ وَعِيدِ } يعني أن كل هؤلاء كذبوا من أرسل إليهم ، فحق عليهم وعيد الله وعذابه . فذكر الله قصص هؤلاء لهذه الأمة ، ليعلم المكذبون منهم بالنبي صلى الله عليه وسلم أنهم كغيرهم من مكذبي الرسل إن أقاموا على التكذيب فلم يأمنوا ، حتى أرشد الله منهم من أرشد وتبعهم رغباً ورهباً من تبع .

قوله عز وجل : { أَفَعِيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هَمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ } أما اللبس فهو اكتساب الشك ، ومنه قول الخنساء :
صدق مقالته واحذر عداوته ... والبس عليه بشك مثل ما لبسا
والخلق الجديد هو إعادة خلق ثان بعد الخلق الأول . وفي معنى الكلام تأويلان :
أحدهما : أفعجزنا عن إهلاك الخلق الأول ، يعني من تقدم ذكره حين كذبوا رسلي مع قوتهم ، حتى تشكوا في إهلاكنا لكم مع ضعفكم إن كذبتم ، فيكون هذا خارجاً منه مخرج الوعيد .
الثاني : معناه أننا لم نعجز عن إنشاء الخلق الأول ، فكيف تشكون في إنشاء خلق جديد ، يعني بالبعث بعد الموت ، فيكون هذا خارجاً مخرج البرهان والدليل .


وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)

قوله عز وجل : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ } الوسوسة كثرة حديث النفس بما لا يتحصل في حفاء وإسرار ، ومنه قول رؤبة :
وسوس يدعو مخلصاً رب الفلق ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
{ وَنَحْنُ أَقْرَبٌ إِلَيهِ مِن حَبْلِ الْوَرِيدِ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه حبل معلق به القلب ، قاله الحسن . والأصم وهو الوتين .
الثاني : أنه عرق في الحلق ، قاله أبو عبيدة .
الثالث : ما قاله ابن عباس ، عرق العنق ويسمى حبل العاتق ، وهما وريدان عن يمين وشمال ، وسمي وريداً ، لأنه العرق الذي ينصب إليه ما يرد من الرأس .
وفي قوله { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيهِ مِن حَبْلِ الْوَرِيدِ } تأويلان :
أحدهما : ونحن أقرب إليه من حبل وريده الذي هو منه .
الثاني : ونحن أملك به من حبل وريده ، مع استيلائه عليه .
ويحتمل ثالثاً : ونحن أعلم بما توسوس به نفسه من حبل وريده ، الذي هو من نفسه ، لأنه عرق يخالط القلب ، فعلم الرب أقرب إليه من علم القلب .
قوله عز وجل : { إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ . . } الآية . قال الحسن ومجاهد وقتادة : المتلقيان ملكان يتلقيان عملك ، أحدهما عن يمينك ، يكتب حسناتك ، والآخر عن شمالك يكتب سيئاتك .
قال الحسن : حتى إذا مت طويت صحيفة عملك وقيل لك يوم القيامة : { اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً } عدل والله عليك من جعلك حسيب نفسك .
وفي { قَعِيدٌ } وجهان :
أحدهما : أنه القاعدة ، قاله المفضل .
الثاني : المرصد الحافظ ، قاله مجاهد . وهو مأخوذ من القعود .
قال الحسن : الحفظة أربعة : ملكان بالنهار وملكان بالليل .
قوله عز وجل : { مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ } أي ما يتكلم بشيء ، مأخوذ من لفظ الطعام ، وهو إخراجه من الفم .
{ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه المتتبع للأمور .
الثاني : أنه الحافظ ، قاله السدي .
الثالث : أنه الشاهد ، قاله الضحاك .
وفي { عَتِيدٌ } وجهان :
أحدهما : أنه الحاضر الذي لا يغيب .
الثاني : أنه الحافظ المعد إما للحفظ وإما للشهادة .
قوله عز وجل : { وَجَآءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ } يحتمل وجهين :
أحدهما : ما يراه عند المعاينة من ظهور الحق فيما كان الله قد أوعده .
الثاني : أن يكون الحق هو الموت ، سمي حقاً ، إما لاسحقاقه ، وإما لانتقاله إلى دار الحق . فعلى هذا يكون في الكلام تقديم وتأخير . وتقديره : وجاءت سكرة الحق بالموت ، ووجدتها في قراءة ابن مسعود كذلك .
{ ذلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ } يحتمل وجهين :
أحدهما : أنه كان يحيد من الموت ، فجاءه الموت .
الثاني : أنه يحيد من الحق ، فجاءه الحق عند المعاينة .
وفي معنى التحيد وجهان :
أحدهما : أنه الفرار ، قاله الضحاك .
( الثاني ) : العدول ، قاله السدي . ومنه قول الشاعر :
ولقد قلت حين لم يك عنه ... لي ولا للرجال عنه محيد
فروى عاصم بن أبي بهدلة ، عن أبي وائل ، أن عائشة قالت عند أبيها وهو يقضي :

لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوماً ، وضاق بها الصدر
فقال أبو بكر : « هلا قلت كما قال الله ] : وَجَآءَتْ سَكْرَتُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ } .
قوله عز وجل : { وَجَآءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَآئِقٌ وَشَهِيدٌ } أما السائق ففيه قولان :
أحدهما : أنه ملك يسوقه إلى المحشر ، قاله أبو هريرة وابن زيد .
الثاني : أنه أمر من الله يسوقه إلى موضع الحساب ، قاله الضحاك .
وأما الشهيد ففيه أربعة أقاويل :
أحدها : أنه ملك يشهد عليه بعمله ، وهذا قول عثمان بن عفان والحسن .
الثاني : أنه الإنسان ، يشهد على نفسه بعمله ، رواه أبو صالح .
الثالث : أنها الأيدي والأرجل تشهد عليه بعمله بنفسه ، قاله أبو هريرة .
ثم في الآية قولان :
أحدهما : أنها عامة في المسلم والكافر ، وهو قول الجمهور .
الثاني : أنها خاصة في الكافر ، قاله الضحاك .
قوله عز وجل : { لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّن هَذَا } فيه وجهان :
أحدهما أنه الكافر ، كان في غفلة من عواقب كفره ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنه النبي صلى الله عليه وسلم ، كان في غفلة عن الرسالة مع قريش في جاهليتهم ، قاله عبد الرحمن بن زيد .
ويحتمل ثالثاً : لقد كنت أيها الإنسان في غفلة عن أن كل نفس معها سائق وشهيد لأن هذا لا يعرف إلا بالنصوص الإلهية .
{ فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : أنه إذا كان في بطن أمه فولد ، قاله السدي .
الثاني : إذا كان في القبر فنشر ، وهذا معنى قول ابن عباس .
الثالث : أنه وقت العرض في القيامة ، قاله مجاهد .
الرابع : أنه نزول الوحي وتحمل الرسالة ، وهذا معنى قول ابن زيد .
{ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ } وفي المراد بالبصر هنا وجهان :
أحدهما : بصيرة القلب لأنه يبصر بها من شواهد الأفكار ، ونتائج الاعتبار ما تبصر العين ما قابلها من قبلها من الأشخاص والأجسام ، فعلى هذا في قوله : { حَدِيدٌ } تأويلان :
أحدهما : سريع كسرعة مور الحديد .
الثاني : صحيح كصحة قطع الحديد .
الوجه الثاني : أن المراد به بصر العين وهو الظاهر ، فعلى هذا في قوله : { حَدِيدٌ } تأويلان :
أحدهما : شديد ، قاله الضحاك .
الثاني : بصير ، قاله ابن عباس .
وماذا يدرك البصر؟ فيه خمسة أوجه :
أحدها : يعاين الآخرة ، قاله قتادة .
الثاني : لسان الميزان ، قاله الضحاك .
الثالث : ما يصير إليه من ثواب أو عقاب ، وهو معنى قول ابن عباس .
الرابع : ما أمر به من طاعة وحذره من معصية ، وهو معنى قول ابن زيد .
الخامس : العمل الذي كان يعمله في الدنيا ، قاله الحسن .


وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26) قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27) قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29)

قوله عز وجل : { وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ } أما قرينه ففيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه الملك الشهيد عليه ، قاله الحسن وقتادة .
الثاني : أنه قرينه الذي قيض له من الشياطين ، قاله مجاهد .
الثالث : أنه قرينه من الإنس ، قاله ابن زيد في رواية ابن وهب عنه .
وفي قوله : { هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ } وجهان :
أحدهما : هذا الذي وكلت به أحضرته ، قاله مجاهد .
الثاني : هذا الذي كنت أحبه ويحبني قد حضر ، قاله ابن زيد .
قوله عز وجل : { أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارِ عَنِيدٍ } في ألقيا ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن المأمور بألقيا كل كافر في النار ملكان .
الثاني : يجوز أن يكون واحد ويؤمر بلفظ الاثنين كقول الشاعر :
فإن تزجراني يابن عفان أنزجر ... وإن تدعاني أحم عرضاً ممنعاً
الثالث : أنه خارج مخرج تثنية القول على معنى قولك ألق ألق ، قف قف ، تأكيداً للأمر . والكفار [ بفتح الكاف ] أشد مبالغة من الكافر .
ويحتمل وجهين : أحدهما : أنه الكافر الذي كفر بالله ولم يطعه ، وكفر بنعمه ولم يشكره .
الثاني : أنه الذي كفر بنفسه وكفر غيره بإغوائه .
وأما العنيد ففيه خمسة أوجه :
أحدها : أنه المعاند للحق ، قاله بعض المتأخرين .
الثاني : أنه المنحرف عن الطاعة ، قاله قتادة .
الثالث : أنه الجاحد المتمرد ، قاله الحسن .
الرابع : أنه المشاق ، قاله السدي .
الخامس : أنه المعجب بما عنده المقيم على العمل به ، قاله ابن بحر .
فأما العاند ففيه وجهان :
أحدهما : أنه الذي يعرف بالحق ثم يجحده .
الثاني : أنه الذي يدعى إلى الحق فيأباه .
قوله عز وجل : { مَنَّاعٍ لِّلْخير } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه منع الزكاة المفروضة ، قاله قتادة .
الثاني : أن الخير المال كله ، ومنعه حبسه عن النفقه في طاعة الله ، قاله بعض المتأخرين .
الثالث : محمول على عموم الخير من قول وعمل .
{ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ } في المريب ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه الشاك في الله ، قاله السدي .
الثاني : أنه الشاك في البعث ، قاله قتادة .
الثالث : أنه المتهم . قال الشاعر :
بثينة قالت يا جميل أربتنا ... فقلت كلانا يا بثين مريب
وأريبنا من لا يؤدي أمانة ... ولا يحفظ الأسرار حين يغيب
قال الضحاك : هذه الآية في الوليد بن المغيرة المخزومي حين استشاره بنو أخيه في الدخول في الإسلام فمنعهم .
قوله عز وجل : { قَالَ لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَيَّ } فيه وجهان :
أحدهما : أن اختصامهم هو اعتذار كل واحد منهم فيما قدم من معاصيه ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنه تخاصم كل واحد مع قرينه الذي أغواه في الكفر ، قاله أبو العالية .
فأما اختصامهم في مظالم الدنيا ، فلا يجوز أن يضاع لأنه يوم التناصف .
أحدها : أن الوعيد الرسول ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنه القرآن ، قاله جعفر بن سليمان .
الثالث : أنه الأمر والنهي ، قاله ابن زيد .
ويحتمل رابعاً : أنه الوعد بالثواب والعقاب .
قوله عز وجل : { مَا يُبَدَّلُ الْقَولُ لَدَيَّ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : فيما أوجه من أمر ونهي ، وهذا معنى قول ابن زيد .
الثاني : فيما وعد به من طاعة ومعصية ، وهو محتمل .
الرابع : في أن بالحسنة عشر أمثالها وبخمس الصلوات خمسين صلاة ، قاله قتادة .
{ وَمَآ أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ } فيه وجهان :
أحدهما : ما أنا بمعذب من لم يجرم ، قاله ابن عباس .
الثاني : ما أزيد في عقاب مسيء ولا أنقص من ثواب محسن ، وهو محتمل .


يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35)

قوله عز وجل : { يَوْمَ نُقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأَتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنَ مَّزِيدٍ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : هل يزاد إلى من ألقي غيرهم؟ فالاستخبار عمن بقي ، قاله زيد بن أسلم .
الثاني : معناه إني قد امتلأت ، ممن ألقي في ، فهل أسع غيرهم؟ قاله مقاتل .
الثالث : معناه هل يزاد في سعتي؟ لإلقاء غير من ألقي في ، قاله معاذ .
وفي قوله : { وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ } وجهان :
أحدهما : أن زبانية جهنم قالوا هذا .
الثاني : أن حالها كالمناطقة بهذا القول ، كما قال الشاعر :
امتلأ الحوض وقال قطني ... مهلاً رويداً قد ملأت بطني
قوله عز وجل : { هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ } في الأواب الحفيظ ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه الذاكر ذنبه في الخلاء ، قاله الحكم .
الثاني : أنه الذي إذا ذكر ذنباً تاب واستغفر الله منه ، قاله ابن مسعود ومجاهد والشعبي .
الثالث : أنه الذي لا يجلس مجلساً فيقوم حتى يستغفر الله فيه ، قاله عبيد بن عمير .
وأما الحفيظ هنا ففيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه المطيع فيما أمر ، وهو معنى قول السدي .
الثاني : الحافظ لوصية الله بالقبول ، وهو معنى قول الضحاك .
الثالث : أنه الحافظ لحق الله بالاعتراف ولنعمه بالشكر ، وهو معنى قول مجاهد . وروى مكحول عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مَنْ حَافَظَ عَلَى أَرْبعِ رَكَعَاتٍ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ كَانَ أَوَّاباً حَفِيظاً » .
قوله عز وجل : { مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ } فيه وجهان :
أحدهما : أنه الذي يحفظ نفسه من الذنوب في السر كما يحفظها في الجهر .
الثاني : أنه التائب في السر من ذنوبه إذا ذكرها ، كما فعلها سراً .
ويحتمل ثالثاً : أنه الذي يستتر بطاعته لئلا يداخلها في الظاهر رياء . ووجدت فيه لبعض المتكلمين .
رابعاً : أنه الذي أطاع الله بالأدلة ولم يره .
{ وَجَآءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه المنيب المخلص ، قاله السدي .
الثاني : أنه المقبل على الله ، قاله سفيان .
الثالث : أنه التائب ، قاله قتادة .
{ لَهُم مَّا يَشَاءُونَ } يعني ما تشتهي أنفسهم وتلذ أعينهم .
{ وَلَدَينَا مَزِيدٍ } فيه وجهان :
أحدهما : أن المزيد من يزوج بهن من الحور العين ، رواه أبو سعيد الخدري مرفوعاً .
الثاني : أنها الزيادة التي ضاعفها الله من ثوابه بالحسنة عشر أمثالها .
وروى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أن جبريل أخبره : أن يوم الجمعة يدعى في الآخرة يوم المزيد . وفيه وجهان :
أحدهما : لزيادة ثواب العمل فيه .
الثاني : لما روي أن الله تعالى يقضي فيه بين خلقه يوم القيامة .


وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40)

قوله عز وجل : { فَنَقَّبُواْ فِي الْبِلاَدِ } فيه أربعة أوجه :
احدها : أثروا في البلاد ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنهم ملكوا في البلاد ، قاله الحسن .
الثالث : ساروا في البلاد وطافوا ، قاله قتادة ، ومنه قول امرىء القيس :
وقد نقبت في الآفاق حتى ... رضيت من الغنيمة بالإياب
الرابع : أنهم اتخذوا فيها طرقاً ومسالك ، قاله ابن جريج .
ويحتمل خامساً : أنه اتخاذ الحصون والقلاع .
{ هَلْ مِن مَّحِيصٍ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : هل من منجٍ من الموت ، قاله ابن زيد .
الثاني : هل من مهرب ، قال معمر عن قتادة : حاص أعداء الله فوجدوا أمر الله تعالى لهم مدركاً .
الثالث : هل من مانع؟ قال سعيد عن قتادة : حاص الفجرة ، فوجدوا أمر الله منيعاً .
قوله عز وجل : { إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ } فيه وجهان :
أحدهما : لمن كان له عقل ، قاله مجاهد ، لأن القلب محل العقل .
الثاني : لمن كانت له حياة ونفس مميزة ، فعبر عن النفس الحية بالقلب لأنه وطنها ومعدن حياتها . كما قال امرؤ القيس :
أغرك مني أن حبك قاتلي ... وأنك مهما تأمري القلب يفعل
{ أوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : ألقى السمع فيما غاب عنه بالأخبار ، وهو شهيد فيما عاينه بالحضور .
الثاني : معناه سمع ما أنزل الله من الكتب وهو شهيد بصحته .
الثالث : سمع ما أنذر به من ثواب وعقاب ، وهو شهيد على نفسه بما عمل من طاعة أو معصية .
وفي الآية ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها في جميع أهل الكتب ، قاله قتادة .
الثاني : أنها في اليهود والنصارى خاصة ، قاله الحسن .
الثالث : أنها في أهل القرآن خاصة ، قاله محمد بن كعب وأبو صالح .
قوله عز وجل : { وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ } واللغوب التعب والنصب . قال الراجز :
إذا رقى الحادي المطي اللغبا ... وانتعل الظل فصار جوربا
قال قتادة والكلبي : نزلت هذه الآية في يهود المدينة ، زعموا أن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام أولها يوم الأحد ، وآخرها يوم الجمعة ، واستراح في يوم السبت ، ولذلك جعلوه يوم راحة ، فأكذبهم الله في ذلك .
قوله عز وجل : { فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ } هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، أمر فيه بالصبر على ما يقوله المشركون ، إما من تكذيب أو وعيد .
{ وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ } الآية . وهذا وإن كان خطاباً للنبي صلى الله عليه وسلم ، فهو عام له ولأمته .
وفي هذا التسبيح وجهان :
أحدهما : أنه تسبيحه بالقول تنزيهاً قبل طلوع الشمس وقبل الغروب ، قاله أبو الأحوص .
الثاني : أنها الصلاة ومعناه فصلِّ بأمر ربك قبل طلوع الشمس ، يعني صلاة الصبح ، وقبل الغروب ، يعني صلاة العصر ، قاله أبو صالح ورواه جرير بن عبد الله مرفوعاً .

قوله عز وجل : { وَمِنَ اللَّيلِ فَسَبِّحْهُ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : أنه تسبيح الله تعالى قولاً في الليل ، قاله أبو الأحوص .
الثاني : أنها صلاة الليل ، قاله مجاهد .
الثالث : أنها ركعتا الفجر ، قاله ابن عباس .
الرابع : أنها صلاة العشاء الآخرة ، قاله ابن زيد .
ثم قال { وَأَدْبَارَ السُّجُودِ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه التسبيح في أدبار الصلوات ، قاله أبو الأحوص .
الثاني : أنها النوافل بعد المفروضات ، قاله ابن زيد .
الثالث : أنها ركعتان بعد المغرب ، قاله علي رضي الله عنه وأبو هريرة .
وروى ابن عباس قال : بت ليلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فصلى ركعتين قبل الفجر ، ثم خرج إلى الصلاة فقال : « يا ابن عباس رَكْعَتَانِ قَبْلَ الْفَجْرِ أَدْبَارَ النُّجُومِ ، وَرَكْعَتَانِ بَعْدَ الْمِغْرِبِ أَدْبَارَ السُّجُودِ » .


وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45)

قوله عز وجل : { وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنَادِ } هذه الصيحة التي ينادي بها المنادي من مكان قريب هي النفخة الثانية التي للبعث إلى أرض المحشر .
ويحتمل وجهاً آخر ، أنه نداؤه في المحشر للعرض والحساب .
وفي قوله : { مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ } وجهان :
أحدهما : أنه يسمعها كل قريب وبعيد ، قاله ابن جريج .
الثاني : أن الصيحة من مكان قريب . قال قتادة : كنا نحدث أنه ينادي من بيت المقدس من الصخرة وهي أوسط الأرض : يا أيتها العظام البالية ، قومي لفصل القضاء وما أعد من الجزاء . وحدثنا ، أن كعباً قال : هي أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلاً .
قوله عز وجل : { يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ } فيه وجهان :
أحدهما : يعني بقول الحق .
الثاني : بالبعث الذي هو حق .
{ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ } فيه وجهان :
أحدهما : الخروج من القبور .
الثاني : أن الخروج من أسماء القيامة . قال العجاج :
وليس يوم سمي الخروجا ... أعظم يوم رجه رجوجا
قوله عز وجل : { نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ } يحتمل وجهين :
أحدهما : نحن أعلم بما يجيبونك من تصديق أو تكذيب .
الثاني : بما يسرونه من إيمان أو نفاق .
{ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : يعني برب ، قاله الضحاك ، لأن الجبار هو الله تعالى سلطانه .
الثاني : متجبر عليهم متسلط ، قاله مجاهد . ولذلك قيل لكل متسلط جبار . قال الشاعر :
وكنا إذا الجبار صعر خده ... أقمنا له من صعره فتقوما
وهو من صفات المخلوقين ذم .
الثالث : أنك لا تجبرهم على الإسلام من قولهم قد جبرته على الأمر إذا قهرته على أمر ، قاله الكلبي .
{ فَذَكِّرْ بِالْقُرْءَانِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ } الوعيد العذاب ، والوعد الثواب . قال الشاعر :
وإني وإن أوعدته أو وعدته ... لمخلف إيعادي ومنجز موعدي
قال قتادة : اللهم اجعلنا ممن يخاف وعيدك ويرجو موعدك . وروي أنه قيل : يا رسول الله لو خوفتنا فنزلت { فَذَكِّرْ بِالْقُرءَانِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ } .


وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6) وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11) يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14)

قوله تعالى : { وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً } الذاريات : الرياح ، واحدتها ذارية لأنها تذرو التراب والتبن أي تفرقه في الهواء ، كما قال تعالى : { فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ } وفي قوله { ذَرْواً } وجهان :
أحدهما : مصدر .
الثاني : أنه بمعنى ما ذرت ، قاله الكلبي . فكأنما أقسم بالرياح وما ذرت الرياح .
ويحتمل قولاً ثالثاً : أن الذاريات النساء الولودات لأن في ترائبهن ذرو الخلق ، لأنهن يذرين الأولاد فصرن ذاريات ، وأقسم بهن لما في ترائبهن من خيرة عباده الصالحين ، وخص النساء بذلك دون الرجال وإن كان كل واحد منهما ذارياً لأمرين .
أحدهما : لأنهن اوعية دون الرجال فلاجتماع الذروين خصصن بالذكر .
الثاني : أن الذرو فيهن أطول زماناً وهن بالمباشرة أقرب عهداً .
{ فَالْحَامِلاَتِ وِقْراً } فيها قولان :
أحدهما : أنها السحب [ يحملن ] وِقْراً بالمطر .
الثاني أنها الرياح [ يحملن ] وِقْراً بالسحاب ، فتكون الريح الأولى مقدمة السحاب لأن أمام كل سحابة ريحاً ، والريح الثانية حاملة السحاب . لأن السحاب لا يستقل ولا يسير إلا بريح . وتكون الريح الثانية تابعة للريح الأولى من غير توسط ، قاله ابن بحر .
ويجري فيه احتمال قول :
ثالث : أنهن الحاملات من النساء إذا ثقلن بالحمل ، والوقر ثقل الحمل على ظهر أو في بطن ، وبالفتح ثقل الأذن .
{ فَالْجَارِيَاتِ يُسْراً } فيها قولان :
أحدهما : السفن تجري بالريح يسراً إلى حيث سيرت .
الثاني : أنه السحاب ، وفي جريها يسراً على هذا القول وجهان :
أحدهما : إلى حيث يسيرها الله تعالى من البقاع والبلاد .
الثاني : هو سهولة تسييرها ، وذلك معروف عند العرب كما قال الأعشى :
كأن مشيتها من بيت جارتها ... مشي السحابة ولا ريث لا عجل
{ فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً } فيه قولان :
أحدهما : أنه السحاب يقسم الله به الحظوظ بين الناس .
الثاني : الملائكة التي تقسم أمر الله في خلقه ، قاله الكلبي . وهم : جبريل وهو صاحب الوحي والغلظة ، وميكائيل وهو صاحب الرزق والرحمة ، وإسرافيل وهو صاحب الصور واللوح ، وعزرائيل وهو ملك الموت وقابض الأرواح ، عليهم السلام .
والواو التي فيها واو القسم ، أقسم الله بها لما فيها من الآيات والمنافع .
{ إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ } فيه وجهان :
أحدهما : إن يوم القيامة لكائن ، قاله مجاهد .
الثاني : ما توعدون من الجزاء بالثواب والعقاب حق ، وهذا جواب القسم . { وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ } فيه وجهان : أحدهما : إن الحساب لواجب ، قاله مجاهد . الثاني : [ أن ] الدين الجزاء ومعناه أن جزاء أعمالكم بالثواب والعقاب لكائن ، وهو معنى قول قتادة ، ومنه قول لبيد .
قوم يدينون بالنوعين مثلهما ... بالسوء سوء وبالإحسان إحسانا
{ وَالسَّمَآءِ ذَاتِ الْحُبُكِ } في السماء ها هنا وجهان :
أحدهما : أنها السحاب الذي يظل الأرض .
الثاني : وهو المشهور أنها السماء المرفوعة ، قال عبد الله بن عمر : هي السماء السابعة .
وفي { الْحُبُكِ } سبعة أقاويل :
أحدها : أن الحبك الاستواء ، وهو مروي عن ابن عباس على اختلاف .

الثاني : أنها الشدة ، وهو قول أبي صالح .
الثالث : الصفاقة ، قاله خصيف .
الرابع : أنها الطرق ، مأخوذ من حبك الحمام طرائق على جناحه ، قاله الأخفش ، وأبو عبيدة .
الخامس : أنه الحسن والزينة ، قاله علي وقتادة ومجاهد وسعيد بن جبير ومنه قول الراجز :
كأنما جللها الحواك ... كنقشة في وشيها حباك
السادس : أنه مثل حبك الماء إذا ضربته الريح ، قاله الضحاك . قال زهير :
مكلل بأصول النجم تنسجه ... ريح الشمال لضاحي مائة حبك
السابع : لأنها حبكت بالنجوم ، قاله الحسن . وهذا قسم ثان .
{ إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : يعني في أمر مختلف ، فمطيع وعاص ، ومؤمن وكافر ، قاله السدي .
الثاني : أنه القرآن فمصدق له ومكذب به ، قاله قتادة .
الثالث : انهم أهل الشرك مختلف عليهم بالباطل ، قاله ابن جريج .
ويحتمل رابعاً : أنهم عبدة الأوثان والأصنام يقرون بأن الله خالقهم ويعبدون غيره . وهذا جواب القسم الثاني .
{ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ } فيه ستة تأويلات :
أحدها : يضل عنه من ضل ، قاله ابن عباس .
الثاني : يصرف عنه من صرف ، قاله الحسن .
الثالث : يؤفن عنه من أفن ، قاله مجاهد ، والأفن فساد العقل .
الرابع : يخدع عنه من خدع ، قاله قطرب .
الخامس : يكذب فيه من كذب ، قاله مقاتل .
السادس : يدفع عنه من دفع ، قاله اليزيدي .
{ قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : لعن المرتابون ، قاله ابن عباس .
الثاني : لعن الكذابون ، قاله الحسن .
الثالث : أنهم أهل الظنون والفرية ، قاله قتادة .
الرابع : أنهم المنهمكون ، وهو مروي عن ابن عباس أيضاً .
وقوله : { قُتِلَ } ها هنا ، بمعنى لعن ، والقتل اللعن . وأما الخراصون فهو جمع خارص . وفي الخرص ها هنا وجهان :
أحدهما : أنه تعمد الكذب ، قاله الأصم .
الثاني : ظن الكذب ، لأن الخرص حزر وظن ، ومنه أخذ خرص الثمار .
وفيما يخرصونه وجهان :
أحدهما : تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم .
الثاني : التكذيب بالبعث . وفي معنى الأربع تأويلات وقد تقدم ذكرها في أولها { الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : في غفلة لاهون ، قاله ابن عباس .
الثاني : في ضلالاتهم متمادون ، وهو مروي عن ابن عباس أيضاً .
الثالث : في عمى وشبهة يترددون ، قاله قتادة .
ويحتمل رابعاً : الذين هم في مأثم المعاصي ساهون عن أداء الفرائض .
{ يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ } أي متى يوم الجزاء . وقيل : إن أيان كلمة مركبة من أي وآن .
{ يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ } في { يُفْتَنُونَ } ثلاثة أوجه :
أحدها : أي يعذبون ، قاله ابن عباس ، ومنه قول الشاعر :
كل امرىء من عباد الله مضطهد ... ببطن مكة مقهور مفتون
الثاني : يطبخون ويحرقون ، كما يفتن الذهب بالنار ، وهو معنى قول عكرمة والضحاك .
الثالث : يكذبون توبيخاً وتقريعاً زيادة في عذابهم .
{ ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ } الآية . فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : معنى فتنتكم أي عذابكم ، قاله ابن زيد .
الثاني : حريقكم ، قاله مجاهد .
الثالث : تكذبيكم ، قاله ابن عباس .


إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23)

{ ءَآخِذِينَ مَآ َاتَاهُمْ رَبُّهُمْ } فيه وجهان :
أحدهما : من الفرائض ، قاله ابن عباس .
الثاني : من الثواب ، قاله الضحاك .
{ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذلِكَ مُحسِنِينَ } أي قبل الفرائض محسنين بالإجابة ، قاله ابن عباس .
الثاني : قبل يوم القيامة محسنين بالفرائض ، قاله الضحاك .
{ كَانُواْ قَلْيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ } فيه وجهان :
أحدهما : راجع على ما تقدم من قوله { إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ كَانُواْ قَلِيلاً } بمعنى أن المحسنين كانوا قليلاً ، ثم استأنف : من الليل ما يهجعون ، قاله الضحاك .
الثاني : أنه خطاب مستأنف بعد تمام ما تقدمه ، ابتداؤه كانوا قليلاً ، الآية . والهجوع : النوم ، قال الشاعر :
أزالكم الوسمي أحدث روضه ... بليل وأحداق الأنام هجوع
وفي تأويل ذلك أربعة أوجه :
أحدها { كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون } أي يستيقظون فيه فيصلون ولا ينامون إلا قليلاً ، قاله الحسن .
الثاني : أن منهم قليلاً ما يهجعون للصلاة في الليل وإن كان أكثرهم هجوعاً ، قاله الضحاك .
الثالث : أنهم كانوا في قليل من الليل ما يهجعون حتى يصلوا صلاة المغرب وعشاء الآخرة ، قاله أبو مالك .
الرابع : أنهم كانوا قليلاً يهجعون ، وما : صلة زائدة ، وهذا لما كان قيام الليل فرضاً . وكان أبو ذر يحتجن يأخذ العصا فيعتمد عليها حتى نزلت الرخصة { قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً } .
{ وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } فيه وجهان :
أحدهما : وبالأسحار هم يصلون ، قاله الضحاك .
الثاني : أنهم كانوا يؤخرون الاستغفار من ذنوبهم إلى السحر ليستغفروا فيه ، قاله الحسن .
قال ابن زيد : وهو الوقت الذي أخر يعقوب الاستغفار لبنيه حتى استغفر لهم فيه حين قال لهم { سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي } [ يوسف : 98 ] . قال ابن زيد : والسحر السدس الأخير من الليل . وقيل إنما سمي سحراً لاشتباهه بين النور والظلمة .
{ وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ } فيه وجهان :
أحدهما : أنها الزكاة ، قاله ابن سيرين وقتادة وابن أبي مريم .
الثاني : أنه حق سوى الزكاة تصل له رحماً أو تقري به ضيفاً أو تحمل به كلاًّ أو تغني به محروماً ، قاله ابن عباس .
{ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ } أما السائل فهو مَن يسأل الناس لفاقته ، وأما المحروم ، ففيه ثمانية أقوال :
أحدها : المتعفف الذي يسأل الناس شيئاً ولا يعلم بحاجته ، قاله قتادة .
الثاني : أنه الذي يجيء بعد الغنيمة وليس له فيها سهم ، قاله الحسن ومحمد بن الحنفية . وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث سرية فأصابوا وغنموا ، فجاء قوم بعدما فرغوا فنزلت الآية .
الثالث : أنه من ليس له سهم في الإسلام ، قاله ابن عباس .
الرابع : المحارف الذي لا يكاد يتيسر له مكسبه ، وهذا قول عائشة .
الخامس : أنه الذي يطلب الدنيا وتدبر عنه ، وهو مروي عن ابن عباس أيضاً .
السادس : أنه المصاب بثمره وزرعه يعينه من لم يصب ، قاله ابن زيد :
السابع : أنه المملوك ، قاله عبد الرحمن بن حميد .

الثامن : أنه الكلب ، روي أن عمر بن عبد العزيز كان في طريق مكة فجاء كلب فاحتز عمر كتف شاة فرمى بها إليه وقال : يقولون إنه المحروم .
ويحتمل تاسعاً : أنه من وجبت نفقته من ذوي الأنساب لأنه قد حرم كسب نفسه ، حتى وجبت نفقته في مال غيره .
{ وَفِي الأَرْضِ ءَآيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ } يعني عظات للمعتبرين من أهل اليقين وفيها وجهان :
أحدهما : ما فيها من الجبال والبحار والأنهار ، قاله مقاتل .
الثاني : من أهلك من الأمم السالفة وأباد من القرون الخالية ، قاله الكلبي .
{ وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ } فيه خمسة تأويلات :
أحدها : أنه سبيل الغائط والبول ، قاله ابن الزبير ومجاهد .
الثاني : تسوية مفاصل أيديكم وأرجلكم وجوارحكم دليل على أنكم خلقتم لعبادته ، قاله قتادة .
الثالث : في خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون ، قاله ابن زيد .
الرابع : في حياتكم وموتكم وفيما يدخل ويخرج من طعامكم ، قاله السدي .
الخامس : في الكبر بعد الشباب ، والضعف بعد القوة ، والشيب بعد السواد ، قاله الحسن .
ويحتمل سادساً : أنه نجح العاجز وحرمان الحازم .
{ وَفِي السَّمَآءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ } : { وَفِي السَّمَآءِ رِزْقُكُمْ } فيه تأويلان :
أحدهما : ما ينزل من السماء من مطر وثلج ينبت به الزرع ويحيا به الخلق فهو رزق لهم من السماء ، قاله سعيد بن جبير والضحاك .
الثاني : يعني أن من عند الله الذي في السماء رزقكم .
ويحتمل وجهاً ثالثاً : وفي السماء تقدير رزقكم وما قسمه لكم مكتوب في أم الكتاب .
وأما قوله { وَمَا تُوعَدُونَ } ففيه ثلاثة أوجه :
أحدها : من خير وشر ، قاله مجاهد .
الثاني : من جنة ونار ، قاله الضحاك .
الثالث : من أمر الساعة ، قاله الربيع .
{ فَوَرَبِّ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ } فيه وجهان :
أحدهما : ما جاء به الرسول من دين وبلغه من رسالة .
الثاني : ما عد الله عليهم في هذه السورة من آياته وذكره من عظاته . قال الحسن : بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « قَاتَلَ اللَّهُ أَقْوَاماً أَقْسَمَ لَهُمْ رَبُّهُمْ [ بِنَفْسِهِ ] ثُمَّ لَمْ يُصَدِّقُوهُ » .
وقد كان قس بن ساعدة في جاهليته ينبه بعقله على هذه العبر فاتعظ واعتبر ، فروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « رَأَيتُهُ عَلَى جَمَلٍ لَهُ بِعُكَاظَ وَهُوَ يَقُولُ : أَيُّهَا النَّاسُ اسْمَعُواْ وَعُوا ، مِنْ عَاشَ مَاتَ ، وَمَن مَّاتَ فَاتَ ، وَكُلُّ مَا هُوَا ءَآتٍ ءآتٍ ، مَا لِي أَرَى النَّاسَ يَذْهَبُونَ فَلاَ يَرْجِعُونَ؟ أَرَضُواْ بِالإِقَامَةِ فَأَقَامُواْ؟ أَمْ تُرِكُوا فَنَاموا؟ إِنَّ فِي السَّمَآءِ لَخَبَراً ، وَإِنَّ فِي الأَرْضِ لَعِبَراً ، سَقْفٌ مَرْفُوعٌ ، وَلَيلٌ مَوضُوعٌ ، وَبِحَارٌ تَثُورٌ ، وَنُجُومٌ تَحُورُ ثُمَّ تَغُورُ ، أُقْسِمُ بِاللَّهِ قَسَماً مَا ءَاثَمُ فِيهِ ، إِنَّ للهِ دِيناً هُوَ أَرْضَى مِن دِينٍ أَنتُم عَلَيهِ . ثُمَّ تَكَلَّمَ بِأَبْيَاتِ شِعْرٍ مَأ أَدْرِي مَا هِيَ »

فقال أبو بكر : كنت حاضراً إذ ذاك والأبيات عندي وأنشد :
في الذاهبين الأولين ... من القرون لنا بصائر
لما رأيت موارداً ... للموت ليس لها مصادر
ورأيت قومي نحوها ... يمضي الأكابر والأصاغر
لا يرجع الماضي إليَّ ... ولا من الباقين غابر
أيقنت أني لامحا ... له حيث صار القوم صائر
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « يُبْعَثُ يَوْمَ القِيَامَةِ أُمَّةً وَحْدَهُ » . ونحن نسأل الله تعالى مع زاجر العقل ورادع السمع أن يصرف نوازع الهوى ومواقع البلوى . فلا عذر مع الإنذار ، ولا دالة مع الاعتبار ، وأن تفقهن الرشد تدرك فوزاً منه وتكرمة .


هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30)

{ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ } قال عثمان بن محسن : كانوا أربعة من الملائكة : جبريل وميكائيل وإسرافيل ورفائيل .
وفي قوله { الْمُكْرَمِينَ } وجهان :
أحدهما : أنهم عند الله المعظمون .
الثاني : مكرمون لإكرام إبراهيم لهم حين خدمهم بنفسه ، قاله مجاهد .
قال عطاء : وكان إبراهيم إذا أراد أن يتغذى ، أو يتعشى خرج الميل والميلين والثلاثة ، فيطلب من يأكل معه .
قال عكرمة : وكان إبراهيم يكنى أبا الضيفان ، وكان لقصره أربعة أبواب لكي لا يفوته أحد .
وسمي الضيف ضيفاً ، لإضافته إليك وإنزاله عليك .
{ إِذْ دَخَلُواْ عَلَيهِ فَقَالُواْ سَلاَماً } فيه وجهان :
أحدهما : قاله الأخفش ، أي مسالمين غير محاربين لتسكن نفسه .
الثاني : أنه دعا لهم بالسلامة ، وهو قول الجمهور ، لأن التحية بالسلام تقتضي السكون والأمان ، قال الشاعر :
أظلوم إن مصابكم رجلاً ... أهدى السلام تحية ظلم
فأجابهم إبراهيم عن سلامتهم بمثله :
{ قَالَ سَلاَمٌ قَوْمٌ مَنكَرُونَ } لأنه رآهم على غير صورة البشر وعلى غير صورة الملائكة الذين كان يعرفهم ، فنكرهم وقال { قَوْمٌ مَنكَرُونَ } وفيه وجهان :
أحدهما : أي قوم لا يعرفون .
الثاني : أي قوم يخافون ، يقال أنكرته إذا خفته ، قال الشاعر :
فأنكرتني وما كان الذي نكرت ... من الحوادث إلا الشيب والصلعا
{ فَرَاغَ إِلى أَهْلِهِ } فيه وجهان :
أحدهما : فعدل إلى أهله ، قاله الزجاج .
الثاني : أنه أخفى ميله إلى أهله .
{ فَجَآءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ } أما العجل ففي تسميته بذلك وجهان :
أحدهما : لأن بني إسرائيل عجلوا بعبادته .
الثاني : لأنه عجل في اتباع أمه .
قال قتادة : جاءهم بعجل لأن كان عامة مال إبراهيم البقر ، واختاره لهم سميناً زيادة في إكرامهم ، وجاء به مشوياً ، وهو محذوف من الكلام لما فيه من الدليل عليه .
فروى عون ابن أبي شداد أن جبريل مسح العجل بجناحه فقام يدرج ، حتى لحق بأمه ، وأم العجل في الدار .
{ فَقَرَّبَهُ إِلَيهِم قَالَ أَلاَ تَأَْكُلُونَ } لأنهم امتنعوا من الأكل لأن الملائكة لا يأكلون ولا يشربون ، فروى مكحول أنهم قالوا لا نأكله إلا بثمن ، قال كلوا فإن له ثمناً ، قالوا وما ثمنه؟ قال : إذا وضعتم أيديكم أن تقولوا : بسم الله ، وإذا فرغتم أن تقولوا : الحمد لله ، قالوا : بهذا اختارك الله يا إبراهيم .
{ فَأوْجَسَ مِنهُمْ خِيفَةً } لأنهم لم يأكلوا ، خاف أن يكون مجيئهم إليه لشر يريدونه به .
{ قَالُواْ لاَ تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلاَمٍ عَلِيمٍ } فيه قولان :
أحدهما : أنه إسحاق من سارة ، استشهاداً بقوله تعالى في آية أخرى { وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ } [ الصافات : 112 ] .
الثاني : أنه إسماعيل من هاجر ، قاله مجاهد .
{ عَلِيمٍ } أي يرزقه الله علماً إذا كبر .
{ فَأَقْبَلَتِ امْرَأتُهُ فِي صَرَّةٍ } فيها ثلاثة أقاويل :
أحدها : الرنة والتأوه ، قاله قتادة ، ومنه قول الشاعر :
وشربة من شراب غير ذي نفس ... في صرة من تخوم الصيف وهاج
الثاني : أنها الصيحة ، قاله ابن عباس ومجاهد ، ومنه أخذ صرير الباب ، ومنه قول امرىء القيس :
فألحقه بالهاديات ودونه ... جواحرها في صرة لم تزيل
الثالث : أنها الجماعة ، قاله ابن بحر ، ومنه المصراة من الغنم لجمع اللبن في ضرعها . وسميت صرة الدراهم فيها ، قال الشاعر :
رب غلام قد صرى في فقرته ... ماء الشباب عنفوان سنبته
وأما قوله { فَصَكَّتْ وَجْهَهَا } ففيه قولان :
أحدهما : معناه لطخت وجهها ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنها ضربت جبينها تعجباً .
{ وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ } أي ، أتلد عجوز عقيم؟ قاله مجاهد والسدي .


قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (37) وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40) وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ (45) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (46)

{ فَتَوَلَّى } يعني فرعون ، وفي توليه وجهان :
أحدهما : أدبر .
الثاني : أقبل ، وهو من الأضداد .
{ بِرُكْنِهِ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : بجموعه وأجناده ، قاله ابن زيد .
الثاني : بقوته ، قاله ابن عباس ، ومنه قول عنترة :
فما أوهى مراس الحرب ركني ... ولكن ما تقادم من زماني .
الثالث : بجانبه ، قاله الأخفش .
الرابع : بميله عن الحق وعناده بالكفر ، قاله مقاتل .
ويحتمل خامساً بماله لأنه يركن إليه ويتقوى به .
{ وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ الرِّيحَ الْعَقِيمَ } فيه أربعة أقاويل :
أحدها : أن العقيم هي الريح التي لا تلقح ، قاله ابن عباس .
الثاني : هي التي لا تنبث ، قاله قتادة .
الثالث : هي التي ليس فيها رحمة ، قاله مجاهد .
الرابع : هي التي ليس فيها منفعة ، قاله ابن عباس .
وفي الريح التي هي عقيم ثلاثة أقاويل :
أحدها : الجنوب ، روى ابن أبي ذئب عن الحارث بن عبد الرحمن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « الريح العقيم الجنوب » .
الثاني الدبور ، قاله مقاتل . قال عليه السلام : « نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور »
الثالث : هي ريح الصبا ، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد .
{ إِلاَّ جَعَلْتْهُ كَالرَّمِيمِ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : أن الرميم التراب ، قاله السدي .
الثاني : أنه الذي ديس من يابس النبات ، وهذا معنى قول قتادة .
الثالث أن الرميم : الرماد ، قاله قطرب .
الرابع : أنه الشيء البالي الهالك ، قاله مجاهد ، ومنه قول الشاعر :
تركتني حين كف الدهر من بصري ... وإذ بقيت كعظم الرمة البالي


وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51)

{ وَالسَّمَآءِ بَنَيْنَاهَا بِأيْدٍ } أي بقوة .
{ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ } فيه خمسة أوجه :
أحدها : لموسعون في الرزق بالمطر ، قاله الحسن .
الثاني : لموسعون السماء ، قاله ابن زيد .
الثالث : لقادرون على الاتساع بأكثر من اتساع السماء .
الرابع : لموسعون بخلق سماء ملثها ، قاله مجاهد .
الخامس : لذوو سعة لا يضيق علينا شيء نريده .
{ وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ } فيه وجهان :
أحدهما : أنه خلق كل جنس نوعين .
الثاني : أنه قضى أمر خلقه ضدين صحة وسقم ، وغنى وفقر ، وموت وحياة ، وفرح وحزن ، وضحك وبكاء . وإنما جعل بينكم ما خلق وقضى زوجين ليكون بالوحدانية متفرداً .
{ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } يحتمل وجهين :
أحدهما : تعلمون بأنه واحد .
الثاني : تعلمون أنه خالق .
{ فَفِرُّوْا إِلّى اللَّهِ } أي فتوبوا إلى الله .


كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60)

{ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ } فيه وجهان :
أحدهما : فذكر بالقرآن ، قاله قتادة .
الثاني : فذكر بالعظة فإن الوعظ ينفع المؤمنين ، قاله مجاهد .
ويحتمل ثالثاً : وذكر بالثواب والعقاب فإن الرغبة والرهبة تنفع المؤمنين .
{ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِ وَالإِنسَ إلاَّ لَيَعْبُدُونِ } فيه خمسة تأويلات :
أحدها : إلا ليقروا بالعبودية طوعاً أو كرهاً ، قاله ابن عباس .
الثاني : إلا لآمرهم وأنهاهم ، قاله مجاهد .
الثالث : إلا لأجبلهم على الشقاء والسعادة ، قاله زيد بن أسلم .
الرابع : إلا ليعرفوني ، قاله الضحاك .
الخامس : إلا للعبادة ، وهو الظاهر ، وبه قال الربيع بن انس .
{ مَآ أُرِيدُ مِنْهُمْ مَّنْ رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : ما أريد أن يرزقوا عبادي ولا أن يطعموهم .
الثاني : ما أنفسهم ، قاله أبو الجوزاء .
الثالث : ما أريد منهم معونة ولا فضلاً .
{ فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذَنُوباً مِّثلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : عذاباً مثل عذاب أصحابهم ، قاله عطاء .
الثاني : يعني سبيلاً ، قاله مجاهد .
الثالث : يعني بالذنوب الدلو ، قاله ابن عباس ، قال الشاعر :
لنا ذنوب ولكم ذنوب ... فإن أبيتم فلنا القليب
ولا يسمى الذنوب دلواً حتى يكون فيه ماء .
الرابع : يعني بالذنوب النصيب ، قال الشاعر :
وفي كل يوم قد خبطت بنعمة ... فحق لشاس من نداك ذنوب
ويعني بأصحابهم من كذب بالرسل من الأمم السالفة ليعتبروا بهلاكهم .
{ فَلاَ يَسْتَعْجِلُونِ } أي فلا يستعجلوا نزول العذاب بهم لأنهم قالوا : { يا مُحَمَّدُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا } الآية ، فنزل بهم يوم بدر ، ما حقق الله وعده ، وعجل به انتقامه .


وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (8) يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا (10) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16)

قوله تعالى { وَالطُّورِ } فيه وجهان :
أحدهما : أنه اسم للجبل بالسريانية ، قاله مجاهد . قال مقاتل : يسمى هذا الطور زبير .
الثاني : أن الطور ما أنبت ، وما لا ينبت فليس بطور ، قاله ابن عباس ، وقال الشاعر :
لو مر بالطور بعض ناعقة ... ما أنبت الطور فوقه ورقة
ثم في هذا الطور الذي أقسم الله به ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه طور سيناء ، قاله السدي .
الثاني : أنه الطور الذي كلم الله عليه موسى ، قاله ابن قتيبة .
الثالث : أنه جبل مبهم ، قاله الكلبي . وأقسم الله به تذكيراً بما فيه من الدلائل .
وقال بعض المتعمقة : إن الطور ما يطوى على قلوب الخائفين .
{ وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ } أي مكتوب ، وفي أربعة أقاويل :
أحدها : أنه الكتاب الذي كتب الله لملائكته في السماء يقرؤون فيه ما كان وما يكون .
الثاني : أنه القرآن مكتوب عند الله في اللوح المحفوظ .
الثالث : هي صحائف الأعمال فمن أخذ كتابه بيمينه ، ومن آخذ كتابه بشماله ، قاله الفراء .
الرابع : التوراة قاله ابن بحر .
{ فِي رَقٍّ مَّنشُورٍ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : الصحيفة المبسوطة وهي التي تخرج للناس أعمالهم ، وكل صحيفة فهي رق لرقة حواشيها ، قال المتلمس :
فكأنما هي من تقادم عهدها ... رق أتيح كتابها مسطور
الثاني : هو ورق مكتوب ، قاله أبو عبيدة .
الثالث : هو ما بين المشرق والمغرب ، قاله ابن عباس .
{ وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : ما روى قتادة عن أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أُتِيَ بِيَ إِلَى السَّمَاءِ فَرُفِعَ لَنَا الْبَيتُ المَعْمُورُ ، فَإِذَا هُوَ حِيالُ الكَعْبَةِ ، لَوْ خَرَّ خَرَّ عَلَيهَا ، يَدْخُلُهُ كُلَّ يَومٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ ، إِذَا خَرَجُوا مِنهُ لَمْ يَعُودُوا إِلَيهِ » قاله علي وابن عباس .
الثاني : ما قاله السدي : أن البيت المعمور ، هو بيت فوق ست سموات ، ودون السابعة ، يدعى الضراح ، يصلي فيه كل يوم سبعون ألف ملك من قبيلة إبليس لا يرجعون إليه أبداً ، وهو بحذاء البيت العتيق .
الثالث : ما قاله الربيع بن أنس ، أن البيت المعمور كان في الأرض في موضع الكعبة في زمان آدم ، حتى إذا كان زمان نوح أمرهم أن يحجوا ، فأبوا عليه وعصوه ، فما طغى الماء رفع فجعل بحذائه في السماء الدنيا ، فيعمره ، فبوأ الله لإبراهيم الكعبة البيت الحرام حيث كان ، قاله الله تعالى : { وَإِِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيْمَ مَكَانَ الْبَيْتِ } الآية .
الرابع : ما قاله الحسن أن البيت المعمور هو البيت الحرام .
وفي { الْمَعْمُورِ } وجهان :
أحدهما : أنه معمور بالقصد إليه .
الثاني : بالمقام عليه ، قال الشاعر :
عمر البيت عامر ... إذ أتته جآذر
من ظباء روائح ... وظباء تباكر
وتأول سهل أنه القلب ، عمارته إخلاصه ، وهو بعيد .

{ وَالسَّقْفِ المَرْفُوعِ } فيه وجهان :
أحدهما : أنه السماء ، قاله علي .
الثاني : أنه العرش ، قاله الربيع .
{ وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه جهنم ، رواه صفوان بن يعلى عن النبي صلى الله عليه وسلم .
الثاني : هو بحر تحت العرش ، رواه أبو صالح عن علي رضي الله عنه .
الثالث : هو بحر الأرض ، وهو الظاهر .
وفي قوله : { الْمَسْجُورِ } سبعة تأويلات :
أحدها : المحبوس ، قاله ابن عباس والسدي .
الثاني : أنه المرسل ، قاله سعيد بن جبير .
الثالث : الموقد ناراً ، قاله مجاهد .
الرابع : أنه الممتلىء ، قاله قتادة .
الخامس : أنه المختلط ، قاله ابن بحر .
السادس : أنه الذي قد ذهب ماؤه ويبس ، رواه ابن أبي وحشية عن سعيد بن جبير .
السابع : هو الذي لا يشرب من مائه ولا يسقى به زرع ، قاله العلاء بن زيد .
هذا آخر القسم ، وجوابه : { إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لوَاقِعٌ } روى الكلبي : أن جبير بن مطعم قدم المدينة ليفدي حريفاً له يقال له مالك أسر يوم بدر ، فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة [ المغرب ] يقرأ { وَالطُّورِ } فجلس مستمعاً ، حتى بلغ قوله تعالى : { إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ } فأسلم جبير خوفاً من العذاب ، وجعل يقول : ما كنت أظن أن أقوم من مقامي ، حتى يقع بي العذاب .
{ يَوْمَ تَمُورُ السَّمَآءُ مَوْراً } فيه سبعة تأويلات :
أحدها : معناه تدور دوراً ، قاله مجاهد ، قال طرفة بن العبد :
صهابية العثنون موجدة القرا ... بعيدة وخد الرجل موارة اليد .
الثاني : تموج موجاً ، قاله الضحاك .
الثالث : تشقق السماء ، قاله ابن عباس لقوله تعالى { فَإِذَا بُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً } الآية .
الرابع : تجري السماء جرياً ، ومنه قول جرير :
وما زالت القتلى تمور دماؤها ... بدجلة حتى ماء دجلة أشكل
الخامس : تتكفأ بأهلها ، قاله أبو عبيدة وأنشد بيت الأعشى :
كأن مشيتها من بيت جارتها ... مور السحابة لا ريث ولا عجل
السادس : تنقلب انقلاباً .
السابع : أن السماء ها هنا الفلك ، وموره اضطراب نظمه واختلاف سيره ، قاله ابن بحر .
{ يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعّاً } فيه تأويلان :
أحدهما : يدفعون دفعاً عنيفاً ومنه قول الراجز :
يدعه بصفحتي حيزومه ... دع الوصي جانبي يتيمه
قاله ابن عباس ومجاهد والضحاك والسدي وابن زيد .
الثاني : يزعجون إزعاجاً ، قاله قتادة .
ويحتمل ثالثاً : أن يدعهم زبانيتها بالدعاء عليهم .


إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20)

{ فَاكِهِينَ بِمَآ ءاتَاهُمْ رَبُّهُمْ } فيه خمسة أوجه :
أحدها : معجبين ، قاله ابن عباس .
الثاني : ناعمين ، قاله قتادة .
الثالث : فرحين ، قاله السدي .
الرابع : المتقابلين بالحديث الذي يسر ويؤنس ، مأخوذ من الفكاهة ، قاله ابن بحر .
الخامس : ذوي فاكهة كما قيل : لابن وتامر ، أي ذو لبن وتمر ، قاله عبيدة ، ومعنى ذلك ، أنهم ذوو بساتين فيها فواكه .
{ مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ } والسرر الوسائد ، وفي المصفوفة ثلاثة أوجه :
أحدها : المصفوفة بين العرش ، قاله عكرمة .
الثاني : هي الموصولة بالذهب .
الثالث : أنها الموصولة بعضها إلى بعض حتى تصير صفاً ، قاله ابن بحر .
{ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ } والعين الواسعة الأعين في صفائها ، وهو جمع عيناء ، ومنه قول الشاعر :
فحُور قد لهون وهن عين ... نواعم في المروط وفي الرياط
وفي تسميتهن حوراً وجهان :
أحدهما : لأنه يحار فيهن الطرف ، قاله مجاهد .
الثاني : لبياضهن ، قاله الضحاك ، ومنه قيل للخبز حوار لبياضه .


وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21) وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ (23) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28)

{ وَالَّذِينَ ءَآمَنُواْ وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانِ } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : أن الله يدخل الذرية بإيمان الأباء الجنة ، قاله ابن عباس .
الثاني : أن الله تعالى يعطي الذرية مثل أجور الآباء من غير أن ينقص الآباء من أجورهم شيئاً ، قاله إبراهيم .
الثالث : أنهم البالغون عملوا بطاعة الله مع آبائهم فألحقهم الله بآبائهم ، قاله قتادة .
الرابع : أنه لما أدرك أبناؤهم الأعمال التي عملوها تبعوهم عليها فصاروا مثلهم فيها ، قاله ابن زيد .
{ وَمآ أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِمِ مِّن شَيْءٍ } فيه تأويلان :
أحدهما : ما نقصناهم ، قاله ابن عباس ، قال رؤبة :
وليلة ذات سرى سريت ... ولم يلتني عن سراها ليت
أي لم ينقصني ، ومعنى الكلام : ولم ينقص الآباء بما أعطينا الأبناء .
الثاني : معناه وما ظلمناهم ، قاله ابن جبير ، قال الحطيئة :
أبلغ سراة بني سعد مغلغلة ... جهد الرسالة لا ألتاً ولا كذباً
أي لا ظلماً ، ولا كذباً . ومعنى الكلام : لم نظلم الآباء بما أعطينا الأبناء ، وإنما فعل تعالى ذلك بالأبناء كرمة للآباء .
{ كُلُّ امْرِىءٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ } فيه وجهان :
أحدهما : مؤاخذة كما تؤخذ الحقوق من الرهون .
الثاني : أنه يحبس ، ومنه الرهن لاحتباسه بالحق قال الشاعر :
وما كنت أخشى أن يكون رهينة ... لأحمر قبطي من القوم معتق
{ يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً } أي ، يتعاطون ويتساقون بأن يناول بضعهم بعضاً ، وهو المؤمن وزوجاته وخدمه في الجنة . والكأس إناء مملوء من شراب وغيره فهو كأس ، فإذا فرغ لم يسم كاساً ، وشاهد التنازع والكأس في اللغة قول الأخطل :
وشارب مربح بالكأس نادمني ... لا بالحضور ولا فيها بسوار
نازعته طيب الراح السمول وقد ... صاح الدجاج وحانت وقعه الساري .
{ لاَّ لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ تَأْثِيمٌ } فيها أربعة أوجه :
أحدها : لا باطل في الخمر ولا مأثم ، قاله ابن عباس وقتادة ، وإنما ذلك في الدنيا من الشيطان .
الثاني : لا كذب فيها ولا خلف ، قاله الضحاك .
الثالث : لا يتسابون عليها ولا يؤثم بعضهم بعضاً ، قاله مجاهد .
الرابع : لا لغو في الجنة ولا كذب ، وهذا مروي عن ابن عباس أيضاً . واللغو ها هنا فحش الكلام كما قال ذو الرمة :
فلا الفحش فيه يرهبون ولا الخنا ... عليهم ولكن هيبة هي ما هيا
بمستحكم جزل المروءة مؤمن ... من القوم لا يهوى الكلام اللواغيا
{ وَيَطُوفُ عَلَيْهُمْ غِلُمَانٌ لَّهُمْ } ذكر ابن بحر فيه وجهين :
أحدهما : ان يكون الأطفال من أولادهم الذين سبقوهم ، فأقَرَّ الله بهم أعينهم .
الثاني : أنهم من أخدمهم الله إياهم من أولاد غيرهم .
{ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ } أي مصون بالكن والغطاء ، ومنه قول الشاعر :
قد كنت أعطيهم مالاً وأمنعهم ... عرضي ، وودهم في الصدر مكنون
قال قتادة : بلغني أنه قيل يا رسول الله هذا الخدم مثل اللؤلؤ المكنون فكيف المخدوم؟ قال :

« والذي نفسي بيده لفضل ما بينهم ، كفضل القمر ليلة البدر على النجوم » .
{ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا } يحتمل وجهين :
أحدهما : بالجنة والنعيم . الثاني : بالتوفيق والهداية . { وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه عذاب النار ، قاله ابن زيد . وقال الأصم : السموم اسم من أسماء جهنم .
الثاني : أنه وهج جهنم ، وهو معنى قول ابن جريج .
الثالث : لفح الشمس والحر ، وقد يستعمل في لفح البرد ، كما قال الراجز :
اليوم يوم بارد سمومه ... من جزع اليوم فلا نلومه
{ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : أن البر الصادق ، قاله ابن جريج .
الثاني : اللطيف ، قاله ابن عباس .
الثالث : أنه فاعل البر المعروف به ، قاله ابن بحر .


فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (34) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35)

{ فَذَكِّرْ } يعني بالقرآن .
{ فَمَآ أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ } يعني برسالة ربك .
{ بِكَاهِنٍ وَلاَ مَجْنُونٍ } تكذيباً لعتبة بن ربيعة حيث قال إنه ساحر ، وتكذيباً لعقبة بن معيط ، حيث قال : إنه مجنون .
{ أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ } قال قتادة : قال ناس من الكفار : تربصوا بمحمد الموت يكفيكموه ، كما كفاكم شاعر بني فلان ، وشاعر بني فلان ، قال الضحاك : هؤلاء بنو عبد الدار ، نسبوه إلا أنه شاعر .
وفي { ريب المنون } وجهان :
أحدهما : الموت ، قاله ابن عباس .
الثاني : حوادث الدهر ، قاله مجاهد . المنون : الدهر ، قال أبو ذؤيب :
أمن المنون وريبها تتوجع ... والدهر ليس بمعتب من يجزع


أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43)

{ أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَبِّكَ } فيه وجهان :
أحدهما : مفاتيح الرحمة .
الثاني : خزائن الرزق .
{ أَمْ هُمْ الْمُصَيْطِرُونَ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : المسلطون ، قاله ابن عباس والضحاك .
الثاني : أنهم الأرباب ، قاله الحسن وأبو عبيد .
الثالث : معناه : أم هم المتولون ، وهذا قد روي عن ابن عباس أيضاً .
الرابع : أنهم الحفظة ، مأخوذ من تسطير الكتاب ، الذي يحفظ ما كتب فيه فصار المسيطر هنا حافظاً ما كتبه الله في اللوح المحفوظ ، قاله ابن بحر .
{ أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ } فيه وجهان :
أحدهما : أن السلم المرتقى إلى السماء ، ومنه قول ابن مقبل :
لا تحرز المرء أحجاء البلاد ولا ... يبنى له في السموات السلاليم
الثاني : أنه السبب الذي يتوصل به إلى عوالي الأشياء ، قال الشاعر :
تجنيت لي ذنباً وما إن جنيته ... لتتخذي عذراً إلى الهجر سلماً
وقوله { يَسْتَمِعُونَ فِيهِ } يحتمل وجهين :
أحدهما : يستمعون من السماء ما يقضيه الله على خلقه .
الثاني : يستمعون منها ما ينزل الله على رسله من وحيه .
{ فلْيَأْتِ مْسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } فيه وجهان :
أحدهما : فليأت صاحبهم بحجة ظاهرة تدل على صدقه .
الثاني : فليأت بقوة تتسلط على الأسماع وتدل على قدرته .


وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ (44) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (47) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49)

{ وَإِن يَرَواْ كِسْفاً مِّنَ السَّمَآءِ سَاقِطاً } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : يعني قطعاً من السماء ، قاله قتادة .
الثاني : جانباً من السماء .
الثالث : عذاباً من السماء ، قاله المفضل . وسمي كسفاً لتغطيته ، والكسف :
التغطية ، ومنه أخذ كسوف الشمس والقمر .
{ يَقُولُواْ سَحَابٌ مَّرْكُومٌ } في مركوم وجهان :
أحدهما : أنه الغليظ ، قاله ابن بحر .
الثاني : أنه الكثير المتراكب ، قاله الضحاك . ومعنى الآية : أنهم لو رأو سقوط كسف من السماء عليهم عقاباً لهم لم يؤمنوا ولقالوا إنه سحاب مركوم بعضه على بعضه .
{ فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاَقُواْ يَوْمَهُمُ } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : يوم يموتون ، قاله قتادة .
الثاني : النفخة الأولى ، حكاه ابن عيسى .
الثالث : يوم القيامة يغشى عليهم من هول ما يشاهدونه ، ومنه قوله تعالى :
{ وَخَرَّ مُوْسَى صَعِقاً } أي مغشياً عليه .
{ وَإِنَّ لِلَّذِينَ صَعِقاً } أي مغشياً عليه .
{ وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : عذاب القبر ، قاله علي .
الثاني : الجوع ، قاله مجاهد .
الثالث : مصابهم في الدنيا ، قاله الحسن .
وفي المراد بالذين ظلموا ها هنا قولان :
أحدهما : أنهم أهل الصغائر من المسلمين .
الثاني : أنهم مرتكبو الحدود منهم .
{ وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ } فيه وجهان :
أحدهما : لقضائه فيما حملك من رسالته .
الثاني : لبلائه فيما ابتلاك به من قومك .
{ فَإِنَّكَ بأَعْيُنِنَا } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : بعلمنا ، قاله السدي .
الثاني : بمرأى منا ، حكاه ابن عيسى .
الثالث : بحفظنا وحراستنا ، ومنه قوله تعالى لموسى : { وَلتُصنَعَ عَلَى عَيْنِي } [ طه : 39 ] بحفظي وحراستي ، قاله الضحاك .
{ وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ } فيه أربعة أقاويل :
أحدها : أن يسبح الله إذا قام من مجلسه ، قاله أبو الأحوص ، ليكون تكفيراً لما أجرى في يومه .
الثاني : حين تقوم من منامك ، ليكون مفتتحاً لعمله بذكر الله ، قاله حسان بن عطية .
الثالث : حين تقوم من نوم القائلة لصلاة الظهر ، قاله زيد بن أسلم .
الرابع : أنه التسبيح في الصلاة ، إذا قام إليها .
وفي هذا التسبيح قولان :
أحدهما : هو قول : سبحان ربي العظيم ، في الركوع ، وسبحان ربي الأعلى ، في السجود .
الثاني : التوجه في الصلاة بقوله : سبحانك اللهم وبحمدك [ وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك ] ، قاله الضحاك .
{ وَمِنَ الِّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها صلاة الليل .
الثاني : التسبيح فيها .
الثالث : أنه التسبيح في صلاة وغير صلاة .
وأما { وَإِدْبَارَ النُّجُومِ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها ركعتان قبل الفجر ، رواه ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « رَكْعَتَانِ قَبْلَ الْفَجْرِ ، إِدْبَارُ النُّجومِ ، وَرَكْعَتَانِ بَعْدَ المَغْرِبِ إِدْبَارُ السُّجُودِ » .
الثاني : أنها ركعتا الفجر قبل الغداة .
الثالث : أنه التسبيح بعد الصلاة ، وهذا مروي عن ابن عباس أيضاً ، وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال : لا صلاة بعد الفجر إلا ركعتي الفجر .



 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق