في وداع الله يا اماي جاري فوري

تحميل المصخف بصيغه

  القرآن الكريم وورد word doc icon تحميل سورة العاديات مكتوبة pdfتحميل المصحف الشريف بصيغة pdf تحميل القرآن الكريم مكتوب بصيغة وورد

الاثنين، 24 أكتوبر 2022

ج9.وج10.كتاب : النكت والعيون أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي

 

ج9.كتاب : النكت والعيون أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي

« نعم » فقال إني أخدمها فقال : « استأذن عليها » فعاوده ثلاثاً : فقال : « أَتُحِبُّ أَنْ تَرَاهَا عُرْيَانَةً » قال : لا قال : « فَاسْتَأْذِنْ عَلَيهَا » .
قوله تعالى : { فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فِيهَا أَحَداً } يعني يأذن لكم
. { فَلاَ تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُم } ولا يجوز التطلع إلى المنزل ليرى من فيه فيستأذنه إذا كان الباب مغلقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم : « إِنَّمَا جُعِلَ الاسْتِئْذَانُ لأَجْلِ البَصَرِ ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَفْتُوحاً فَيَجُوزُ إِذا كَانَ خَارِجاً أَنْ يَنْظُرَ لأَنَّ صَاحِبَهُ بالفتح قَدْ أَبَاحَ النَّظَرَ
» { وَإِن قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُواْ فَارْجِعُواْ هُوَ أَزْكَى لَكُمْ } وهنا ينظر فإن كان بعد الدخول عن إذن لزم الانصراف وحرم اللبث ، وإن كان قبل الدخول فهو رد الإِذن ومنع من الدخول . ولا يلزمه الانصراف عن موقفه من الطريق إلا أن يكون فناء الباب المانع فيكفي عنه ، قال قتادة : لا تقعد على باب قوم ردوك فإن للناس حاجات .
قوله تعالى : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ } فيها خمسة أقاويل :
أحدها : أنها الخانات المشتركة ذوات البيوت المسكونة ، قاله محمد بن الحنفية رضي الله عنه .
الثاني : أنها حوانيت التجار ، قاله الشعبي .
الثالث : أنها منازل الأسفار ومناخات الرجال التي يرتفق بها مارة الطريق في أسفارهم ، قاله مجاهد .
الرابع : أنها الخرابات العاطلات ، قاله قتادة .
الخامس : أنها بيوت مكة ، ويشبه أن يكون قول مالك .
{ فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ } فيه ثلاثة أقاويل
: أحدها : أنها عروض الأموال التي هي متاع التجار ، قاله مجاهد .
الثاني : أنها الخلاء والبول سمي متاعاً لأنه إمتاع لهم ، قاله عطاء .
الثالث : أنه المنافع كلها ، قاله قتادة ، فلا يلزم الاستئذان في هذه المنازل كلها . قال الشعبي : حوانيت التجار إذنهم جاءوا ببيوتهم فجعلوها فيها وقالوا للناس : هَلُمّ .
قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30)

قوله تعالى : { قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ } وفي { مِنْ } في هذا الموضع ثلاثة أقوايل
: أحدها : أنها صلة وزائدة وتقدير الكلام : قل للمؤمنين يغضوا أبصارهم ، قاله السدي .
الثاني : أنها مستعملة في مضمر وتقديره ، يغضوا أبصارهم عما لا يحل من النظر ، وهذا قول قتادة .
الثالث : أنها مستعملة في المظهر ، لأن غض البصر عن الحلال لا يلزم وإنما يلزم غضها عن الحرام فلذلك دخل حرف التبعيض في غض الأبصار فقال : من أبصارهم ، قاله ابن شجرة .
ويحرم من النظر ما قصد ، ولا تحرم النظرة الأولى الواقعة سهواً . روى الحسن البصري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ابنُ آدَمَ لَكَ النَّظْرَةُ الأَولَى وَعَلَيكَ الثَّانِيَة
» . { وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ } فيه قولان
: أحدهما : أنه يعني بحفظ الفرج عفافه ، والعفاف يكون عن الحرام دون المباح ولذلك لم يدخل فيه حرف التبعيض كما دخل غض البصر .
الثاني : قاله أبو العالية الرياحي المراد بحفظ الفروج في هذا الموضع سترها عن الأبصار حتى لا ترى ، وكل موضع في القرآن ذكر فيه الفرج فالمراد به الزنى إلا في هذا الموضع فإن المراد به الستر ، وسميت فروجاً لأنها منافذ الأجواف ومسالك الخارجات .
وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)

قوله تعالى : { وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ . . . } والزينة ما أدخلته المرأة على بدنها حتى زانها وحسنها في العيون كالحلي والثياب والكحل والخضاب ، ومنه قوله تعالى : { خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ } قال الشاعر :
يأخذ زينتهن أحسن ما ترى ... وإذا عطلن فهن غير عواطل
والزينة زينتان : ظاهرة وباطنة ، فالظاهرة لا يجب سترها ولا يحرم النظر إليها لقوله تعالى : { وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا } وفيها ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها الثياب ، قاله ابن مسعود .
الثاني : الكحل والخاتم ، قاله ابن عباس ، والمسور بن مخرمة .
الثالث : الوجه والكفان ، قاله الحسن ، وابن جبير ، وعطاء .
وأما الباطنة فقال ابن مسعود : القرط والقلادة والدملج والخلخال ، واختلف في السوار فروي عن عائشة أنه من الزينة الظاهرة ، وقال غيرها هو من الباطنة ، وهو أشبه لتجاوزه الكفين ، فأما الخضاب فإن كان في الكفين فهو من الزينة الظاهرة ، وإن كان في القدمين فهو من الباطنة ، وهذا الزينة الباطنة يجب سترها عن الأجانب ويحرم عليها تعمد النظر إليها فأما ذوو المحارم فالزوج منهم يجوز له النظر والالتذاذ ، وغيره من الآباء والأبناء والإخوة يجوز لهم النظر ويحرم عليهم الالتذاذ .
روى الحسن والحسين رضي الله عنهما [ أنهما ] كانا يدخلان على أختهما أم كلثوم وهي تمتشط .
وتأول بعض أصحاب الخواطر هذه الزينة بتأويلين :
أحدهما : أنها الدنيا فلا يتظاهر بما أوتي منها ولا يتفاخر إلا بما ظهر منها ولم ينستر .
الثاني : أنها الطاعة لا يتظاهر بها رياءً إلا ما ظهر منها ولم ينكتم ، وهما بعيدان .
{ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهنَّ } الخمر المقانع أمِرن بإلقائها على صدورهن تغطية لنحورهن فقد كن يلقينها على ظهورهن بادية نحورهن ، وقيل : كانت قمصهن مفروجة الجيوب كالدرعة يبدو منها صدروهن فأمرن بإلقاء الخمر لسترها . وكني عن الصدور بالجيوب لأنها ملبوسة عليها .
ثم قال : { وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ } يعني الزينة الباطنة إبداؤها للزوج استدعاء لميله وتحريكاً لشهوته ولذلك لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم السلتاء والمرهاء فالسلتاء التي لا تختضب ، والمرهاء التي لا تكتحل تفعل ذلك لانصراف شهوة الزوج عنها فأمرها بذلك استدعاء لشهوته ، ولعن صلى الله عليه وسلم المفشلة والمسوفة ، المسوفة التي إذا دعاها للمباشرة قالت سوف أفعل ، والمفشلة التي إذا دعاها قالت إنها حائض وهي غير حائض ، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لُعِنَتِ الغَائِصَةُ وَالمُغَوِّصَةُ » فالغائصة التي لا تعلم زوجها بحيضها حتى يصيبها ، والمغوصة التي تدعى أنها حائض ليمتنع زوجها من إصابتها وليست بحائض .
واختلف أصحابنا في تعمد كل واحد من الزوجين النظر إلى فرج صاحبه تلذذاً به على وجهين :
أحدهما : يجوز كما يجوز الاستمتاع به لقوله تعالى : { هن لباس لكم وأنتم لباس لهن } [ البقرة : 187 ] .
الثاني : لا يجوز لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :

« لَعَنَ اللَّهُ النَّاظِرَ وَالمَنْظُورَ إِلَيهِ
» . فأما ما سوى الفرجين منهما فيجوز لكل واحدٍ منهما أن يتعمد النظر إليه من صاحبه وكذلك الأمة مع سيدها .
{ أَوْ ءَابَآئِهِنَّ أَوْ ءَابَآءِ بُعُولَتِهِنَّ } إلى قوله : { أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ } وهؤلاء كلهم ذوو محارم بما ذكر من الأسباب والأنساب يجوز أبداً نظر الزينة الباطنة لهم من غير استدعاء لشهوتهم ، ويجوز تعمد النظر من غير تلذذ .
والذي يلزم الحرة أن تستر من بدنها مع ذوي محارمها ما بين سرتها وركبتها ، وكذلك يلزم مع النساء كلهن أو يستتر بعضهن من بعض ما بين السرة والركبة وهو معنى قوله :
{ أو نِسَآئِهِنَّ } وفيهن وجهان
: أحدهما : أنهن المسلمات لا يجوز لمسلمة أن تكشف جسدها عند كافرة ، قاله الكلبي .
والثاني : أنه عام في جميع النساء .
ثم قاله تعالى : { أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ } يعني عبيدهن ، فلا يحل للحرة عبدها ، وإن حل للرجل أمته ، لأن البضع إنما يستحقه مالكه ، وبضع الحرة لا يكون ملكاً لعبدها ، وبضع الأمة ملك لسيدها .
واختلف أصحابنا في تحريم ما بطن من زينة الحرة على عبدها ، على ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها تحل ولا تحرم ، وتكون عورتها معه كعورتها مع ذوي محرمها ، ما بين السرة والركبة لتحريمه عليها ولاستثناء الله تعالى له مع استثنائه من ذوي محرمها وهو مروي عن عائشة وأم سلمة .
والثاني : أنها تحرم ولا تحل وتكون عورتها معه كعورتها مع الرجال والأجانب وهو ما عدا الزينة الظاهرة من جميع البدن إلا الوجه والكفين ، وتأول قائل هذا الوجه قوله تعالى : { أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ } على الإِماء دون العبيد ، وتأوله كذلك سعيد بن المسيب ، وعطاء ، ومجاهد .
والثالث : أنه يجوز أن ينظر إليها فضلاء ، كما تكون المرأة في ثياب بيتها بارزة الذراعين والساقين والعنق اعتباراً بالعرف والعادة ، ورفعاً لما سبق ، وهو قول عبد الله بن عباس ، وأما غير عبدها فكالحر معها ، وإن كان عبداً لزوجها وأمها .
ثم قال تعالى : { أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَة مِنَ الرِّجَالِ } فيه ثمانية أوجه :
أحدها : أنه الصغير لأنه لا إرب له في النساء لصغره ، وهذا قول ابن زيد .
والثاني : أنه العنين لأنه لا إرب له في النساء لعجزه ، وهذا قول عكرمة ، والشبعي .
والثالث : أنه الأبله المعتوه لأنه لا إرب له في النساء لجهالته ، وهذا قول سعيد بن جبير ، وعطاء .
والرابع : أنه المجبوب لفقد إربه ، وهذا قول مأثور .
والخامس : أنه الشيخ الهرم لذهاب إربه ، وهذا قول يزيد بن حبيب .
والسادس : أنه الأحمق الذي لا تشتهيه المرأة ولا يغار عليه الرجل ، وهذا قول قتادة .
والسابع : أنه المستطعم الذي لا يهمه إلا بطنه ، وهذا قول مجاهد .
والثامن : أنه تابع القوم يخدمهم بطعام بطنه ، فهو مصروف لا لشهوة ، وهو قول الحسن .
وفيما أخذت منه الإربة قولان :
أحدها : أنها مأخوذة من العقل من قولهم رجل أريب إذا كان عاقلاً .

والثاني : أنها مأخوذة من الأرب وهو الحاجة ، قاله قطرب .
ثم أقول : إن الصغير والكبير والمجبوب من هذه التأويلات المذكورة في وجوب ستر الزينة الباطنة منهم ، وإباحة ما ظهر منها معهم كغيرهم ، فأما الصغير فإن لم يظهر على عورات النساء ولم يميز من أحوالهن شيئاً فلا عورة للمرأة معه .
[ فإِن كان مميزاً غير بالغ ] لزم أن تستر المرأة منه ما بين سرتها وركبتها وفي لزوم ستر ما عداه وجهان :
أحدهما : لا يلزم لأن القلم غير جار عليه والتكليف له غير لازم .
والثاني : يلزم كالرجل لأنه قد يشتهي ويشتهى .
وفي معنى قوله تعالى : { أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ } ثلاثة أوجه :
الأول : لعدم شهوتهم .
والثاني : لم يعرفوا عورات النساء لعدم تمييزهم .
والثالث : لم يطيقوا جماع النساء .
وأما الشيخ فإن بقيت فيه شهوة فهو كالشباب ، فإن فقدها ففيه وجهان :
أحدهما : أن الزينة الباطنة معه مباحة والعورة معه ما بين السرة والركبة .
والثاني : أنها معه محرمة وجميع البدن معه عورة إلا الزينة الظاهرة ، استدامة لحاله المتقدمة .
وأما المجبوب والخصي ففيهما لأصحابنا ثلاثة أوجه :
أحدها : استباحة الزينة الباطنة معهما .
والثاني : تحريمها عليهما .
والثالث : إباحتها للمجبوب وتحريمها على الخصي .
والعورة إنما سميت بذلك لقبح ظهورها وغض البصر عنها ، مأخوذ من عور العين .
ثم قال تعالى : { وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ } قال قتادة : كانت المرأة إذا مشت تضرب برجلها ليسمع قعقعة خلخالها ، فنهين عن ذلك .
ويحتمل فعلهن ذلك أمرين : فإما أن يفعلن ذلك فرحاً بزينتهن ومرحاً وإما تعرضاً للرجال وتبرجاً ، فإن كان الثاني فالمنع منه حتم ، وإن كان الأول فالمنع منه ندب .
وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33) وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34)

قوله تعالى : { وَأَنكِحُواْ الأَيَامَى مِنكُمْ } وهو جمع أيّم ، وفي الأيم قولان
: أحدهما : أنها المتوفى عنها زوجها ، قاله محمد بن الحسن .
الثاني : أنها التي لا زوج لها بكراً كانت أو ثيباً وهو قول الجمهور . يقال رجل أيّم إذا لم تكن له زوجة وامرأة أيّم إذا لم يكن لها زوج . ومنه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الأيمة يعني العزبة قال الشاعر :
فَإِن تَنْكَحِي أَنكِحْ وإن تَتَأَيَّمِي ... وإن كُنْتَ أَفْتَى منكُم أَتَأَيَّمُ
وروى القاسم قال : أمر بقتل الأيم يعني الحية
. وفي هذا الخطاب قولان :
أحدهما : أنه خطاب للأولياء أن ينكحوا آيامهم من أكفائهن إذا دعون إليه لأنه خطاب خرج مخرج الأمر الحتم فلذلك يوجه إلى الولي دون الزوج .
الثاني : أنه خطاب للأزواج أن يتزوجوا الأيامى عند الحاجة .
واختلف في وجوبه فذهب أهل الظاهر إليه تمسكاً بظاهر الأمر ، وذهب جمهور الفقهاء إلى استحبابه للمحتاج من غير إيجاب وكراهته لغير المحتاج .
ثم قال : { وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَآئِكُمْ } فيه وجهان :
أحدهما : أن معنى الكلام وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من رجالكم وأنكحوا إماءَكم .
الثاني : وهو الأظهر أنه أمر بإنكاح العبيد والإِيماء كما أمرنا بإنكاح الأيامى لاستحقاق السيد لولاية عبده وأمته فإن دعت الأمة سيدها أن يتزوجها لم يلزمه لأنها فراش له ، وإن أراد تزويجها كان له خيراً وإن لم يختره ليكتسب رق ولدها ويسقط عنه نفقتها .
وإن أراد السيد تزويج عبد أو طلب العبد ذلك من سيده فهل للداعي إليه أن يجبر الممتنع فيهما عليه أم لا؟ على قولين :
{ إِن يَكُونُوا فُقَرَآءَ يَغْنِهِمْ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ } فيه وجهان
: أحدهما : إن يكونوا فقراء إلى النكاح يغنهم الله به عن السفاح .
الثاني : إن يكونوا فقراء إلى المال يغنهم الله إما بقناعة الصالحين ، وإما باجتماع الرزقين ، وروى عبد العزيز بن أبي رواد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « اطْلُبُواْ الغِنَى فِي هذِهِ الآية » { إِن يَكُونَواْ فُقَرآءَ يُغْنهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ } .
{ وَاللَّهُ وَاسَعٌ عَلِيمٌ } فيه وجهان
: أحدهما : واسع العطاء عليم بالمصلحة .
الثاني : واسع الرزق عليهم بالخلق .
قوله تعالى : { وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً } أي وليعف ، والعفة في العرف الامتناع من كل فاحشة ، قال رؤبة :
يعف عن أسرارها بعد الفسق .
يعني عن الزنى بها .
{ حَتَّى يَغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ } يحتمل وجهين
: أحدهما يغنيهم الله عنه بقلة الرغبة فيه .
الثاني : يغني بمال حلال يتزوجون به .
{ وَالَّذيَنَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِم خَيْراً } أما الكتاب المبتغى هنا هو كتابة العبد والأمة على مال إذا أدياه عتقا به وكانا قبله مالكين للكسب ليؤدي في العتق ، فإن تراضى السيد والعبد عليها جاز ، وإن دعا السيد إليها لم يجبر العبد عليها .

وإن دعا العبد إليها ففي إجبار السيد عليها إذ علم فيه خيراً مذهبان :
أحدهما : وهو قول عطاء ، وداود ، يجب على السيد مكاتبته ويجبر إن أبى .
الثاني : وهو قول مالك والشافعي وأبي حنيفة وجمهور الفقهاء أنه يستحب له ولا يجبر عليه فإذا انعقدت الكتابة لزمت من جهة السيد وكان المكاتب فيها مخيراً بين المقام والفسخ .
{ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً } خمسة تأويلات
: أحدها : أن الخير ، القدرة على الاحتراف والكسب ، قاله ابن عمر وابن عباس .
الثاني : أن الخير : المال ، قاله عطاء ومجاهد .
الثالث : أنه الدين والأمانة ، قاله الحسن .
الرابع : أنه الوفاء والصدق ، قاله قتادة وطاووس .
الخامس : أنه الكسب والأمانة ، قاله الشافعي .
{ وءَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي ءَاتَاكُمْ } فيه قولان
: أحدهما : يعني من مال الزكاة من سهم الرقاب يعطاه المكاتب ليستعين به في أداء ما عليه للسيد . ولا يكره للسيد أخذه وإن كان غنياً ، قاله الحسن ، وإبراهيم وابن زيد .
الثاني : من مال المكاتبة معونة من السيد لمكاتبه كما أعانه غيره من الزكاة .
واختلف من ذهب إلى هذا التأويل في وجوبه فذهب أبو حنيفة إلى أنه مستحب وليس بواجب ، وذهب الشافعي إلى وجوبه وبه قال عمر وعلي وابن عباس .
واختلف من قال بوجوبه في هذا التأويل في تقديره فحكي عن علي أنه قدره بالربع من مال الكتابة ، وذهب الشافعي إلى أنه غير مقدر ، وبه قال ابن عباس .
وإن امتنع السيد منه طوعاً قضى الحاكم به عليه جبراً واجتهد رأيه في قدره ، وحكم به في تركته إن مات ، وحاص به الغرماء إن أفلس .
والمكاتب عبد ما بقي عليه درهم في قول الشافعي وأصحابه ، وإذا عجز عن أداء نجم عند محله كان السيد بالخيار بين إنظاره وتعجيزه وإعادته رقاً ، ولا يرد ما أخذه منه أو من زكاة أعين بها أو مال كسبه .
قال الكلبي وسبب نزول قوله تعالى : { فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُم فِيهِمْ خَيْراً } الآية؛ أن عبداً اسمه صبح لحويطب بن عبد العزى سأله أن يكاتبه فامتنع حويطب فأنزل الله ذلك فيه .
قوله تعالى : { وَلاَ تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً } الفتيات الإماء ، البغاء الزنى ، والتحصن التعفف ، ولا يجوز أن يكرهها ولا يمكنها سواء أرادت تعففاً أو لم تُرِدْ .
وفي ذكر الإِكراه هنا وجهان :
أحدهما : لأن الإِكراه لا يصح إلا فيمن أراد التعفف ، ومن لم يرد التعفف فهو مسارع إلى الزنى غير مكره عليه .
الثاني : أنه وارد على سبب فخرج النهي على صفة السبب وإن لم يكن شرطاً فيه ، وهذا ما روى جابر بن عبد الله أن عبد الله بن أبي بن سلول كانت له أمة يقال لها مسيكة وكان يكرهها على الزنى فزنت ببُرْدٍ فأعطته إياه فقال : ارجعي فازني على آخر : فقال : لا والله ما أنا براجعة وجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : إن سيدي يكرهني على البغاء فأنزل الله هذه الآية ، وكان مستفيضاً من أفعال الجاهلين طلباً للولد والكسب .
{ لِّتَبْتَغُواْ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } أي لتأخذوا أجورهن على الزنى
. { وَمَن يُكْرِههُّنَّ } يعني من السادة
. { فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } يعني للأمة المكرهة دون السيد المكرِه .
اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)

قوله تعالى : { اللَّهُ نُورُ السَّموَاتِ وَالأَرْضِ } فيه أربعة أقاويل
: أحدها : معناه الله هادي السموات والأرض ، قاله ابن عباس ، وأنس .
الثاني : الله مدبر السموات والأرض ، قاله مجاهد .
الثالث : الله ضياء السموات والأرض ، قاله أُبي .
الرابع : منور السموات والأرض .
فعلى هذا فبما نورهما به ثلاثة أقاويل :
أحدها : الله نور السموات بالملائكة ونور الأرض بالأنبياء .
الثاني : أنه نور السموات بالهيبة ونور الأرض بالقدرة .
الثالث : نورهما بشمسها وقمرها ونجومها ، قاله الحسن ، وأبو العالية .
{ مَثَلُ نُورِهِ } فيه أربعة أقاويل
: أحدها : مثل نور الله ، قاله ابن عباس .
الثاني : مثل نور محمد صلى الله عليه وسلم ، قاله ابن شجرة .
الثالث : مثل نور المؤمن ، قاله أُبي .
الرابع : مثل نور القرآن ، قاله سفيان .
فمن قال : مثل نور المؤمن ، يعني في قلب نفسه ، ومن قال : مثل نور محمد ، يعني في قلب المؤمن ، ومن قال : نور القرآن ، يعني في قلب محمد .
ومن قال : نور الله ، فيه قولان :
أحدهما : في قلب محمد .
الثاني : في قلب المؤمن .
{ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ } فيه خمسة أقاويل
: أحدها : أن المشكاة كوة لا منفذ لها والمصباح السراج ، قاله كعب الأحبار .
الثاني : المشكاة القنديل والمصباح الفتيلة ، قاله مجاهد .
الثالث : المشكاة موضع الفتيلة من القنديل الذي هو كالأُنبوب ، والمصباح الضوء قاله ابن عباس .
الرابع : المشكاة الحديد الذي به القنديل وهي التي تسمى السلسلة والمصباح هو القنديل ، وهذا مروي عن مجاهد أيضاً .
الخامس : أن المشكاة صدر المؤمن والمصباح القرآن الذي فيه والزجاجة قلبه ، قاله أُبَي ، قال الكلبي : والمشكاة لفظ حبشي معرب .
{ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ } فيه قولان
: أحدهما : يعني أن نار المصباح في زجاجة القنديل لأنه فيها أضوأ ، وهو قول الأكثرين .
الثاني : أن المصباح القرآن والإِيمان ، والزجاجة قلب المؤمن ، قاله أُبَي .
{ كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ } أما الكوكب ففيه قولان
: أحدهما : أنه الزهرة خاصة ، قاله الضحاك .
الثاني : أنه أحد الكواكب المضيئة من غير تعيين ، وهو قول الأكثرين .
وأما درّي ففيه أربع قراءات .
إحداها : دُريّ بضم الدال وترك الهمز وهي قراءة نافع وتأويلها أنه مضيء يشبه الدر لضيائه ونقائه .
الثانية : بالضم والهمز وهي قراءة عاصم في رواية أبي بكر وتأويلها أنه مضيء .
الثالثة : بكسر الدال وبالهمز وهي قراءة أبي عمرو والكسائي وتأويلها أنه متدافع لأنه بالتدافع يصير منقضاً فيكون أقوى لضوئه مأخوذ من درأ أي دفع يدفع .
الرابعة : بالكسر وترك الهمز وهي قراءة المفضل بن عاصم ، وتأويلها أنه جار كالنجوم الدراري الجارية من درّ الوادي إذا جرى .
{ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ } فيه قولان
: أحدهما : يعني بالشجرة المباركة إبراهيم والزجاجة التي كأنها كوكب دري محمد صلى الله عليه وسلم ، وهو مروي عن ابن عمر .
الثاني : أنه صفة لضياء المصباح الذي ضربه الله مثلاً يعني أن المصباح يشعل من دهن شجرة زيتونة .

{ مُّبَارَكَةٍ } في جعلها مباركة وجهان
: أحدهما : لأن الله بارك في زيتون الشام فهو أبرك من غيره .
الثاني : لأن الزيتون يورق غصنه من أوله إلى آخره وليس له في الشجر مثيل إلا الرمان .
قال الشاعر :
بُورِكَ الْمَيْتُ الغَرِيبُ كَمَا بُو ... رِكَ نَضْرُ الرُّمَّانِ والزَّيْتُونِ
{ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ } فيه سبعة أقاويل
: أحدها : أنها ليست من شجرة الشرق دون الغرب ولا من شجرة الغرب دون الشرق لأن ما اختص بأحد الجهتين أقل زيتاً وأضعف ، ولكنها شجر ما بين الشرق والغرب كالشام لاجتماع القوتين فيه ، وهو قول ابن شجرة وحكي عن عكرمة .
ومنه قولهم : لا خير في المتقاة والمضحاة ، فالمتقاة أسفل الوادي الذي لا تصيبه الشمس ، والمضحاة رأس الجبل الذي لا تزول عنه الشمس .
الثاني : أنها ليست بشرقية تستر عن الشمس في وقت الغروب ولا بغربية تستر عن الشمس وقت الطلوع بل هي بارزة للشمس من وقت الطلوع إلى وقت الغروب فيكون زيتها أقوى وأضوأ ، قاله قتادة .
الثالث : أنها وسط الشجرة لا تنالها الشمس إذا طلعت ولا إذا غربت وذلك أضوأ لزيتها ، قاله عطية .
الرابع : أنها ليس في شجر الشرق ولا في شجر الغرب مثلها ، حكاه يحيى ابن سلام .
الخامس : أنها ليست من شجر الدنيا التي تكون شرقية أو غربية ، وإنما هي من شجر الجنة ، قاله الحسن .
السادس : أنها مؤمنة لا شرقية ولا غربية ، أي ليست بنصرانية تصلي إلى الشرق ، ولا غربية أي ليست بيهودية تصلي إلى الغرب ، قاله ابن عمر .
السابع : أن الإِيمان ليس بشديد ولا لين لأن في أهل الشرق شدة ، وفي أهل الغرب لينٌ .
{ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ } فيه أربعة أقاويل
: أحدها : أن صفاء زيتها كضوء النار وإن لم تمسسه نار ، ذكره ابن عيسى .
الثاني : أن قلب المؤمن يكاد أن يعرف قبل أن يتبين له لموافقته له ، قاله يحيى بن سلام .
الثالث : يكاد العلم يفيض من فم العالم المؤمن من قبل أن يتكلم به .
الرابع : تكاد أعلام النبوة تشهد لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يدعو إليها .
{ نُّورٌ عَلَى نُورٍ } فيه ستة أقاويل
: أحدها : يعني ضوء النار على ضوء الزيت على ضوء الزجاجة ، قاله مجاهد .
الثاني : نور النبوة على نور الحكمة ، قاله الضحاك .
الثالث : نور الزجاجة على نور الخوف .
الرابع : نور الإِيمان على نور العمل .
الخامس : نور المؤمن فهو حجة الله ، يتلوه مؤمن فهو حجة الله حتى لا تخلو الأرض منهم .
السادس : نور نبي من نسل نبي ، قاله السدي .
{ يَهْدِي لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ } فيه ثلاثة أقاويل
: أحدها : يهدي الله لدينه من يشاء من أوليائه ، قاله السدي .
الثاني : يهدي الله لدلائل هدايته من يشاء من أهل طاعته .
الثالث : يهدي الله لنبوته من يشاء من عباده .
{ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ } الآية . وفيما ضربت هذه الآية مثلاً فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها مثل ضربه الله للمؤمن في وضوح الحق له .
الثاني : أنها مثل ضربه الله لطاعته فسى الطاعة نوراً لتجاوزها عن محلها .
الثالث : ما حكاه ابن عباس أن اليهود قالوا : يا محمد كيف يخلص نور الله من دون السماء فضرب الله ذلك مثلاً لنوره .
فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38)

قوله : { فِي بُيُوتٍ } في هذه البيوت قولان
: أحدهما : أنها المساجد ، قاله ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد .
الثاني : أنها سائر البيوت ، قاله عكرمة .
{ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ } أربعة أوجه
: أحدها : أن تُبْنَى ، قاله مجاهد كقوله : { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ } أي يبني .
الثاني : أنها تطهر من الأنجاس والمعاصي ، حكاه ابن عيسى .
الثالث : أن تعظم ، قاله الحسن .
الرابع : أن ترفع فيها الحوائج إلى الله .
{ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ } فيها ثلاثة أقاويل
: أحدها : يتلى فيها كتابه ، قاله ابن عباس .
الثاني : تذكر فيها أسماؤه الحسنى ، قاله ابن جرير .
الثالث : توحيده بأن لا إله غيره ، قاله الكلبي .
وفيما يعود إليه ذكر البيوت التي أذن الله أن ترفع قولان :
أحدهما : إلى ما تقدم من قوله : كمشكاة فيها مصباح في بيوت أذن الله .
الثاني : إلى ما بعده من قوله : { يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا } وفي هذا التسبيح قولان :
أحدهما : أنه تنزيه الله .
الثاني : أنه الصلاة ، قاله ابن عباس والضحاك .
{ بالْغَدُوِّ وَالآصَالِ } الغدو جمع غَدوة والآصال جمع أصيل وهي العشاء
. { رِجالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ } قال الكلبي : التجار هم الجلاب المسافرون ، والباعة هم المقيمون .
{ عَن ذِكْرِ اللَّهِ } فيه وجهان
: أحدهما : عن ذكره بأسمائه الحسنى .
الثاني : عن الأذان ، قاله يحيى بن سلام . { تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبِ وَالأبْصَارُ } فيه خمسة أوجه
: أحدها : يعني تقلبها على حجر جهنم .
الثاني : تقلب أحوالها بأن تلفحها النار ثم تنضجها وتحرقها .
الثالث : أن تقلب القلوب وجيبها ، وتقلب الأبصار النظر بها إلى نواحي الأهوال .
الرابع : أن تقلب القلوب بلوغها الحناجر ، وتقلب الأبصار الزّرَق بعد الكحل ، والعمى بعد البصر .
الخامس : أن الكافر بعد البعث ينقلب قلبه على الكفر إلى الإيمان وينقلب بصره عما كان يراه غياً فيراه رشداً .
{ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ } فذكر الجزاء على الحسنات ولم يذكر الجزاء على السيئات وإن كان يجازى عليها لأمرين :
أحدهما : أنه ترغيب فاقتصر على ذكر الرغبة .
الثاني : أنه يكون في صفة قوم لا تكون منهم الكبائر فكانت صغائرهم مغفورة .
{ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ } يحتمل وجهين
: أحدهما : ما يضاعفه من الحسنة بعشر أمثالها .
الثاني : ما يتفضل به من غير جزاء .
{ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } فيه أربعة أوجه
: أحدها : بغير جزاء بل يسديه تفضلاً .
الثاني : غير مقدر بالكفاية حتى يزيد عليها .
الثالث : غير قليل ولا مضيق .
الرابع : غير ممنون به .
وقيل لما نزلت هذه الآية أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء مسجد قباء فحضر عبد الله بن رواحة فقال : يا رسول الله قد أفلح من بنى المساجدا؟ قال : « نَعَمْ يَا ابْنَ رَوَاحَةَ » قال ، وصلى فيها قائماً وقاعداً قال : « نَعَمْ يَا ابْنَ رَوَاحَةِ » قال : ولم يبت لله إلا ساجداً؟ قال : « نَعَمْ يَا ابْنَ رَوَاحَةَ . كُفّ عَنِ السَّجْعِ فَمَا أُعْطِيَ عَبْدٌ شَيئاً شَرّاً مِن طَلاَقَةِ لِسَانِهِ
» .
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40)

قوله تعالى : { وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أََعَمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بقِيعَةٍ } أما السراب فهو الذي يخيل لمن رآه في الفلاة كأنه الماء الجاري قال الشاعر :
فَلَمَّا كَفَفْنَا الْحَرْبَ كَانَتْ عُهُودُهُمْ ... كَلَمْعِ سَرَابٍ بِالْفَلاَ مُتَأَلِّق
والآل كالسراب إلا أنه يرتفع عن الأرض في وقت الضحى حتى يصير كأنه بين الأرض والسماء ، وقيل : إن السراب بعد الزوال والآل قبل الزوال والرقراق بعد العصر وأما القيعة فجمع قاع مثل جيرة وجار ، والقاع ما انبسط من الأرض واستوى .
{ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً } يعني العطشان يحسب السراب ماءً
. { حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً } وهذا مثل ضربه الله للكافر يعول على ثواب عمله فإذا قدم على الله وجد ثواب عمله بالكفر حابطاً .
{ وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ } فيه وجهان
: أحدهما : وجد أمر الله عند حشره .
الثاني : وجد الله عند عرضه .
{ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ } يحتمل وجهين
: أحدهما : ووجد الله عند عمله فجازاه على كفره .
والثاني : وجد الله عند وعيده فوفى بعذابه ويكون الحساب على الوجهين معاً محمولاً على العمل ، كما قال امرؤ القيس :
فوّلَّى مُدْبِراً وَأيْقَنَ ... أنَّه لاَقِى الْحِسَابَا
{ وَاللَّهُ سَرِيع الْحِسَابِ } يحتمل وجهين
: أحدهما : لأن حسابه آت وكل آت سريع .
الثاني : لأنه يحاسب جميع الخلق في وقت سريع .
قيل إن هذه الآية نزلت في شيبة بن ربيعة وكان يترهب في الجاهلية ويلبس الصوف ويطلب الدين فكفر في الإِسلام .
قوله : { أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ } الظلمات : ظلمة البحر وظلمة السحاب وظلمة الليل .
وفي قوله لجيّ ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه البحر الواسع الذي لا يرى ساحله ، حكاه ابن عيسى .
الثاني : أنه البحر الكثير الموج ، قاله الكلبي .
الثالث : أنه البحر العميق ، وهذا قول قتادة ، ولجة البحر وسطه ، ومنه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « مَنْ رَكِبَ البَحْرَ إِذَا الْتَجَّ فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ الذِّمَّةُ » يعني إذا توسطه
. { يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ } يحتمل وجهين
: أحدهما : يغشاه موج من فوق الموج ريح ، من فوق الريح سحاب فيجمع خوف الموج وخوف الريح وخوف السحاب .
الثاني : معناه يغشاه موج من بعده فيكون المعنى الموج بعضه يتبع بعضاً حتى كأنه بعضه فوق بعض وهذا أخوف ما يكون إذا توالى موجه وتقارب ، ومن فوق هذا الموج سحاب وهو أعظم للخوف من وجهين :
أحدهما : أنه قد يغطي النجوم التي يهتدى بها .
الثاني : الريح التي تنشأ مع السحاب والمطر الذي ينزل منه .
{ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ } يحتمل وجهين
: أحدهما : أن يريد الظلمات التي بدأ بذكرها وهي ظلمة البحر وظلمة السحاب وظلمة الليل .
الثاني : يعني بالظلمات الشدائد أي شدائد بعضها فوق بعض .
{ إِذَا أخْرَجَ يَدَه لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا } فيه وجهان
: أحدهما : معناه أنه رآها بعد أن كاد لا يراها ، حكاه ابن عيسى .
الثاني : لم يرها ولم يكد ، قاله الزجاج ، وهو معنى قول الحسن .

وفي قوله لم يكد وجهان :
أحدهما : لم يطمع أن يراها .
الثاني : لم يرها ويكاد صلة زائدة في الكلام .
{ ومَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهَ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ } فيه وجهان
: أحدهما : ومن لم يجعل الله له سبيلاً إلى النجاة في الآخرة فما له من سبيل إليها حكاه ابن عيسى .
الثاني : ومن لم يهده الله للإِسلام لم يهتد إليه ، قاله الزجاج .
وقال بعض أصحاب الخواطر وجهاً ثالثاً : ومن لم يجعل الله نوراً له في وقت القسمة فما له من نور في وقت الخلقة .
ويحتمل رابعاً : ومن لم يجعل الله له قبولاً في القلوب لم تقبله القلوب .
وهذا المثل ضربه الله للكافر ، فالظمات ظلمة الشرك وظلمة الليل وظلمة المعاصي ، والبحر اللجي قلب الكافر ، يغشاه من فوقه عذاب الدنيا ، فوقه عذاب الآخرة .
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42)

قوله تعالى : { وَالطَّيْرُ صَآفَاتٍ } أي مصطفة الأجنحة في الهواء
. { كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن الصلاة للإِنسان والتسبيح لما سواه من سائر الخلق ، قاله مجاهد .
الثاني : أن هذا في الطير وإن ضرب أجنحتها صلاة وأن أصواتها تسبيح ، حكاه النقاش .
الثالث : أن للطير صلاة ليس فيها ركوع ولا سجود ، قاله سفيان . ثم فيه قولان :
أحدهما : أن كل واحد منهم قد علم صلاته وتسبيحه .
الثاني : أن الله قد علم صلاته وتسبيحه .
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (44)

قوله تعالى : { يُزْجِي سَحَاباً } فيه وجهان
: أحدهما : ينزله قليلاً بعد قليل ، ومنه البضاعة المزجاة لقلتها .
الثاني : أنه يسوقه إلى حيث شاء ومنه زجا الخراج إذا انساق إلى أهله قال النابغة :
إِنِّي أتَيْتُكَ من أَهْلِي ومنْ وَطَنِي ... أُزْجِي حُشَاشَةَ نَفْسٍ ما بِها رَمَقٌ
{ ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ } أي يجمعه ثم يفرقه عند انتشائه ليقوى ويتصل .
{ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً } أي يركب بعضه بعضاً
. { فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ } فيه قولان
: أحدهما : أن الودق البرق يخرج من خلال السحاب قال الشاعر :
أثرن عجاجة وخرجن منها ... خروج الودق من خلَلَ السحاب
وهذا قول أبي الأشهب
: الثاني : أنه المطر يخرج من خلال السحاب ، وهو قول الجمهور ، ومنه قول الشاعر :
فلا مزنة ودقت ودقها ... ولا أرض أبقل أبقالها
{ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَآءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : أن في السماء جبال برد فينزل من تلك الجبال ما يشاء فيصيب به من يشاء ويصرفه عمن يشاء .
الثاني : أنه ينزل من السماء برداً يكون كالجبال .
الثالث : أن السماء السحاب ، سماه لعلوه ، والجبال صفة السحاب أيضاً سمي جبالاً لعِظمه فينزل منه برداً يصيب به من يشاء ويصرفه عمن يشاء فتكون إصابته نقمة وصرفه نعمة .
{ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : صوت برقه .
الثاني : ضوء برقه ، قاله يحيى بن سلام ومنه قول الشماخ .
وما كادت إذا رفعت سناها ... ليبصر ضوءها إلاّ البصير
الثالث : لمعان برقه ، قاله قتادة والصوت حادث عن اللمعان كما قال امرؤ القيس :
يضي سناه أو مصابيح راهب ... أمال السليط بالذبال المفتل
فيكون البرق دليلاً على تكاثف السحاب ، ونذيراً بقوة المطر ، ومحذراً من نزول الصواعق .
قوله تعالى : { يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيلَ وَالنَّهَارَ } فيه ثلاث أوجه :
أحدها : هو أن يأتي بالليل بعد النهار ويأتي بالنهار بعد الليل ، حكاه ابن عيسى .
الثاني : أن ينقص من الليل ما يزيد من النهار وينقص من النهار ما يزيد في الليل ، حكاه يحيى بن سلام .
الثالث : أنه يغير النهار بظلمة السحاب تارة وبضوء الشمس أخرى ، ويغير الليل بظلمة السحاب مرة وبضوء القمر مرة ، حكاه النقاش .
ويحتمل رابعاً : أن يقلبها باختلاف ما يقدر فيهما من خير وشر ونفع وضر .
وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45) لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (46)

قوله تعالى : { وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَآبّةٍ مِّن مَّاءٍ } فيه قولان
: أحدهما : أن أصل الخلق من ماء ثم قلب إلى النار فخلق منها الجن ، وإلى النور فخلق منها الملائكة ، وإلى الطين فخلق منه من خلق وما خلق ، حكاه ابن عيسى .
الثاني : أنه خالق كل دابة من ماء النطفة ، قاله السدي .
{ فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ } كالحية والحوت
. { وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رَجْلَينِ } الإِنسان والطير
. { وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ } كالمواشي والخيل ، ولم يذكر ما يمشي ، ولم يذكر ما يمشى على أكثر من أربع لأنه كالذي يمشي على أربع لأنه يعتمد في المشي على أربع .
وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52)

قوله تعالى : { وَإِذَا دُعُواْ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ } هذه الآية نزلت في بشر ، رجلٌ من المنافقين كان بينه وبين رجل من اليهود خصومة فدعاه اليهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ودعاه بشر إلى كعب بن الأشرف لأن الحق إذا كان متوجهاً على المنافق إلى غير رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسقط عنه ، وإذا كان له حاكم إليه ليستوفيه منه فأنزل الله هذه الآية .
وقيل : إنها نزلت في المغيرة بن وائل من بني أمية كان بينه وبين علي كرم الله وجهه خصومة في ماء وأرض فامتنع المغيرة أن يحاكم علياً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : إنه يبغضني ، فنزلت هذه الآية .
{ وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ } فيه أربعة أوجه
: أحدهما : طائعين ، حكاه ابن عيسى .
الثاني : خاضعين ، حكاه النقاش .
الثالث : مسرعين ، قاله مجاهد .
الرابع : مقرنين ، قاله الأخفش وفيها دليل على أن من دعي إلى حاكم فعليه الإِجابة ويحرج إن تأخر .
وقد روى أبو الأشهب عن الحسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مَنْ دُعِيَ إِلَى حَاكِمٍ مِنَ المُسْلِمِينَ فَلَمْ يُجِبْ فَهُوَ ظَالِمٌ لاَ حَقَّ لَهُ » . ثم قال : { أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } فيه قولان :
أحدهما : شرك ، قاله الحسن .
الثاني : نفاق ، قاله قتادة .
{ أَمِ ارْتَابُواْ } أي شكوا ويحتمل وجهين
: أحدهما : في عدل رسول الله صلى الله عليه وسلم .
الثاني : في نبوته .
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (53) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54)

قوله تعالى : { قُل لاَّ تُقْسِمُواْ طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ } يحتمل وجهين
: أحدهما : طاعة صادقة خير من أيمان كاذبة .
الثاني : قد عرف نفاقكم في الطاعة فلا تتجملوا بالأيمان الكاذبة .
قوله تعالى : { فَإِن تَوَلَّوْاْ } أي أعرضوا عن الرسول .
{ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ } أي عليه ما حمل من إبلاغكم ، وعليكم ما حملتم من طاعته .
ويحتمل وجهاً ثانياً : أن عليه ما حمل من فرض جهادكم ، وعليكم ما حملتم من وزر عباده .
{ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ } يعني إلى الحق
. { وَمَا عَلَى الرَّسُولَِ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ } يعني بالقول لمن أطاع وبالسيف لمن عصى .
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57)

قوله تعالى : { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَعِمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ليَسَتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ } فيه قولان :
أحدهما : يعني أرض مكة ، لأن المهاجرين سألوا الله ذلك ، قاله النقاش .
والثاني : بلاد العرب والعجم ، قاله ابن عيسى .
روى سليم بن عامر عن المقدام بن الأسود قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « لاَ يَبْقَى عَلَى الأَرْضِ بَيْتُ حَجَرٍ وَلاَ مَدَرٍ وَلاَ وَبَرٍ إِلاَّ أَدْخَلَهُ اللَّهُ كَلِمَةَ الإِسْلاَمِ بِعزٍّ عَزِيزٍ أَوْ ذُلٍّ ذَلِيلٍ ، إما يعزهم فيجعلهم من أهلها ، وإما يذلهم فيدينون لها
» . { كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } فيه قولان
: أحدهما يعني بني إسرائيل في أرض الشام .
الثاني : داود وسليمان .
{ وَلَيُمَكِنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ } يعني دين الإِسلام وتمكينه أن يظهره على كل دين .
{ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِم أَمْناً } لأنهم كانوا مطلوبين فطلبوا ، ومقهورين فقهروا .
{ يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً } فيه أربعة أوجه
: أحدها : لا يعبدون إلهاً غيري ، حكاه النقاش .
الثاني : لا يراءون بعبادتي أحداً .
الثالث : لا يخافون غيري ، قاله ابن عباس .
الرابع : لا يحبون غيري ، قاله مجاهد .
قال الضحاك : هذه الآية في الخلفاء الأربعة : أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي رضي الله عنهم وهم الأئمة المهديون ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : « الخِلاَفَةُ بَعْدِي ثَلاَثونَ سَنَةً
» .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58) وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59) وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60)

قوله تعالى : { لَيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيَمَانُكُم } فيهم قولان
: أحدهما : أنهم النساء يستأذنَّ في هذه الأوقات خاصة ويستأذن الرجال في جميع الأوقات ، قاله ابن عمر .
الثاني : أنهم العبيد والإِماء .
وفي المعنى بالاستئذان ثلاثة أقاويل :
أحدها : العبد دون الأمة يستأذن على سيده في هذه الأوقات الثلاثة ، قاله ابن عمر ، ومجاهد .
الثاني : أنها الإِماء لأن العبد يجب أن يستأذن أبداً في هذه الأوقات وغيرها ، قاله ابن عباس .
الثالث : أنه على عمومه في العبد والأمة ، قاله أبو عبد الرحمن السلمي .
{ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُواْ الحُلُمَ مِنْكُم } هم الصغار الأحرار فمن كان منهم غير مميز لا يصف ما رأى فليس من أهل الاستئذان ومن كان مميزاً يصف ما رأى ويحكي ما شاهد فهو المعني بالاستئذان .
{ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ مِّن قَبْلِ صَلاَةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثَيَابَكُمْ مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلاَةِ الْعِشَآءِ } وهذه الساعات الثلاث هي أوقات الاستئذان من تقدم ذكره ولا يلزمهم الاستئذان في غيرها من الأوقات ، فذكر الوقت الأول وهو من قبل صلاة الفجر وهو من بعد الاستيقاظ من النوم إلى صلاة الصبح ، ثم ذكر الوقت الثاني فقال : { وَحِينَ تَضَعُونَ } وهو وقت الخلوة لنومة القائلة ، ثم ذكر الوقت الثالث فقال : { وَمِن بَعْدِ صَلاَةِ الْعَشَآءِ } يعني الآخرة وقد تسميها العامة العتمة وسميت العشاء لأن ظلام وقتها يعشي البصر .
وإنما خص هذه الأوقات الثلاثة لأنها أوقات خلوات الرجل مع أهله ولأنه ربما بدا فيها عند خلوته ما يكره أن يرى من جسده ، فقد روي أن عمر بن الخطاب كان في منزله وقت القائلة فأنفذ إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بصبي من أولاد الأنصار يقال له مدلج فدخل على عمر بغير إذن وكان نائماً فاستيقظ عمر بسرعة فانكشف شيء من جسده فنظر إليه الغلام فحزن عمر فقال : وددت لو أن الله بفضله نهى أبناءنا عن الدخول علينا في هذه الساعات إلا بإذننا ثم انطلق إلى النبي صلى الله عليه وسلم فوجد هذه الآية قد أنزلت فخرَّ ساجداً [ شكراً لله ] .
{ ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ } يعني هذه الساعات الثلاث هي أوقات العورات فصارت من عورات الزمان فجرت مجرى عورات الأبدان فلذلك خصت بالإِذن .
{ لَيْسَ عَلَيْكَمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جَنَاحٌ بَعْدَهُنَّ } فيه وجهان :
أحدهما : يعني ليس عليكم يا أهل البيوت جناح في تبذلكم في هذه الأوقات .
الثاني : ليس عليكم جناح في منعهم في هذه الأوقات . ولا على المملوكين والصغار جناح في ترك الاستئذان فيما سوى هذه الأوقات .
{ طَوَّافُونَ عَلَيْكَم بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ } يعني أنهم طوّافون عليكم للخدمة لكم فلم ينلهم حرج في دخول منازلكم ، والطوافون الذين يكثرون الدخول والخروج .
ثم أوجب على من بلغ من الصبيان الاستئذان إذا احتلموا وبلغوا لأنهم صاروا بالبلوغ في حكم الرجال فقال تعالى :
{ وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنكُم الحُلُمَ فَلْيَسْتَأَذِنُواْ كَمَا اسْتَأَْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم } يعني الرجال .

قوله : { وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَآءِ } والقواعد جمع قاعدة وهن اللاتي قعدن بالكبر عن الحيض والحمل ولا يحضن ولا يلدن . قال ابن قتيبة : بل سمين بذلك لأنهن بعد الكبر يكثر منهن القعود . وقال زمعة : لا تراد ، فتقعد عن الاستمتاع بها والأول أشبه . قال الشاعر :
فلو أن ما في بطنه بين نسوة ... حبلن ولو كان القواعد عقراً
وقوله : { الَّلاتِي لاَ يَرْجُونَ نَكَاحاً } أي أنهن لأجل الكبر لا يردن الرجال ولا يريدهن الرجال .
{ فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جَنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ } فيه قولان
: أحدهما : جلبابها وهو الرداء الذي فوق خمارها فتضعه عنها إذا سترها باقي ثيابها قاله ابن مسعود وابن جبير .
الثاني : خمارها ورداؤها ، قاله جابر بن زيد .
{ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتِ بِزِينَةٍ } والتبرج أن تظهر من زينتها ما يستدعي النظر إليها فإنه في القواعد وغيرهن محظور . وإنما خص القواعد بوضع الجلباب لانصراف النفوس عنهن ما لم يبد شيء من عوراتهن . والشابات المشتهيات يمنعن من وضع الجلباب أو الخمار ويؤمرن بلبس أكثف الجلابيب لئلا تصفهن ثيابهن . وقد روى مجاهد عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لِلزَّوْجِ مَا تَحْتَ الدِّرْعِ ، وَلِلإِبْنِ وَالأَخِ مَا فَوقَ الدِّرْعِ ، وَلِغَيْرِ ذِي مُحْرِمٍ أَرْبَعَةُ أَثْوَابٍ : دِرْعٍ وَخِمَارٍ وَجِلْبَابٍ وَإِزَارٍ
» . { وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ } يعني إن يستعفف القواعد عن وضع ثيابهن ويلزمن لبس جلابيبهن خير لهن من وضعها وإن سقط الحرج عنهن فيه .
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)

قوله تعالى : { لَّيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ } فيه خمسة أقاويل :
أحدها : أن الأنصار كانوا يتحرجون أن يؤاكلوا هؤلاء إذا دعوا إلى الطعام فيقولون : الأعمى لا يبصر أطيب الطعام ، والأعرج لا يستطيع الزحام عند الطعام ، والمريض يضعف عن مشاركة الصحيح في الطعام . وكانوا يقولون : طعامهم مفرد ويرون أنه أفضل من أن يكونوا شركاء ، فأنزل الله هذه الآية فيهم ورفع الحرج عنهم في مؤاكلتهم ، قاله ابن عباس ، والضحاك ، والكلبي .
الثاني : أنه ليس على هؤلاء من أهل الزمانة حرج أن يأكلوا من بيوت من سمى الله بعد هذا من أهاليهم ، قاله مجاهد .
الثالث : أنه كان المذكورون من أهل الزمانة يخلفون الأنصار في منازلهم إذا خرجواْ بجهاد وكانوا يتحرجون أن يأكلوا منها فرخص الله لهم في الأكل من بيوت من استخلفوهم فيها ، قاله الزهري .
الرابع : أنها نزلت في إسقاط الجهاد عمن ذكروا من أهل الزمانة .
الخامس : ليس على من ذكر من أهل الزمانة حرج إذا دُعِي إلى وليمة أن يأخذ معه قائده ، وهذا قول عبد الكريم .
{ وَلاَ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ } فيه ثلاثة أقاويل
: أحدها : من أموال عيالكم وأزواجكم لأنهم في بيته .
الثاني : من بيوت أولادكم فنسب بيوت الأولاد إلى بيوت أنفسهم لقوله صلى الله عليه وسلم : « أَنتَ وَمَالُكَ لأَبِيكَ » ولذلك لم يذكر الله بيوت الأبناء حين ذكر بيوت الآباء والأقارب اكتفاء بهذا الذكر .
الثالث : يعني بها البيوت التي هم ساكنوها خدمة لأهلها واتصالاً بأربابها كالأهل والخدم .
{ أَوْ بُيُوتِ ءَابَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاَتِكُمْ } فأباح الأكل من بيوت هؤلاء لمكان النسب من غير استئذانهم في الأكل إذا كان الطعام مبذولاً ، فإن كان محروزاً دونهم لم يكن لهم هتك حرزه . ولا يجوز أن يتجاوزوا الأكل إلى الادخار ، ولا إلى ما ليس بمأكول وإن كان غير محروز عنهم إلا بإذن منهم ثم قال :
{ أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحَهُ } فيه ثلاثة أقاويل
: أحدها : أنه عَنَى به وكيل الرجل وَقيِّمه في ضيعته يجوز له أن يأكل مما يقوم عليه من ثمار ضيعته ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنه أراد منزل الرجل نفسه يأكل مما ادخره ، قاله قتادة .
الثالث : أنه عنى به أكل السيد من منزل عبده وماله لأن مال العبد لسيده ، حكاه ابن عيسى .
{ أَوْ صَدِيقِكُمْ } فيه قولان
: أحدهما : أنه يأكل من بيت صديقه في الوليمة دون غيرها .
الثاني : أنه يأكل من منزل صديقه في الوليمة وغيرها إذا كان الطعام حاضراً غير محرز . قال ابن عباس : الصديق أكثر من الوالدين ، ألا ترى أن الجهنميين لم يستغيثوا بالآباء ولا الأمهات وإنما قالوا : { فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ } وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :

« قَدْ جَعَلَ اللَّهُ فِي الصَّدِيقِ البَارِّ عِوَضَاً عَنِ الرَّحِمِ المَذْمُومَةِ » والمراد بالصديق الأصدقاء وهو واحد يعبر به عن الجميع ، قال جرير :
دعون الهوى ثم ارتمين قلوبنا . ... . بأسهم أعداءٍ وهن صديقُ
وفي الصديق قولان
: أحدهما : أنه الذي صدقك عن مودته .
الثاني : أنه الذي يوافق باطنه باطنك كما وافق ظاهره ظاهرك .
ثم اختلفوا في نسخ ما تقدم ذكره بعد ثبوت حكمه على قولين :
أحدهما : أنه على ثبوته لم ينسخ شيء منه ، قاله قتادة .
الثاني : أنه منسوخ بقوله تعالى :
{ لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبيِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ } الآية . ويقول النبي صلى الله عليه وسلم : « لا يحل مَالُ امْرِىءْ مُسْلِمٍ إلاَّ بِطِيبِ نَفْسٍ مِنهُ
» قال تعالى : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً } فيه أربعة أوجه :
أحدها : أنها نزلت في بني كنانة كان رجل منهم يرى أن مُحرَّماً عليه أن يأكل وحده في الجاهلية حتى أن الرجل ليسوق الزود الحفل وهو جائع حتى يجد من يؤاكله ويشاربه ، فأنزل فيهم هذه الآية ، قاله قتادة وابن جريج .
الثاني : أنها نزلت في قوم من العرب كان الرجل منهم إذا نزل به ضيف تحرج أن يتركه يأكل وحده حتى يأكل معه ، فنزل ذلك فيهم ، قال أبو صالح .
الثالث : أنها نزلت في قوم كانوا يتحرجون أن يأكلوا جميعاً ويعتقدون أنه ذنب ويأكل كل واحد منهم منفرداً ، فنزل ذلك فيهم ، حكاه النقاش .
الرابع : أنها نزلت في قوم مسافرين اشتركوا في أزوادهم فكان إذا تأخر أحدهم أمسك الباقون عن الأكل حتى يحضر ، فنزل ذلك فيهم ترخيصاً للأكل جماعة وفرادى .
{ فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتاً } فيها قولان
: أحدهما : أنه المساجد .
الثاني : أنها جميع البيوت .
{ فَسَلِّمُواْ عَلَى أَنفُسِكُمْ } فيه خمسة أقاويل
: أحدها : يعني إذا دخلتم بيوت أنفسكم فسلموا على أهاليكم وعيالكم ، قاله جابر .
الثاني : إذا دخلتم المساجد فسلموا على من فيها ، وهذا قول ابن عباس .
الثالث : إذا دخلتم بيوت غيركم فسلموا عليهم ، قاله الحسن .
الرابع : إذا دخلتم بيوتاً فسلموا على أهل دينكم ، قاله السدي .
الخامس : إذا دخلتم بيوتاً فارغة فسلموا على أنفسكم وهو أن يقول : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، قاله ابن عمر ، وإبراهيم ، وأبو مالك ، وقيل : سلامه على نفسه أن يقول : السلام علينا من ربنا تحية من عند الله .
وإذا سلم الواحد من الجماعة أجزأ عن جميعهم ، فإذا دخل الرجل مسجداً ذا جمع كثير سلم يسمع نفسه ، وإذا كان ذا جمع قليل أسمعهم أو بعضهم .
قال الحسن : كان النساء يسلمن على الرجال ولا يسلم الرجال على النساء ، وكان ابن عمر يسلم على النساء ، ولو قيل لا يسلم أحد الفريقين على الآخر كان أولى لأن السلام مواصلة .
{ تَحِيَّةً مِنْ عِندِ اللَّهِ } فيه أربعة أقاويل
: أحدها : يعني أن السلام اسم من أسماء الله تعالى .
الثاني : أن التحية بالسلام من أوامر الله .
الثالث : أن الرد عليه إذا سلم دعاء له عند الله .
الرابع : أن الملائكة ترد عليه فيكون ثواباً من عند الله .
{ مُبَارَكَةً } فيها وجهان
: أحدهما : لما فيها من الثواب الجزيل .
الثاني : لما يرجى من ثواب الدعاء .
{ طَيِّبَةً } يحتمل وجهين
: أحدهما : لما فيها من طيب العيش بالتواصل .
الثاني : لما فيها من طيب الذكر والشأن .
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62)

قوله تعالى : { . . . . وَإِذَا كَانُواْ مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ } فيه ثلاثة أقاويل
: أحدها : أن الأمر الجامع الجمعة والعيدان والاستسقاء وكل شيء يَكون فيه الخطبة ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : أنه الجهاد ، قاله زيد بن أسلم .
الثالث : طاعة الله ، قاله مجاهد .
{ لَّمْ يَذْهَبُواْ حَتَّى يَسْتَئْذِنُوهُ } أي لم ينصرفوا عنه حتى يستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه .
{ فَإِذَا اسْتَئذَنُوكَ لبَعْضِ شَأْنِهِمْ . . . . } الآية . وهذا بحسب ما يرى من أعذارهم ونياتهم وروي أن هذا نزل في عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان مع النبي صلى الله عليهم وسلم في غزاة بتوك فاستأذنه في الرجوع إلى أهله فقال : « انْطَلِقْ فَوَاللَّهِ مَا أَنتَ بِمُنَافِقٍ وَلاَ مُرْتَابٍ » وكان المنافقون إذا استأذنوا نظر إليهم ولم يأذن لهم فكان بعضهم يقول لبعض : محمدٌ يزعم أنه بُعِث بالعدل وهكذا يصنع بنا .
{ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ } يعني لمن أذن له من المؤمنين ليزول عنه باستغفاره ملامة الانصراف قال قتادة : وهذه الآية ناسخة قوله تعالى : { عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَدِنتَ لَهُم } الآية .
لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)

قوله تعالى : { لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُم بَعْضاً } الآية . فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه نهي من الله عن التعرض لدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسخاطه لأن دعاءه يوجب العقوبة وليس كدعاء غيره ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنه نهي من الله عن دعاء رسول الله بالغلظة والجفاء وَلْيَدْعُ بالخضوع والتذلل : يا رسول الله ، يا نبي الله ، قاله مجاهد ، وقتادة .
الثالث : أنه نهي من الله عن الإِبطاء عند أمره والتأخر عند استدعائه لهم إلى الجهاد ولا يتأخرون كما يتأخر بعضهم عن إجابة بعض ، حكاه ابن عيسى .
{ قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً } فيه قولان
: أحدهما : أنهم المنافقون كانوا يتسلّلُون عن صلاة الجمعة لواذاً أي يلوذ بعضهم ببعض ينضم إليه استتاراً من رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه لم يكن على المنافقين أثقل من يوم الجمعة وحضور الخطبة فنزل ذلك فيهم ، حكاه النقاش .
الثاني : أنهم كانوا يتسللون في الجهاد رجوعاً عنه يلوذ بعضهم ببعض لواذاً فنزل ذلك فيهم ، قاله مجاهد .
وقال الحسن معنى قوله : { لِوَاذاً } أي فراراً من الجهاد ، ومنه قول حسان ابن ثابت :
وقريش تجول منكم لواذاً ... لم تحافظ وخفّ منها الحلوم
{ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ } فيه قولان
: أحدهما : يخالفون عن أمر الله ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قاله قتادة .
ومعنى قوله : { يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ } أي يعرضون عن أمره ، وقال الأخفش : { عَنْ } في هذا الموضع زائدة ومعنى الكلام فليحذر الذين يخالفون أمره ، وسواء كان ما أمرهم به من أمور الدين أو الدنيا .
{ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ } فيها ثلاثة تأويلات
: أحدها : كفر ، قاله السدي .
الثاني : عقوبة ، قاله ابن كامل .
الثالث : بلية تُظْهِرُ ما في قلوبهم من النفاق ، حكاه ابن عيسى .
{ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } فيه قولان
: أحدهما : القتل في الدنيا ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : عذاب بجهنم في الآخرة .
تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا (3)

قوله تعالى : { تَبَارَكَ . . . . } في تبارك ثلاثة أوجه
: أحدها : تفاعل مع البركة ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنه الذي يجيىء البركة من قِبَلِهِ ، قاله الحسن .
الثالث : خالق البركة : قاله إبراهيم .
وفي البركة ثلاثة أقاويل :
أحدها : العلو . الثاني : الزيادة .
الثالث : العظمة . فيكون تأويله على الوجه الأول : تعالى ، وعلى الوجه الثاني تزايد ، وعلى الوجه الثالث : تعاظم .
و { الْفُرْقَانَ } هو القرآن وقيل إنه اسم لكل كتاب منزل كما قال تعالى :
{ وَإِذ ءَاتَينَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفَرْقَانَ } وفي تسميته فرقاناً وجهان :
أحدهما : لأنه فرق بين الحق والباطل .
الثاني : لأن فيه بيان ما شرع من حلال وحرام ، حكاه النقاش .
{ عَلَى عَبْدِهِ } يعني محمداً صلى الله عليه وسلم ، وقرأ ابن الزبير { عَلَى عِبَادِهِ } بالجمع
. { لِيَكُونَ لِلْعَالَمينَ نَذِيراً } فيه قولان
: أحدهما : ليكون محمد نذيراً ، قاله قتادة ، وابن زيد .
الثاني : ليكون الفرقان ، حكاه ابن عيسى . والنذر : المحذر من الهلاك ، ومنه قول الشاعر :
فلما تلاقينا وقد كان منذر . ... . نذيراً فلم يقبل نصيحة ذي النذر
والمراد بالعالمين هنا الإِنس والجن لأن النبي صلى الله عليه قد كان رسولاً إليهما ونذيراً لهما وأنه خاتم الأنبياء ، ولم يكن غيره عامّ الرسالة إلا نوحاً فإنه عم برسالته جميع الإِنس بعد الطوفان لأنه بدأ به الخلق ، واختلف في عموم رسالته قبل الطوفان على قولين :
أحدهما : عامة لعموم العقاب بالطوفان على مخالفته في الرسالة .
الثاني : خاصة بقومه لأنه ما تجاوزهم بدعائه .
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4) وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (6)

قوله تعالى : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ } يعني مشركي قريش ، وقال ابن عباس : القائل منهم ذلك النضر بن الحارث .
{ إِن هذَآ } يعني القرآن
. { إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ } أي كذب اختلقه
. { وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ ءَاخَرُونَ } وفيمن زعموا أنه أعانه عليه أربعة أقاويل
: أحدها : قوم من اليهود ، قاله مجاهد .
الثاني : عبد الله الحضرمي ، قاله الحسن .
الثالث : عدّاس غلام عتبة ، قاله الكلبي .
والرابع : أبو فكيهة الرومي ، قاله الضحاك .
وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (9) تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا (10) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا (11) إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12) وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13) لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (14)

قوله تعالى : { وَقَالُواْ مَا لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ } فيه وجهان :
أحدهما : أنهم قالوا ذلك إزراء عليه أنه لما كان مثلهم محتاجاً إلى الطعام ومتبذلاً في الأسواق لم يجز أن يتميز عليهم بالرسالة ووجب أن يكون مثلهم في الحكم .
الثاني : أنهم قالوا ذلك استزادة له في الحال كما زاد عليهم في الاختصاص فكان يجب ألاّ يحتاج إلى الطعام كالملائكة ، ولا يتبذل في الأسواق كالملوك .
ومرادهم في كلا الوجهين فاسد من وجهين :
أحدهما : أنه ليس يوجب اختصاصه بالمنزلة نقله عن موضع الخلقة لأمرين :
أحدهما : أن كل جنس قد يتفاضل أهله في المنزلة ولا يقتضي تمييزهم في الخلقة كذلك حال من فضل في الرسالة .
الثاني : أنه لو نقل عن موضوع الخلقة بتمييزه بالرسالة لصار من غير جنسهم ولما كان رسولاً منهم ، وذلك مما تنفر منه النفوس .
وأما الوجه الثاني : فهو أن الرسالة لا تقتضي منعه من المشي في الأسواق لأمرين :
أحدهما : أن هذا من أفعال الجبابرة وقد صان الله رسوله عن التجبر .
الثاني : لحاجته لدعاء أهل الأسواق إلى نبوته ، ومشاهدة ما هم عليه من منكر يمنع منه ومعروف يقر عليه .
{ لَوْلآَ أُنزِلَ إِلَيهِ } الآية أي هلا أُنزل إليه { مَلَكٌ . . . } وفيه وجهان
: أحدهما : أن يكون الملك دليلاً على صدقه .
الثاني : أن يكون وزيراً له يرجع إلى رأيه .
{ أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ } فلا يكون فقيراً
. { أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا } والجنة البستان فكأنهم استقلّوه لفقره . قال الحسن : والله ما زَوَاهَا عن نبيه إلا اختياراً ولا بسطها لغيره إلا اغتراراً ولوا ذاك لما أعاله .
قوله : { وَقَالَ الظَّالِمُونَ } يعني مشركي قريش وقيل إنه عبد الله بن الزبعرى .
{ إِن تَبَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً } فيه وجهان
: أحدهما : سحر فزال عقله .
الثاني : أي سَحَرَكُمْ فيما يقوله .
قوله تعالى : { انظُرْ كَيفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأَمْثَالَ } يعني ما تقدم من قولهم .
{ فَضَلُّواْ } فيه وجهان
: أحدهما : فضلواْ عن الحق في ضربها .
الثاني : فناقضوا في ذكرها لأنهم قالوا افتراه ثم قالوا تملى عليه وهما متناقضان .
{ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : مخرجاً من الأمثال التي ضربوها ، قاله مجاهد .
الثاني : سبيلاً إلى الطاعة لله ، قاله السدي .
الثالث : سبيلاً إلى الخير ، قاله يحيى بن سلام .
قوله تعالى : { وَإِذَا أُلْقُواْ مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً } قال عبد الله بن عمرو : إن جهنم لتضيق على الكافرين كضيق الزج على الرمح .
{ مُّقَرَّنِينَ } فيه وجهان
: أحدهما : مُكَتَفِينَ ، قاله أبو صالح .
الثاني : يقرن كل واحد منهم إلى شيطانه ، قاله يحيى بن سلام .
{ دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً } فيه ثلاثة أوجه
: أحدهما : ويلاً ، قاله ابن عباس .
الثاني : هلاكاً ، قاله الضحاك .
الثالث : معناه وانصرافاه عن طاعة الله ، حكاه ابن عيسى وروي النبي صلى الله عليه السلام أنه قال : « أَوَّلُ مَن يَقُولُهُ إِبْلِيسُ
»
قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا (15) لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا (16)

قوله تعالى : { لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ } يعني من النعيم فأما المعاصي فتصرف عن شهواتهم .
{ خَالِدِينَ } يعني في الثواب كخلود أهل النار في العقاب
. { كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْداً مَّسْئُولاً } فيه ثلاثة أوجه
: أحدهما : أنه وعد الله لهم بالجزاء فسألوه الوفاء فوفاه ، وهو معنى قول ابن عباس .
الثاني : الملائكة تسأل الله لهم فيجابون إلى مسألتهم ، وهو معنى قول محمد بن كعب القرظي .
الثالث : أنه سألوا الله الجنة في الدنيا ورَغِبُوا إليه بالدعاء فأجابهم في الآخرة إلى ما سألوا وأعطاهم ما طلبوا ، وهو معنى قول زيد بن أسلم .
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا (18) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا (19)

قوله تعالى : { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُم } فيه قولان :
أحدهما أنه حَشْرُ الموت ، قاله مجاهد .
الثاني : حشر البعث ، قاله ابن عباس .
{ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ } قاله مجاهد : هم عيسى وعزير والملائكة . { فَيَقُولُ أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هؤُلآءِ } وهذا تقرير لإِكذاب من ادّعى ذلك عليهم وإن خرج مخرج الاستفهام .
وفيمن قال له ذلك القول قولان :
أحدهما أنه يقال هذا للملائكة ، قاله الحسن .
الثاني : لعيسى وعزير والملائكة ، قاله مجاهد .
{ أَمْ هُمْ ضَلُّواْ السَّبِيلَ } أي أخطأوا قصد الحق بأجابوا بأن
: { قَالُواْ سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَن نَتَّخذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيآءَ } فيه وجهان :
أحدهما ما كنا نواليهم على عبادتنا .
الثاني : ما كنا نتخذهم لنا أولياء .
{ وَلكن مَّتَّعْنَهُمْ وَءَابَاءَهُمْ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : متعهم بالسلامة من العذاب ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : بطول العمر ، حكاه النقاش .
الثالث : بالأموال والأولاد .
{ حَتَّى نَسُواْ الذِكْر } فيه ثلاثة أقاويل
: أحدها : حتى تركوا القرآن ، قاله ابن زيد .
الثاني : حتى غفلوا عن الطاعة .
الثالث : حتى نسوا الإِحسان إليهم والإِنعام عليهم .
{ وََكَانَوا قَوْماً بُوراً } فيه ثلاثة تأويلات
: أحدها : يعني هلكى ، قاله ابن عباس ، مأخوذ من البوار وهو الهلاك .
الثاني : هم الذين لا خير فيهم ، قاله الحسن مأخوذ من بوار الأرض وهو تعطلها من الزرع فلا يكون فيها خير .
الثالث : أن البوار الفساد ، قاله شهر بن حوشب وقتادة ، مأخوذ من قولهم بارت إذا كسدت كساد الفاسد ومنه الأثر المروي : نعوذ بالله من بوار الأيم ، وقال عبد الله بن الزِبعرى :
يا رسول المليك إن لساني . ... . راتق ما فتقت إذ أنا بُور
{ فقد كذبوكُم بما تقولون } فيه قولان : أحدهما : أن الملائكة والرسل قد كذبوا الكفار فيما يقولون أنهم اتخذوهم أولياء من دونه ، قاله مجاهد .
الثاني : أن المشركين كذبوا المؤمنين فيما يقولونه من نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، قاله ابن زيد .
{ فَمَا يَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلاَ نَصْراً } فيه أربعة أوجه
: أحدها : صرف العذاب عنهم ولا ينصرون أنفسهم ، قاله ابن زيد .
الثاني : فما يستطيعون صرف الحجة عنهم ولا نصراً على آلهتهم في تعذيبهم ، قاله الكلبي .
الثالث : فما يستطيعون صرفك يا محمد عن الحق ولا نصر أنفسهم من عذاب التكذيب ، حكاه عيسى .
الرابع : أن الصرف الحيلة حكاه ابن قتيبة والصرف الحيلة مأخوذ من قولهم إنه ليتصرف أي يحتال .
وأما قولهم لا يقبل منهم صرف ولا عَدْل ففيه وجهان :
أحدهما : أن الصرف : النافلة ، والعَدل : الفريضة .
الثاني : أن الصرف : الدية ، والعَدل : القود .
وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20)

قوله تعالى : { وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ } فيه أربعة أقاويل
: أحدها : أنه افتتان الفقير بالغني أن يقول لو شاء الله لجعلني مثله غنياً والأعمى بالبصير أن يقول لو شاء لجعلني مثله بصيراً ، والسقيم بالصحيح أن يقول لو شاء لجعلني مثله صحيحاً ، قاله الحسن .
الثاني : فتنة بالعدوان في الدين ، حكاه ابن عيسى .
الثالث : أن الفتنة صبر الأنبياء على تكذيب قومهم ، قاله يحيى بن سلام .
الرابع : أنها نزلت حين أسلم أبو ذر الغفاري وعمار وصهيب وبلال وعامر بن فهيرة وسلام مولى أبي حذيفة وأمثالهم من الفقراء الموالي فقال المستهزئون من قريش : انظروا إلى أتباع محمد من فقرائنا وموالينا فنزلت فيهم الآية ، حكاه النقاش .
وفي الفتنة هنا وجهان :
أحدهما : البلاء .
والثاني : الاختبار .
{ أَتَصْبِرُونَ } يعني على ما مُحِنْتُمْ به من هذه الفتنة ، وفيه اختصار وتقديره أم لا تصبرون .
{ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً } قال ابن جريج : بصيراً بما يصبر ممن يجزع .
ويحتمل وجهاً آخر : بصيراً بالحكمة فيما جعل بعضكم لبعض فتنة .
وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا (22) وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23) أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (24)

قوله تعالى : { وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءِنَا } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : لا يخافون ولا يخشون ، قاله السدي ، ومنه قول الشاعر :
إذا لسعته النحل لم يرج لسعها ... وخالفها في بيت نوب عوامل
أي لم يخش . الثاني : لا يبالون ، قاله ابن عمير ، وأنشد لخبيب .
لعمرك ما أرجوا إذا كنت مسلماً ... على أي حال كان في الله مصرعي
أي ما أبالي .
الثالث : لا يأملون ، حكاه ابن شجرة وأنشد قول الشاعر :
أترجو أمة قتلت حسينا ... شفاعة جَدِّه يوم الحسابِ
{ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلاَئِكَةُ } فيه قولان
: أحدهما : ليخبرونا أن محمداً نبي قاله يحيى بن سلام .
الثاني : ليكونوا رسلاً إلينا من ربهم بدلاً من رسالة محمد صلى الله عليه وسلم .
{ أَوْ نَرَى رَبَّنَا } فيأمرنا باتباع محمد وتصديقه
. { لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِم } فيه وجهان
: أحدهما : تكبرواْ في أنفسهم لما قل في أعينهم من إرسال محمد صلى الله عليه وسلم نبياً إليهم .
الثاني : استكبروا في أنفسهم بما اقترحوه من رؤية الله ونزول الملائكة عليهم .
{ وَعَتَوْ عُنُوّاً كَبِيراً } فيه خمسة أوجه
: أحدها : أنه التجبر ، قاله عكرمة .
الثاني : العصيان ، قاله يحيى بن سلام .
الثالث : أنه السرف في الظلم ، حكاه ابن عيسى .
الرابع : أنه الغلو في القول ، حكاه النقاش .
الخامس : أنه شدة الكفر ، قاله ابن عباس .
قيل إن هذه الآية نزلت في عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة ومكرز بن حفص بن الأخنف في جماعة من قريش قالوا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا .
فنزل فيهم قوله تعالى :
{ يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلاَئِكَةَ } فيه قولان
: أحدهما : عند الموت ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : يوم القيامة ، قاله مجاهد .
{ لاَ بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمينَ } يعني بالجنة ، قاله عطية العوفي : إذا كان يوم القيامة يلقى المؤمن بالبشرى فإذا رأى الكافر ذلك تمناه فلم يره من الملائكة .
{ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَّحْجُوراً } فيه ثلاث أوجه
: أحدها : معناه معاذ الله أن تكون لكم البشرى يومئذ ، قاله مجاهد .
الثاني : معناه : منعنا أن نصل إلى شيء من الخير ، قاله عكرمة .
الثالث : حراماً محرماً أن تكون لكم البشرى يومئذ ، قاله أبو سعيد الخدري ، والضحاك ، وقتادة ومنه قول الملتمس :
حَنّتْ إلى النخلة القصوى فقلت لها ... حجْرٌ حرام إلا تلك الدهاريس .
وفي القائلين حجراً محجوراً قولان
: أحدهما : أنهم الملائكة قالوه للكفار ، قاله الضحاك .
الثاني : أنهم الكفار قالوه لأنفسهم ، قاله قتادة .
قوله تعالى { وَقَدِمْنآ } أي عمدنا ، قاله مجاهد ، قال الراجز :
وقدم الخوارج الضلال ... إلى عباد ربهم فقالوا
إن دماءَكم لنا حلال ... { إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ } فيه قولان
: أحدهما : من عمل خيراً لا يتقبل منهم لإِحباطه بالكفر ، قاله مجاهد .
الثاني : من عمل صالحاً لا يراد به وجه الله ، قاله ابن المبارك .
{ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُوراً } فيه خمسة أقاويل
: أحدها : أنه رهج الدواب ، قاله علي بن أبي طالب .

الثاني : أنه كالغبار يكون في شعاع الشمس إذا طلعت في كوة ، قاله الحسن ، وعكرمة .
الثالث : أنه ما ذرته الرياح من يابس أوراق الشجر ، قاله قتادة .
الرابع : أنها الماء المراق ، قاله ابن عباس .
الخامس : أنه الرماد ، قاله عبيد بن يعلى .
قوله تعالى : { أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَراً } يعني منزلاً في الجنة من مستقر الكفار في النار .
{ وَأَحْسَنُ مَقِيلاً } فيه أربعة أوجه
: أحدها : أنه المستقر في الجنة والمقيل دونها ، قاله أبو سنان .
الثاني : أنه عنى موضع القائلة للدعة وإن لم يقيلواْ ، ذكره ابن عيسى .
الثالث : أنه يقيل أولياء الله بعد الحساب على الأسرة مع الحور العين ، ويقيل أعداء الله مع الشياطين المقرنين ، قاله ابن عباس .
الرابع : لأنه يفرغ من حسابهم وقت القائلة وهو نصف النهار ، فذلك أحسن مقيلاً ، من مقيل الكفار ، قاله الفراء .
وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (26) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29)

قوله تعالى : { وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَآءُ بِالْغَمَامِ } فيه قولان
: أحدهما : بمعنى على الغمام كما يقال رميت بالقوس وعن القوس ويكون المراد به الغمام المعهود والذي دون السماء لأنه يبقى دونها إذا انشقت غمام .
والقول الثاني : أنه غمام أبيض يكون في السماء ينزله الله على أنبيائه مثل الذي أظل بني إسرائيل ، وقد قال في ظل من الغمام فتنشق السماء فيخرج منها .
{ وَنُزِّلَ الْمَلاَئِكَةُ تَنزِيلاً } يعني أن الملائكة تنزل فيه يوم القيامة ، وهو يوم التلاق . الذي يلتقي فيه أهل السماء وأهل الأرض .
وفي نزولهم قولان :
أحدهما : ليبشروا المؤمن بالجنة ، والكافر بالنار .
الثاني : ليكون مع كل نفس سائق وشهيد .
قوله تعالى : { وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ } قيل هو عقبة بن أبي معيط .
{ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : سبيلاً بطاعة الله ، قاله قتادة .
الثاني : طريقاً إلى النجاة ، حكاه ابن عيسى .
الثالث : وسيلة عند الرسول يكون وصلة إليه ، قاله الأخفش .
{ يَا وَيْلَتِي لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً } فيه ثلاثة أقاويل
: أحدها : يعني الشيطان ، قاله مجاهد ، وأبو رجاء .
الثاني : أنه أبي بن خلف ، قاله عمرو بن ميمون .
الثالث : أنه أمية بن خلف ، قاله السدي ، وذكر أن سبب ذلك أن عقبة وأمية كانا خليلين وكان عقبة يغشى مجلس النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال أمية بن خلف له : بلغني أنك صبوت إلى دين محمد ، فقال ما صبوت ، قال : فوجهي من وجهك حرام حتى تأتيه فتتفُل في وجهه وتتبرأ منه فأتى عقبة رسول الله صلى الله عليه وسلم فتفل على جهه وتبرأ منه ، فاشتد ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله فيه مخبراً عما يصير إليه { وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالمُ . . . } الآية والتي بعدها . وفلانٌ لا يُثنى ولا يُجمْع .
وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31)

قوله تعالى : { وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُواْ هَذَا الْقُرَءَانَ مَهْجُوراً } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنهم هجروه بإعراضهم عنه فصار مهجوراً ، قاله ابن زيد .
الثاني : أنهم قالوا فيه هجراً أي قبيحاً ، قاله مجاهد .
الثالث : أنهم جعلوه هجراً من الكلام وهو ما لا نفع فيه من العبث والهذيان ، قاله ابن قتيبة .
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32) وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا (34)

قوله تعالى : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْءَانُ جُمْلَةً وَاحِدَةً } في قائل ذلك من الكفار قولان :
أحدهما : أنهم كفار قريش ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنهم اليهود حين رأوا نزول القرآن مفرقاً ، قالوا : هلا أُنزِل عليه جملة واحدة ، كما أنزلت التوراة على موسى .
{ كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ } فيه وجهان
: أحدهما : لنشجع به قلبك ، لأنه معجز يدل على صدقك ، وهو معنى قول السدي .
الثاني : معناه كذلك أنزلناه مفرقاً لنثبته في فؤادك .
وفيه وجهان :
أحدهما : لأنه كان أمياً ولم ينزل القرآن عليه مكتوباً ، فكان نزوله مفرقاً أَثبتَ في فؤاده ، وأَعلَقَ بقلبه .
الثاني : لنثبت فؤادك باتصال الوحي ومداومة نزول القرآن ، فلا تصير بانقطاع الوحي مستوحشاً .
{ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً } فيه خمسة تأويلات
: أحدها : ورسلناه ترسيلاً ، شيئاً بعد شيء ، قاله ابن عباس .
الثاني : وفرقناه تفريقاً ، قاله إبراهيم .
الثالث : وفصلناه تفصيلاً ، قاله السدي .
الرابع : وفسرناه تفسيراً ، قاله ابن زيد .
الخامس : وبينَّاه تبييناً ، قاله قتادة .
روي عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يَا ابْنَ عَبَّاسِ إِذَا قَرَأْتَ القُرْآنَ فَرِتّلْهُ تَرْتِيلاً » فقلت وما الترتيل؟ ، قال : « بَيِّنْهُ تَبْييناً وَلاَ تَبْتُرْهُ بَتْرَ الدقلِ ، وَلاَ تهذه هذّ الشِّعرِ وَلاَ يَكُونُ هَمَّ أَحدِكُم آخِرَ السُّورَةِ
» .
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا (35) فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا (36) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (38) وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا (39) وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا (40)

قوله تعالى : { وَأَصْحَابَ الرَّسِّ } فيه أربعة أقاويل
: أحدها : أن الرس المعدن ، قاله أبو عبيدة . الثاني : أنه قرية من قرى اليمامة يقال له الفج من ثمود ، قاله قتادة .
الثالث : أنه ما بين نجران واليمن إلى حضرموت ، قاله بعض المفسرين .
الرابع : أنه البئر .
وفيها ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه بئر بأذربيجان ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنها البئر التي قتل فيها صاحب ياسين بأنطاكية الشام حكاه النقاش .
الثالث : أن كل بئر إذا حفرت ولم تطو فهي رس قال زهير :
بكرن بكوراً واستحرن بسحرة ... فهن ووادي الرس كاليد في الفم
وفي أصحاب الرس أربعة أقاويل
: أحدها : أنهم قوم شعيب ، حكاه بعض المفسرين .
الثاني : أنهم قوم رسوا نبيهم في بئر ، قاله عكرمة .
الثالث : أنهم قوم كانوا نزولاً على بئر يعبدون الأوثان ، وكانوا لا يظفرون بأحد يخالف دينهم إلا قتلوه ورسوه فيها ، وكان الرس بالشام ، قاله الضحاك .
الرابع : أنهم قوم أرسل الله إليهم نبياً فأكلوه وهم أول من عمل نساؤهم السحر ، قاله الكلبي .
قوله تعالى : { وَلَقَدْ أَتَوْاْ عَلَى الْقَرْيَةِ } وهي سدوم قرية لوط .
{ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءٍ } الحجارة التي أُمطِرُوا بها ، والذين أتوا عليها قريش .
{ أَفَلَمْ يَكُونُواْ يَرَوْنَهَا } أي يعتبرون بها
. { بَلْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ نَشُوراً } أي لا يخافون بعثاً .
وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41) إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا (42) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)

قوله تعالى : { أَرَءَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَههُ هَوَاهُ } فيه ثلاثة أقاويل
: أحدها : أنهم قوم كان الرجل منهم يعبد حجراً يستحسنه ، فإذا رأى أحسن منه عبده وترك الأول ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنه الحارث بن قيس كان إذا هوى شيئاً عبده ، حكاه النقاش .
الثالث : أنه الذي يتبع هواه في كل ما دعا إليه ، قاله الحسن ، وقتادة .
{ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً } فيه أربعة أوجه
: أحدها : يعني ناصراً ، قاله قتادة .
الثاني : حفيظاً ، قاله يحيى بن سلام .
الثالث : كفيلاً قاله الكلبي .
الرابع : مسيطراً ، قاله السّدي .
أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45) ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا (46) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (47)

قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ } أي بسطه على الأرض وفيه وجهان :
أحدهما : أن الظل الليل لأنه ظل الأرض يقبل بغروب الشمس ويدبر بطلوعها .
الثاني : أنه ظل النهار بما حجب من شعاع الشمس .
وفي الفرق بين الظل والفيء وجهان :
أحدهما : أن الظل ما قبل طلوع الشمس والفيء ما بعد طلوعها .
الثاني : أن الظل ما قبل الزوال والفيء ما بعده .
{ ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا } يعني الظل ، وفيه وجهان
: أحدهما : أنه قبض الظل بطلوع الشمس .
الثاني : بغروبها .
{ قَبْضاً يَسِيراً } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : سريعاً ، قاله ابن عباس .
الثاني : سهلاً ، قاله أبو مالك .
الثالث : خفياً ، قاله مجاهد .
قوله تعالى : { . . . جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاساً } يعني غطاءً لأن يَسْتُرُ كمَا يستر اللباس .
{ وَالنَّوْمَ سُبَاتاً } فيه وجهان
: أحدهما : لأنه مسبوت فيه ، والنائم لا يعقل كالميت ، حكاه النقاش .
الثاني : يعني راحة لقطع العمل ومنه سمي يوم السب ، لأنه يوم راحة لقطع العمل ، حكاه ابن عيسى .
{ وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً } فيه وجهان
: أحدهما : لانتشار الروح باليقظة فيه مأخوذ من النشر والبعث .
الثاني : لانتشار الناس في معايشهم ، قاله مجاهد ، وقتادة .
وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49) وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (50)

قوله تعالى : { وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ } قال أبي بن كعب كل شيء في القرآن من الرياح فهو رحمة ، وكل شيء في القرآن من الريح فهو عذاب .
وقيل : لأن الرياح جمع وهي الجنوب والشمال والصبا لأنها لواقح ، والعذاب ريح واحدة وهي الدبور لأنها لا تلقح .
{ بُشْراً } قرئت بالنون وبالباء فمن قرأ بالنون ففيه وجهان
: أحدهما : أنه نشر السحاب حتى يمطر .
الثاني : حياة لخلقه كحياتهم بالنشور .
ومن قرأ { بُشْراً } بالباء ففيه وجهان :
أحدهما لأنها بشرى بالمطر .
الثاني : لأن الناس يستبشرون بها .
{ بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ } يعني المطر لأنه رحمة من الله لخلقه ، وتأوله بعض أصحاب الخواطر يرسل رياح الندم بين يدي التوبة .
{ وَأَنزَلْنَا السَّمِآءِ مَآءً طَهُوراً } فيه تأويلان
: أحدهما : طاهراً ، قاله أبو حنيفة ولذلك جوز إزالة النجاسات بالمائعات الطاهرات .
الثاني : مطهراً ، قاله الشافعي ولذلك لم يجوز إزالة النجاسة بمائع سوى الماء .
{ لِّنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً } وهي التي لا عمارة فيها ولا زرع ، وإحياؤها يكون بنبات زرعها وشجرها ، فكما أن الماء يطهر الأبدان من الأحداث والأنجاس ، كذلك الماء يطهر الأرض من القحط والجدب .
{ وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنآ أَنْعَاماً وَأنَاسِيَّ كَثِيراً } فجمع بالماء حياة النبات والحيوان وفي الأناسي وجهان :
أحدهما : أنه جمع إنسي .
الثاني : جمع إنسان .
قوله تعالى : { وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ } فيه وجهان :
أحدهما : أنه الفرقان المذكور في أول السورة .
الثاني : أراد الماء الذي أنزله طهوراً .
وفيه وجهان :
أحدهما : يعني قسمنا المطر فلا يدوم على مكان ، فيهلك ولا ينقطع عن مكان ، فيهلك ، وهو معنى قول قتادة .
الثاني : أنه يصرفه في كل عام من مكان إلى مكان ، قال ابن عباس ليس عام بأمطر من عام ، ولكن الله يصرفه بين عباده .
{ لِيَذَّكَّرُوا } يحتمل وجهين
: أحدهما : ليتذكروا النعمة بنزوله .
الثاني : ليتذكروا النعمة بانقطاعه .
{ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسَ إِلاَّ كُفُوراً } قال عكرمة : هو قولهم مطرنا بالأنواء . روى الربيع بن صبيح قال : أمطر الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فلما أصبح قال النبي صلى الله عليه وسلم : « أَصْبَحَ النَّاسُ فِيهَا بَيْنَ رَجْلَينِ شَاكِرٍ وَكَافِرٍ ، فَأَمَّا الشَّاكِرُ فَيحْمِدُ اللَّهَ عَلَى سُقْياهُ وَغِيَاثِهِ وَأَمَّا الكَافِرُ فَيقُولُ مطرنَا بِنَوءِ كَذَا وَكَذَا
» .
وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51) فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52) وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (53) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (54)

قوله تعالى : { فَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ } يعني إلى ما يدعونك إليه : إما من تعظيم آلهتهم ، وإما من موادعتهم .
{ وَجَاهِدْهُم بِهِ } فيه وجهان
: أحدهما : بالقرآن .
الثاني : بالإِسلام .
{ جِهَاداً كَبِيراً } فيه وجهان
: أحدهما : بالسيف .
الثاني : بالغلظة .
قوله تعالى : { وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَينِ } فيه وجهان :
أحدهما : هو إرسال أحدهما إلى الآخر ، قاله الضحاك .
الثاني : هو تخليتها ، حكاه النقاش وقال الأخفش مأخوذ من مَرَجْتَ الشيء إذا خليته ، وَمَرَجَ الوالي الناس إذا تركهم ، وأمرجت الدابّة إذا خليتها ترعى ، ومنه قول العجاج .
« رَعى بها مَرْج ربيع ممرجاً » ... وفي البحرين ثلاثة أقاويل
: أحدها : بحر السماء وبحر الأرض ، وهو قول سعيد ، ومجاهد .
الثاني : بحر فارس والروم ، وهو قول الحسن .
الثالث : بحر العذب وبحر المالح . { هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ } قال عطاء
: الفرات : العذب ، وقيل هو أعذب العذب .
وفي الأجاج : ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه المالح ، وهو قول عطاء ، وقيل : هو أملح المالح .
الثاني : أنه المر ، وهو قول قتادة .
والثالث : أنه الحار المؤجج ، مأخوذ من تأجج النار ، وهو قول ابن بحر .
{ وََجَعلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً } فيه ثلاثة أقويل
: أحدها : حاجز من البر ، وهو قول الحسن ، ومجاهد .
الثاني : أن البرزخ : التخوم ، وهو قول قتادة .
والثالث : أنه الأجل ما بين الدنيا والآخرة ، وهو قول الضحاك .
{ وَحِجْراً مَّحْجُوراً } أي مانعاً لا يختلط العذب بالمالح ، ومنه قول الشاعر :
فَرُبّ في سُرادقٍ محجورِ ... سرت إليه من أعالي السور
محجور أي ممنوع
. وتأول بعض المتعمقين في غوامض المعاني أن مرج البحرين قلوب الأبرار مضيئة بالبر ، وهو العذب ، وقلوب الفجار مظلمة بالفجور وهو الملح الأجاج ، وهو بعيد .
قوله عز وجل : { وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَراً } يعني من النطفة إنساناً .
{ فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً } فالنسب مِن تناسُب كل والد وولد ، وكل شيء أضفته إلى شيء عرفته به فهو مناسِبُهُ .
وفي الصهر وجهان :
أحدهما : أنه الرضاع وهو قول طاووس .
الثاني : أنه المناكح وهو معنى قول قتادة ، وقال الكلبي : النسب من لا يحل نكاحه من القرابة ، والصهر من يحل نكاحه من القرابة وغير القرابة .
وأصل الصهر الاختلاط ، فسميت المناكح صهراً لاختلاط الناس بها ، ومنه قوله تعالى : { يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُوِهِم } [ الحج : 20 ] وقيل إن أصل الصهر الملاصقة .
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (56) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (57) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (58) الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا (60)

قوله عز وجل : { . . . وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبّهِ ظَهِيراً } فيه وجهان
: أحدهما : عوناً ، مأخوذ من المظاهر وهي المعونة ، ومعنى قوله { عَلَى رَبِّهِ } أي على أولياء ربه .
الثاني : هيناً ، مأخوذ من قولهم ظهر فلان بحاجتي إذا تركها واستهان بها قال تعالى : { وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُم ظِهْريّاً } [ هود : 92 ] أي هيناً ، ومنه قول الفرزدق :
تميم بن زيد لا تكونن حاجتي ... بظهرٍ فلا يعيا عَلَيّ جوابها
قيل إنها نزلت في أبي جهل
. قوله عز وجل : { وَإِذَا قِيل لَهُمُ اسْجُدُواْ لِلرَّحْمَن قَالُواْ وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأَمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن العرب لم تكن تعرف الرحمن في أسماء الله تعالى : وكان مأخوذاً من الكتاب فلما دعوا إلى السجود لله تعالى بهذا الاسم سألواْ عنه مسألة الجاهل به فقالواْ { وَمَا الرَّحْمَن أَنَسْجُدُ لِمَا تَأَمْرُنَا } .
الثاني : أن مسيلمة الكذاب كان يسمى الرحمن ، فلما سمعوا هذا الاسم في القرآن حسبوه مسيلمة ، فأنكروا ما دعوا إليه من السجود له .
والثالث : أن هذا قول قوم كانواْ يجحدون التوحيد ولا يقرون بالله تعالى ، فلما أمروا أن يسجدوا للرحمن ازدادوا نفوراً مع هواهم بما دعوا إليه من الإيمان ، وإلا فالعرب المعترفون بالله الذين يعبدون الأصنام لتقربهم إلى الله زلفى كانوا يعرفون الرحمن في أسمائه وأنه اسم مسمى من الرحمة يدل على المبالغة في الوصف ، وهذا قول ابن بحر .
تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62)

قوله عز وجل : { تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَآءِ بُرُوجاً } فيها أربعة أوجه
: أحدها : أنها النجوم العظام ، وهو قول أبي صالح .
الثاني : أنها قصور في السماء فيها الحرس ، وهو قول عطية العوفي .
الثالث : أنها مواضع الكواكب .
والرابع : أنها منازل الشمس ، وقرىء بُرجاً ، قرأ بذلك قتادة ، وتأوله النجم .
{ وَقَمَراً مُّنِيراً } يعني مضيئاً ، ولذا جعل الشمس سراجاً والقمر منيراً ، لأنه لما اقترن بضياء الشمس وهَّج حرّها جعلها لأجل الحرارة سراجاً ، ولما كان ذلك في القمر معدوماً جعله نوراً .
{ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَار خِلْفَةً } فيه ثلاثة تأويلات : أحدها : أنه جعل ما فات من عمل أحدهما خلفة يقضي في الآخر ، قاله عمر ابن الخطاب والحسن .
الثاني : أنه جعل كل واحد منهما مخالفاً لصاحبه فجعل أحدهما أبيض والآخر أسود ، قاله مجاهد .
الثالث : أن كل واحد منهما يخلف صاحبه إذا مضى هذا جاء هذا ، قاله ابن زيد ومنه قول زهير :
بها العين والآرام يمشين خلفة ... وأطلاؤها ينهضن من كل مجثم
{ لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ } أي يصلي بالنهار صلاة الليل ويصلي بالليل صلاة النهار .
{ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً } هو النافلة بعد الفريضة ، وقيل نزلت هذه الآية في عمر بن الخطاب رضي الله عنه .
وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66) وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67)

قوله تعالى : { وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً } فيه أربعة أقاويل :
أحدها : علماء وكلماء ، قاله ابن عباس .
الثاني : أعفاء أتقياء ، قاله الضحاك .
الثالث : بالسكينة والوقار ، قاله مجاهد .
الرابع : متواضعين لا يتكبرون ، قاله ابن زيد .
{ وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً } الجاهلون فيهم قولان
: أحدهما : أنهم الكفار .
الثاني : السفهاء .
{ قَالُواْ سَلاَماً } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : قالوا سداداً ، قاله مجاهد لأنه قول سليم .
الثاني : قالوا وعليك السلام ، قاله الضحاك .
الثالث : أنه طلب المسالمة ، قاله ابن بحر .
قوله تعالى : { إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً } فيه أربعة أوجه :
أحدها : لازماً ، قاله ابن عيسى ، ومنه الغريم لملازمته وأنشد الأعشى :
إن يعاقب يكن غَراماً وإن يع ... طر جزيلاً فإنه لا يبالي
الثاني : شديداً ، قاله ابن شجرة ، ومنه سميت شدة المحنة غراماً قال بشر بن أبي خازم :
ويوم الجفار ويوم النسا ... ر ، كانا عذاباً ، وكان غراما
الثالث : ثقيلاً ، قاله قطرب ، ومنه قوله تعالى : { فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ } [ القلم : 46 ] .
الرابع : أنهم أغرموا بالنعيم في الدنيا عذاب النار ، قال محمد بن كعب : إن الله سأل الكفار عن فأغرمهم فأدخلهم جهنم .
قوله تعالى : { وَالَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : لم ينفقواْ في معصية الله ، والإِسراف النفقة في المعاصي ، قاله ابن عباس .
الثاني : لم ينفقوا كثيراً فيقول الناس قد أسرفوا ، قاله إبراهيم .
الثالث : لا يأكلون طعاماً يريدون به نعيماً ولا يلبسون ثوباً يريدون به جمالاً ، قاله يزيد بن أبي حبيب ، قال : هؤلاء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانت قلوبهم على قلب رجل واحد .
الرابع : لم ينفقوا نفقة في غير حقها فإن النفقة في غير حقها إسراف ، قاله ابن سيرين .
{ وَلَمْ يَقْتُرُواْ } فيه أربعة أوجه
: أحدها : لم يمنعوا حقوق الله فإن منع حقوق الله إقتار ، قاله ابن عباس .
الثاني : لا يعريهم ولا يجيعهم ، قاله إبراهيم .
الثالث : لم يمسكوا عن طاعة الله ، قاله ابن زيد .
الرابع : لم يقصروا في الحق ، قاله الأعمش .
روى معاذ بن جبل قال : لما نزلت هذه الآية سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النفقة في الإسراف والإقتار ما هو ، فقال : من منع من حق فقد قتر ، ومن أعطى في غير حق فقد أسرف .
{ وَكَانَ بَيْنَ ذلِكَ قَوَامَاً } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : يعني عدلاً ، قاله الأعمش .
الثاني : أن القوام : أن يخرجوا في الله شطر أموالهم ، قاله وهب .
الثالث : أن القوام : أن ينفق في طاعة الله ويكف عن محارم الله .
ويحتمل رابعاً : أن القوام ما لم يمسك فيه عزيز ولم يقدم فيه على خطر ، والفرق بين القَوام بالفتح والقِوام بالكسر ، ما قاله ثعلب : أنه بالفتح الاستقامة والعدل ، وبالكسر ما يدوم عليه الأمر ويستقر .
وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71)

قوله تعالى : { وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً ءَاخَرَ } يعني لا يجعلون لله تعالى شريكاً ، ولا يجعلون بينهم وبينه في العبادة وسيطاً .
{ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ } يعني حرم قتلها ، وهي نفس المؤمن والمعاهد
. { إِلاَّ بِالْحَقِّ } والحق المستباح به قتلها ، ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « لاَ يَحِلُّ دَمُ امْرِىءٍ مُسْلِمٍ إِلاَّ بِِإِحْدَى ثَلاَثٍ : كُفرٍ بَعْدَ إِيمَانٍ ، أَوْ زِنىً بَعْدَ إِحْصَانٍ ، أَوْ قَتْل نَفْسٍ بِغَيْرِ نَفْسٍ
» . { وَلاَ يَزْنُونَ } والزنى إتيان النساء المحرمات في قبل أو دبر ، واللواط زنى في أحد القولين وهو في القول الثاني موجب لقتل الفاعل والمفعول به ،
وفي إتيان البهائم ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه كالزنى في الفرق بين البكر والثيب .
الثاني : أنه يوجب قتل البهيمة ومن أتاها للخبر المأثور فيه .
الثالث : أنه يوجب التعزير . فجمع في هذه الآية بين ثلاث من الكبائر الشرك وقتل النفس والزنى ، روى عمرو بن شرحبيل عن ابن مسعود قال : قلت : يا رسول الله ( أو قال غيري ) : أي ذنب أعظم عند الله؟ قال : « أَن تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدّاً وَهُوَ خَلَقَكَ » قال : ثم أي؟ قال : « أَن تَقْتُلَ وَلَدَكَ خِيفَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ » قال : ثم أيّ . ؟ قال : « أَنْ تُزَانِي حَلِيلَةَ جَارِكَ » قال فأنزل الله ذلك .
{ وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ } يعني هذه الثلاثة أو بعضها
. { يَلْقَ أَثَاماً } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : أن الأثام العقوبة قاله بلعام بن قيس :
جزى اللَّه ابن عروة حيث أمسى ... عقوقاً والعقوق له أثام
الثاني : أن الأثام اسم واد في جهنم ، قاله ابن عمر ، وقتادة ، ومنه قول الشاعر :
لقيت المهالك في حربنا ... وبعد المهالك تلقى أثاما
الثالث : الجزاء ، قاله السدي ، وقال الشاعر :
وإن مقامنا ندعو عليكم ... بأبطح ذي المجاز له أثامُ
{ يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : أن المضاعفة عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ، قاله قتادة .
الثاني : أنها الجمع بين عقوبات الكبائر المجتمعة .
الثالث : أنها استدامة العذاب بالخلود .
{ وَيَخْلُدْ فِيهِ } أي يخلد في العذاب بالشرك
. { مُهَاناً } بالعقوبة
. { إِلاَّ مَن تَابَ } يعني من الزنى
. { وَءَامَنَ } يعني من الشرك
. { وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً } يعني بعد السيئات
. { فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ } فيه ثلاثة أقاويل
: أحدها : في الدنيا يبدلهم بالشرك إيماناً ، وبالزنى إحصاناً وبذكر الله بعد نسيانه ، وبطاعته بعد عصيانه ، وهذا معنى قول الحسن ، وقتادة .
الثاني : أنه في الآخرة فيمن غلبت حسناته على سيئاته فيبدل الله السيئات حسنات ، قاله أبو هريرة .
الثالث : أنه يبدل الله عقاب سيئاته إذا تاب منها بثواب حسناته إذا انتقل إليها ، قاله ابن بحر .
{ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً } لما تقدم قبل التوبة
. { رَحِيماً } لما بعدها
. وحكى الكلبي أن وحشياً وهو عبد عتبة بن غزوان كتب بعد وقعة أحد وقَتْلِ حمزة إلى النبي صلى الله عليه وسلم : هل من توبة؟ فإن الله أنزل بمكة إياسي من كل خير { وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً ءَاخَرَ } الآية وإن وحشياً قد فعل هذا كله ، وقد زنى وأشرك وقتل النفس التي حرم الله ، فأنزل الله { إلاَّ مَن تَابَ } أي من الزنى وآمن بعد الشرك وعمل صالحاً بعد السيئات ، فكتب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه فقال وحشي : هذا شرط شديد ولعلي لا أبقى بعد التوبة حتى أعمل صالحاً ، فكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم : هل من شيء أوسع من هذا؟ فأنزل الله

{ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } [ النساء : 48 ، 116 ] ، فكتب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وحشي . فأرسل وحشي إلى النبي صلى الله عليه وسلم : إنى لأخاف أن لا أكون في مشيئة الله ، فأنزل الله في وحشي وأصحابه { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرًُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً } [ الزمر : 53 ] الآية . فبعث بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وحشي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم .
وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74)

قوله تعالى : { وَالَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ } فيه سبعة تأويلات
: أحدها : أنه الشرك بالله ، قاله الضحاك ، وابن زيد .
الثاني : أنه أعياد أهل الذمة وشبهه ، قال ابن سيرين هو الشعانين .
الثالث : أنه الغناء ، قاله مجاهد .
الرابع : مجالس الخنا ، قاله عمرو بن قيس .
الخامس : أنه لعب كان في الجاهلية ، قاله عكرمة .
السادس : أنه الكذب ، قاله ابن جريج ، وقتادة .
السابع : أنه مجلس كان يشتم فيه النبي صلى الله عليه وسلم ، قاله خالد بن كثير .
ويحتمل ثامناً : أنه العهود على المعاصي .
{ وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغوِ مَرُّواْ كِرَاماً } فيه خمسة تأويلات
: أحدها : أنه ما كان يفعله المشركون من أذية المسلمين في أنفسهم وأعراضهم فيعرضوا عنهم وعن أذاهم ، قاله مجاهد .
الثاني : أنهم إذا ذكروا النكاح كَنّوا عنه ، حكاه العوّام .
الثالث : أنهم إذا ذكروا الفروج كَنّوا عنها ، قاله محمد بن علي البافر رحمه الله .
الرابع : أنهم إذا مروا بإفك المشركين ينكروه ، قاله ابن زيد .
الخامس : أن اللغو هنا المعاصي كلها ، ومرهم بها كراماً إِعراضهم عنها ، قاله الحسن .
ويحتمل سادساً : وإذا مروا بالهزل عدلوا عنه إلى الجد .
قوله تعالى : { وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُواْ بِئَايَاتِ رَبِّهِمْ } يحتمل وجهين :
أحدهما : بوعده ووعيده .
الثاني : بأمره ونهيه .
{ لَمْ يخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمَّاً وَعُمْيَاناً } يعني سمعوا الوعظ فلم يصموا عنه وأبصروا الرشد فلم يعموا عنه بخلاف من أصمه الشرك عن الوعظ وأعماه الضلال عن الرشد .
وفي قوله : { لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا } وجهان :
أحدهما : لم يقيموا ، قاله الأخفش .
الثاني : لم يتغافلوا ، قاله ابن قتيبة .
قوله تعالى : { . . . رَبَّنَا لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ } فيه وجهان :
أحدهما : أجعل أزواجنا وذرياتنا قرة أعين ، قاله الكلبي .
الثاني : ارزقنا من أزواجنا ومن ذرياتنا أعواناً { قُرَّةَ أَعْيُنٍ } أي أهل طاعة تقر به أعيننا في الدنيا بالصلاح ، وفي الآخرة بالجنة .
وفي قرة العين وجهان :
أحدهما : أن تصادف ما يرضيهما فتقر على النظر إليه دون غيره .
الثاني : أن القرّ البرد فيكون معناه برّد الله دمعها ، لأن دمعة السرور باردة .
ودمعة [ الحزن ] حارة ، وضد قرة العين سخنة العين ، قاله الأصمعي .
{ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً } فيه خمسة أوجه
: أحدها : أمثالا ، قاله عكرمة .
الثاني : رضاً ، قاله جعفر الصادق .
الثالث : قادة إلى الخير ، قاله قتادة .
الرابع : أئمة هدى يُهْتدى بنا ، قاله ابن عباس .
الخامس : نأتم بمن قبلنا حتى يأتم بنا من بعدنا ، قاله مجاهد .
وفي الآية دليل عل أن طلب الرياسة في الدين ندب .
أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (76) قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77)

قوله تعالى : { أُوْلَئِكَ يُجْزَوُنَ الْغُرْفَةَ } فيها وجهان
: أحدهما : أن الغرفة الجنة ، قاله الضحاك .
الثاني : أنها أعلى منازل الجنة وأفضلها كما أن الغرفة أعلى منازل الدنيا ، حكاه ابن شجرة .
{ بِمَا صَبَرُواْ } فيه وجهان
: أحدهما : بما صبروا عن الشهوات ، قاله الضحاك .
الثاني : بما صبروا على طاعة الله .
{ وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً } فيه وجهان
: أحدهما : يعني بقاء دائماً .
الثاني : ملكاً عظيماً .
{ وَسَلاَماً } فيه وجهان
: أحدهما : أنها جماع السلامة الخير .
الثاني : هو أن يحيي بعضهم بعضاً بالسلام ، قاله الكلبي .
ولأصحاب الخواطر في التحية والسلام وجهان :
أحدهما : التحية على الروح والسلام على الجسد .
الثاني : أن التحية على العقل والسلام على النفس .
قوله تعالى : { قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي } فيه وجهان :
أحدهما : ما يصنع ، قاله مجاهد ، وابن زيد .
الثاني : ما يبالي ، قاله أبو عمرو بن العلاء .
{ لَوْلاَ دُعآؤُكُمْ } فيه وجهان
: أحدهما : لولا عبادتكم وإيمانكم به ، والدعاء العبادة .
الثاني : لولا دعاؤه لكم إلى الطاعة ، قاله مجاهد .
ويحتمل ثالثاً : لولا دعاؤكم له إذا مسكم الضر وأصابكم السوء رغبة إليه وخضوعاً إليه .
{ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ } فيه وجهان
: أحدهما : كذبتم برسلي .
الثاني : قصرتم عن طاعتي مأخوذ من قولهم قد كذب في الحرب إذا قصّر .
{ لِزَاماً } فيه أربعة أوجه
: أحدها : أنه عذاب الدنيا وهو القتل يوم بدر ، قاله ابن مسعود وأُبي .
الثاني : عذاب الآخرة في القيامة ، قاله قتادة .
الثالث : أنه الموت ، قاله محمد بن كعب ، ومنه قول الشاعر :
يولي عند حاجتها البشير ... ولم أجزع من الموت اللزام
الرابع : هو لزوم الحجة في الآخرة على تكذيبهم في الدنيا ، قاله الضحاك ، وأظهر الأوجه أن يكون اللزام الجزاء للزومه ، والله أعلم .
طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (6) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9)

قوله { طسم } فيه أربعة أوجه
: أحدها : أنه اسم من أسماء الله أقسم به ، والمقسم عليه { إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ } ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنه اسم من أسماء القرآن ، قاله قتادة .
الثالث : أنه من الفواتح التي افتتح الله بها كتابه ، قاله الحسن .
الرابع : أنها حروف هجاء مقطعة من أسماء الله وصفاته :
أما الطاء ففيها قولان :
أحدهما : أنها من الطول .
الثاني : أنها من الطاهر .
وأما السين ففيها ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها من القدوس .
الثاني : أنها من السميع .
الثالث : من السلام .
وأما الميم ففيها ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها من المجيد .
الثاني : من الرحيم .
الثالث : من الملك .
ولأصحاب الخواطر في تأويل ذلك قولان :
أحدهما : أن الطاء شجرة طوبى ، والسين سدرة المنتهى ، والميم محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم .
الثاني : أن الطاء طرب التائبين ، والسين ستر الله على المذنبين ، والميم معرفته بالغاوين ، وقد ذكرنا في تفسير { الم } من زيادة التأويلات ما يجزىء تخريجه قبل هذا الموضع .
قوله { بَاخِعٌ نَّفْسَكَ } فيه وجهان :
أحدهما : قاتل نفسك ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، والبخع القتل ، قاله ذو الرمة :
ألا أيهذا الباخع الوجد نفسه ... بشيءٍ نحته عن يديه المقادِرُ
الثاني : محرج نفسك ، قاله عطاء ، وابن زيد
. قوله : { إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِ ءَايَةً } فيها وجهان :
أحدهما : ما عظم من الأمور القاهرة .
الثاني : ما ظهر من الدلائل الواضحة .
{ فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ } فيه أربعة أوجه
: أحدها : لا يلوي أحد منهم عنقه إلى معصيته .
الثاني : أنه أراد أصحاب الأعناق فحذفه وأقام المضاف إليه مقامه ، ذكره ابن عيسى .
الثالث : أن الأعناق الرؤساء ، ذكره ابن شجرة ، وقاله قطرب .
الرابع : أن العنق الجماعة من الناس ، من قولهم : أتاني عنق من الناس أي جماعة ، ورأيت الناس عنقاً إلى فلان ، ذكره النقاش .
قوله { أَوَلَمْ يَرَواْ إِلَى الأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ } أي نوع معه قرينة من أبيض وأحمر ، وحلو وحامض .
أحدها : حسن ، قاله ابن جبير .
الثاني : أنه مما يأكل الناس والأنعام ، قاله مجاهد .
الثالث : أنه النافع المحمود كما أن الكريم من الناس هو النافع المحمود .
الرابع : هم الناس نبات الأرض كما قال تعالى : { وَاللَّهُ أَنَبتَكُم مِّنَ الأَرْضِ نَبَاتاً } [ نوح : 17 ] فمن دخل الجنة فهو كريم ، ومن دخل النار فهو لئيم .
وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ (11) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14) قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17) قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19) قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22)

قوله { وَيَضِيقُ صَدْرِي } أي أخاف أن يضيق قلبي وفيه وجهان
: أحدهما : بتكذيبهم إياي ، قاله الكلبي .
الثاني : بالضعف عن إبلاغ الرسالة .
{ وَلاَ يَنْطَلِقُ لِسَانِي } فيه وجهان
: أحدهما : من مهابة فرعون ، قاله الكلبي .
الثاني : للعقدة التي كانت به .
{ فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ } أي ليكون معي رسولاً ، لأن هارون كان بمصر حيث بعث الله تعالى موسى نبياً .
{ وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ } فتكون علي بمعنى عندي ، وهو قول المفضل ، وأنشد قول أبي النجم :
قد أصبحت أم الخيار تدَّعي ... علي ذَنْبا كلّه لم أصْنَعِ
والثاني : معناه ولهم عليّ عقوبة ذنب
. { فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ } قد خاف موسى أن يقتلوه بالنفس التي قتلها ، فلا يتم إبلاغ الرسالة لأنه يعلم أن الله تعالى بعثه رسولاً تكفل بعونه على تأدية رسالته .
قوله عز وجل : { فَقُولاَ إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالِمِينَ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : معناه أرْسَلَنا رب العالمين ، حكاه ابن شجرة .
والثاني : معناه أن كل واحد منا رسول رب العالمين ، ذكره ابن عيسى .
والثالث : معناه إنا رسالة رب العالمين ، قاله أبوعبيدة ، ومنه قول كثير :
لقد كَذَّب الواشون ما بُحْتُ عندهم ... بسرٍّ ولا أرسلتهم برسول
أي رسالة
. قوله عز وجل : { قَاَلَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً } أي صغيراً ، لأنه كان في داره لقيطاً .
{ وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ } لم يؤذن له في الدخول عليه سنة ، وخرج من عنده عشر سنين ، وعاد إليه يدعوه ثلاثين سنة ، وبقي بعد غرقه خمسين سنة ، قال ذلك امتناناً عليه .
{ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ } يعني قتل النفس
. { وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ } فيه قولان
: أحدهما : أي على ديننا الذي لا تقول إنه كفر ، وهو قول السدي .
الثاني : من الكافرين لإحساني إليك وفضلي عليك ، وهذا قول محمد بن إسحاق .
قوله عز وجل :
{ قَالَ فَعَلْتُهَآ إِذاً وَأَنَاْ مِنَ الضَّآلِينَ } يعني قتل النفس ، قال المفضل : ومعنى إذن لموجبٍ .
{ وَأَنَاْ مِنَ الضَّآلِينَ } فيه ثلاثة تأويلات
: أحدها : من الجاهلين ، وهو قول مجاهد لا يعلم أنها تبلغ . والثاني : من الضالين عن النبوة ، لأن ذلك كان قبل الرسالة ، وهو معنى قول الضحاك .
الثالث : من الناسين ، وهو قول ابن زيد ، كما قال تعالى : { أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى } .
قوله عز وجل : { وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمْنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : معناه أن اتخاذك بني إسرائيل عبيداً قد أحبط نعمتك التي تمن عليّ ، وهذا قول عليّ بن عيسى .
والثاني : معناه أنك لما ظلمت بني إسرائيل ولم تظلمني ، أعددت ذلك نعمة تمنّ بها عليّ؟ قاله الفراء .
والثالث : أنه لم تكن لفرعون على موسى نعمة لأن الذي رباه بنو إسرائيل بأمر فرعون لاستعباده لهم ، فأبطل موسى نعمته لبطلان استرقاقه .
والرابع : أن فرعون أنفق على موسى في تربيته من أموال بني إسرائيل التي أخذها من أكسابهم حين استعبدهم ، فأبطل موسى النعمة وأسقط المنة ، لأنها أموال بني إٍسرائيل لا أموال فرعون ، وهذا معنى قول الحسن .
وفي التعبيد وجهان :
أحدهما : أنه الحبس والإِذلال ، حكاه أبان بن تغلب .
الثاني : أنه الاسترقاق ، فالتعبيد الاسترقاق ، سمي بذلك لما فيه من الإِذلال ، مأخوذ من قولهم طريق معبد ، ومنه قول طرفة بن العبد .
تبارى عناقاً ناجيات وأتبعت ... وظيفاً فوق مورٍ مُعَبّدِ
أي طريق مذلل .
قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37)

قوله عز وجل : { فَأَلْقَى عَصَاهُ } قال سعيد بن جبير : كانت من عوسج ، قال الحكيم : ولم يسخر العوسج لأحد بعده ، وقال الكلبي : كانت من آس الجنة عشرة أذرع على طول موسى .
{ فإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ } فيه قولان
: أحدهما : أنها الحية الذكر ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنه اعتم الحيات الصفر شعراء العنق ، حكاه النقاش .
{ مُّبِينٌ } فيه وجهان
: أحدهما : مبين أنه ثعبان .
الثاني : مبين أنها آية وبرهان ، وكان فرعون قد همّ بموسى ، فلما صارت العصا ثعباناً فَاغِراً فَاهُ خافه ولاَذَ بموسى مستجيراً وَوَلَّى قومُه هرباً حتى وطىء بعضهم على بعض ، قال ابن زيد : وكان اجتماعهم بالإسكندرية ، قال الزجاج : روي أن السحرة كانوا اثني عشر ألفاً ، وقيل : تسعة عشر ألفاً .
قوله تعالى : { فَمَاذَا تَأْمُرُونَ } أي تشيرون لأنه لا يجوز أن يأمر التابع المتبوع ، فجعل المشورة أمراً لأنها على لفظه .
ويحتمل استشارته لهم وجهين :
أحدهما : أنه أراد أن يستعطفهم لضعف نفسه .
الثاني : أنه أذهله ما شاهد فحار عقله فلجأ إلى رأيهم وهو يقول أنا ربكم الأعلى ، وقد خفي عليه تناقض الأمرين خذلانا .
فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (40) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (41) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42) قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ (44) فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (48) قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51)

قوله تعالى : { قَالُواْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ } فيه وجهان
: أحدهما : أخره وأخاه ، قاله ابن عباس .
الثاني : احبسه وأخاه ، قاله قتادة .
وفي مشورتهم على فرعون بإرجائه ونهيهم له عن قتله ثلاثة أوجه :
أحدها : أنهم خافوا إن قتلوه أن يفتن الناس بما شاهدوه منه ، وأمّلوا إن جاء السحرة أن يغلبوه .
الثاني : أنهم شاهدوا من فعله ما بهر عقولهم ، فخافوا الهلاك من قتله .
الثالث : أن الله صرفهم عن ذلك تثبيتاً لدينه وتأييداً لرسوله .
وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59)

قوله تعالى : { إِنَّ هَؤُلاَءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ } في الشرذمة وجهان
: أحدهما : أنهم سفلة الناس وأدنياؤهم ، قاله الضحاك ، ومنه قول الأعشى :
وهم الأعبد في أحيائهم ... لعبيدٍ وتراهم شرذمة .
الثاني : أنهم العصبة الباقية من عصبة كبيرة وشرذمة كل شيء بقيته القليلة . ويقال لما قطع من فضول النعال من الجلد شراذم ، وللقميص إذا خلق شراذم ، وأنشد أبو عبيدة .
جاء الشتاء وقميصي أخلاق ... شراذم يضحك منها التواق
واختلف في عدد بني إسرائيل حين قال فرعون فيهم : إنه لشرذمة قليلون ، على أربعة أقاويل :
أحدها : ستمائة وتسعين ألفاً ، قال مقاتل : لا يعد ابن عشرين سنة لصغيره ولا ابن ستين لكبره ، وهو قول السدي .
الثالث : كانوا ستمائة ألف مقاتل ، قاله قتادة .
الرابع : كانوا خمسمائة ألف وثلاثة آلاف وخمسمائة ، وإنما استقل هذا العدد لأمرين :
أحدهما : لكثرة من قتل منهم .
الثاني : لكثرة من كان معه ، حكى السدي أنه كان على مقدمته هامان في ألف ألف وسبعمائة ألف حصان ليس فيها ماديانه ، وقال الضحاك كانوا سبعة آلاف ألف .
قوله تعالى : { وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَذِرُونَ } قراءة ابن كثير ونافع ، وأبي عمرو ، وقرأ الباقون { حَاذِرُونَ } وفيه أربعة أوجه :
أحدها : أنهما لغتان ومعناهما واحد ، حكاه ابن شجرة وقاله أبو عبيدة واسْتَشْهَد بقول الشاعر :
وكنت عليه أحذر الموت وحده ... فلم يبق لي شيء عليه أحاذره .
الثاني : أن الحذر المطبوع على الحذر ، والحاذر الفاعل الحذر ، حكاه ابن عيسى .
الثالث : أن الحذر الخائف والحاذر المستعد .
الرابع : أن الحذر المتيقظ ، والحاذر آخذ السلاح ، لأن السلاح يسمى حذراً قاله الله تعالى : { وَخُذُوا حِذْرَكُم } [ النساء : 102 ] أي سلاحكم ، وقرأ ابن عامر . { حَادِرُونَ } بدال غير معجمة وفي تأويله وجهان
: أحدهما : أقوياء من قولهم جمل حادر إذا كان غليظاً .
الثاني : مسرعون .
قوله تعالى : { وَكُنُوزٍ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : الخزائن .
الثاني : الدفائن .
الثالث : الأنهار ، قاله الضحاك .
{ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ } فيه ثلاثة أقاويل
: أحدها : أنها المنابر ، قاله ابن عباس ، ومجاهد .
الثاني : مجالس الأمراء ، حكاه ابن عيسى .
الثالث : المنازل الحسان ، قاله ابن جبير .
ويحتمل رابعاً : أنها مرابط الخيل لتفرد الزعماء بارتباطها عُدة وزينة فصار مقامها أكرم منزول .
فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77)

قوله تعالى { فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ } فيه ثلاثة أقاويل
: أحدها : حين أشرقت الشمس بالشعاع ، قاله السدي .
الثاني : حين أشرقت الأرض بالضياء ، قاله قتادة .
الثالث : أي بناحية المشرق ، قاله أبو عبيدة .
قال الزجاج : يقال شرقت الشمس إذا طلعت ، وأشرقت إذا أضاءت .
واختلف في تأخر فرعون وقومه عن موسى وبني إسرائيل حتى أشرقوا على قولين :
أحدهما : لاشتغالهم بدفن أبكارهم لأن الوباء في تلك الليلة وقع فيهم .
الثاني : لأن سحابة أظلتهم فخافوا وأصبحوا ، فانقشعت عنهم .
وقرىء { مُشَرِّقِينَ } بالتشديد أي نحو المشرق ، مأخوذ من قولهم شرّق وغرّب ، إذا سار نحو المشرق والمغرب .
{ قَالَ : كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ } فيه وجهان
: أحدهما : أي سيرشدني إلى الطريق .
الثاني : معناه سيكفيني ، قاله السدي .
و { كَلاَّ } كلمة توضع للردع والزجر ، وحكي أن موسى لما خرج ببني إسرائيل من مصر أظلم عليهم القمر فقال لقومه : ما هذا؟ فقال علماؤهم : إن يوسف لما حضره الموت أخذ عليها موثقاً من الله ألا نخرج من مصر حتى ننقل عظامه معنا ، قال موسى فأيكم يدري أين قبره؟ قالوا : ما يعلمه إلا عجوز لبني إسرائيل فأرسل إليها فقال : دلِّيني على قبر يوسف ، قالت : لا والله لا أفعل حتى تعطيني حكمي ، قال : وما حكمك؟ قالت : حكمي أن أكون معك في الجنة فثقل عليه فقيل له أعطاها حكمها فدلتهم عله فاحتفروه واستخرجوا عظامه ، فلما ألقوها فإذا الطريق مثل ضوء النهار . فروى أبو بردة عن أبي موسى : أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل بأعرابي فأكرمه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « حَاجَتُكَ » قاله له : ناقة أرحلها وأعنزاً أحلبها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أَعَجَزْتَ أَنْ تَكُونَ مِثْلَ عَجُوزِ بَنِي إِسْرَائيلَ » فقال الصحابة : وما عجوز بني إسرائيل فَذَكَرَ لَهُم حَالَ هَذِهِ العَجُوزِ الَّتِي حَكَمَت عَلَى مُوسَى أَنْ تَكُونَ مَعَهُ فِي الْجَنَّةِ .
قوله تعالى : { فأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ } روى عكرمة عن ابن عباس أن موسى لما بلغ البحر واتبعه فرعون قاله له فتاهُ يوسع بن نون : أين أمرك ربك؟ قال : أمامك ، يشير إلى البحر ، ثم ذكر أنه أمر أن يضرب بعصاه البحر فضربه ، فانفلق له اثنا عشر طريقاً وكانوا اثني عشر سبطاً لكل سبط طريق ، عرض كل طريق فرسخان .
وقال سعيد بن جبير : كان البحر ساكناً لا يتحرك ، فلما كان ليلة ضربه موسى بالعصا صار يمد ويجزر .
وحكى النقاش : أن موسى ضرب بعصاه البحر وقد مضى من النهار أربع ساعات ، وكان يوم الاثنين عاشر المحرم وهو يوم عاشوراء ، قال : والبحر هو نهر النيل ما بين إيلة ومصر وقطعوه في ساعتين ، فصارت ست ساعات .
{ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ } أي كالجبل العظيم ، قاله امرؤ القيس
:
فبينا المرءُ في الأحياء طُوْدٌ ... رماه الناس عن كَثَبٍ فمالا
وكان الأسباط لا يرى بعضهم بعضاً فقال كل سبط : قد هلك أصحابنا فدعا موسى ربه فجعل في كل حاجز مثل الكوى حتى رأى بعضهم بعضاً .
قوله تعالى : { وَأَرْلَفْنَا ثَمَّ الأَخَرِينَ } فيه وجهان :
أحدهما : قربنا إلى البحر فرعون وقومه ، قاله ابن عباس : وقتادة ، ومنه قول الشاعر :
وكل يوم مضى أو ليلة سلفت ... فيه النفوس إلى الآجال تزدلف
الثاني : جمعنا فرعون وقومه في البحر ، قاله أبو عبيدة ، وحكي عن أُبي وابن عباس أنهما قرآ : { وَأَزْلَقْنَا } بالقاف من زلق الأقدام ، كأقدام فرعون أغرقهم الله تعالى في البحر حتى أزلقهم في طينه الذي في قعره .
الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82)

قوله تعالى : { الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ } فيه وجهان
: أحدهما : الي خلقني بنعمته فهو يهدين لطاعته .
الثاني : الذي خلقني لطاعته فهو يهديني لجنته ، فإن قيل فهذه صفة لجميع الخلق فكيف جعلها إبراهيم عل هدايته ولم يهتد بها غيره؟
قيل : إنما ذكرها احتجاجاً على وجوب الطاعة ، لأن من أنعم وجب أن يطاع ولا يُعصى ليلتزم غيره من الطاعة ما قد التزمها ، وهذا إلزام صحيح ثم فصل ذلك بتعديد نعمه عليه وعليهم فقال :
{ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينَ وَإِذَا مَرِضَتُ فَهُوَ يَشْفِينِ } وهذا احتجاجاً عليهم لموافقتهم له ثم قال : { وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يَحْيِينِ } وهذا قوله استدلالاً ولم يقله احتجاجاً ، لأنهم خالفوه فيه ، فبين لهم أن ما وافقوه عليه موجب لما خالفوه فيه .
وتجوز بعض المتعمقة في غوامض المعاني فعدل بذلك عن ظاهره إلى ما تدفعه بداهة العقول فتأول { وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ } أي يطعمني لذة الإيمان ويسقيني حلاوة القبول .
وفي قوله : { وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ } وجهان :
أحدهما : إذا مرضت بمخالفته شفاني برحمته .
الثاني : مرضت بمقاساة الخلق شفاني بمشاهدة الحق .
وتأولوا قوله : { وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ } على ثلاثة أوجه :
أحدها : والذي يميتني بالمعاصي ويحييني بالطاعات .
الثاني : يميتني بالخوف ويحييني بالرجاء .
الثالث : يميتني بالطمع ويحييني بالقناعة . وهذه تأويلات تخرج عن حكم الاحتمال إلى جهة الاستطراف ، فلذلك ذكرناها وإن كان حذفها من كتابنا أوْلى .
رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)

قوله تعالى : { رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً } فيه أربعة تأويلات
: أحدها : أنه اللب ، قاله عكرمة .
الثاني : العلم ، قاله ابن عباس .
الثالث : القرآن ، قاله مجاهد .
الرابع : النبوة ، قاله السدي .
ويحتمل خامساً : أنه إصابة الحق في الحكم . { وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ } قال عبد الرحمن بن زيد : مع الأنبياء والمؤمنين
. ويحتمل وجهين :
أحدهما : بالصالحين من أصفيائك في الدنيا .
الثاني : بجزاء الصالحين في الآخرة ومجاورتهم في الجنة .
قوله تعالى : { وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : ثناء حسناً في الأمم كلها ، قاله مجاهد ، وقتادة ، وجعله لساناً لأنه يكون باللسان .
الثاني : أن يؤمن به أهل كل ملة ، قاله ليث بن أبي سليم .
الثالث : أن يجعل من ولده من يقول بالحق بعده ، قاله علي بن عيسى .
ويحتمل رابعاً : أن يكون مصدقاً في جمع الملل وقد أجيب إليه .
قوله تعالى : { وَاغْفِرْ لأَبِي } الآية . في أبيه قولان :
أحدهما : أنه كان يسر الإيمان ويظهر الكفر فعلى هذا يصح الاستغفار له .
الثاني : وهو الأظهر أنه كان كافراً في الظاهر والباطن .
فعلى هذا في استغفاره له قولان :
أحدهما : أنه سأل أن يغفر له في الدنيا ولا يعاقبه فيها .
والثاني : أنه سأل أن يغفر له سيئاته التي عليه والتي تسقط بعفوه .
قوله تعالى : { بِقَلْبٍ } فيه خمسة أوجه :
أحدها : سليم من الشك ، قاله مجاهد .
الثاني : سليم من الشرك ، قاله الحسن ، وابن زيد .
الثالث : من المعاصي ، لأنه إذا سلم القلب سلمت الجوارح .
الرابع : أنه الخالص ، قاله الضحاك .
الخامس : أنه الناصح في خلقه ، قاله عبد الرحمن بن أبي حاتم .
ويحتمل سادساً : سليم القلب من الخوف في القيامة لما تقدم من البشرى عند المعاينة .
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98) وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99) فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104)

قوله تعالى : { فَكُبْكِبُواْ فِيهَا هُم وَالْغَاوُونَ } فيها أربعة أوجه
: أحدها : معناه جمعوا فيها النار ، قاله ابن عباس .
الثاني : طرحوا فيها على وجوههم ، قاله ابن زيد ، وقطرب .
الثالث : نكسوا فيها على رؤؤسهم ، قاله السدي ، وابن قتيبة .
الرابع : قلب بعضهم على بعض ، قاله اليزيدي ، قال الشاعر :
يقول لهم رسول الله لما ... قذفناهم كباكب في القَليب
{ هُم وَالْغَاوُونَ } يعني الآلهة التي يعبدون
. وفي الغاوين قولان :
أحدهما : المشركون ، قاله ابن عباس .
الثاني : الشياطين ، قاله قتادة .
{ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ } فيهم قولان
: أحدهما : أنهم أعوانه من الجن .
الثاني : أتباعه من الإنس .
قوله تعالى : { فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ } فيهم قولان :
أحدهما : الملائكة .
الثاني : من الناس .
{ وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ } فيه وجهان
: أحدهما : أنه الشقيق : قاله مجاهد .
الثاني : القريب النسيب ، يقال حم الشيء إذا قرب ومنه الحمى لأنها تقرب الأجل ، قال قيس بن ذريح :
لعل لبنى اليوم حُمّ لقاؤها ... وببعض بلاء إِنَّ ما حُمَّ واقِعُ
وقال ابن عيسى : إنما سمي القريب حميماً لأنه يحمى بغضب صاحبه ، فجعله مأخوذاً من الحمية ، وقال قتادة : يذهب الله يومئذٍ مودة الصديق ، ورقة الحميم .
كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (109) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110) قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (115)

قوله تعالى : { وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ } فيه خمسة أقاويل
: أحدها : أنهم الذين يسألون ولا يقنعون .
الثاني : أنهم المتكبرون .
الثالث : سفلة الناس وأراذلهم ، قاله قتادة .
الرابع : أنهم الحائكون ، قاله مجاهد .
الخامس : أنهم الأساكفة ، قاله ابن بحر .
ويحتمل سادساً : أنهم أصحاب المهن الرذلة كلها .
قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116) قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ (120) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122)

قوله تعالى : { لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُرْجُومِينَ } فيه ثلاثة أقاويل
: أحدها : بالحجارة ، قاله قتادة .
الثاني : بالقتل ، قاله محمد بن الحسن .
الثالث : بالشتيمة ، قاله السدي . قال أبو داود :
صدّت غواة معدٍّ أن تراجمنى ... كما يصدون عن لب كجفان
قوله تعالى : { فَافْتَحْ بَيْنِي وِبَيْنَهُمْ فَتْحاً } قال قتادة والسدي : معنا واقض بيني وبينهم قضاء ، وهو أن ينجيه ومن معه من المؤمنين ويفرق الكافرين ، ولم يدعُ نوح ربه عليه إلا بعد أن أعلمه ، { أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ ءَامَنَ } [ هود : 36 ] فحينئذ دعا عليهم .
كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (127) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135)

قوله تعالى : { أَتَبْنُونَ بَكُلِّ رِيعٍ } فيه ستة تأويلات
: أحدها : أن الريع الطريق ، قاله السدي ، ومنه قول المسيب بن علي :
في الآل يخفضها ويرفعها ... ريع يلوح كأنه سحل
السحل : الثوب الأبيض ، شبه الطريق به
. الثاني : أنه الثنية الصغيرة ، قاله مجاهد .
الثالث : أنه السوق ، حكاه الكلبي .
الرابع : أنه الفج بين الجبلين ، قاله مجاهد .
الخامس : أنه الجبال ، قاله أبو صخر .
السادس : أنه المكان المشرف من الأرض ، قاله ابن عباس ، قال ذو الرمة :
طِراق الخوافي مشرق فوق ريعهِ ... ندى ليله في ريشه يترقرق
{ ءَايةٍ تَعْبَثُونَ } في آية ثلاثة أوجه
: أحدها : البنيان ، قاله مجاهد .
الثاني : الأعلام ، قاله ابن عباس .
الثالث : أبراج الحمام ، حكاه ابن أبي نجيح .
وفي العبث قولان :
أحدها : اللهو واللعب ، قاله عطية .
الثاني : أنه عبث العشّارين بأموال من يمر بهم ، قاله الكلبي .
قوله تعالى : { وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ } فيها ثلاثة أقاويل :
أحدها : القصور المشيدة ، قاله مجاهد ، ومنه قول الشاعر :
تركنا ديارهم منهم قفاراً ... وهَدّمنا المصانع والبُروجا
الثاني : أنها مآجل الماء تحت الأرض ، قاله قتادة ، ومنه قول لبيد
:
بَلينا وما تبلى النجوم الطوالع ... وتبقى الجبال بعدنا والمصانع
الثالث : أنها بروج الحمام ، قاله السدي
. { لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ } أي كأنكم تخلدون باتخاذكم هذه الأبينة ، وحكى قتادة
: أنها في بعض القراءات : كأنكم خالدون .
قوله تعالى : { وَإذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أقوياء ، قاله ابن عباس .
الثاني : هو ضرب السياط ، قاله مجاهد .
الثالث : هو القتل بالسيف في غير حق ، حكاه يحيى بن سلام .
وقال الكبي : هو القتل على الغضب .
ويحتمل رابعاً : أنه المؤاخذة على العمد والخطأ من غير عفو ولا إبقاء .
قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ (136) إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137) وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140) كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (145)

قوله تعالى { إِنْ هَذا إِلاَّ خُلُقُ الأَوَّلِينَ } فيه أربعة تأويلات
: أحدها : دين الأولين ، قاله ابن عباس .
الثاني : كدأب الأولين ، قاله مجاهد .
الثالث : عادة الأولين ، قاله الفراء .
الرابع : يعني أن الأولين قبلنا كانوا يموتون فلا يبعثون ولا يحاسبون ، قاله قتاة .
أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (152)

قوله تعالى : { وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ } فيه عشرة تأويلات
: أحدها : أنه الرطب اللين ، قاله عكرمة .
الثاني : المذنب من الرطب ، قاله ابن جبير .
الثالث : أنه الذي ليس فيه نوى ، قاله الحسن .
الرابع : أنه المتهشم المتفتت إذا مس تفتّت ، قاله مجاهد .
الخامس : المتلاصق بعضه ببعض ، قاله أبو صخر .
السادس : أنه الطلع حين يتفرق ويخضر ، قاله الضحاك .
السابع : اليانع النضيج ، قاله ابن عباس .
الثامن : أنه المتنكر قبل أن ينشق عنه القشر ، حكاه ابن شجرة ، قال الشاعر :
كأن حمولة تجلى عليه ... هضيم ما يحس له شقوقُ
التاسع : أنه الرخو ، قال الحسن
. العاشر : أنه اللطيف ، قاله الكلبي .
ويحتمل أن يكون الهضيم هو الهاضم المريء .
والطلع اسم مشتق من الطلوع وهو الظهور ، ومنه طلوع الشمس والقمر والنبات .
قوله تعالى : { فَرِهِينَ } قرأ بذلك أبو عمرو ، وابن كثير ، ونافع ، وقرأ الباقون { فَارِهِينَ } بالألف فمن قرأ { فَرِهِينَ } ففي تأويله ستة أوجه
: أحدها : شرهين ، قاله مجاهد .
الثاني : معجبين ، قاله خصيف .
الثالث : آمنين ، قاله قتادة .
الرابع : فرحين ، حكاه ابن شجرة .
الخامس : بطرين أشرين ، قاله ابن عباس .
السادس : متخيرين ، قاله الكلبي . ومنه قول الشاعر :
إلى فره يماجدُ كلَّ أمْرٍ ... قصدت له لأختبر الطّباعَا
ومن قرأ : { فَارِهِينَ } ففي تأويله أربعة أوجه
: أحدها : معناه كيّسين قاله ال .
الثاني : حاذقين : قاله أبو صالح ، مأخوذ من فراهة الصنعة ، وهو قول ابن عباس .
الثالث : قادرين ، قاله ابن بحر .
الرابع : أنه جمع فارِه ، والفاره المرح ، قاله أبو عبيدة ، وأنشد لعدي بن الرقاع الغنوي :
لا أستكين إذا ما أزمة أزمت ... ولن تراني بخير فاره اللبب
أي من اللبب .
قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155) وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158)

قوله تعالى : { إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ المُسَحَّرِينَ } فيه سبعة تأويلات
: أحدها : من المسحورين ، قاله مجاهد .
الثاني : من السكرانين ، قاله قتادة .
الثالث : من المخلوقين ، قاله ابن عباس .
الرابع : من المخدوعين ، قاله سهل بن عبد الله .
الخامس : أن المسحر الذي ليس له شيء ولا يملك ، وهو المقل ، أي لست بملك فيبقى ، وهذا معنى قول الكلبي .
السادس : ممن له سحر أي رقية ، حكاه ابن عيسى .
السابع : ممن يأكل ويشرب ، حكاه ابن شجرة ، ومنه قول لبيد :
إن تسألينا فيم نحن فإننا ... عصافير من هذا الأنام المسحر
أي المعلل بالطعام والشراب ، قال امرؤ القيس :
أرانا موضعين لأمر غيب ... ونسحر بالطعام وبالشراب
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (164) أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ (166) قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169) فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (171) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175) كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (180) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184)

قوله تعالى : { وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ } فيه خمسة تأويلات
: أحدها : أنه القبان ، قاله الحسن .
الثاني : الحديد ، رواه ابن المبارك .
الثالث : أنه المعيار ، قاله الضحاك .
الرابع : الميزان ، قاله الأخفش والكلبي .
الخامس : العدل .
واختلف قائلو هذا التأويل فيه هل هو عربي أو رومي؟ فقال مجاهد والشعبي : هو العدل بالرومية ، وقال أبو عبيدة وابن شجرة : هو عربي وأصله القسط وهو العدل ، ومنه قوله تعالى : { قَائِماً بِالْقِسْطِ } [ آل عمران : 18 ] أي بالعدل .
قوله تعالى : { . . . وَلاَ تَعْثَواْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ } فيه قولان :
أحدها : معناه ولا تمشوا فيها بالمعاصي ، قاله أبو مالك .
الثاني : لا تمشوا فيها بالظلم بعد إصلاحها بالعدل ، قاله ابن المسيب .
ويحتمل ثالثاً : أن عبث المفسد ما ضر غيره ولم ينفع نفسه .
قوله تعالى : { وَالجِبِلَّةِ } يعني الخليقة ، قال امرؤ القيس :
والموت أعظم حادثٍ ... فيما يمر على الجبلة
{ الأَوَّلِينَ } يعني الأمم الخالية ، والعرب تكسر الجيم والباء من الجبلة ، وقد تضمها وربما أسقطت الهاء كما قال تعالى : { وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً } [ يس : 62 ] . قال أبو ذؤيب :
صناتا يقربن الحتوف لأهلها ... جهازاً ويستمتعن بالأنس الجبل
قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191)

قوله تعالى : { كِسَفاً مِنَ السَّمَاءِ } فيه ثلاثة تأويلات
: أحدها : جانباً من السماء ، قاله الضحاك .
الثاني : قطعاً ، قاله قتادة .
الثالث : عذاباً ، قاله السدي ، قال الشاعر :
وُدّي لها خالص في القلب مجتمع ... وودها فاعلمي كسف لما فوق
وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)

قوله تعالى : { نَزَلَ بِهِ } يعني القرآن
. { الرُّوحُ الأمِينُ } يعني جبريل
. { عَلَى قَلْبِكَ } يعني محمد صلى الله عليه وسلم
. { لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ } يعني لأمتك
. { بِلِسَانٍ عَرَبِّيٍ مُبِينٍ } يعني أن لسان القرآن عربي مبين لأن المنزل عليه عربي ، والمخاطبون به عرب ولأنه تحدى بفصاحته فصحاء العرب .
وفي اللسان العربي قولان :
أحدهما : لسان جرهم ، قاله أبو برزة .
الثاني : لسان قريش ، قاله مجاهد .
وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (197) وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199)

قوله تعالى : { وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ } يعني كتب الأولين من التوراة والإنجيل وغيرها من الكتب .
وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن المراد به ذكر القرآن في زبر الأولين ، قاله قتادة .
الثاني : بعث محمد صلى الله عليه وسلم في زبر الأولين ، قاله السدي .
الثالث : ذكر دينك وصفة أمتك في زبر الأولين ، قاله الضحاك .
كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (204) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207) وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ (209)

قوله تعالى : { كَذلِكَ سَلَكْنَاهُ } فيه ثلاثة أقاويل
: أحدها : كذلك أدخلنا الشرك ، قاله أنس بن مالك .
الثاني : التكذيب ، قاله يحيى بن سلام .
الثالث : القسوة ، قاله عكرمة .
وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212)

قوله تعالى : { إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : أنهم لمصروفون عن السمع للقرآن .
الثاني : أنهم مصروفون عن فهمه وإن سمعوه .
الثالث : أنهم مصروفون عن العمل به وإن سمعوه وفهموه .
فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220)

قوله تعالى : { الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ } فيه أربعة أوجه
: أحدها : حين تقوم في الصلاة ، قاله ابن عباس .
الثاني : حين تقوم من فراشك ومجلسك ، قاله الضحاك .
الثالث : يعني قائماً وجالساً وعلى حالاتك كلها ، قاله قتادة .
الرابع : يعني حين تخلو ، قاله الحسن ، ويكون القيام عبارة عن الخلوة لوصوله إليها بالقيام عن ضدها .
قوله تعالى : { وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ } فيه ستة تأويلات :
أحدها : من نبي إلى نبي حتى أخرجك نبياً ، قاله ابن عباس .
الثاني : يرى تقلبك في صلاتك وركوعك وسجودك ، حكاه ابن جرير .
الثالث : أنك ترى تقلبك في صلاتك من خلفك كما ترى بعينك من قدامك ، قاله مجاهد .
الرابع : معناه وتصرفك في الناس ، قاله الحسن لتقلبه في أحواله وفي أفعاله .
الخامس : تقلب ذكرك وصفتك على ألسنة الأنبياء من قبلك .
السادس : أن معنى قوله { الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ } إذا صليت منفرداً { وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ } إذا صليت في الجماعة ، قاله قتادة .
ويحتمل سابعاً : الذي يراك حين تقوم لجهاد المشركين ، { وَتَقَلُّبَكَ في السَّاجِدِينَ } فيما تريد به المسلمين وتشرعه من أحكام الدين .
هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223) وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)

قوله تعالى : { وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونُ } يعني إذا غضبوا سبوا ، وفيهم أربعة أقاويل :
أحدها : أنهم الشياطين ، قاله مجاهد .
الثاني : المشركون ، قاله ابن زيد .
الثالث : السفهاء ، قاله الضحاك .
الرابع : الرواة ، قاله ابن عباس .
{ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : في كل فن من الكلام يأخذون ، قاله ابن عباس .
الثاني : في كل لغو يخوضون ، قاله قطرب ، ومنه قول الشاعر :
إني لمعتذر إليك من الذي ... أسديت إذ أنا في الضلال أهيم
الثالث : هو أن يمدح قوماً بباطل ، ويذم قوماً بباطل ، قاله قتادة
. وفي الهائم وجهان :
أحدهما : أنه المخالف في القصد ، قاله أبو عبيدة .
الثاني : أنه المجاوز للحد .
{ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ } يعني ما يذكرونه في شعرهم من الكذب بمدح أو ذم أو تشبيه أو تشبيب .
{ إِلاَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } تقديره فإنهم لا يتبعهم الغاوون ولا يقولون ما لا يفعلون .
روي أن عبد الله بن رواحة وكعب بن مالك وحسان بن ثابت أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزل { وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ } فبكواْ عنده وقالوا : هلكنا يا رسول الله : فأنزل الله { إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ } فقرأها عليهم حتى بلغ إلى قوله : { إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ } فقال : أنتم
. { وَذَكرُواْ اللَّهَ كَثِيراً } فيه وجهان
: أحدهما : في شعرهم .
الثاني : في كلامهم .
{ وَانتَصَرُواْ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ } أي ردّوا على المشركين ما كانوا يهجون به المؤمنين فقاتلوهم عليه نصرة للمؤمنين وانتقاماً من المشركين .
{ وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ } وهذا وعيد يراد به من هجا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشعراء لكل كافر من شاعر وغير شاعر سيعلمون يوم القيامة أي مصير يصيرون وأي مرجع يرجعون ، لأن مصيرهم إلى النار وهو أقبح مصير ، ومرجعهم إلى العذاب وهو شر مرجع .
والفرق بين المنقلب والمرجع أن المنقلب الانتقال إلى ضد ما هو فيه والمرجع العود من حال هو فيها إلى حال كان عليها ، فصارإلى مرجع منقلباً وليس كل منقلب مرجعاً .
طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (1) هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5) وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6)

قوله تعالى : { طس تِلْكَ ءَايَاتُ الْقُرْءانِ } أي هذه آيات القرآن
. { وَكِتَابٍ مُّبِينٍ } أي وآيات الكتاب المبين ، والكتاب هو القرآن ، فجمع له بَيْنَ الصفتين بأنه قرآن وأنه كتاب لأنه ما يظهر بالكتابة ويظهر بالقراءة .
{ مُّبِينٍ } لأنه يبين فيه نهيه وأمره ، وحلاله وحرامه ، ووعده ووعيده
. وفي المضمر في { تِلْكَ ءَايَاتُ الْقُرْءانِ } وجهان :
أحدهما : أنه يعود إلى الحروف التي في { طس } قاله الفراء .
الثاني : إلى جميع السورة .
{ هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ } فيه وجهان
: أحدهما : هدى إلى الجنة وبشرى بالثواب ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : هدى من الضلالة وبشرى بالجنة ، قاله الشعبي .
قوله تعالى : { الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةِ } يعني المفروضة ، وفي إقامتها وجهان :
أحدهما : استيفاء فروضها وسنتها ، قاله ابن عباس .
الثاني : المحافظة على مواقيتها ، قاله قتادة .
{ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } فيها أربعة أقاويل
: أحدها : أنها زكاة المال ، قاله عكرمة ، وقتادة والحسن .
الثاني : أنها زكاة الفطر؛ قاله الحارث العكلي .
الثالث : أنها طاعة الله والإخلاص ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس .
الرابع : أنها تطهير أجسادهم من دنس المعاصي .
قوله تعالى : { فَهُمْ يَعْمَهُونَ } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : يترددون ، قاله ابن عباس ، ومجاهد .
الثاني : يتمادون ، قاله أبو العالية ، وأبو مالك ، والربيع بن أنس .
الثالث : يلعبون ، قاله قتادة ، والأعمش .
الرابع : يتحيرون ، قاله الحسن ، ومنه قول الراجز :
ومهمه أطرافه في مهمة ... أعمى الهدى بالجاهلين العمه
قوله تعالى : { وَإِنََّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْءَانَ } فيه أربعة تأويلات
: أحدها : لتأخذ القرآن ، قاله قتادة .
الثاني : لتوفى القرآن ، قاله السدي .
الثالث : لتلقن القرآن ، قاله ابن بحر .
ويحتمل رابعاً : لتقبل القرآن ، لأنه أوّل من يلقاه عند نزوله .
{ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَليمٍ } أي من عند حكيم في أمره ، عليم بخلقه
.
إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8) يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (12) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)

قوله تعالى : { إِنِّي ءَانَسْتُ نَاراً } فيه وجهان
: أحدهما : رأيت ناراً ، قاله أبو عبيدة ومنه سمي الإنساء إنساً لأنهم مرئيون .
الثاني : أحسست ناراً ، قاله قتادة ، والإيناس : الإحساس من جهة يؤنس بها .
{ سَئَاتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ } فيه وجهان
: أحدهما : سأخبركم عنها بعلم ، قاله ابن شجرة .
الثاني : بخبر الطريق ، لأنه قد كان ضل الطريق ، قاله ابن عباس .
{ أَوْ ءَاتِيكُم بِشهَابٍ قَبَسٍ } والشهاب الشعاع المضي ، ومنه قيل للكوكب الذي يمر ضوؤه في السماء شهاب ، قال الشاعر :
في كفِّهِ صعدة مثقفة ... فيها سنان كشعلة القبسِ
والقبس هو القطعة من النار ، ومنه اقتبست النارَ ، أخذت منها قطعة ، واقتبست منه علماً إذا أخذت منه علماً ، لأنك تستضيء به كما تستضيء بالنار .
{ لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ } أي لكي تصطلون من البرد ، قال قتادة : وكان شتاء
. قوله تعالى { فَلَمَّا جَاءَهَا } يعني ظن أنها نار ، وهي نور ، قال وهب بن منبه : فلما رأى موسى وقف قريباً منها فرآها تخرج من فرع شجرة خضراء شديدة الخضرة يقال لها العليق ، لا تزداد النار إلا تضرماً وعظماً ، ولا تزداد الشجرة إلا خضرة وحسناً ، فعجب منها ودنا وأهوى إليها بضغث في يده ليقتبس منها ، فمالت إليه فخافها فتأخر عنها ، ثم لم تزل تطمعه ويطمع فيها إلى أن وضع أمْرها على أنها مأمورة ولا يدري ما أمرها ، إلى أن :
{ نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا } .
وفي { بُورِكَ } ثلاثة أوجه :
أحدها : يعني قُدِّس ، قاله ابن عباس .
الثاني : تبارك ، حكاه النقاش .
الثالث : البركة في النار ، حكاه ابن شجرة ، وأنشد لعبد الله بن الزبير :
فبورك في بنيك وفي بنيهم ... إذا ذكروا ونحن لك الفداء
وفي النار وجهان
: أحدهما : أنها نار فيها نور .
الثاني : أنها نور ليس فيها نار ، وهو قول الجمهور .
وفي { بُورِكَ مَن فِي النَّارِ } خمسة أقاويل :
أحدها : بوركت النار ، و { مَن } زيادة ، وهي في مصحف أُبي : { بُورِكَتِ النَّارُ وَمَن حَوْلَهَا } قاله مجاهد .
الثاني : بورك النور الذي في النار ، قاله ابن عيسى .
الثالث : بورك الله الذي في النور ، قاله عكرمة ، وابن جبير .
الرابع : أنهم الملائكة ، قاله السدي .
الخامس : الشجرة لأن النار اشتعلت فيها وهي خضراء لا تحترق .
وفي قوله : { وَمَن حَوْلَهَا } وجهان :
أحدهما : الملائكة ، قاله ابن عباس .
الثاني : موسى ، قالها أبو صخر .
{ وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } فيه وجهان
: أحدهما : أن موسى قال حين فرغ من سماع النداء من قوله الله : { سبْحَانِ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } استعانة بالله وتنزيهاً له ، قاله السدي .
الثاني : أن هذا من قول الله ومعناه : وبورك فيمن يسبح الله رب العالمين ، حكاه ابن شجرة . ويكون هذا من جملة الكلام الذي نودي به موسى .
وفي ذلك الكلام قولان :
أحدهما : أنه كلام الله تعالى من السماء عند الشجرة وهو قول السدي . قال وهب بن منبه : ثم لم يمس موسى امرأة بعدما كلمه ربه .
والثاني : أن الله خلق في الشجرة كلاماً خرج منها حتى سمعه موسى ، حكاه النقاش .

قوله تعالى : { وَأَلْقِ عَصَاكَ } قال وهب : ظن موسى أن الله أمره برفضها فرفضها .
{ فَلَمَا رَءَاهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ } فيه وجهان
: أحدهما : أن الجان الحية الصغيرة ، سميت بذلك لاجتنانها واستتارها .
والثاني : أنه أراد بالجان الشيطان من الجن ، لأنهم يشبهون كل ما استهولوه بالشيطان ، كما قال تعالى : { طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ } [ الصافات : 65 ] . وقد كان انقلاب العصا إلى أعظم الحيات لا إلى أصغرها ، كما قال تعالى : { فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ } [ الأعراف : 107 ] و [ الشعراء : 33 ] .
قال عبد الله بن عباس : وكانت العصا قد أعطاه إياها ملك من الملائكة حين توجه إلى مَدْيَن وكان اسمها : ما شاء ، قال ابن جبير : وكانت من عوسج .
{ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقّبْ . . . } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : ولم يرجع ، قاله مجاهد ، قال قطرب : مأخوذ من العقب .
الثاني : ولم ينتظر ، قاله السدي .
الثالث : ولم يلتفت ، قاله قتادة .
ويحتمل رابعاً : أن يكون معناه أنه بقي ولم يمش ، لأنه في المشيء معقب لابتدائه بوضع عقبة قبل قدمه .
قوله تعالى : { إِنِّي لاَ يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ } قيل إنه أراد في الموضع الذي يوحى فيه إليهم ، ولا فالمرسلون من الله أخوف .
{ إلاَّ مَن ظَلَمَ } فيه وجهان
: أحدهما : أنه أراد من غير المسلمين لأن الأنبياء لا يكون منهم الظلم ، ويكون منهم هذا الاستثناء المنقطع .
الوجه الثاني : أن الاستثناء يرجع إلى المرسلين .
وفيه على هذا وجهان :
أحدهما : فيما كان منهم قبل النبوة كالذي كان من موسى في قتل القبطي ، فأما بعد النبوة فهم معصومون من الكبائر والصغائر جميعاً .
الوجه الثاني : بعد النبوة فإنه معصومون فيها مع وجود الصغائر منهم ، غير أن الله لطف بهم في توفيقهم للتوبة منها ، وهو معنى قوله تعالى :
{ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ } يعني توبة بعد سيئة
. { فَإِنِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي غفور لذنبهم ، رحيم بقبول توبتهم
.
وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19)

قوله تعالى : { وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً } فيه ستة أوجه
: أحدها : فهماً ، قاله قتادة .
الثاني : صنعة الكيمياء وهو شاذ .
الثالث : فصل القضاء .
الرابع : علم الدين .
الخامس : منطق الطير .
السادس : بسم الله الرحمن الرحيم .
{ وَقَالاَ الْحَمْدُ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ } وحمدهما لله شكراً على نعمه .
وفيما فضلهما به على كثير من عباده المؤمنين ثلاثة أقاويل :
أحدها : بالنبوة .
الثاني : بالملك .
الثالث : بالنبوة والعلم .
قوله تعالى : { ووَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : ورث نبوته وملكه ، قاله قتادة ، قال الكلبي : وكان لداود تسعة عشر ولداً ذكراً وإنما خص سليمان بوراثتة لأنها وراثة نبوة وملك ، ولو كانت وراثة مال لكان جميع أولاده فيه سواء .
الثاني : أن سخر له الشياطين والرياح ، قاله الربيع .
الثالث : أن داود استخلفه في حياته على بني إسرائيل وكانت ولايته هي الوراثة وهو قول الضحاك ، ومنه قيل : العلماء ورثة الأنبياء ، لأنهم في الدين مقام الأنبياء .
قوله تعالى : { فَهُمُ يُوزَعُونَ } فيه ستة أوجه :
أحدها : يساقون ، وهو قول ابن زيد .
الثاني : يدفعون ، قاله الحسن ، قال اليزيدي : تدفع أخراهم وتوقف أولاهم .
الثالث : يسحبون ، قاله المبرِّد .
الرابع : يجمعون .
الخامس : يسجنون ، قال الشاعر :
لسان الفتى سبع عليه سداته ... وإلا يزع من عَرْبه فهو قاتله
وما الجهل إلا منطق متسرع ... سواءٌ عليه حق أمرٍ وباطله
السادس : يمنعون ، مأخوذ من وزعه عن الظلم ، وهو منعه عنه ، ومنه قول عثمان رضي الله عنه : ما وزع الله بالسلطان أكبر مما وزع بالقرآن . وقال النابغة :
على حين عاتبتُ المشيبَ على الصبا ... وقلت ألما تصدع والشيب وازعُ
والمراد بهذا المنع ما قاله قتادة : أن يُرد أولهم على آخرهم ليجتمعوا ولا يتفرقوا .
قوله تعالى : { حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ } قال قتادة : ذكر لنا أنه وادٍ بأرض الشام . وقال كعب : وهو بالطائف .
{ قَالَتْ نَمَلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُواْ مَسَاكِنَكُم } قال الشعبي : كان للنملة جناحان فصارت من الطير ، فلذلك علم منطقها ، ولولا ذلك ، ما علمه .
{ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ } أي لا يهلكنكم
. { وَهُمُ لاَ يَشعُرُونَ } فيه وجهان
: أحدهما : والنمل لا يشعرون بسليمان وجنوده ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : وسليمان وجنوده لا يشعرون بهلاك النمل ، وسميت النملة نملة لتنملها وهو كثرة حركتها وقلة قرارها ، وقيل إن النمل أكثر جنسه حساً لأنه إذا التقط الحبة من الحنطة والشعير للادخار قطعها اثنين لئلا تنبت ، وإن كانت كزبرة قطعها أربع قطع { لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ } فحكي أن الريح أطارت كلامها إلى سليمان حتى سمع قولها من ثلاثة أميال فانتهى إليها وهي تأمر النمل بالمغادرة .
{ فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : أنه تبسم من حذرها بالمغادرة .
الثاني : أنه تبسم من ثنائها عليه .
الثالث : أنه تبسم من استبقائها للنمل .
قال ابن عباس : فوقف سليمان بجنوده حتى دخل النمل مساكنه .

{ وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ } فيه ثلاثة أقاويل
: أحدها : ألهمني ، قاله قتادة .
الثاني : اجعلني ، قاله ابن عباس .
الثالث : حرضني ، قاله ابن زيد فحكى سفيان أن رجلاً من الحرس قال لسليمان ، أنا بمقدرتي أشكر لله منك ، قال فخرّ سليمان عن فرسه ساجداً .
وفي سبب شكره قولان :
أحدهما : أن علم منطق الطيرحتى فهم قولها .
الثاني : أن حملت الريح قولها إليه حتى سمعه قبل وصوله لجنوده على ثلاثة أميال فأمكنه الكف .
{ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ } فيه وجهان
: أحدهما : شكر ما أنعم به عليه ، قاله الضحاك .
الثاني : حفظ ما استرعاه ، وهو محتمل .
{ وَأدْخَلْنِي فِي رَحْمَتِكَ } فيه وجهان : أحدهما : بالنبوة التي شرفتني بها .
الثاني : بالمعونة التي أنعمت عليّ بها .
{ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ } فيه وجهان
: أحدهما : في جملة أنبيائك .
الثاني : في الجنة التي هي دار أوليائك .
وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21)

قوله : { وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَال لِيَ لاَ أَرَى الْهُدْهُدَ } قيل إن سليمان كان إذا سافر أظله الطير من الشمس ، فأخل الهدهد بكانه ، فبان بطلوع الشمس منه بعده عنه ، وكان دليله على الماء ، وقيل : إن الأرض كانت كالزجاج للهدهد ، يرى ما تحتها فيدل على مواضع الماء حتى يحضر ، قال ابن عباس : فكانوا إذا سافروا نقر لهم الهدهد عن أقرب الماء في الأرض ، فقال نافع بن الأزرق : فكيف يعلم أقرب الماء إلى الأرض ولا يعلم بالفخ حتى يأخذه بعنقه؟ فقال ابن عباس : ويحك يا نافع ألم تعلم أنه إذا جاء القدر ذهب الحذر؟ فقال سليمان عن زوال الهدهد عن مكانه { مَا لِيَ لاَ أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبينَ } أي انتقل عن مكانه أم غاب .
{ لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : أنه نتف ريشه حتى لا يمتنع من شيء ، قاله ابن عباس .
الثاني : أن يحوجه إلى جنسه .
الثالث : أن يجعله مع أضداده .
{ أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسْلطَانٍ مُبِينٍ } فيه وجهان
: أحدهما : بحجة بينة .
الثاني : بعذر ظاهر ، قاله قتادة .
فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26)

قوله : { فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ } أي أقام غير طويل ويحتمل وجهين
: أحدهما : مكث سليمان غير بعيد حتى أتاه الهدهد .
الثاني : فمكث الهدهد غير بعيد حتى أتى سليمان .
{ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : بلغت ما لم تبلغه ، قاله قتادة .
الثاني : علمت ما لم تعلمه ، قاله سفيان .
الثالث : اطلعت على ما لم تطلع عليه ، قاله ابن عباس ، والإحاطة العلم بالشيء من جميع جهاته ، وفي الكلام حذف تقديره . ثم جاء الهدهد فسأله سليمان عن غيبته .
{ وَجِئْتُكَ مِنَ سَبَإٍ بِنَبإٍ يقين } أي بخبر صحيح صدق ، وفي { سبأ } قولان
: أحدهما : أنها مدينة بأرض اليمن يقال لها مأرب بينها وبين صنعاء مسيرة ثلاث ليال ، قاله قتادة ، قال السدي : بعث الله إلى سبأ اثني عشر نبياً ، وقال الشاعر :
من سبأ الحاضرين مأرب إذ ... يبنون من دون سيله العرما
الثاني : أن سبأ حي من أحياء اليمن واختلف قائلو هذا في نسبتهم إلى هذا ، فذهب قوم إلى أنه اسم امرأة كانت أمهم ، وروى علقمة عن ابن عباس قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سبأ فقال : « هُوَ وَلَدُ رَجُلٍ لَهُ عَشْرَةُ أَوْلاَدٍ فَبِاليَمَنِ مِنهُم سِتةٌ وبالشَّامِ مِنهُم أَربَعَةٌ ، فَأَمَّا اليَمَانِيونَ فَمَذحَجُ وجُهَينَةُ وَكِندَةُ وأنمارُ وَالأُزْدُ وَالأَشعَرِيونَ وأَمَّا الشامِيون فَلَخْمُ وَجذامُ وعَامِلَةُ وَغَسَّانُ
» وقيل هو سبأ بن يعرب بن قحطان . قال المفضل وسُمِّيَ سبأ لأنه أول من سبا
. قوله تعالى : { إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُم } قال الحسن : هي بلقيس بنت شراحيل ملكة سبأ ، وقال زهير بن محمد : هي بلقيس بنت شرحبيل بن مالك بن الديان وأمها فارعة الجنية ، وقيل ولدها أربعون ملكاً آخرهم شرحبيل . قال قتادة كان أولو مشورتها ثلاثمائة واثني عشر رجلاً كل رجل منهم على عشرة آلاف رجل .
{ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيءٍ } فيه قولان
: أحدهما : من كل شيء في أرضها ، قاله السدي .
الثاني : من أنواع الدنيا كلها ، قاله سفيان .
{ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ } فيه أربعة أقاويل
: أحدها : أنه السرير ، قاله قتادة .
الثاني : أنه الكرسي ، قاله سفيان .
الثالث : المجلس ، قاله ابن زيد .
الرابع : الملك ، قاله ابن بحر .
وفي قوله : { عَظِيمٌ } ثلاثة أوجه :
أحدها : ضخم .
الثاني : حسن الصنعة ، قاله زهير .
الثالث : لأنه كان من ذهب وقوائمه لؤلؤ وكان مستراً بالديباج والحرير عليه سبعة تعاليق ، قاله قتادة .
قال ابن إسحاق : وكان يخدمها النساء فكان معها لخدمتها ستمائة امرأة .
قوله : { أَلاَّ يَسْجدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبءَ فِي السَّمواتِ وَالأَرْضِ } فيه تأويلان :
أحدهما : يعني غيب السموات والأرض ، قاله عكرمة ، ومجاهد ، وقتادة ، وابن جبير .
الثاني : أن خبء السموات المطر وخبء الأرض النبات ، قاله ابن زيد ، والخبء بمعنى المخبوء وقع المصدر موقع الصفة .
وفي معنى الخبء في اللغة وجهان :
أحدهما : أنه ما غاب .
الثاني : أنه ما استتر .
وقرأ الكسائي { أَلاَ يَسْجُدُواْ } بالتخفيف وقرأ الباقون بالتشديد { أَلاَّ يَسْجُدُواْ } قال الفراء : من قرأ بالتخفيف فهو موضع سجدة ، ومن قرأ بالتشديد فليس بموضع سجدة .

وفي قائل هذا قولان :
أحدهما : أنه قول الله تعالى أمر فيه بالسجود له ، وهو أمر منه لجميع خلقه وتقدير الكلام : ألا يا ناس اسجدواْ لله .
الثاني : أنه قول الهدهد حكاه الله عنه .
ويحتمل قوله هذا وجهين :
أحدهما : أن يكون قاله لقوم بلقيس حين وجدهم يسجدون لغير الله .
الثاني : أن يكون قاله لسليمان عند عوده إليه واستكباراً لما وجدهم عليه .
وفي قول الهدهد لذلك وجهان :
أحدهما : أنه وإن يكن ممن قد علم وجوب التكليف بالفعل فهو ممن قد تصور بما ألهم من الطاعة لسليمان أنه نبي مطاع لا يخالف في قول ولا عمل .
الثاني : أنه كالصبي منا إذا راهق فرآنا على عبادة الله تصوّر أن ما خالفها باطل فكذا الهدهد في تصوره أن ما خالف فعل سليمان باطل .
قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31)

قوله : { قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ . . . } الآية ، هذا قول سليمان للهدهد قال ابتلي فاختبر من ذلك فوجده صادقاً .
{ اذْهَبِ بِّكِتَابِي هَذَا إِلَيهِمْ } قال مجاهد أخذ الهدهد الكتاب بمنقاره فأتى بهوها فجعل يدور فيه فقالت ما رأيت خيراً منذ رأيت هذا الطير في بهوي فألقى الكتاب إليها .
قال قتادة : فألقاه على صدرها وهي نائمة ، قال يزيد بن رومان : كانت في ملك من مضى من أهلها وقد سيست وساست حتى أحكمها ذلك .
{ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ } قال ابن عباس كن قريباً منهم .
{ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ }
فيه تقديم وتأخير تقديره فألقه إليهم فانظر ماذا يرجعون ثم تول عنهم ، حكاه ابن عيسى ، وقاله الفراء .
قوله : { قَالَتْ يَآ أَيُّهَأ المَلأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِليَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ } وفي صفتها الكتاب أنه كريم ، أربعة أوجه :
أحدها : لأنه مختوم ، قاله السدي .
الثاني : لحسن ما فيه ، قاله قتادة .
الثالث : لكرم صاحبه وأنه كان ملكاً ، حكاه ابن بحر .
الرابع : لتسخير الهدهد به بحمله . ويحتمل خامساً : لإلقائه عليها عالياً من نحو السماء .
قوله تعالى : { إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ } الآية ، أما قولها إنه من سليمان فلإعلامهم مرسل الكتابي وممن هو .
وأما قولها : { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } فلاستنكار هذا الاستفتاح الذي لم تعرفه هي ولا قومها لأن أول من افتتح { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } سليمان .
روى ابن بريدة عن أبيه قال كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : « إِنِّي لأَعْلَمُ آيَةً لَمْ تَنْزِلْ عَلَى نَبِيٍ قَبْلِي بَعْدَ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ » قال : قلت يا رسول الله أي آية هي؟ قال : « سَأُعَلِّمُكَهَا قَبْلَ أَنْ أَخْرُجَ مِنَ المَسْجِدِ » قال : فانتهى إلى الباب فأخرج إحدى قدميه فقلت : نسي ثم التفت إليّ فقال : « إِنَّهُ مِنْ سُلَيمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
» . حكى عاصم عن الشعبي قال : كَانَتْ كُتُبُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة كتب كان يكتب : باسمك الله ، فلما نزلت { بِسْمِ اللَّهِ مَجْرِيهَا } [ هود : 41 ] كتب : باسم الله ، فلما نزلت { قُلِ ادْعُواْ اللَّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ } [ الإِسراء : 110 ] كتب : باسم الله الرحمن ، فلما نزلت { إِنَّهُ مِن سُلَيمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ } كتب : بسم الله الرحمن الرحيم . قال عاصم قلت للشعبي أنا رأيت كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم . { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } قال ذلك الكتاب الثالث
. وأما قوله : { ألا تعلواْ عليَّ وأتوني مسلمين } فهذه كتب الأنباء موجزة مقصورة على الدعاء إلى الطاعة من غير بسط ولا إٍسهاب .
وفي { أَلاَّ تَعْلُواْ عَلَيَّ } ثلاثة أقاويل :
أحدها : لا تخالفوا عليّ ، قاله قتادة .
الثاني : لا تتكبروا علي ، قاله السدي وابن زيد .
الثالث : لا تمتنعوا عليّ ، قاله يحيى بن سلام .
{ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ } فيه أربعة تأويلات
: أحدها : مستسلمين ، قاله الكلبي .
الثاني : موحدين ، قاله ابن عباس .
الثالث : مخلصين ، قاله زهير .
الرابع : طائعين ، قاله سفيان .
قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33) قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35)

قوله : { قَالَتْ يَآ أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي } أشيروا عليّ في هذا الأمر الذي نزل بي فجعلت المشورة فتيا وقيل : إنها أول من وضع المشورة .
{ مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونَ } أي ممضية أمراً ، وفي قراءة ابن مسعود قاضية أمراً ، والمعنى واحد .
{ حَتَّى تَشْهَدُونَ } فيه وجهان
. أحدهما : حتى تشيروا ، قاله زهير .
الثاني : حتى تحضرواْ ، قاله الكلبي .
قوله تعالى : { قَالُواْ نَحْنُ أُوْلُواْ قُوَّةٍ } أي أهل عدد وعدة .
{ وَأُوْلُواْ بَأْسٍ شَدِيدٍ } أي شجاعة وآلة ، وفي هذا القول منهم وجهان
: أحدهما : تفويض الأمر إلى رأيها لأنها المدبرة لهم .
الثاني : أنهم أجابوها تبادرين إلى قتاله ، قاله ابن زيد .
قال مجاهد : كان تحت يدي ملكة سبأ اثنا عشر ألف قيل تحت كل قيل مائة ألف مقاتل وهذا بعيد .
{ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ } الآية . عرضوا عليها الحرب وردواْ إليها الأمر ، قال الحسن : ولّوا أمرهم علجة يضطرب ثدياها ، حدث أبو بكرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ تَمْلِكُهُمُ امْرَأَةٌ
» . قوله : { قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا } قال ابن عباس أخذوها عنوة ، وأفسدوها ، وخربوها .
ويحتمل وجهاً آخر : أن يكون بالاستيلاء على مساكنها وإجلاء أهلها عنها .
{ وَجَعَلُواْ أَعِزَّةَ أَهْلِهَآ أَذِلَّةً } أي أشرافهم وعظماءهم أذلة وفيه وجهان
: أحدهما : بالسيف ، قاله زهير .
الثاني : بالاستعباد ، قاله ابن عيسى .
ويحتمل ثالثاً : أن يكون بأخذ أموالهم وحط أقدارهم .
{ وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ } فيه قولان
: أحدهما : أن هذا من قول الله ، وكذلك يفعل الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها ، قاله ابن عباس .
الثاني أن هذا حكاية عن قول بلقيس : كذلك يفعل سليمان إذا دخل بلادنا ، قاله ابن شجرة .
قوله تعالى : { وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ } اختلف فيها على أربعة فيها على أربعة أقاويل :
أحدها : أنها كانت لبنة من ذهب ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنها كانت جوهَراً ، قاله ابن جبير .
الثالث : أنها كانت صحائف الذهب في أوعية الديباج ، قاله ثابت البناني .
الرابع : أنها أهدت غلماناً لباسهم لباس الجواري ، وجواري لباسهم لباس الغلمان ، قاله مجاهد ، وعكرمة وابن جبير ، والسدي ، وزهير ، واختلف في عددهم فقال سعيد بن جبير : كانوا ثمانين غلاماً وجارية ، وقال زهير كانوا ثمانين غلاماً وثمانين جارية .
{ فَنَاظِرةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ } قال قتادة : يرحمها الله إن كانت لعاقلة في إسلامها وشركها ، قد علمت أن الهدية تقع موقعها من الناس .
واختلف فيما قصدت بهديتها على قولين :
أحدهما : ما ذكره قتادة من الملاطفة والاستنزال .
الثاني : اختبار نبوته من ملكه ، ومن قال بهذا اختلفوا بماذا اختبرته على قولين :
أحدهما : أنها اختبرته بالقبول والرد ، فقالت : إن قبل الهدية فهو ملك فقاتلوه على ملككم وإن لم يقبل الهدية فهو نبي لا طاقة لكم بقتاله ، قاله ابن عباس وزهير .
الثاني : أنها اختبرته بتمييز الغلمان من الجواري ، ومن قال بهذا اختلفوا بماذا ميزهم سليمان عل ثلاثة أقوال .
أحدها : أن أمرهم بالوضوء فاغترف الغلام بيده وأفرغت الجارية على يديها فميزهم بهذا ، قاله السدي .
الثاني : لما توضؤوا غسل الغلمان ظهور السواعد قبل بطونها ، وغسل الجواري بطون السواعد قبل ظهورها ، فميزهم بهذا ، قاله قتادة .
الثالث : أنهم لما توضؤوا بدأ الغلام من مرفقه إلى كفه وبدأت الجارية من كفها إلى مرفقها ، فميزهم بهذا ، قاله ابن جبير .
فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (37)

قوله تعالى : { فَلَمَّا جَآءَ سُلَيْمَانُ } فيه وجهان
: أحدهما : فلما جاءت هداياها سليمان ، قاله يزيد بن رومان .
الثاني : فلما جاءت رسلها سليمان لأن الهدهد قد كان سبق إلى سليمان فأخبره بالهدية والرسل فتأهب سليمان لهم .
قال السدي : فأمر الشياطين فموّهوا لَبِن المدينة وحيطانها ذهباً وفضة ، وقيل إنها بعثت مع رسلها بعصاً كان يتوارثها ملوك حمير ، وقالت : أريد أن يعرفني رأس هذه من أسفلها ، وبقدح وقالت : يملؤه ماءً ليس من الأرض ولا من السماء ، وبخرزتين إحداهما ثقبُها معوج وقالت يدخل فيها خيطاً والأخرى غير مثقوبة وقالت يثقب هذه .
{ قَالَ } سليمان للرسل حين وصلوا إليه { أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ } معناه أتزيدونني مالاً إلى ما تشاهدونه من أموالي .
{ فَمَا ءَاتَانِ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا ءَاتَاكُم } أي فما آتاني من النبوة والملك خير مما آتاكم من المال ، فرد عليهم المال وميز الغلمان من الجواري ، وأرسل العصا إلى الأرض فقال أي الرأسين سبق للأرض فهو أصلها ، وأمر بالخيل فأجريت حتى عرقت وملأ القدح من عرقها وقال : ليس هذا من الأرض ولا من السماء ، وثقب إحدى الخرزتين وأدخل الخيط في الأخرى ، فقال الرسل ما شاهدوا .
واختلف في الرسل هل كانوا رجالاً أو نساء على قولين .
قوله { ارْجِعْ إِلَيْهِمْ } فيه قولان :
أحدهما : أنه قال ذلك للرسول ارجع إليهم بما جئت من الهدايا ، قاله قتادة . ويزيد بن رومان .
الثاني : أنه قال ذلك للهدهد [ ارجع إليه ] ، قائلاً لهم :
{ فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لاَّ قِبَلَ لَهُم بِهَا } أي لا طاقة لهم بها ليكون الهدهد نذيراً لهم ، قاله زهير .
وصدق نبي الله سليمان صلى الله عليه لأن من جنوده الإنس والجن والطير فليس لأحدٍ بها طاقة .
{ وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَآ أَذِلَّةً } الآية . إخباراً له عما يصنعه بهم ليسعد منهم بالإيمان من هدي وهذه سنة كل نبي .
قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40)

قوله { يَآ أَيُّهَا الْمَلأُ أَيُّكُمْ يَأَتِيني بِعَرْشِهَا } الآية . حكى يزيد بن رومان أنه لما عاد رسلها بالهدايا قالت : قد والله عرفت أنه ليس بملك وما لنا به طاقة ، ثم بعثت إليه : إني قادمة عليك بملوك قومي ثم أمرت بعرشها فجعلته في سبعة أبيات بعضها في جوف بعض وغلقت عليه الأبواب وشَخَصَت إلى سليمان في اثني عشر ألف قيل من ملوك اليمن ، فقال سليمان حين علم قدومها عليه :
{ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا } الآية : وفيه وجهان
: أحدهما : مسلمين أي مستسلمين طائعين ، قاله ابن عباس .
الثاني : أن يأتوني مسلمين أي بحرمة الإٍسلام ودين الحق ، قاله ابن جريج .
فإن قيل : فلم أَمَرَ أنَ أن يؤتى بعرشها قبل أن يأتوا إليه مسلمين؟
قيل عنه في الجواب خمسة أوجه :
أحدها : أنه أراد أن يختبر صدق الهدهد ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنه أعجب بصفته حين وصفه الهدهد وخشي أن تسلم فيحرم عليه مالها فأراد أخذه قبل أن يحرم عليه بإسلامها ، قاله قتادة .
الثالث : أنه أحب أن يعاليها به وكانت الملوك يعالون بالملك والقدرة ، قاله ابن زيد .
الرابع : أنه أراد أن يختبر بذلك عقلها وفطنتها ، وهل تعرفه أو تنكره ، قاله ابن جبير .
الخامس : أنه أراد أن يجعل ذلك دليلاً على صدق نبوته ، لأنها خلفته في دارها وأوثقته في حرزها ثم جاءت إلى سليمان فوجدته قد تقدمها ، قاله وهب .
قوله : { قَالَ عِفْرِيتٌ مِّنَ الْجِنِّ } العفريت المارد القوي ، قال أبو صالح كأنه جبل وفيه وجهان :
أحدهما : أنه المبالغ في كل شيء مأخوذ من قولهم فلان عفرية نفرية إذا كان مبالغاً في الأمور ، قاله الأخفش .
الثاني : أصله العفر وهو الشديد ، زيدت فيه التاء فقيل عفريت ، قاله ابن قتيبة .
{ أَنَاْ ءَاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ } فيه ثلاثة أقاويل
: أحدها : من مجلسك وسمي المجلس مقاماً لإقامة صاحبه فيه كما قال تعالى : { إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ } [ الدخان : 51 ] .
الثاني : أنه أراد يوماً معروفاً كان عادة سليمان أن يقوم فيه خطيباً يعظهم ، ويأمرهم ، وينهاهم ، وكان مجيء اليوم تقريباً .
الثالث : أنه أراد قبل أن تسير عن ملكك إليهم محارباً .
{ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ } لقوي على حمله ، وفي الأمين ثلاثة أقاويل
: أحدها : أمين على ما فيه من جوهر ولؤلؤ ، قاله الكلبي وابن جرير .
الثاني : أمين ألا آتيك بغيره بدلاً منه ، قاله ابن زيد .
الثالث : أمين على فرج المرأة ، قاله ابن عباس ، وحكى يزيد بن رومان ان اسم العفريت كودي ، وحكى ابن أبي طلحة أن اسمه صخر ، وحكى السدي أنه آصف بن السيطر بن إبليس ، والله أعلم بصحة ذلك .
قوله : { قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ } فيه أربعة أقاويل :
أحدها : أنه ملك أيد الله به سليمان ، والعلم الذي من الكتاب هو ما كتب الله لبني آدم ، وقد علم الملائكة منه كثيراً فأذن الله له أن يعلم سليمان بذلك ، وأن يأتيه بالعرش الذي طلبه ، حكاه ابن بحر .

القول الثاني : أنه بعض جنود سليمان من الجن والإِنس ، والعلم الذي عنده من الكتاب هو كتاب سليمان الذي كتبه إلى بلقيس وعلم أن الريح مسخرة لسليمان وأن الملائكة تعينه فتوثق بذلك قبل أن يأتيه بالعرش قبل أن يرتد إليه طرفه .
والقول الثالث : أنه سليمان قال ذلك للعفريت .
والقول الرابع : أنه قول غيره من الإنس ، وفيه خمسة أقاويل :
أحدها : أنه مليخا ، قاله قتادة .
الثاني : أنه أسطوم ، قاله مجاهد .
الثالث : أنه آصف بن برخيا وكان صدّيقاً ، قاله ابن رومان .
الرابع : أنه ذو النور بمصر ، قاله زهير .
الخامس : أنه الخضر ، قاله ابن لهيعة .
و { عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ } هو اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب .
{ أَنَاْ ءَاتِيكَ بِهِ } يعني بالعرش
. { قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ } فيه ستة أوجه
: أحدها : قبل أن يأتيك أقصى من تنظر إليه ، قاله ابن جبير .
الثاني : قبل أن يعود طرفك إلى مد بصرك ، قاله ابن عباس ، ومجاهد .
الثالث : قبل أن يعود طرفك إلى مجلسك ، قاله إدريس .
الرابع : قبل الوقت الذي تنظر وروده فيه من قولهم : أنا ممد الطرف إليك أي منتظر لك ، قاله ابن بحر .
الخامس : قبل أن يرجع طرف رجائك خائباً لأن الرجاء يمد الطرف والإياس يقصر الطرف .
السادس : قبل أن ينقص طرفك بالموت ، أخبره أنه سيأتيه قبل موته .
{ فَلَمَّا رَءَاهُ مُسْتَقِراً عِندَهُ } قبل أن يرتد طرفه لأن الذي عنده علم عن الكتاب دعا باسم الله الأعظم وعاد طرف سليمان إليه فإذا العرش بين يديه .
قال عبد الرحمن بن زيد : لم يعلم سليمان ذلك الاسم وقد أُعطي ما أُعطي .
قال السدي : فجزع سليمان وقال : غيري أقدر على ما عند الله مني ، ثم استرجع . { قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلُ رَبِّي } يعني وصول العرش إليّ قبل أن يرتد إليَّ طرفي
. { لِيَبْلُوَنِّي ءَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ } قال زهير : أأشكر على العرش إذ أوتيته في سرعة أم أكفر فلا أشكر إذ رأيت من هو أعلم مني في الدنيا .
قال زهير : ثم عزم الله له على الشكر فقال : { وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرْ لِنَفْسِهِ } لأن الشكر تأدية حق واستدعاء مزيد .
{ وَمَن كَفَرَ فِإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ } عن الشكر { كَرِيمٌ } في التفضل ، وهذه معجزة لسليمان أجراها الله على يد من اختصه من أوليائه .
وكان العرش باليمن وسليمان بالشام فقيل : ان الله حرك به الأرض حتى صار بين يديه .
قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ (43) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44)

قوله : { قَالَ نَكَرُواْ لَهَا عَرْشَهَا } أي غيروه وفي تغييره خمسة أوجه
: أحدها : أنه نزع ما عليه من فصوصه ، ومرافقه وجواهره ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنه غيّر ما كان أحمر فجعله أخضر وما كان أخضر جعله أحمر ، قاله مجاهد .
الثالث : غيّر بأن زيد فيه ونقص منه ، قاله عكرمة .
الرابع : حوّل أعلاه أسفله ومقدمه مؤخره ، قاله شيبان بن عبد الرحمن .
الخامس : غيّره بأن جعل فيه تمثال السمك ، قاله أبو صالح .
{ نَنْظُرُ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لاَ يَهْتَدُونَ } فيه وجهان
: أحدهما : أتهتدي إلى الحق بعقلها أم تكون من الذين لا يعقلون ، وهذا معنى قول ابن رومان .
الثاني : إلى معرفة العرش بفطنتها أم تكون من الذين لا يعرفون ، وهذا معنى قول ابن جبير ، ومجاهد .
{ فَلَمَّا جَآءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ } فلم تثبته ولم تنكره واختلف في سبب قولها ذلك ، على ثلاثة أقاويل :
أحدها : لأنها خلفته وراءها فوجدته أمامها فكان معرفتها له تمنع من إنكاره وتركها له وراءها يمنع إثباته ، وهذا معنى قول قتادة .
الثاني : لأنها وجدت فيه ما تعرفه فلذلك لم تنكره ووجدت فيه ما بُدِّل وغير فلذلك لم تثبته ، قاله السدي .
الثالث : شبهوا عليها حين قالوا : أهكذا عرشك؟ فشبهت عليهم فقالت : كأنه هو ولو قالوا لها : هذا عرشك لقالت : نعم ، قاله مقاتل .
{ وَأُوَتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا } وهذا قول من سليمان وقيل هو من كلام قومه ، وفي تأويله ثلاثة أقاويل :
أحدها : معرفة الله وتوحيده ، قاله زهير .
الثاني : النبوة ، قاله يحيى بن سلام .
الثالث : أي علمنا أن العرش عرشها قبل أن نسألها ، قاله ابن شجرة .
{ وَكُنَّا مُسْلِمِينَ } فيه وجهان
: أحدهما : طائعين لله بالاستسلام له .
الثاني : مخلصين لله بالتوحيد .
قوله تعالى { وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَّعْبُدُ مِن دُونِ اللَّهِ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : وصدها عبادة الشمس أن تعبد الله .
الثاني : وصدّها كفرها بقضاء الله أن تهتدي للحق .
الثالث : وصدّها سليمان عما كانت تعبد في كفرها .
الرابع : وصدها الله تعالى إليه بتوفيقها بالإيمان عن الكفر .
قوله : { قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها بركة بنيت قوارير ، قاله مجاهد .
الثاني : أنها صحن الدار ، حكاه ابن عيسى يقال صرحة الدار وساحة الدار وباحة الدار وقاعة الدار كله بمعنى واحد . قال زهير مأخوذ من التصريح ومنه صرح بالأمر إذا أظهره .
الثالث : أنه القصر قاله ابن شجرة ، واستشهد بقول الهذلي .
على طرق كنحو الظباء ... تحسب أعلامهن الصروحا
{ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً } أي ماء لأن سليمان أمر الجن أن يبنوه من قوارير في ماء فبنوه وجعلوا حوله أمثال السمك فأمرها بالدخول لأنها وصفت له فأحب أن يراها .
قال مجاهد : وكانت هلباء الشعر والهلباء الطويلة الشعر ، قدمها كحافر الحمار وكانت أمها جنيه . قال الحسن : وخافت الجن أن يتزوجها سليمان فيطلع منها على أشياء كانت الجن تخفيها عنه . وهذا القول بأن أمها جنية مستنكر في العقول لتباين الجنسين واختلاف الطبعين وتفاوت الجسمين ، لأن الآدمي جسماني ، والجني روحاني ، وخلق الله الآدمي من صلصال كالفخار وخلق الجني من مارج من نار ، ويمتنع الامتزاج من هذا التباين ويستحيل التناسل مع هذا الاختلاف ، لكنه قيل فذكرته حاكياً .

{ وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا } فرآهما سليمان شعراوين فصنعت له الجن النورة فحلقهما ، فكان أول من صنعت النورة .
واختلفواْ في السبب الذي كان من أجله أراد سليمان كشف ساقيها لدخول الصرح على ثلاثة أقاويل :
أحدها : لأنه أراد أن يختبر بذلك عقلها .
الثاني : أنه ذكر له أن ساقها ساق حمار لأن أمها جنية فأحب أن يختبرها .
الثالث : لأنه أراد أن يتزوجها فأحب أن يشاهدها .
{ قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ } فيه قولان
: أحدهما : أنه المجلس ومنه الأمرد لملوسته ، قاله علي بن عيسى .
الثاني : أنه الواسع طوله وعرضه ، قاله ابن شجرة وأنشد :
غدوت صباحاً باكراً فوجدتهم ... قبيل الضحى في البابلي الممرد
قوله تعالى : { قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي } فيه قولان
: أحدهما : بالشرك الذي كانت عليه ، قاله ابن شجرة .
الثاني : بالظن الذي توهمته في سليمان لأنها لما أمرت بدخول الصرح حسبته لجة وأن سليمان يريد تغريقها فيه فلما بان لها أنه صرح ممرد من قوارير علمت أنها ظلمت نفسها بذلك الظن ، قاله سفيان .
{ وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } أي استسلمت مع سليمان لله طائعة لله رب العالمين .
قال مقاتل : فتزوجها سليمان واتخذ لها حماماً ونورة بالشام ، وهو أول من اتخذ ذلك ، ثم لم ير إلا كذلك حتى فرق الموت بينهما ، فحكى الشعبي عن ناس من حمير أنهم حفروا مقبرة الملك فوجدوا فيها أرضاً معقودة فيها امرأة عليها حلل منسوخة بالذهب وعند رأسها لوح رخام فيه مكتوب : -
يا أيها الأقوام عُوجوا معاً ... وأربعوا في مقبري العيسا
لتعلموا أني تلك التي ... قد كنت أدْعي الدهر بلقيسا
شيّدت قصر الملك في حمير ... قومي وقد كان مأنوسا
وكنت في ملكي وتدبيره ... أرغم في الله المعاطيسا
بَعْلي سليمان النبي الذي ... قد كان للتوراة دريسا
وسخّر الريح له مركباً ... تهب أحياناً رواميسا
مع ابن داود النبي الذي ... قدسه الرحمن تقديسا
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47)

قوله تعالى : { فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ } فيه قولان
: أحدهما : كافر ومؤمن ، قاله مجاهد .
الثاني : مصدق ومكذب ، قاله قتادة .
وفيم اختصموا؟ فيه قولان :
أحدهما : أن تقول كل فرقة نحن عل الحق دونكم .
الثاني : اختلفوا أتعلمون أن صالحاً مرسل من ربه ، قاله مجاهد .
قوله : { قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ } فيه قولان :
أحدهما : بالعذاب قبل الرحمة ، قاله مجاهد ، لقولهم { فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ } .
الثاني : بالبلاء قبل العافية ، قاله السدي .
{ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } فيه وجهان
: أحدهما : بالكفاية .
الثاني : بالإِجابة .
قوله : { قَالُواْ اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ } أي تشاءَمنا بك وبمن معك مأخوذ من الطيرة ، وفي تطيرهم به وجهان :
أحدهما : لافتراق كلمتهم ، قاله ابن شجرة .
الثاني : للشر الذي نزل بهم ، قاله قتادة .
{ قَالَ طَآئِرُكُمْ عِندَ اللَّهِ } فيه وجهان
: أحدهما : مصائبكم عند الله ، قاله ابن عباس ، لأنها في سرعة نزولها عليكم كالطائر .
الثاني : عملكم عند الله ، قاله قتادة ، لأنه في صعوده إليه كالطائر .
{ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ } فيه وجهان
: أحدهما : تبتلون بطاعة الله ومعصيته ، قاله قتادة .
الثاني : تصرفون عن دينكم الذي أمركم الله به وهو الإسلام ، قاله الحسن .
وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48) قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49) وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (53)

قوله : { وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ } الرهط الجمع لا واحد له يعني من ثمود قوم صالح وهم عاقرو الناقة ، وذكر ابن عباس أساميهم فقال : هم زعجي وزعيم وهرمي ودار وصواب ورباب ومسطح وقدار ، وكانواْ بأرض الحجر وهي أرض الشام ، وكانوا فساقاً من أشراف قومهم .
{ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلاَ يُصْلِحُونَ } فيه خمسة أوجه
: أحدها : يفسدون بالكفر ولا يصلحون بالإيمان .
الثاني : يفسدون بالمنكر ولا يصلحون بالمعروف .
الثالث : يفسدون بالمعاصي ولا يصلحون بالطاعة .
الرابع : يفسدون بكسر الدراهم والدنانير ولا يصلحون بتركها صحاحاً ، قاله ابن المسيب ، قاله عطاء .
الخامس : أنهم كانوا يتتبعون عورات النساء ولا يسترون عليهن .
قوله : { قَالُواْ تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ } أي تحالفواْ بالله .
{ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ } أي لنقتلنه وأهله ليلاً ، والبيات قتل الليل
. { ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ } أي لرهط صالح
. { مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ } أي قتله ، وقتل أهله ، ولا علمنا ذلك
. { وَإِنَّا لَصّادِقُونَ } في إنكارنا لقتله
. { وَمَكَرُواْ مَكْراً } وهو ما همّوا به من قتل صالح
. { وَمَكَرْنَا مَكْراً } وهو أن رماهم الله بصخرة فأهلكهم
. { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } أي لا يعلمون بمكرنا وقد علمنا بمكرهم
. وفي مكرهم ومكر الله تعالى بهم قولان :
أحدهما : قاله الكلبي ، وهم لا يشعرون بالملائكة الذين أنزل الله على صالح ليحفظوه من قومه حين دخلوا عليه ليقتلوه ، فرموا كل رجل منهم بحجر حتى قتلوهم جميعاً ، وسَلِمَ صالح من مكرهم .
الثاني : قاله الضحاك ، أنهم مكروا بأن أظهروا سفراً وخرجوا فاستتروا في غار ليعودوا في الليل فيقتلوهُ ، فألقى الله صخرة على باب الغار حتى سدّه وكان هذا مكر الله بهم .
وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55) فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58)

قوله تعالى : { أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ } فيه وجهان
: أحدهما : أي وأنتم تعلمون أنها فاحشة .
الثاني : يبصر بعضكم بعضاً .
قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60)

قوله تعالى : { فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَآئِقَ } فيها قولان
: أحدهما : أنها النخل ، قاله الحسن .
الثاني : الحائط من الشجر والنخل ، قاله الكلبي .
{ ذَاتَ بَهْجَةٍ } فيها قولان
: أحدهما : ذات غضارة ، قاله قتادة .
الثاني : ذات حسن ، قاله الضحاك .
{ مَّا كَانَ لَكُْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا } أي ما كان في قدركم أن تخلقوا مثلها
. { أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ } فيه وجهان
: أحدهما : أي ليس مع الله إله ، قاله قتادة .
الثاني : أإله مع الله يفعل هذا ، قاله زيد بن أسلم .
{ بَلْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ } فيه وجهان
: أحدهما : أي يعدلون عن الحق .
الثاني : يشركون بالله فيجعلون له عدلاً أي مثلاً ، قاله قطرب ومقاتل .
أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61)

قوله : { أَمَّن جَعَلَ الأَرْضَ قَرَاراً } أي جعلها مستقراً
. { وَجَعَلَ خِلاَلَهَآ أَنْهَاراً } أي في مسالكها ونواحيها أنهار جارية ينبت بها الزرع ويحيي به الخلق .
{ وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ } يعني جبالاً هي لها ماسكة والأرض بها ثابتة
. { وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَينِ حَاجِزاً } فيه أربعة أقاويل
: أحدها : بحر السماء والأرض ، قاله مجاهد .
الثاني : بحر فارس والروم ، قاله الحسن .
الثالث : بحر الشام والعراق ، قاله السدي .
الرابع : العذب والمالح ، قاله الضحاك .
والحاجز المانع من اختلاط أحدهما بالآخر فيه وجهان :
أحدهما : حاجزاً من الله لا يبغي أحدهما على صاحبه ، قاله قتادة .
الثاني : حاجزاً من الأرض أن يختلط أحدهما بالآخر ، حكاه قتادة .
{ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : لا يعقلون ، قاله ابن عباس .
الثاني : لا يعلمون توحيد الله ، حكاه النقاش .
الثالث : لا يتفكرون ، حكاه ابن شجرة .
أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62)

قوله { أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ } وإنما خص إجابة المضطر لأمرين
: أحدهما : لأن رغبته أقوى وسؤاله أخضع .
الثاني : لأن إجابته أعم وأعظم لأنها تتضمن كشف بلوى وإسداء نعمى .
{ وَيَكْشِفُ السُّوءَ } يحتمل وجهين
: أحدهما : أن يكون عن المضطر بإجابته .
الثاني : عمن تولاه ألاَّ ينزل به .
وفي { السُّوءَ } وجهان :
أحدهما : الضر .
الثاني : الجور ، قاله الكلبي .
{ وَيَجْعَلَكُمْ خُلَفَآءَ الأَرْضِ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدهما : خلفاً من بعد خلف ، قاله قتادة .
الثاني : أولادكم خلفاء منكم ، حكاه النقاش .
الثالث : خلفاء من الكفار ينزلون أرضهم وطاعة الله بعد كفرهم ، قاله الكلبي .
{ قَلِيلاً مَّا تَذَكَرُونَ } أي ما أقل تذكركم لنعم الله عليكم
!
أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (64)

قوله { أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرَّ وَالْبَحْرِ } فيه وجهان
: أحدهما : يرشدكم من مسالك البر والبحر .
الثاني : يخلصكم من أهوال البر والبحر ، قاله السدي .
وفي { الْبَرِّ وَالْبَحْرِ } وجهان :
أحدهما : أن البر الأرض والبحر الماء .
الثاني : أن البر بادية الأعراب والبحر الأمصار والقرى ، قاله الضحاك .
{ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : مبشرة ، قاله ابن عباس وتأويل من قرأ بالباء .
الثاني : منشرة ، قاله السدي وهو تأويل من قرأ بالنون .
الثالث : ملقحات ، قاله يحيى بن سلام .
{ بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ } وهو المطر في قول الجميع
. { أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } أي عما أشرك المشركون به من الأوثان .
قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ (66) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69) وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70)

قوله : { بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ } وفي صفة علمهم بهذه الصفة قولان
: أحدهما : أنها صفة ذم فعلى هذا في معناه أربعة أوجه :
أحدها : غاب عليهم ، قاله ابن عباس .
الثاني : لم يدرك علمهم ، قاله ابن محيصن .
الثالث : اضمحل علمهم ، قاله الحسن .
الرابع : ضل علمهم وهو معنى قول قتادة . فهذا تأويل من زعم أنها صفة ذم .
والقول الثاني : أنها صفة حمد لعلمهم وإن كانوا مذمومين فعلى هذا في معناه ثلاثة أوجه :
أحدها : أدرك علمُهم ، قاله مجاهد .
الثاني : اجتمع علمهم ، قاله السدي .
الثالث : تلاحق علمهم ، قاله ابن شجرة .
{ فِي شَكٍّ مِّنْهَا } يعني من الآخرة فمن جعل ما تقدم صفة ذمٍ لعلمهم جعل نقصان علمهم في الدنيا فلذلك أفضى بهم إلى الشك في الآخرة ، ومن جعل ذلك صفة حمد لعلمهم جعل كمال علمهم في الآخرة فلم يمنع ذلك أن يكونوا في الدنيا على شك في الآخرة .
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (71) قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (73) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (74) وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (75) إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81)

قوله : { رَدِفَ لَكُم } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : معناه اقترب لكم ودنا منكم ، قاله ابن عباس وابن عيسى .
الثاني : أعجل لكم ، قاله مجاهد .
الثالث : تبعكم ، قاله ابن شجرة ومنه رِدْف المرأة لأنه تبع لها من خلفها ، قال أبو ذؤيبٍ :
عاد السواد بياضاً في مفارقه ... لا مرحباً ببياض الشيب إذ ردِفا
وفي قوله تعالى : { بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ } وجهان
: أحدهما : يوم بدر .
الثاني : عذاب القبر .
قوله : { وَمَا مِنْ غَآئِبَةٍ . . . . } الآية . فيها ثلاثة أوجه :
أحدها : أن الغائبة القيامة ، قاله الحسن .
الثاني : ما غاب عنهم من عذاب السماء والأرض ، حكاه النقاش .
الثالث : جميع ما أخفى الله عن خلقه وغيَّبه عنهم ، حكاه ابن شجرة .
وفي { كِتَابٍ مُّبِينٍ } قولان :
أحدهما : اللوح المحفوظ .
الثاني : القضاء المحتوم .
وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ (82)

قوله { وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ } فيه أربعة أوجه
: أحدها : وجب الغضب عليهم ، قاله قتادة .
الثاني : إذا حق القول عليهم بأنهم لا يؤمنون ، قاله مجاهد .
الثالث : إذا لم يؤمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر وجب السخط عليهم ، قاله ابن عمر وأبو سعيد الخدري .
الرابع : إذا نزل العذاب ، حكاه الكلبي .
{ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ } فيها قولان
: أحدهما : ما حكاه محمد بن كعب عن علي بن أبي طالب أنه سئل عن الدابة فقال : أما والله لها ذنب وإن لها للحية ، وفي هذا القول إشارة إلى أنها من الإنس وإن لم يصرح .
الثاني : وهو قول الجمهور أنها دابة من دواب الأرض ، واختلف من قال بهذا في صفتهاعلى ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها دابة ذات زغب وريش لها أربع قوائم ، قاله ابن عباس :
الثاني : أنها دابة ذات وبر تناغي السماء ، قاله الشعبي .
القول الثالث : أنها دابة رأسها رأس ثور وعينها عين خنزير وأذنها أذن فيل وقرنها قرن آيِّل وعنقها عنق نعامة وصدرها صدر أسد ولونها لون نمر وخاصرتها خاصرة هر وذنبها ذنب كبش وقوائمها قوائم بعير بين كل مفصلين اثنا عشر ذراعاً تخرج معها عصا موسى وخاتم سليمان فتنكت في وجه المسلم بعصا موسى نكتة بيضاء وتنكت في وجه الكافر بخاتم سليمان فيسود وجهه ، قاله ابن الزبير .
وفي قوله { مِّنَ الأَرْضِ } أربعة أقاويل :
أحدها : أنها تخرج من بعض أودية تهامة ، قاله ابن عباس .
الثاني : من صخرة من شعب أجياد ، قاله ابن عمر .
الثالث : من الصفا ، قاله ابن مسعود .
الرابع : من بحر سدوم ، قاله ابن منبه .
وفي { تُكَلِّمُهُمْ } قراءتان :
الشاذة منهما : { تَسِمهُم } بفتح التاء ، وفي تأويلها وجهان :
أحدهما : تسمهم في وجوههم بالبياض في وجه المؤمن ، وبالسواد في وجه الكافر حتى يتنادى الناس في أسواقهم يا مؤمن يا كافر ، وقد روى أبو أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « تَخْرُجُ الدَّابَّهُ فَتَسِم الناسَ عَلَى خَرَاطِيمِهِم
» . الثاني : معناه تجرحهم وهذا مختص بالكافر والمنافق ، وجرحه إظهار كفره ونفاقه ومنه جرح الشهود بالتفسيق ، ويشبه أن يكون قول ابن عباس .
والقراءة الثانية : وعليها الجمهور { تُكَلِّمُهُمْ } بضم التاء وكسر اللام من الكلام ، وحكى قتادة أنها في بعض القراءة : { تُنَبِّئُهُمْ } وحكى يحيى بن سلام أنها في بعض القراءة : { تُحَدِّثُهُمْ } .
وفي كلامها على هذا التأويل قولان :
أحدهما : أن كلامها ظهور الآيات منها من غير نطق ولا لفظ .
والقول الثاني : أنه كلام منطوق به .
فعلى هذا فيما تكلم به قولان :
أحدهما : أنها تكلمهم بأن هذا مؤمن وهذا كافر .
الثاني : تكلمهم بما قاله الله { أَنَّ النَّاسَ كَانُواْ بِئَايَاتِنَا لاَ يُوقِنُونَ } قاله ابن مسعود وعطاء .
وحكى ابن البيلماني عن ابن عمر أن الدابة تخرج ليلة جمع وهي ليلة النحر والناس يسيرون إلى منى .
وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ (85) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86)

قوله : { وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أَمَّةٍ فَوْجاً مِّمَّن يُكَذِّبُ بِئَايَتِنَا } وهم كفارها المكذبون . وفي قوله { بَئَايَاتِنَا } وجهان :
أحدهما : محمد صلى الله عليه وسلم ، قاله السدي .
الثاني : جميع الرسل ، وهو قول الأكثرين .
{ فَهُمْ يُوزَعُونَ } فيه أربعة أوجه
: أحدها : يجمعون ، قاله ابن شجرة .
الثاني : يدفعون ، قاله ابن عباس .
الثالث : يساقون ، قاله ابن زيد والسدي ، ومنه قول الشماخ .
وكم وزعنا من خميس جحفل ... وكم حبونا من رئيس مسحل
الرابع : يُرَدُّ أولاهم على أُخراهم ، قاله قتادة .
وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (87) وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90)

{ وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ } وهو يوم النشور من القبور وفيه ثلاثة أقاويل
: أحدها : أن الصور جمع صورة ، والنفخ فيها إعادة الأرواح إليها .
الثاني : أنه شيء ينفخ فيه كالبوق يخرج منه صوت يحيا بن الموتى .
الثالث : أنه مثل ضربه الله لإحياء الموتى في وقت واحد بخروجهم فيه كخروج الجيش إذا أُنذروا بنفخ البوق فاجتمعوا في الخروج وقتاً واحداً .
{ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَن شَآءَ اللَّهُ } وفي هذا الفزع هنا قولان :
أحدهما : أنه الإجابة والإسراع إلى النداء من قولك فزعت إليه من كذا إذا أسرعت إلى ندائه في معونتك قال الشاعر :
كنا إذا ما أتانا صارخٌ فزع ... كان الصراخ له قرع الظنابيب
فعلى هذا يكون { إِلاَّ مَن شَاءَ اللَّهُ } استثناء لهم من الإِجابة والإسراع إلى النار
. ويحتمل من أريد بهم وجهين :
أحدهما : الملائكة الذين أخروا عن هذه النفخة .
والقول الثاني : إن الفزع هنا هو الفزع المعهود من الخوف والحذر لأنهم أزعجوا من قبورهم ففزعوا وخافوا وهذا أشبه القولين فعلى هذا يكون قوله { إِلاَّ مَن شَآءَ } استثناء لهم من الخوف والفزع .
وفيهم قولان :
أحدهما : أنهم الملائكة الذين يثبت الله قلوبهم ، قاله ابن عيسى .
الثاني : أنهم الشهداء . روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنهم الشهداء ولولا هذا النص لكان الأنبياء بذلك أحق لأنهم لا يقصرون عن منازل الشهداء وإن كان في هذا النص تنبيه عليهم . وقيل إن إسرافيل هو النافخ في الصور .
{ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ } فيه وجهان
: أحدهما : راغمين ، قاله السدي .
الثاني : صاغرين ، قاله ابن عباس وقتادة ويكون المراد بقوله { وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ } من فزع ومن استثني من الفزع بقوله { إِلاَّ مَن شَآءَ اللَّهُ } وهذا يكون في النفخة الثانية ، والفزع بالنفخة الأولى ، وروى الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ أَرْبَعُونَ عَاماً
» . قوله { وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً } أي واقفة
. { وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ } أي لا يرى سيرها لبعد أطرافها كما لا يرى سير السحاب إذا انبسط لبعد أطرافه وهذا مثل ، وفيم ضرب له ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه مثل ضربه الله تعالى للدنيا يظن الناظر إليها أنها واقفة كالجبال وهي آخذة بحظها من الزوال كالسحاب ، قاله سهل بن عبد الله .
الثاني : أنه مثل ضربه الله للإيمان ، تحسبه ثابتاً في القلب وعمله صاعد إلى السماء .
الثالث : أنه مثل للنفس عند خروج الروح والروح تسير إلى القدس .
{ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيىْءٍ } أي فعل الله الذي أتقن كل شيء . وفيه أربعة أوجه :
أحدها : أحكم كل شيء ، قاله ابن عباس .
الثاني : أحصى ، قاله مجاهد .
الثالث : أحسن ، قاله السدي .
الرابع : أوثق ، واختلف فيها فقال الضحاك : هي كلمة سريانية ، وقال غيره : هي عربية مأخوذ من إتقان الشيء إذا أحكم وأوثق ، وأصلها من التقن وهو ما ثقل من الحوض من طينة .
قوله : { مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ } فيها وجهان :
أحدهما : أنها أداء الفرائض كلها .
الثاني : أفضل منها لأنه يعطى بالحسنة عشراً ، قاله زيد بن أسلم .
الثالث : فله منها خير للثواب العائد عليه ، قاله ابن عباس ومجاهد .
{ وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ ءَامِنُونَ } فيه وجهان
: أحدهما : وهم من فزع يوم القيامة آمنون في الجنة .
الثاني : وهم من فزع الموت في الدنيا آمنون في الآخرة .
{ وَمَن جَآءَ بِالسَّيِّئَةٍ } الشرك في قول ابن عباس وأبي هريرة
.
إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93)

قوله : { إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدُ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدِةِ الَّذِي حَرَّمَهَا } فيها قولان
: أحدهما : مكة ، قاله ابن عباس .
الثاني : مِنى ، قاله أبو العالية ، وتحريمها هو تعظيم حرمتها والكف عن صيدها وشجرها .
{ وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ } يعني ملك كل شيء مما أحله وحرمه فيحل منه ما شاء ويحرم منه ما شاء لأن للمالك أن يفعل في ملكه ما يشاء .
قوله : { سَيُرِيكُمْ ءَآيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا } فيه وجهان :
أحدهما : يريكم في الآخرة فتعرفونها على ما قال في الدنيا ، قاله الحسن .
الثاني : يريكم في الدنيا ما ترون من الآيات في السموات والأرض فتعرفونها أنها حق ، قاله مجاهد .
{ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } من خير أو شر فلا بد أن يجازي عليه ، والله أعلم .
طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6)

قوله تعالى : { إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأَرْضِ } فيه ثلاثة أقاويل
: أحدها : ببغيه في استعباد بني إسرائيل وقتل أولادهم ، قاله قتادة .
الثاني : بكفره وادعاء الربوبية .
الثالث : بملكه وسلطانه .
وهذه الأرض أرض مصر لأن فرعون ملك مصر ، ولم يملك الأرض كلها ، ومصر تسمى الأرض ولذلك قيل لبعض نواحيها الصعيد .
وفي علوه وجهان :
أحدهما : هو لظهوره في غلبته .
الثاني : كبره وتجبره .
{ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً } أي فرقاً . قاله قتادة : فَرّق بين بني إسرائيل والقبط
. { يَسْتَضْعِفُ طَآئِفَةً مِّنْهُمْ } وهم بنو إسرائيل بالاستعباد بالأعمال القذرة
. { يُذَبِّحُ أَبْنَآءَهُمْ } قال السدي : إن فرعون رأى في المنام أن ناراً أقبلت من بيت المقدس حتى اشتملت على بيوت مصر فأحرقت القبط وتركت بني إسرائيل فسأل علماء قومه عن تأويله ، فقالوا : يخرج من هذا البلد رجل يكون على يده هلاك مصر ، فأمر بذبح أبنائهم واستحياء نسائهم ، وأسرع الموت في شيوخ بني إسرائيل فقال القبط لفرعون : إن شيوخ بني إسرائيل قد فنوا بالموت وصغارهم بالقتل فاستبقهم لعملنا وخدمتنا أن يستحيوا في عام ويقتلوا في عام فولد هارون في عام الاستحياء وموسى في عام القتل . وطال بفرعون العمر حتى حكى النقاش أنه عاش أربعمائة سنة وكان دميماً قصيراً . وكان أول من خضب بالسواد . وعاش موسى مائة وعشرين سنة .
قوله : { وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ استُضْعِفُواْ فِي الأَرْضِ } فيهم قولان :
أحدهما : بنو إسرائيل ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : يوسف وولده ، قاله علي رضي الله عنه .
{ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمََّةً } فيه ثلاثة أقاويل
: أحدها : ولاة الأمر ، قاله قتادة .
الثاني : قادة متبوعين ، قاله قتادة .
الثالث : أنبياء لأن الأنبياء فيما بين موسى وعيسى كانوا من بني إسرائيل أولهم موسى وآخرهم عيسى وكان بينهما ألف نبي ، قاله الضحاك .
{ وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ } فيه قولان
: أحدهما : أنهم بعد غرق فرعون سبَوا القبط فاستعبدوهم بعد أن كانوا عبيدهم فصاروا وارثين لهم ، قاله الضحاك .
الثاني : أنهم المالكون لأرض فرعون التي كانوا فيها مستضعفين . والميراث زوال الملك عمن كان له إلى من صار إليه ، ومنه قول عمرو بن كلثوم :
ورثنا مجد علقمة بن سيف ... أباح لنا حصون المجد دينا
وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8) وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (9)

{ وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى } فيه ثلاثة أقاويل
: أحدها : أنه إلهام من الله قد قذفه في قلبها وليس بوحي نبوة ، قاله ابن عباس وقتادة .
الثاني : أنه كان رؤيا منام ، حكاه ابن عيسى .
الثالث : أنه وحي من الله إليها مع الملائكة كوحيه إلى النبيين ، حكاه قطرب .
{ أَنْ أَرْضِعِيه } قال مجاهد : كان الوحي بالرضاع قبل الولادة ، وقال غيره بعدها .
{ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ } يعني القتل الذي أمر به فرعون في بني إسرائيل
. { فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ } واليم : البحر وهو النيل
. { وَلاَ تَخافِي } فيه وجهان
: أحدهما : لا تخافي عليه الغرق ، قاله ابن زيد .
الثاني : لا تخافي عليه الضيعة ، قاله يحيى بن سلامة .
{ وَلاَ تَحْزَنِي } فيه وجهان
: أحدهما : لا تحزني على فراقه ، قاله ابن زيد .
الثاني : لا تحزني أن يقتل ، قال يحيى بن سلام .
فقيل : إنها جعلته في تابوت طوله خمسة أشبار وعرضه خمسة أشبار وجعلت المفتاح مع التابوت وطرحته في البحر بعد أن أرضعته أربعة أشهر وقال آخرون ثمانية أشهر في حكاية الكلبي . وحكي أنه لما فرغ النجار من صنعه التابوت أتى إلى فرعون يخبره فبعث معه من يأخذه فطمس الله على عينه وقلبه فلم يعرف الطريق فأيقن أنه المولود الذي تخوف فرعون منه فآمن من ذلك الوقت وهو مؤمن آل فرعون .
قال ابن عباس : فلما توارى عنها ندَّمها الشيطان وقالت في نفسها لو ذبح عندي فواريته وكفنته كان أحب أليّ من إلقائه بيدي إلى دواب البحر وحيتانه ، فقال الله : { إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ . . . } الآية ، حكى الأصمعي قال : سمعت جارية أعرابية تنشد :
استغفر الله لذنبي كله ... قبلت إنساناً بغير حلّه
مثل الغزال ناعماً في دَله ... فانتصف الليل ولم أُصله
فقلت : قاتلك الله ما أفصحك! فقالت : أوَيعد هذا فصاحة مع قوله تعالى { وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ . . . } الآية ، فجمع في آية واحدة بين أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين .
قوله { فَالتْقَطَهُ ءَآلُ فِرْعَوْنَ } فيه قولان :
أحدهما : أنه التقطه جواري امرأته حين خرجن لاستسقاء الماء فوجدن تابوته فحملنه إليها ، قاله ابن عباس .
الثاني : أن امرأة فرعون خرجت إلى البحر وكانت برصاء فوجدت تابوته فأخذته فبرئت من برصها فقالت : هذا الصبي مبارك ، قاله عبد الرحمن بن زيد .
{ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدوّاً وََحَزَناً } أي ليكون لهم عَدُوّاً وحزناً في عاقبة أمره ولم يكن لهم في الحال عدوّاً ولا حزناً لأن امرأة فرعون فرحت به وأحبته حباً شديداً فذكر الحال بالمآل كما قال الشاعر :
وللمنايا تربي كل مرضعةٍ ... ودورنا لخراب الدهر نبنيها .
{ وَقَالَتِ امْرَأةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ } روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أن أصحاب فرعون لما علموا بموسى جاءوا ليذبحوه فمنعتهم وجاءت به إلى فرعون وقالت : قرة عين لي ولك .
{ لاَ تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً } فقال فرعون : قرة عين لك فأما لي فلا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « وَالَّذِي يُحْلَفُ بِهِ لَوْ أَقَرَّ فِرْعَونُ بِأَنَّهُ يَكُونُ لَهُ قُرَّةُ عَيْنٍ كَمَا أَقَرَّت امْرَأَتُهُ لَهَدَاهُ اللَّهُ بِهِ كَمَا هَدَاهَا وََلَكِنَّ اللَّهَ حَرَمَهُ ذلِكَ
» وفي قرة العين وجهان
: أحدهما : أنه بردها بالسرور مأخوذ من القر وهو البرد .
الثاني : أنه قر فيها دمعها فلم يخرج بالحزن مأخوذ من قر في المكان إذا أقام فيه .
{ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } أنّ هلاكهم على يديه وفي زمانه .
وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11) وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12) فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13)

قوله { وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مَوسَى فَارِغاً } فيه ستة أوجه
: أحدها : فارغاً من كل شيء إلا من ذكر موسى ، قاله ابن عباس وقتادة .
الثاني : فارغاً من وحينا بنسيانه ، قاله الحسن وابن زيد .
الثالث : فارغاً من الحزن لعلمها أنه لم يغرق ، قاله الأخفش .
الرابع : معنى فارغاً أي نافراً ، قاله العلاء بن زيد .
الخامس : ناسياً ، قاله اليزيدي .
السادس : معناه والهاً ، رواه ابن جبير .
وقرأ فضالة بن عبيد الأنصاري وهو صحابي : { وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَزِعاً } من الفزع وفي قوله { وَأَصْبَحَ } وجهان :
أحدهما : أنها ألقته ليلاً فأصبح فؤادها فارغاً في النهار .
الثاني : أنها ألقته نهاراً ومعنى أصبح أي صار ، قال الشاعر :
مضى الخلفاء بالأمر الرشيد ... وأصبحت المدينة للوليد
{ إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ } فيه ثلاثة أقاويل
: أحدها : أن تصيح عند إلقائه وا إبناه ، قاله ابن عباس .
الثاني : أن تقول لما حملت لإرضاعه وحضانته هو ابني ، قاله السدي لأنه ضاق صدرها لما قيل هو ابن فرعون .
الثالث : أن تبدي بالوحي ، حكاه ابن عيسى .
{ لَوْلاَ أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا } فيه قولان
: أحدهما : بالإيمان ، قاله قتادة .
الثاني : بالعصمة ، قاله السدي .
{ لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } قال السدي : قد كانت من المؤمنين ولكن لتكون من المصدقين بأنا رادّوه إليك وجاعلوه من المرسلين .
قوله تعالى : { وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ } أي استعلمي خبره وتتبّعي أثره .
قال الضحاك ، واسم أخته كلثمة .
{ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ } وفيه ثلاثة أقاويل
: أحدها : عن جانب ، قاله ابن عباس .
الثاني : عن بعد ، قاله مجاهد ومنه الأجنبي قال علقمة بن عبدة :
فلا تحرمنّي نائلاً عن جنابةٍ ... فإني امرؤ وسط القباب غريب
الثاني : عن شوق ، حكاه أبوعمرو بن العلاء وذكر أنها لغة جذام يقولون جنبت إليك [ أي اشتقت ] .
{ َوَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } أنها أخته لأنها كانت تمشي على ساحل البحر حتى رأتهم قد أخذوه .
قوله : { وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ } قال ابن عباس : لا يؤتى بمرضعة فيقبلها وهذا تحريم منع لا تحريم شرع كما قال امرؤ القيس :
جالت لتصرعني فقلت لها اقصِري ... إني امرؤ صرعي عليك حرام
أي ممتنع
: { مِن قَبْلُ } أي من قبل مجيء أخته وفي قوله : { مِن قَبْلُ } وجهان
: أحدهما : ما ذكرناه .
الثاني : من قبل ردّه إلى أمه .
{ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ } الآية . وهذا قول أخته لهم حين رأته لا يقبل المراضع فقالوا لها عند قولها لهم :
{ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ } وما يُدْريك؟ لعلك تعرفين أهله ، فقالت : لا ولكنهم يحرصون على مسرة الملك ويرغبون في ظئره .
قوله تعالى : { فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمَّهِ } قال ابن عباس انطلقت أخته إلى أمه فأخبرتها فجاءت فلما وضعته في حجرها نزا إلى ثديها فمصَّه حتى امتلأ جنباه رياً وانطلق بالبشرى إلى امرأة فرعون قد وجدنا لابنك ظئراً ، قال أبو عمران الجوني : وكان فرعون يعطي أم موسى في كل يوم ديناراً .
وروي أنه قال لأم موسى حين ارتضع منها : كيف ارتضع منك ولم يرتضع من غيرك؟ فقالت : لأني امرأة طيبة الريح طيبة اللبن لا أكاد أوتى بصبي إلا ارتضع مني . فكان من لطف الله بموسى أن جعل إلقاء موسى في البحر وهو الهلاك سبباً لنجاته وسخر فرعون لتربيته وهو يقتل الخلق من بني إسرائيل لأجله وهو في بيته وتحت كنفه .
{ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ } في قوله : { إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكَ } الآية
. { وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ } يعني من قوم فرعون
. { لاَ يَعْلَمُونَ } فيه وجهان
: أحدهما : لا يعلمون ما يراد بهم ، قاله الضحاك .
الثاني : لا يعملون مثل علمها .
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ (17)

قوله تعالى : { وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ } فيه تسعة أقاويل
: أحدها : أربعون سنة ، قاله الحسن .
الثاني : أربع وثلاثون سنة ، قاله سفيان .
الثالث : ثلاث وثلاثون سنة ، قاله ابن عباس .
الرابع : ثلاثون سنة ، قاله السدي .
الخامس : خمس وعشرون سنة ، قاله عكرمة .
السادس : عشرون سنة ، حكاه يحيى بن سلام .
السابع : ثماني عشرة سنة ، قاله ابن جبير .
الثامن : خمس عشرة سنة ، قاله محمد بن قيس .
التاسع : الحلم . قاله ربيعة ومالك .
والأشد جمع واختلف هل له واحد أم لا ، على قولين :
أحدهما : لا واحد له ، قاله أبو عبيدة .
الثاني : له واحد وفيه وجهان :
أحدهما : شد ، قاله سيبويه .
الثاني : شدة ، قاله الكسائي .
{ وَاسْتَوَى } فيه أربعة أقاويل
: أحدها : اعتدال القوة ، قاله ابن شجرة .
الثاني : خروج اللحية ، قاله ابن قتيبة .
الثالث : انتهى شبابه ، قاله ابن قتيبة .
الرابع : أربعون سنة ، قاله ابن عباس .
{ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً } في الحكم أربعة أقاويل
: أحدها : أنه العقل ، قاله عكرمة .
الثاني : النبوة ، قاله السدي .
الثالث : القوة ، قاله مجاهد .
الرابع : الفقه ، قاله ابن اسحاق .
قوله : { وَدَخَل الْمَدِينَةَ } فيها ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها مصر ، قاله ابن شجرة .
الثاني : منف ، قاله السدي .
الثالث : عين الشمس ، قاله الضحاك .
{ عَلَى حِينٍ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا } فيه أربعة أقاويل
: أحدها : نصف النهار والناس قائلون ، قاله ابن جبير .
الثاني : ما بين المغرب والعشاء ، قاله ابن عباس .
الثالث : يوم عيد لهم وهم في لهوهم ، قاله الحسن .
الرابع : لأنهم غفلوا عن ذكره لبعد عهدهم به ، حكاه ابن عيسى .
{ فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ } وفيه قولان
: أحدهما : من شيعته إسرائيلي ومن عدوه قبطي ، قاله ابن عباس .
الثاني : من شيعته مسلم ومن عدوه كافر ، قاله ابن إسحاق .
{ فاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ } حكى ابن سلام أن القبطي سخّر الإسرائيلي ليحمل له حطباً لمطبخ فرعون فأبى عليه فاستغاث بموسى . قال سعيد بن جبير : وكان خبازاً لفرعون { فَوَكَزَهُ مُوسَى } قال قتادة : بعصاه وقال مجاهد : بكفه أي دفعه ، الوكز واللكز واحد والدفع . قال رؤبة :
بعدد ذي عُدَّةٍ ووكز ... إلا أن الوكز في الصدر واللكز في الظهر
. فعل موسى ذلك وهو لا يريد قتله وانما يريد دفعه .
{ فَقَضَى عَلَيهِ } أي فقتله
. و { قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ } أي من إغوائه .
{ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُّبِينٌ } قال الحسن : لم يكن يحل قتل الكافر يومئذٍ في تلك الحال لأنها كانت حال كف عن القتال .
قوله : { قَالَ رَبِّ بِمَآ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ } فيه وجهان :
أحدهما : من المغفرة .
الثاني : من الهداية .
{ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِّلْمُجْرِمِينَ } أي عوناً . قال ابن عباس : قال ذلك فابتلي لأن صاحبه الذي أعانه دل عليه .
فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19)

قوله تعالى : { فَأَصْبَحَ في الْمَدِينَةِ خَائِفَاً يَتَرَقَّبُ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : خائفاً من قتل النفس أن يؤخذ بها .
الثاني : خائفاً من قومه .
الثالث : خائفاً من الله .
{ يََتَرَقَّبُ } فيه وجهان
: أحدهما : يتلفت من الخوف ، قاله ابن جبير .
الثاني : ينتظر .
وفيما ينتظر فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : ينتظر الطلب إذا قيل إن خوفه كان من قتل النفس .
الثاني : ينتظر أن يسلمه قومه إذا قيل إن خوفه منهم .
الثالث : ينتظر عقوبة الله إذا قيل إن خوفه كان منه .
{ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ } يعني الإسرائيلي الذي كان قد خلصه بالأمس ووكز من أجله القبطي فقتله ، استصرخه واستغاثه على رجل آخر من القبط خاصمه .
{ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ } فيه قولان
: أحدهما : أنه قال ذلك للإسرائيلي لأنه قد أغواه بالأمس حتى قتل من أجله رجلاً ويريد أن يغويه ثانية .
الثاني : أنه قال ذلك للقبطي فظن الإسرائيلي أنه عناه فخافه ، قاله ابن عباس .
{ فلَمَّآ أَنْ أَرادَ أَن يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا . . . } وهو القبطي لأن موسى أخذته الرقة على الإسرائيلي فقال الإسرائيلي :
{ قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالأَمْسِ } فيه قولان
: أحدهما : أن الإسرائيلي رأى غضب موسى عليه وقوله إنك لغوي مبين ، فخاف أن قتله فقال : { أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالأَمْسِ } .
الثاني : أن الإسرائيلي خاف أن يكون موسى يقتل القبطي فيقتل به الإسرائيلي فقال ذلك دفعاً لموسى عن قتله ، قاله يحيى بن سلام : قال يحيى : وبلغني أن هذا الإسرائيلي هو السامري .
وخلى الإسرائيلي القبطي فانطلق القبطي وشاع أن المقتول بالأمس قتله موسى .
{ . . . إلاَّ تَكُونَ جَبَّارا فِي الأَرْضِ } قال السدي : يعني قتالاً
. قال أبو عمران الجوني : وآية الجبابرة القتل بغير [ حق ] .
وقال عكرمة : لا يكون الإنسان جباراً حتى يقتل نفسين [ بغير حق ] .
{ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ المُصْلِحِينَ } أي وما هكذا يكون الإصلاح .
وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20)

قوله : { وََجَآءَ رَجُلٌ مِّنْ أقْصَا الْمَدِينَةِ يَسْعَى } قال الضحاك : هو مؤمن آل فرعون . وقال شعيب : اسمه شمعون . وقال محمد بن اسحاق : شمعان . وقال الضحاك والكلبي : اسمه حزقيل بن شمعون . قال الكلبي : هوابن عم فرعون أخي أبيه .
{ قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقتُلُوكَ } فيه تأويلان
: أحدهما : يتشاورون في قتلك ، قاله الكلبي ، ومنه قول النمر بن تولب :
أرى الناس قد أحدثوا شيمة ... وفي كل حادثة يؤتمر
الثاني : يأمر بعضهم بعضاً بقتلك ومنه قوله { وَأْتَمِرُواْ بَيْنَكُم بِالْمَعْرُوفِ } [ الطلاق : 6 ] أي ليأمر بعضكم بعضاً وكقول امرىء القيس :
أحارِ بن عمرٍو كأني خَمِرْ ... ويعدو على المرء ما يأتمر
فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21) وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (22) وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24)

قوله تعالى : { وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَآءَ مَدْيَنَ } قال عكرمة : عرضت لموسى أربع طرق فلم يدر أيتها يسلك .
{ قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَآءَ السَّبِيلِ } وفيه وجهان
: أحدهما : أنه قال ذلك عند استواء الطرق فأخذ طريق مدين ، قاله عكرمة .
الثاني : أنه قال ذلك بعد أن اتخذ طريق مدين فقال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل أي قصد الطريق إلى مدين ، قاله قتادة والسدي . قال قتادة : مدين ماء كان عليه قوم شعيب .
قوله تعالى : { وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ } قال ابن عباس : لما خرج موسى من مصر إلى مدين وبينه وبينهما ثماني ليل ولم يكن له طعام إلا ورق الشجر وخرج حافياً فما وصل إليها حتى وقع خف قدميه .
{ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ } أي جماعة . قال ابن عباس : الأمة أربعون
. { يَسْقُونَ } يعني غنمهم ومواشيهم
. { وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ } فيه وجهان
: أحدهما : تحبسان ، قاله قطرب ، ومنه قول الشاعر :
أبيتُ على باب القوافي كأنما ... أذود بها سِرباً من الوحش نُزَّعا
الثاني : تطردان . قال الشاعر :
لقد سلبت عصاك بنو تميم ... فما تدري بأيِّ عصى تذود
وفيه ثلاثة أقاويل
: أحدها : أنهما تحبسان غنمهما عن الماء لضعفهما عن زحام الناس . قاله أبو مالك والسدي .
الثاني : أنهما تذودان الناس عن غنمهما ، قاله قتادة .
الثالث : تمنعان غنمهما أن تختلط بغنم الناس ، حكاه يحيى بن سلام .
{ قَالَ مَا خَطْبَكُمَا } أي ما شأنكما ، وفي الخطب تضخيم الشيء ومنه الخطبة لأنها من الأمر المعظم .
{ قَالَتَا لاَ نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَآءُ } والصدور الانصراف ، ومنه الصّدر لأن التدبير يصدر عنه ، والمصدر لأن الأفعال تصدر عنه . والرعاء جمع راع .
وفي امتناعهما من السقي حتى يصدر الرعاء وجهان :
أحدهما : تصوناً عن الاختلاط بالرجال .
الثاني : لضعفهما عن المزاحمة بماشيتهما .
{ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ } وفي قولهما ذلك وجهان
: أحدهما : أنهما قالتا ذلك اعتذاراً إلى موسى عن معاناتهما سقي الغنم بأنفسهما .
الثاني : قالتا ذلك ترقيقاً لموسى ليعاونهما .
{ فَسَقَى لَهُمَا } فيه قولان
: أحدهما : أنه زحم القوم عن الماء حتى أخرجهم عنه ثم سقى لهما ، قاله ابن إسحاق .
الثاني : أنه أتى بئراً عليه صخرة لا يقلها من أهل مدين إلا عشرة فاقتلعها بنفسه وسقى لهما . قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ولم يستق إلا ذنوباً واحداً حتى رويت الغنم .
{ ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ } قال السدي : إلى ظل الشجرة وذكر أنها سَمْرة
. { فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ } قال ابن عباس : قال موسى ذلك وقد لصق بطنه بظهره من الجوع وهو فقير إلى شق تمرة ولو شاء إنسان لنظر إلى خضرة أمعائه من شدة الجوع .
قال الضحاك : لأنه مكث سبعة أيام لا يذوق طعاماً إلاّ بقل الأرض؛ فعرض لهما بحاله فقال { رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ } فيه قولان :
أحدهما : شبعة من طعام ، قاله ابن عباس .
الثاني : شبعة يومين ، قاله ابن جبير .
فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (28)

قوله تعالى : { فَجَآءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَآءٍ } قال ابن عباس : فاستبكر أبوهما سرعة صدورهما بغنمهما حُفّلا بطاناً فقال لهما : إن لكما اليوم لشأناً فأخبرتاه بما صنع موسى فأمر إحداهما أن تدعوه فجاءته تمشي على استحياء ، وفيه قولان :
أحدهما : أنه استتارها بكم درعها ، قاله عمر بن الخطاب رضي الله عنه .
الثاني : أنه بعدها من النداء ، قاله الحسن .
وفي سبب استحيائها ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها دعته لتكافئه وكان الأجمل مكافأته من غير عناء .
الثاني : لأنها كانت رسولة أبيها .
الثالث : ما قاله عمر لأنها ليست بسلفع من النساء خَرَّاجة ولاّجة .
{ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ } وفي أبيها قولان
: أحدهما : أنه شعيب النبي عليه السلام .
الثاني : أنه يثرون ابن أخي شعيب ، قاله أبو عبيدة والكلبي .
وكان اسم التي دعت موسى وتزوجها : صفوريا . واسم الأخرى فيه قولان :
إحدهما : ليا ، قاله ابن اسحاق .
الثاني : شرفا ، قاله ابن جرير .
{ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا } أي ليكافئك على ما سقيت لنا فمشت أمامه فوصف الريح عجيزتها فقال لها : امشي خلفي ودليني على الطريق إن أخطأت .
{ فَلَمَّا جَآءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ } أي أخبره بخبره مع آل فرعون
. { قَالَ لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } قال ابن عباس : يعني أنه ليس لفرعون وقومه عليّ سلطان ولسنا في مملكته .
قوله تعالى : { قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَآ أَبَتِ أَسْتَأْجِرْهُ } والقائلة هي التي دعته وهي الصغرى يعني استأجره لرعي الغنم .
{ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ } فيه قولان
: أحدهما : القوي فيما ولي ، الأمين فيما استودع ، قاله ابن عباس .
الثاني : القوي في بدنه ، الأمين في عفافه . وروي أن أباها لما قالت له ذلك دخلته الغيرة فقال لها : وما علمك بقوته وأمانته؟ قالت : أما قوته فأنه كشف الصخرة التي على بئر آل فلان ولا يكشفها دون عشرة ، وأما أمانته فإنه خلفني خلف ظهره حين مشى .
قوله تعالى : { قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ } فروى عبد الرحمن بن زيد أن موسى قال : فأيهما تريد أن تنكحني؟ قال : التي دعتك ، قال : لا إلا أن تكون تريد ما دخل في نفسك عليها فقال : هي عندي كذلك فزوجه وكانت الصغيرة واسمها صفوريا .
{ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حَجَجٍ } يعني عمل ثماني حجج فأسقط ذكر العمل واقتصر على المدة لأنه مفهوم منها ، والعمل رعي الغنم .
واختلف في هذه الثماني حجج على قولين :
أحدهما : أنها صداق المنكوحة .
الثاني : أنها شرط الأب في إنكاحها إياه وليس بصداق .
{ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرَاً فَمِنْ عِنْدِكَ } قال ابن عباس كانت على نبي الله موسى ثماني حجج واجبة وكانت سنتان عِدة منه فقضى الله عنه عِدته فأتمها عشراً .
{ وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَآءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ } فيه قولان
: أحدهما : من الصالحين في حسن الصحبة . قاله ابن إسحاق .
الثاني : فيما وعده به .
حكى يحيى بن سلام أنه جعل لموسى كل سخلة توضع على خلاف شبه أمها فأوحى الله إلىموسى أن ألق عصاك في الماء فولدت كلهن خلاف شبههن . وقال غير يحيى : بل جعل له كل بلقاء فولدن كلهن بُلْقاً .
قوله تعالى : { فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ } قال السدي : لا سبيل عليّ .
{ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : قول السدي : شهيد .
الثاني : حفيظ ، قاله قتادة .
الثالث : رقيب ، قاله ابن شجرة .
فروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إِنَّ مُوسَى أَجَّرَ نَفْسَهُ بِعِفَّةِ فَرْجِهِ وَطُعْمَةِ بَطْنِهِ ، فَقِيلَ لَهُ : أَيُّ الأَجَلَيْنِ قَضَى؟ فَقَالَ أَبَرُّهُمَا وَأَوفَاهُمَا
» .
فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30) وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (32)

قوله : { فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ } يعني العمل الذي شُرِطَ عليه
. { وَسَارَ بِأَهْلِهِ } أي بزوجته
. { ءَانَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَاراً } أي رأى ، وقد يعبر عن الرؤية بالعلم
. { قَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُواْ إِنِّي ءَانَسْتُ نَاراً لَّعَلِّي ءَاتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ } يحتمل وجهين :
أحدهما : بخبر الطريق الذي أراد قصده هل هو على صوبه أو منحرف عنه .
الثاني : بخبر النار التي رأها هل هي لخير يأنس به أو لشر يحذره .
{ أَوْ جَذْوَةٍ مِّنَ النَّارِ } فيها أربعة أوجه
: أحدها : الجذوة أصل الشجرة فيها نار ، قاله قتادة .
الثاني : أنها عود في بعضه نار وليس في بعضه نار ، قاله الكلبي .
الثالث : أنها عود فيه نار ليس له لهب ، قاله زيد بن أسلم .
الرابع : أنها شهاب من نار ذي لهب ، قاله ابن عباس . قال الشاعر :
وألقي على قبس من النار جذوة ... شديدٌ عليها حميها والتهابها .
{ لَعلَّكُمْ تَصْطَلُونَ } أي تستدفئون
. قوله تعالى : { فَلَمَّآ أَتَاهَا } يعني النار أي قرب منها .
{ نُودِيَ مِن شَاطِيءِ الْوَادِ الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارََكَةِ } وهي البقعة التي قال الله فيها لموسى { اخلَعْ نَعْلَيكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طَوًى } .
واحتمل وصفها بالبركة وجهين :
أحدهما : لأن الله كلم فيها موسى وخصه فيها بالرسالة .
الثاني : أنها كانت من بقاع الخصب وبلاد الريف .
ثم قال تعالى : { مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } فأحل الله كلامه في الشجرة حتى سمعه موسى منها ، لأنه لا يستطيع أن يسمعه من الله وهذه أعلى منازل الأنبياء أن يسمعوا كلام الله من غير رسول مبلغ وكان الكلام مقصوراً على تعريفه بأنه الله رب العالمين إثباتاً لوحدانيته ونفياً لربوبية غيره ، وصار بهذا الكلام من أصفياء الله من رسله لأنه لا يصير رسولاً إلا بعد أمره بالرسالة ، والأمر بها إنما كان بعد هذا الكلام .
فإن قيل : فكيف أضاف البركة إلى البقعة دون الشجرة والشجرة بالبركة أخص لأن الكلام عنها صدر ومنها سُمِعَ؟
قيل : عنه جوابان :
أحدهما : أن الشجرة لما كانت في البقعة أضاف البركة إلى البقعة لدخول الشجرة فيها ولم يخص به الشجرة فتخرج البقعةوصار إضافتها إلى البقعة أعم .
الثاني : أن البركة نفذت من الشجرة إلى البقعة فصارت البقعة بها مباركة فلذلك خصّها الله بذكر البركة ، قاله ابن عباس ، والشجرة هي العليق وهي العوسج .
قوله تعالى : { وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ . . . } الآية وإنما أمره بإلقاء عصاه في هذا الحال ليكون برهاناً عنده بأن الكلام الذي سمعه كلام الله ثم ليكون برهاناً له إلى من يرسل إليه من فرعون وملئه .
فإن قيل : فإذا كانت برهاناً إليه وبرهاناً له فلم ولَّى منها هارباً؟
قيل لأمرين :
أحدهما : رأى ما خالف العادة فخاف .
الثاني : أنه يجوز أن يظن الأمر بإلقائها لأجل أذاها فولَّى هارباً حتى نودي فعلم .
{ . . . ولَمْ يُعَقِّبْ } فيه وجهان
: أحدهما : ولم يثبت ، اشتقاقاً من العقب الذي يثبت القدم .

الثاني : ولم يتأخر لسرعة مبادرته .
ويحتمل ثالثاً : أي لم يلتفت إلى عقبه لشدة خوفه وسرعة هربه .
{ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ إِنَّكَ مَنَ الآمِنِينَ } فيه وجهان
: أحدهما : الآمنين من الخوف .
الثاني : من المرسلين لقوله تعالى : { إِنِّي لاَ يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ } قال ابن بحر : فصار على هذا التأويل رسولاً بهذا القول . وعلى التأويل الأول يصير رسولاً بقوله : { فَذَانِكَ بُرْهَاناَنِ مِنَ رَبِّكَ إلَى فِرْعَونَ وَمَلإِئْهِ } والبرهانان اليد والعصا .
وفي قوله تعالى : { وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ } وجهان :
أحدهما : أن الجناح الجيب جيب القميص وكان عليه مدرعة صوف .
الثاني : أن الجيب جنب البدن .
{ مِنَ الرَّهْبِ } فيه وجهان
: أحدهما : أن الرهب الكُمّ ، قاله مورق .
الثاني : أنه من الخوف .
قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (35) فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (36) وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37)

قوله تعالى : { رِدْءاً } فيه وجهان
: أحدهما : عوناً ، قاله مجاهد .
الثاني : زيادة ، والردء الزيادة وهو قول مسلم بن جندب وأنشد قول الشاعر :
وأسمر خطيّاً كأن كعوبه ... نوى القسب قد أردى ذِراعاً على العشر
وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42)

قوله : { وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي } قال ابن عباس : كان بينها وبين قوله { أنا ربكم الأعلى } أربعون سنة .
{ فأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانَ عَلَى الطِّينِ } قال قتادة : هو أول من طبخ الآجر
. { فَاجْعَلَ لِّي صَرْحاً } الصرح القصر العالي . قال قتادة : هو أول من صنع له الصرح .
{ لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى } الآية . فحكى السدي أن فرعون صعد الصرح ورمى نشابه نحو السماء فرجعت إليه متلطخة دماً : قد قتلت إِله موسى .
قوله تعالى : { فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ } قال قتادة : بحر يقال له أساف من وراء مصر غرقهم الله فيه .
قوله : { وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً } يعني فرعون وقومه ، وفيه وجهان :
أحدهما : زعماء يُتْبَعُونَ على الكفر .
الثاني : أئمة يأتم بهم ذوو العبر ويتعظ بهم أهل البصائر .
{ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ } فيه وجهان
: أحدهما : يدعون إلى عمل أهل النار .
الثاني : يدعون إلى ما يوجب النار .
قوله : { وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً } فيه وجهان :
أحدهما : يعني خزياً وغضباً .
الثاني : طرداً منها بالهلاك فيها .
{ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُم مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ } فيه أربعة أوجه
: أحدها : من المقبحين بسواد الوجوه وزرقة الأعين ، قاله الكلبي .
الثاني : من المشوهين بالعذاب ، قاله مقاتل .
الثالث : من المهلكين ، قاله الأخفش وقطرب .
الرابع : من المغلوبين ، قاله ابن بحر .
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43)

قوله تعالى : { وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ } فيه قولان
: أحدهما : أنها ست من المثاني التي التي أنزلها الله على رسوله محمد صلىلله عليه وسلم ، قاله ابن عباس ورواه مرفوعاً .
الثاني : أنها التوراة ، قاله قتادة . قال يحيى بن سلام : هو أول كتاب نزل فيه الفرائض والحدود والأحكام .
{ مِن بَعْدِ مَآ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى } قال أبو سعيد الخدري : ما أهلك الله أمة من الأمم ولا قرناً من القرون ولا قرية من القرى بعذاب من السماء ولا من الأرض منذ أنزل الله التوراة على وجه الأرض غير القرية التي مسخهم الله قردة ، ألم تر إلى قوله تعالى : { وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابِ مِن بَعْدِ مَآ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى } .
ومعنى قوله : { بَصَآئِرَ لِلنَّاسِ } أي بينات . { وَهُدًى } أي دلالة { وَرَحْمَةً } أي نعمة .
{ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } أي ليذكروا هذه النعمة فيقيموا على إيمانهم في الدنيا ويثقوا بثوابهم في الآخرة .
وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45) وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46) وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47)

قوله : { وَمَا كُنتَ بِجَانِب الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا } هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، وما كنت يا محمد { بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا } وفيه وجهان :
أحدهما : نودي يا أمة محمد استجبت لكم قبل أن تدعوني وأعطيتكم قبل أن تسألوني ، قاله أبو هريرة .
الثاني : أنهم نودوا في أصلاب آبائهم أن يؤمنوا بك إذا بُعِثْتَ ، قاله مقاتل .
{ وَلَكِن رَّحْمَةَ مِّن رَّبِّكَ } فيه وجهان
: أحدهما : أن ما نودي به موسى من جانب الطور من ذكرك نعمة من ربك .
الثاني : أن إرسالك نبياً إلى قومك نعمة من ربك .
{ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ } يعني العرب .
فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50) وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51)

قوله تعالى : { . . . قَالُواْ سِحْرَانِ تَظَاهَرَا } قرأ الكوفيون سحران ، فمن قرأ ساحران ففيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : موسى ومحمد عليهما السلام ، وهذا قول مشركي العرب ، وبه قال ابن عباس والحسن .
الثاني : موسى وهارون عليهما السلام وهذا قول اليهود لهما في ابتداء الرسالة ، قاله ابن جبير ومجاهد وأبو زيد .
الثالث : عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم ، وهذا قول اليهود اليوم ، وبه قال قتادة .
ومن قرأ سحران ففيه ثلاثة أقوال :
أحدها : أنها التوارة والقرآن ، قاله عاصم الجحدري والسدي .
الثاني : التوراة والإنجيل ، قاله إسماعيل وأبو مجلز .
الثالث : الإنجيل والقرآن ، قاله قتادة .
{ قَالُواْ إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ } يعني بما ذكره على اختلاف الأقاويل وفي قائل ذلك قولان :
إحداهما : اليهود .
الثاني : قريش .
قوله : { وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمْ الْقَوْلَ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : معناه بيَّنا لهم القول ، قاله السدي .
الثالث : أتبعنا بعضه بعضاً ، قاله علي بن عيسى .
وفي { الْقَوْلَ } وجهان :
أحدهما : أن الخبر عن الدنيا والآخرة ، قاله ابن زيد .
الثاني : إخبارهم بمن أهلكنا من قوم نوح بكذا وقوم صالح بكذا وقوم هود بكذا .
{ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : يتذكرون محمداً فيؤمنوا به ، قاله ابن عباس .
الثاني : يتذكرون فيخافون أن ينزل بهم ما نزل بمن قبلهم ، قاله ابن عيسى .
الثالث : لعلهم يتعظون بالقرآن عن عبادة الأوثان ، حكاه النقاش .
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (54) وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55)

قوله تعالى : { الَّذِينَ ءَآتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ } فيه وجهان
: أحدهما : يعني الذين آتيناهم التوراة والإنجيل من قبل القرآن هم بالقرآن يؤمنون ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : الذي آتيناهم التوراة والإنجيل من قبل محمد هم بمحمد يؤمنون ، قاله ابن شجرة .
وفيمن نزلت قولان :
أحدهما : نزلت في عبد الله بن سلام وتميم الداري والجارود العبدي وسلمان الفارسي أسلموا فنزلت فيهم هذه الآية والتي بعدها ، قاله قتادة .
الثاني : أنها نزلت في أربعين رجلاً من أهل الإنجيل كانوا مسلمين بالنبي صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه ، اثنان وثلاثون رجلاً من الحبشة أقبلوا مع جعفر بن أبي طالب وقت قدومه وثمانية قدموا من الشام . منهم بحيراً وأبرهة والأشراف وعامر وأيمن وإدريس ونافع فأنزل الله فيهم هذه الآية ، والتي بعدها إلى قوله { أُوْلَئِكَ يُؤْتُوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ } قال قتادة : [ بإيمانهم ] بالكتاب الأول وإيمانهم بالكتاب الآخر .
وفي قوله بما صبروا ثلاثة أوجه :
أحدها : بما صبروا على الإيمان ، قاله ابن شجرة .
الثاني : على الأذى ، قاله مجاهد .
الثالث : على طاعة الله وصبروا عن معصية الله ، قاله قتادة .
{ . . . وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ } فيه خمسة أوجه
: أحدها : يدفعون بالعمل الصالح ما تقدم من ذنب ، قاله ابن شجرة .
الثاني : يدفعون بالحلم جهل الجاهل ، وهذا معنى قول يحيى بن سلام .
الثالث : يدفعون بالسلام قبح اللقاء ، وهذا معنى قول النقاش .
الرابع : يدفعون بالمعروف المنكر ، قاله ابن جبير .
الخامس : يدفعون بالخير الشر ، قاله ابن زيد .
ويحتمل سادساً : يدفعون بالتوبة ما تقدم من المعصية .
{ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُفِقُونَ } فيه ثلاثة تأويلات
: أحدها : يؤتون الزكاة احتساباً ، قاله ابن عباس .
الثاني : نفقة الرجل على أهله وهذا قبل نزول الزكاة ، قاله السدي .
الثالث : يتصدقون من أكسابهم ، قاله قتادة .
قوله تعالى : { وَإِذَا سَمِعُواْ اللَّغوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ } فيه أربعة أقاويل :
أحدها : أنهم قوم من اليهود أسلموا فكان اليهود يتلقونهم بالشتم والسب فيعرضون عنهم ، قاله مجاهد .
الثاني : أنهم قوم من اليهود أسلموا فكانوا إذا سمعوا ما غَيّره اليهود من التوراة وبدلوه من نعت محمد صلى الله عليه وسلم وصفته أعرضوا عنه وكرهوا تبديله ، قاله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم .
الثالث : أنهم المؤمنون إذا سمعوا الشرك أعرضوا عنه ، قاله الضحاك ومكحول .
الرابع : أنهم أناس من أهل الكتاب لم يكونوا يهوداً ولا نصارى وكانوا على دين أنبياء الله وكانوا ينتظرون بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما سمعوا بظهوره بمكة قصدوه ، فعرض عليهم القرآن وأسلمواْ .
وكان أبو جهل ومن معه من كفار قريش يلقونهم فيقولون لهم : أفٍّ لكم من قوم منظور إليكم تبعتم غلاماً قد كرهه قومه وهم أعلم به منكم فإذا ذلك لهم أعرضوا عنهم ، قاله الكلبي .
{ قَالُواْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ } فيه وجهان
: أحدهما : لنا ديننا ولكم دينكم ، حكاه النقاش .
الثاني : لنا حلمنا ولكم سفهكم .
{ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ } رَدّوا خيراً واستكفوا شراً ، وفيه تأويلان
: أحدهما : لا نجازي الجاهلين ، قاله قتادة .
الثاني : لا نتبع الجاهلين ، قاله مقاتل .
إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57)

قوله تعالى : { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ } فيه وجهان
: أحدهما : من أحببت هدايته .
الثاني : من أحببته لقرابته ، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والحسن : نزلت في أبي طالب عم الرسول صلى الله عليه وسلم .
وروى أبو هريرة أن النبي قال لعمه أبي طالب « قُل لاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ أَشْهَدُ لَكَ بِهَا عِندَ اللَّهِ تَعَالَى يَوْمَ القِيَامَةِ » فقال : لولا أن تعيرني بها قريش لأقررت عينيك بها .
وروى مجاهد أنه قال : يا ابن أخي ملة الأشياخ ، فنزلت الآية تعني أبا طالب .
{ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ } قاله قتادة : يعني العباس
. { وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } قال مجاهد : يعني بمن قدر له الهدى والضلالة
. قوله تعالى : { وَقَالُواْ إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَآ } قيل إن هذه الآية نزلت في الحارث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف القرشي قال للنبي صلى الله عليه وسلم إنا لنعلم أن قولك حق ولكن يمنعنا أن نتبع الهدى معك ونؤمن بك مخافة أن يتخطفنا العرب من أرضنا يعني بمكة فإنما نحن أكلة رأس العرب ولا طاقة لنا بهم ، فأجاب الله عما اعتل به فقال :
{ أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً ءَامِناً } فيه وجهان
: أحدهما : أنه جعله آمناً بما طبع النفوس عليه من السكون إليه حتى لا ينفر منه الغزال والذئب والحمام والحدأة .
الثاني : أنه جعله آمناً بالأمر الوارد من جهته بأمان من دخله ولاذ به ، قاله يحيى بن سلام .
يقول كنتم آمنين في حرمي تأكلون وتعبدون غيري أفتخافون إذا عبدتموني وآمنتم بي .
{ يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ } أي تجمع إليه ثمرات كل أرض وبلد . وحكى مجاهد أن كتاباً وجد عند المقام فيه : إني أنا الله ذو بكة ، وضعتها يوم خلقت الشمس والقمر ، وحرمتها يوم خلقت السموات والأرض ، وحففتها بسبعة أملاك حنفاء ، يأتيها رزقها من ثلاثة سبل ، مبارك لأهلها في الماء واللحم ، أول من يحلها أهلها .
{ رِّزْقاً مِّن لَّدُنَّا } أي عطاء من عندنا
. { وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } فيه وجهان
: أحدهما : لا يعقلون ، قاله الضحاك .
الثاني : لا يتدبرون ، قاله ابن شجرة .
وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (58) وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59)

قوله : { بَطِرَتْ مَعَيشَتَهَا } والبطر الطغيان بالنعمة . وفيه وجهان
: أحدها : يعني بطرت في معيشتها ، قاله الزجاج .
الثاني : أبطرتها معيشتها ، قاله الفراء .
قوله تعالى : { وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلَكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمَّهَا رَسُولاً } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : في أوائلها ، قاله الحسن .
الثاني : في معظم القرى من سائر الدنيا ، حكاه ابن عيسى .
الثالث : أن أم القرى مكة ، قاله قتادة .
وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ (60) أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61)

قوله : { أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاَقِيهِ } فيه قولان
: أحدهما : هو حمزة بن عبد المطلب والوعد الحسن الجنة و { لاَقِيهِ } دخولها ، قاله السدي .
الثاني : هو النبي صلى الله عليه وسلم والوعد الحسن النصر في الدنيا والجنة في الآخرة ، قاله الضحاك .
{ كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } قال السدي والضحاك : هو أبو جهل
. { ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : من المحضرين للجزاء ، قاله ابن عباس .
الثاني : من المحضرين في النار ، قاله يحيى بن سلام .
الثالث : من المحضرين : المحمولين ، قاله الكلبي .
وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (63) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ (64) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ (66) فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67)

قوله : { فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأَنْبَآءُ يَوْمَئِذٍ } فيه وجهان
: أحدهما : الحجج ، قاله مجاهد .
الثاني : الأخبار ، قاله السدي .
{ فَهُمْ لاَ يَتَسَآءَلُونَ } فيه أربعة أوجه
: أحدها : لا يسألون بالأنساب ، قاله مجاهد .
الثاني : لا يسأل بعضهم بعضاً أن يحتمل من ذنوبه ، حكاه ابن عيسى .
الثالث : لا يسأل بعضهم بعضاً عن حاله ، حكاه ابن شجرة .
الرابع : لا يسأل بعضهم بعضاً عن الحجة ، وهذا قول الضحاك .
وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (69) وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70)

قوله تعالى : { وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : أن قوماً كانوا يجعلون خير أموالهم لأهليهم في الجاهلية فقال { وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ } من خلقه { وَيَخْتَارُ } من يشاء لطاعته ، وهو معنى قول ابن عباس .
الثاني : { وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ } من الخلق { وَيَخْتَارُ } من يشاء لنبوته ، قاله يحيى بن سلام .
الثالث : { وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ } النبي محمداً صلى الله عليه وسلم { َوَيَخْتَارُ } الأنصار لدينه حكاه النقاش .
{ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ } وفيه وجهان
: أحدهما : معناه ويختار للمؤمنين ما كان لهم فيه الخيرة فيكون ذلك إثباتاً .
الثاني : معناه ما كان للخلق على الله الخيرة ، فيكون ذلك نفياً . ومن قال بهذا فلهم في المقصود به وجهان :
أحدهما : أنه عنى بذلك قوماً من المشركين جعلوا لله ما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فنزل ذلك فيهم ، قاله ابن شجرة .
الثاني : أنها نزلت في الوليد بن المغيرة حين قال ما حكاه الله عنه في سورة الزخرف { وَقَالُوا لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ } الآية [ الزخرف : 31 ] يعني نفسه وعروة بن مسعود الثقفي فقال الله : { مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ } أن يتخيروا على الله الأنبياء .
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (75)

قوله : { وَنَزَعْنَا مِن كُلَّ أُمَّةٍ شَهِيداً } فيه وجهان
: أحدهما : أخرجنا من كل أمة رسولاً مبعوثاً إليها .
الثاني : أحضرنا من كل أمة رسولاً يشهد عليها أن قد بلغ رسالة ربه إليها ، قاله قتادة .
{ فَقُلْنَا هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ } فيه وجهان
: أحدهما : حجتكم ، قاله أبو العالية .
الثاني : بينتكم ، قاله قتادة .
{ فَعَلِمُواْ أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : أن العدل لله ، قاله ابن جبير .
الثاني : التوحيد لله ، قاله السدي .
الثالث : الحجة لله .
{ وَضَلَّ عَنْهُم } يعني في القيامة
. { مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ } في الدنيا من الكذب .
إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77)

قوله تعالى : { إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى } قال ابن عباس : كان ابن عمه ، قاله قتادة : ابن عم موسى أخي أبيه وكان قطع البحر مع بني إسرائيل وكان يسمى : المنور ، من حسن صوته بالتوراة ، ولكن عدو الله نافق كما نافق السامري .
{ فَبَغَى عَلَيْهِمْ } فيه ستة أقاويل
: أحدها : بغيه عليهم أنه كفر بالله ، قاله الضحاك .
الثاني : أنه زاد في طول ثيابه شبراً ، قاله شهر بن حوشب .
الثالث : أنه علا عليهم بكثرة ماله وولده ، قاله قتادة .
الرابع : أنه صنع بغياً ، حين أمر الله موسى برجم الزاني فعمد قارون إلى امرأة بغي فأعطاها مالاً وحملها على أن ادعت عليه أنه زنى بها وقال : فأنت قد زنيت . وحضرت البغي فادّعت ذلك عليه فعظم على موسى ما قالت وأحلفها بالله الذي فلق البحر لبني إسرائيل وأنزل التوراة على موسى إلاّ صدقت فقالت : أشهد أنك بريء وأن قارون أعطاني مالاً وحملني على أن قلت وأنت الصادق وقارون الكاذب فكان هذا بغيه ، قاله ابن عباس ، قال السدي : وكان اسم البغي شجرتا وبذلك لها قارون ألفي درهم .
الخامس : أنه كان غلاماً لفرعون فتعدى على بني إسرائيل وظلمهم ، قاله يحيى بن سلام
. السادس : أنه نسب ما آتاه الله من الكنوز إلى نفسه بعلمه وحيلته ، قاله ابن بحر .
{ وَءَآتَيْنَهُ مِنَ الْكُنُوزِ } فيه قولان
: أحدهما : أنه أصاب كنزاً من كنوز يوسف عليه السلام ، قاله عطاء .
الثاني : أنه كان يعمل الكيمياء ، قاله الوليد .
{ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ } فيه أربعة أقاويل
: أحدها : خزائنه ، قاله السدي وأبو رزين .
الثاني : أوعيته ، قاله الضحاك .
الثالث : مفاتيح خزائنه وكانت من جلود يحملها أربعون بغلاً .
الرابع : أن مفاتيح الكنوز إحاطة علمه بها ، حكاه ابن بحر لقول الله { وَعِندَهُ مَفَاتِيحُ الْغَيْبِ } [ الأنعام : 59 ] .
{ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : لتثقل العصبة ، قاله ابن عباس وأبو صالح والسدي .
الثاني : لتميل بالعصبة ، قاله الربيع بن أنس مأخوذ من النأي وهو البعد قال الشاعر :
ينأوْن عنا وما تنأى مودتهم ... والقلب فيهم رهين حيثما كانوا
الثالث : لتنوء به العصبة كما قال الشاعر :
إنّا وجدنا خلفَاً بئس الخلف ... عبداً إذا ما ناء بالحمل خضف
والعصبة الجماعة الذين يتعصب بعضهم لبعض واختلف في عددهم على سبعة أقاويل :
أحدها : سبعون رجلاً ، قاله أبو صالح .
الثاني : أربعون رجلاً ، قاله الحكم وقتادة والضحاك .
الثالث : ما بين العشرة إلى الأربعين ، قاله السدي .
الرابع : ما بين العشرة إلى الخمسة عشر ، قاله مجاهد .
الخامس : ستة أو سبعة . قاله ابن جبير .
السادس : ما بين الثلاثة والتسعة وهم النفر ، قاله عبد الرحمن بن زيد .
السابع : عشرة لقول إخوة يوسف { وَنَحْنُ عُصْبَةٌ } [ يوسف : 8 ] قاله الكلبي ومقاتل .
وزعم أبو عبيدة أن هذا من المقلوب تأويله : إن العصبة لتنوء بالمفاتح .
{ أوْلِي الْقُوَّةِ } قال السدي أولي الشدة

. { إذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ } فيه وجهان :
أحدهما : أنه قول المؤمنين منهم ، قاله السدي .
الثاني : قول موسى ، قاله يحيى بن سلام .
{ لاَ تَفْرَحْ إنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : لا تبغ إن الله لا يحب الباغين ، قاله مجاهد .
الثاني : لا تبخل إن الله لا يحب الباخلين ، قاله ابن بحر .
الثالث : لا تبطر إن الله لا يحب البطرين ، قاله السدي ، وقال الشاعر :
ولست بمفراحٍ إذا الدهر سَرَّني ... ولا جازعٍ من صرفه المتغلب
قوله تعالى : { وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ } فيه وجهان
: أحدهما : طلب الحلال في كسبه ، قاله الحسن .
الثاني : أنه الصدقة وصلة الرحم ، قاله السدي .
ويحتمل ثالثاً : وهو أعم أن يتقرب بنعم الله إليه ، والمراد بالدار الآخرة الجنة .
{ وَلاَ تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا } فيه ثلاثة تأويلات
. أحدها : لا تنس حظك من الدنيا أن تعمل فيها لآخرتك ، قاله ابن عباس .
الثاني : لا تنس استغناك بما أحل الله لك عما حرمه عليك ، قاله قتادة .
الثالث : لا تنس ما أنعم الله عليك أن تشكره عليه بالطاعة وهذا معنى قول ابن زيد .
الثاني : وأحسن فيما افترض الله عليك كما أحسن في إنعامه عليك ، وهذا معنى قول يحيى بن سلام .
الثالث : أحسن في طلب الحلال كما أحسن إليك في الإحلال .
{ وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ } يحتمل وجهين
: أحدهما : لا عمل فيها بالمعاصي .
الثاني : لا تقطع .
{ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ } فيه وجهان
: أحدهما : لا يحب أعمال المفسدين ، قاله ابن عباس .
الثاني : لا يقرب المفسدين ، قاله ابن قتيبة .
قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78)

قوله : { قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمِ عِنْدِي . . . } فيه خمسة أوجه
: أحدها : أي بقوتي وعلمي ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : علىخير وعلم عندي ، قاله قتادة .
الثالث : لرضا الله عني ومعرفته باستحقاقي ، قاله ابن زيد .
الرابع : على علم بوجه المكاسب ، قاله ابن عيسى .
الخامس : العلم بصنعة الكيمياء .
حكى النقاش أن موسى عليه السلام علّم قارون الثلث من صنعة الكيمياء ، وعلم يوشع بن نون الثلث ، وعلم ابني هارون الثلث فخدعهما قارون وكان على إيمانه حتى علم ما عندهما وعمل الكيمياء فكثرت أمواله .
وفي قوله تعالى : { . . . وَلاَ يُسأُلَ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ } أربعة تأويلات :
أحدها : يعذبون ولا يحاسبون ، قاله قتادة .
الثاني : لا يسألون عن إحصائها ويعطون صحائفها فيعرفون ويعترفون بها ، قاله الربيع .
الثالث : لأن الملائكة تعرفهم بسيماهم فلا تسأل عنهم ، قاله مجاهد .
الرابع : أنهم لا يُسألون سؤال استعتاب : لمَ لَمْ يؤمنوا ، قاله ابن بحر كما قال
{ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ } [ الروم : 57 ] .
فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80)

قوله : { فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ } فيه ثلاثة أقاويل
: أحدها : في حشمه ، قاله قتادة .
الثاني : في تَبَعه في سبعين ألفاً عليهم المعصفرات وكان أول يوم رؤيت فيه المعصفرات قاله ابن زيد ، قال أبو لبابة : أول من صبغ بالسواد قارون .
الثالث : خرج في جوارٍ بيض على بغال بيض بسروج من ذهب على قطف أرجوان ، قاله السدي .
{ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونَ } تمنوا ماله رغبة في الدنيا .
{ إنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } فيه وجهان
: أحدهما : لذو درجة عظيمة ، قاله الضحاك .
الثاني : لذو جد عظيم ، قاله السدي .
فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82)

قوله تعالى : { فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ } قال ابن عباس : لما شكا موسى إلى الله أمْر قارون أمر الله الأرض أن تطيع موسى ، ولما أقبل قارون وشيعته قال موسى : يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى أعقابهم ، ثم قال : خذيهم فأخذتهم إلى أوساطهم ثم قال : خذيهم فأخذتهم إلى أعناقهم ، ثم قال : خذيهم فخسف الله بهم وبدار قارون وكنوزه . روى يزيد الرقاشي أن قارون لما أخذته الأرض إلى عنقه أخذ موسى نعليه فخفق بهما وجهه فقال قارون : يا موسى ارحمني ، قال الله تعالى { يَا مُوسَى مَا أَشَدَّ قَلْبَكَ ، دَعَاكَ عَبْدِي وَاسْتَرْحَمَكَ فَلَمْ تَرْحَمْهُ : وَعِزَّتِي لَو دَعَانِي عَبْدِي لأَجَبْتُهُ } روى سمرة بن جندب أنه يخسف بقارون وقومه في كل يوم بقدر قامة فلا يبلغ إلى الأرض السفلى إلى يوم القيامة .
قال مقاتل لما أمر موسى الأرض فابتلعته قال بنو إسرائيل : إنما أهلكه ليرث ماله لأنه كان ابن عمه أخي أبيه فخسف الله بداره وبجميع أمواله بعد ثلاثة أيام .
قوله تعالى : { وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنُّواْ مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ } فيه ثمانية أوجه :
أحدها : معناه أو لا يعلم أن الله؟ رواه معمر عن قتادة .
الثاني : أو لا يرى؟ رواه سعيد عن قتادة .
الثالث : { وَلكِنَّ اللَّهَ } بلغة حمير ، قاله الضحاك .
الرابع : { وَإِنَّ اللَّهَ } والياء ، والكاف صلتان زائدتان ، حكاه النقاش .
الخامس : { وَكَأَنَّ اللَّهَ } والياء وحدها صلة زائدة . وقال ابن عيسى بهذا التأويل غير أنه جعل الياء للتنبيه .
السادس : معناه ويك أن الله ففصل بين الكاف والألف وجعل ويك بمعنى ويح فأبدل الحاء كافاً ومنه قول عنترة :
ولقد شفى نفسي وأبْرأ سقمها ... قيل الفوارس ويك عنتر أقدامِ
السابع : ويلك إن الله فحذف اللام إيجازاً ، حكاه ابن شجرة
. الثامن : وي منفصلة على طريق التعجب ثم استأنف فقال كأن الله ، قاله الخليل .
{ يَبْسُطُ الرِّزْقُ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ } فيه ثلاثة تأويلات
: أحدها : معنى يقدر أن يختار له ، قاله ابن عباس .
الثاني : ينظر له فإن كان الغنى خيراً له أغناه وإن كان الفقر خيراً له أفقره ، قاله الحسن .
الثالث : يضيق ، وهذا معنى قول ابن زيد .
تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (84)

قوله تعالى : { تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ } أي الجنة نجعلها .
{ عُلُوّاً } فيها ستة أوجه
: أحدها : يعني بغياً ، قاله ابن جبير .
الثاني : تكبراً ، قاله مسلم .
الثالث : شرفاً وعزاً ، قاله الحسن .
الرابع : ظلماً ، قاله الضحاك .
الخامس : شركاً ، قاله يحيى بن سلام .
السادس : لا يجزعون من ذلها ولا يتنافسون على عزها ، قاله أبو معاوية .
ويحتمل سابعاً أن يكون سلطاناً فيها على الناس .
{ وَلاَ فَسَاداً } فيه ثلاثة تأويلات
: أحدها : أنه الأخذ بغير حق ، قاله مسلم .
الثاني : أنه العمل بالمعاصي ، قاله عكرمة .
الثالث : أنه قتل الأنبياء والمؤمنين ، قاله يحيى بن سلام .
ويحتمل رابعاً : أنه سوء السيرة .
{ وَاْلعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } فيه وجهان
: أحدهما : والثواب للمتقين ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : معناه والجنة للمتقين ، قاله ابن شجرة .
إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (85) وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ (86) وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)

قوله تعالى : { إنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ } فيه خمسة تأويلات
: أحدها : أنزل عليك القرآن ، قاله يحيى ابن سلام والفراء .
الثاني : أعطاكه ، قاله مجاهد .
الثالث : أوجب عليك العمل به ، حكاه النقاش .
الرابع : حمّلك تأديته وكلفك إبلاغه ، حكاه ابن شجرة .
الخامس : بينه على لسانك ، قال ابن بحر .
ويحتمل سادساً : أي قدر عليك إنزاله في أوقاته لأن الفرض التقدير .
{ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ } فيه خمسة أوجه
: أحدها : إلى مكة ، قاله مجاهد والضحاك وابن جبير ، والسدي .
الثاني : إلى بيت المقدس ، قاله نعيم القاري .
الثالث : إلى الموت ، قاله ابن عباس وعكرمة .
الرابع : إلى يوم القيامة ، قاله الحسن .
الخامس : إلى الجنة ، قاله أبو سعيد الخدري .
وقيل : إن هذه الآية نزلت في الجحفة حين عسف به الطريق إليها فليست مكية ولا مدنية .
قوله تعالى : { . . . كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إلاَّ وَجْهُهُ } فيه ستة تأويلات :
أحدها : معناه إلا هو ، قاله الضحاك .
الثاني : إلا ما أريد به وجهه ، قاله سفيان الثوري .
الثالث : إلا ملكه ، حكاه محمد بن إسماعيل البخاري .
الرابع : إلا العلماء فإن علمهم باق ، قاله مجاهد .
الخامس : إلا جاهه كما يقال لفلان وجه في الناس أي جاه ، قاله أبو عبيدة .
السادس : الوجه العمل ومنه قولهم : من صلى بالليل حسن وجه بالنهار أي عمله . وقال الشاعر :
أستغفر الله ذنباً لست محصيه ... رب العباد إليه الوجه والعمل
{ لَهُ الْحُكْمُ } فيه وجهان
: أحدهما : القضاء في خلقه بما يشاء من أمره ، قاله الضحاك وابن شجرة .
الثاني : أن ليس لعباده أن يحكموا إلا بأمره ، قاله ابن عيسى .
{ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } يوم القيامة فيثيب المحسن ويعاقب المسيء ، والله أعلم .
الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4)

قوله تعالى : { الم . أَحِسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوآ . . . } هذا لفظ استفهام أريد به التقرير والتوبيخ وفيه خمسة أقاويل :
أحدها : معناه أظن الذين قالوا لا إله إلا الله أن يتركوا فلا يختبروا أصدقوا أم كذبوا . قاله الحسن .
الثاني : أظن المؤمنون ألا يؤمروا ولا ينهوا ، قاله ابن بحر .
الثالث : أظن المؤمنون ألا يؤذوا ويقتلوا . قاله الربيع بن أنس . وقال قتادة : نزلت في أناس من أهل مكة خرجوا للهجرة فعرض لهم المشركون فرجعوا فنزلت فيهم فلما سمعها خرجوا فقتل منهم من قتل وخلص من خلص فنزل فيهم { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا } الآية .
الرابع : أنها نزلت في عمار بن ياسر ومن كان يعذب في الله بمكة ، قاله عبيد بن عمير . قال الضحاك : نزلت في عباس بن أبي ربيعة أسلم وكان أخا أبي جهل لأمه أخذه وعذبه على إسلامه حتى تلفظ بكلمة الشرك مكرهاً .
الخامس : نزلت في قوم أسلموا قبل فرض الجهاد والزكاة فلما فرضا شق عليهم فنزل ذلك فيهم ، حكاه ابن أبي حاتم .
وفي قوله : { . . . وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ } وجهان :
أحدهما : لا يسألون ، قاله مجاهد .
الثاني : لا يختبرون في أموالهم وأنفسهم بالصبر على أوامر الله وعن نواهيه .
قوله تعالى : { وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } فيه وجهان :
أحدهما : بما افترضه عليهم .
الثاني : بما ابتلاهم به .
{ فََيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُواْ } فيه وجهان
: أحدهما : فليظهرن الله لرسوله صدق الصادق ، قاله ابن شجرة .
الثاني : فليميزن الله الذين صدقوا من الكاذبين ، قاله النقاش وذكر أن هذه الآية نزلت في مهجع مولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو أول قتيل من المسلمين يوم بدر قتله عامر ابن الحضرمي ، ويقال إنه أول من يدعى إلى الجنة من شهداء المسلمين وفيه يقول النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر « سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ مهجع
» . قوله تعالى : { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ } قال قتادة : الشرك وزعم أنهم اليهود .
{ أَن يَسْبِقُونَا } فيه وجهان
: أحدهما : أن يسبقوا ما كتبنا عليهم في محتوم القضاء .
الثاني : أن يعجزونا حتى لا نقدر عليهم ، وهو معنى قول مجاهد .
ويحتمل ثالثاً : أن يفوتونا حتى لا ندركهم .
{ سَآءَ مَا يَحْكُُمُونَ } فيه وجهان
: أحدهما : ساء ما يظنون ، قاله ابن شجرة .
الثاني : ساء ما يقضون لأنفسهم على أعدائهم ، قاله النقاش .
مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (7)

قوله : { مَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ اللَّهِ } فيه وجهان
: أحدهما : من كان يخشى لقاء الله ، قاله ابن جبير والسدي .
الثاني : من كان يؤمل .
وفي { لِقَآءَ اللَّهِ } وجهان :
أحدهما : ثواب الله ، قاله ابن جبير .
الثاني : البعث إليه ، قاله يحيى بن سلام .
{ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لآتٍ } يعني الجزاء في القيامة فاستعدوا له
. { وَهُوَ السَّمِيعُ } لمقالتكم
. { الْعَلِيمُ } بمعتقدكم .
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9)

قوله تعالى : { وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً } فيه وجهان
: أحدهما : معناه ألزمناه أن يفعل بهما برّاً ، قاله السدي .
الثاني : أن ما وصيناه به من برهما حسناً .
{ وَإِن جَاهَدَاكَ } أي ألزماك
. { لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } وفيه وجهان
: أحدهما : ما ليس لك به حجة لأن الحجة طريق العلم .
الثاني : أن تجعل لي شريكاً لأنه ليس لأحد بذلك من علم .
{ فَلاَ تُطِعْهُمَا } فأمر بطاعة الوالدين في الواجبات حتماً وفي المباحات ندباً ونهى عن طاعتهما في المحظورات جزماً ، وقد جاء في الأثر . لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق .
{ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ } يعني في القيامة
. { فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } يعني في الدنيا من خير يستحق به الثواب وشر يستوجب به عقاب .
واختلفواْ في سبب نزولها وإن عم حكمها على قولين :
أحدهما : نزلت في سعد بن أبي وقاص وقد حلفت أمّه عليه وأقسمت ألا تأكل طعاماً حتى يرجع عن دين محمد صلى الله عليه وسلم . قاله مصعب وسعد وقتادة .
الثاني : أنها نزلت في عياش بن أبي ربيعة .
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13)

قوله تعالى : { وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاَ مَّعَ أَثْقَالِهِمْ } فيه وجهان
: أحدهما : أنهم أعوان الظلمة .
الثاني : أنهم أصحاب البدع إذا أُتبِعوا عليها .
الثالث : أنهم محدِثو السنن الجائرة إذا عمل بها من بعدهم .
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (15)

قوله تعالى : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ } روى قتادة عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « أَوَّلُ نَبِيٍ أُرْسِلَ نُوْحٌ » قال قتادة : وبعث من الجزيرة .
{ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً } فيه أربعة أقاويل
: أحدها : أن هذا مبلغ عمره كله . قال قتادة : لبث فيهم قبل أن يدعوهم ثلاثمائة سنة ودعاهم ثلاثمائة سنة ولبث بعد الطوفان ثلاثمائة سنة وخمسين سنة .
فإن قيل فلم قال { أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً } ولم يقل تسعمائة وخمسين عاماً فعنه جوابان :
أحدهما : أن المقصود به تكثير العدد فكان ذكر الألف أفخم في اللفظ وأكثر في العدد .
الثاني : ما روي أنه أعطي من العمر ألف سنة فوهب من عمره خمسين سنة لبعض ولده فلما حضرته الوفاة راجع في استكمال الألف فذكر الله ذلك تنبيهاً على أن النقيصة كانت من جهته ، فهذا قول .
والقول الثاني : أنه بعث لأربعين سنة من عمره ولبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً وعاش بعد الطوفان ستين عاماً فكان مبلغ عمره ألف سنة وخمسين سنة ، قاله ابن عباس .
الثالث : أنه لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً وعاش بعد ذلك سبعين سنة فكان مبلغ عمره ألف سنة وعشرين سنة ، قاله كعب الأحبار .
والقول الرابع : أنه بعث وهو ابن خمسين وثلاثمائة سنة ولبث في قومه داعياً ألف سنة إلا خمسين عاماً وعاش بعد الطوفان ثلاثمائة وخمسين عاماً فكان مبلغ عمره ألف سنة وستمائة وخمسين سنة . قاله عون بن أبي شداد .
{ فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ } فيه ثلاثة أقاويل
: أحدها : أن الطوفان المطر ، قاله ابن عباس وابن جبير وقتادة والسدي .
الثاني : أن الطوفان الغرق ، قاله الضحاك .
الثالث : أنه الموت ، روته عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم ومنه قول الشاعر :
أفناهم طوفان موت جارفٍ ... وقيل إن الطوفان كلُّ عامّ من الأذى . وحكى إسماعيل بن عبد الله أن الطوفان كان في نيسان .

=============

ج10. ج10.كتاب : النكت والعيون أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي



وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (22) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (23)

قوله تعالى : { يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَرْحَمُ مَن يَشَآءُ } فيه خمسة أوجه
: أحدها : يعذب من يشاء بالانقطاع إلى الدنيا ، ويرحم من يشاء بالإعراض عنها .
الثاني : يعذب من يشاء بالحرص ، ويرحم من يشاء بالقناعة .
الثالث : يعذب من يشاء بسوء الخلق ، ويرحم من يشاء بحسن الخلق .
الرابع : يعذب من يشاء ببغض الناس له ، ويرحم من يشاء بحبهم له .
الخامس : يعذب من يشاء بمتابعة البدعة ، ويرحم من يشاء بملازمة السنة .


فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (25) فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27)

قوله تعالى : { فَئَامَنَ لَهُ لُوطٌ } قال ابن إسحاق : آمن لوط بإبراهيم وكان ابن أخيه وآمنت به سارة وكانت بنت عمه .
{ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي } يعني مهاجر عن الظالمين
. وفيما هاجر إليه قولان :
أحدهما : أنه هاجر إلى حرّان ، قاله كعب الأحبار .
الثاني : أنه هاجر من كوثي وهو من سواد الكوفة إلى أرض الشام ، قاله قتادة .
قوله تعالى : { وَءَاتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا } فيه ستة أقاويل :
أحدها : الذكر الحسن ، قاله ابن عباس .
الثاني : رضا أهل الأديان ، قاله قتادة .
الثالث : النية الصالحة التي اكتسب بها الأجر في الآخرة ، قاله الحسن .
الرابع : لسان صدق ، قاله عكرمة .
الخامس : ما أوتي في الدنيا من الأجر ، رواه ابن برزة .
السادس : الولد الصالح ، حكاه ابن عيسى وقاله الكلبي حتى أن أكثر الأنبياء من ولده .
ويحتمل سابعاً : أنه بقاء الصلاة عند قبره وليس ذلك لغيره من الأنبياء .


وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (28) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30)

قوله تعالى : { أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ } أي تنكحون الرجال
. { وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : أنه قطع الطريق على المسافر ، قاله ابن زيد .
الثاني : أنهم بإتيان الفاحشة من الرجال قطعوا الناس عن الأسفار حذراً من فعلهم الخبيث ، حكاه ابن شجرة .
الثالث : أنه قطع النسل للعدول عن النساء إلى الرجال ، قال وهب : استغنواْ عن النساء بالرجال .
{ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيِكُمُ الْمُنكَرَ } أي في مجالسكم المنكر فيه أربعة أوجه
: أحدها : هو أنهم كانوا يتضارطون في مجالسهم ، قالته عائشة رضي الله عنها .
الثاني : أنهم كانوا يخذفون من يمر بهم ويسخرون منه روته أم هانىء عن النبي صلى الله عليه وسلم .
الثالث : أنهم كانوا يجامعون الرجال في مجالسهم ، رواه منصور عن مجاهد .
الرابع : هو الصفير ولعب الحمام والجلاهق والسحاق وحل أزرار القيان في المجلس ، رواه الحاكم عن مجاهد .


وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31) قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32) وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (33) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35) وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (39) فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40) مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43)

قوله تعالى : { مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَآءَ } يعني آلهة من الأصنام والأوثان عبدوها .
{ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً } يعني أنهم عبدوا ما لا يغني عنهم شيئاً كبيت العنكبوت الذي لا يدفع شيئاً وهو من أبلغ الأمثال فيهم .
{ وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ } لأنه يستر الإبصار ولا يدفع الأيدي ، وقد حكي عن يزيد بن ميسرة أن العنكبوت شيطان مسخها الله .
وقال عطاء : نسجت العنكبوت مرتين مرة على داود ، ومرة على النبي صلى الله عليه وسلم .
وجمع العنكبوت عناكب وتصغيره عنيكب .


خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44) اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45)

قوله تعالى : { اتْلُ مَآ أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ } يعني القرآن وهذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أن يتلو ما أنزل منه على أمته .
{ وَأَقِمِ الصَّلاَةَ } فيه ثلاثة تأويلات
: أحدها : أنه القرآن ، قاله ابن عمر .
الثاني : أنه الصلاة المفروضة . قاله ابن عباس .
الثالث : أن الصلاة هنا هي الدعاء ومعناه قم بالدعاء إلى أمر الله ، قاله ابن بحر .
{ إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَآءِ وَالْمُنكَرِ } الفحشاء الزنى والمنكر الشرك ، قاله ابن عباس .
ثم فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها تنهى عن الفحشاء والمنكر ما دام فيها ، قاله الكلبي وابن زيد وحماد بن أبي سليمان .
الثاني : تنهى عن الفحشاء والمنكر قبلها وبعدها روى طاووس عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مَن لَّمْ تَنْهَهُ صَلاَتُهُ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالمنكَرِ لَمْ يَزْدَدْ بِهَا مِنَ اللَّهِ إِلاَّ بُعْداً
» الثالث : إن ما تدعوهم إليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، قاله ابن زيد .
{ وَلَذِكرُ اللَّهِ أَكْبَرُ } فيه سبعة تأويلات
: أحدها : ولذكر الله إياكم أكبر من ذكركم إياه ، قاله ابن عباس .
الثاني : ولذكر الله أفضل من كل شيء ، قاله سلمان .
الثالث : ولذكر الله في الصلاة التي أنت فيها أكبر مما نهتك عنه الصلاة من الفحشاء والمنكر ، قاله عبد الله بن عون .
الرابع : ولذكر الله العبد في الصلاة أكبر من الصلاة ، قاله أبو مالك .
الخامس : ولذكر الله أكبر من أن تحويه أفهامكم وعقولكم .
السادس : أكبر من قيامكم بطاعته .
السابع : أكبر من أن يبقي على صاحبه عقاب الفحشاء والمنكر .


وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46)

قوله تعالى : { وَلاَ تُجَادِلُواْ أَهْلَ الْكِتَابِ إِلأَ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : أن { الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } قول لا إله إلا الله ، قاله ابن عباس .
الثاني : الكف عنهم عند بذل الجزية منهم وقتالهم إن أبوا ، قاله مجاهد .
الثالث : أنهم إن قالوا شراً فقولوا لهم خيراً ، رواه ابن أبي نجيح .
ويحتمل تأويلاً رابعاً : وهو أن يحتج لشريعة الإٍسلام ولا يذم ما تقدمها من الشرائع .
{ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمُ } فيه أربعة أقاويل
: أحدها : أنهم أهل الحرب ، قاله مجاهد .
الثاني : من منع الجزية منهم ، رواه خصيف .
الثالث : ظلموا بالإقامة على كفرهم بعد قيام الحجة عليهم ، قاله ابن زيد .
الرابع : ظلموا في جدالهم فأغلظوا لهم ، قاله ابن عيسى .
واختلف في نسخ ذلك على قولين :
أحدهما : أنها منسوخة؛ قاله قتادة .
الثاني : أنها ثابتة .
{ وَقُولُواْ ءَآمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلِيْكُمْ } الآية ، فروى سلمة عن أبي هريرة قال : كان أهل الكتاب يقرأُون التوراة بالعبرانية فيفسرونها بالعربية لأهل الإٍسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لاَ تُصَدِّقُواْ أَهْلَ الكِتابِ وَلاَ تُكَذِّبُوهُم { وَقُولُواْ ءَامَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ } إلى قوله { مُسْلِمُونَ } » أي مخلصون وفيه قولان :
أحدهما : أنه يقوله لأهل الكتاب ، قاله مجاهد .
الثاني : يقوله لمن آمن ، قاله السدي .


وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47) وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49)

قوله تعالى : { وَمَا كُنتَ تَتْلُواْ مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ } فيه قولان
: أحدهما : معناه { وَمَا كُنتَ تَتْلُواْ مِن } قبل القرآن كتاباً من كتب الله المنزلة ولا تخطه أي تكتبه بيمينك فتعلم ما أنزل الله فيه حتى يشكوا في إخبارك عنه إنه من وحي الله سبحانه إليك وهو معنى قول يحيى بن سلام .
الثاني : أنه كان أهل الكتاب يجدونه في كتبهم أن محمداً لا يخط بيمينه ولا يقرأ كتاباً فنزل ذلك فيهم ليدلهم على صحة نبوته ، وهو معنى قول مجاهد .
{ إِذَاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ } فيهم ثلاثة أقاويل
: أحدها : أنهم مشركو قريش ، قاله مجاهد .
الثاني : مشركو العرب أن يقولوا لو كان يقرأ قد تعلمه من غيره ، قاله قتادة .
الثالث : أنهم المكذبون من اليهود ، قاله السدي .
قوله تعالى : { بَلْ هُوَ ءَايَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ } فيه قولان :
أحدهما : أنه النبي صلى الله عليه وسلم في كونه أمياً لا يكتب ولا يقرأ { ءَايَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ } من أهل الكتاب لأنه منعوت في كتبهم بهذه الصفة ، قاله الضحاك .
الثاني : أنه القرآن { ءَايَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ } وهم النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون به ، قاله الحسن .
قال الحسن : أعطيت هذه الأمة الحفظ وكان من قبلها لا يقرأُون كتابهم إلا نظراً فإذا طبقوه لم يحفظوا ما فيه إلا النبيين .
وقال كعب في صفة هذه الأمة : إنهم حلماء علماء كأنهم في الفقه أنبياء .
{ وَمَا يَجْحَدُ بِئَايَاتِنَا إِلاَّ الظَّالِمُونَ } قال ابن عباس : المشركون
.


وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (52)

قوله تعالى : { وَقَالُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءَايَاتٌ مِّن رَّبِهِ } وفيه قولان
: أحدهما : أنهم كانواْ يسألونه آيات يقترحونها عليه كما كان يفعله مشركو قريش أن يجعل الصفا ذهباً وأن يجري بمكة نهراً .
الثاني : أنهم سألوه مثل آيات الأنبياء قبله كما جاء صالح بالناقة وموسى بالعصا وعيسى بإحياء الموتى .
{ قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللَّهِ } أي أن الله هو الذي يعطي ما يشاء من الآيات لمن يشاء من الأنبياء بحسب ما يرى من المصلحة ولذلك لم تتفق آيات الأنبياء كلها وإنما جاء كل نبي بنوع منها .
{ وَإِنَّمَا أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم مندوب للإنذار والبيان لا لما يقترح عليه من الآيات وإنما يلزم أن يأتي بما يشهد بصدقه من المعجزات وقد فعل الله ذلك فأجابهم به فقال .
{ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ } يعني القرآن يتلى عليهم وفيه وجهان :
أحدهما : أولم يكفهم من الآيات التي سألوها أنا أنزلنا عليك الكتاب آية لك ودليلاً على صدقك لما فيه من الإعجاز في نظمه وصدق خبره وصحة وعده؟
الثاني : أنه محمول على ما رواه عمرو بن دينار عن يحيى بن جعدة قال : أتي النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب في كتف فقال : كفى بقوم حمقاً أن يرغبوا عما جاء به نبيهم إلى غير نبيهم أو كتاب غير كتابهم فأنزل الله { أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكَتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ } .
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } يعني استنقاذهم من الضلال ، وبالذكرى إرشادهم إلى الحق .
{ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } أي يريدون الإيمان ولا يقصدون العناد
. قوله تعالى : { قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شِهِيداً } يعني شهيداً بالصدق والإبلاغ ، وعليكم بالتكذيب والعناد .
{ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ } وهذا احتجاج عليهم في صحة شهادته عليهم لأنهم قد أقرواْ بعلمه فلزمهم أن يقرواْ بشهادته .
{ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ بِالْبَاطِلِ } فيه وجهان
: أحدهما : بإبليس ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : بعبادة الأَوثان والأصنام ، قاله ابن شجرة .
{ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ } يحتمل وجهين
: أحدهما : لتكذيبهم برسله وجحدهم لكتبه .
الثاني : بما أشركوه معه من الآلهة وأضافوه إليه من الأولاد والأنداد .
{ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } فيه وجهان
: أحدهما : خسروا أنفسهم بإهلاكها ، قاله علي بن عيسى .
الثاني : خسروا في الآخرة نعيم الجنة بعذاب النار ، قاله يحيى بن سلام .


وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55)

قوله تعالى : { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ } فيه وجهان
: أحدهما : أن استعجالهم له شدة عنادهم لنبيه .
الثاني : أنه استهزاؤهم بقولهم : { إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقُّ مِن عِندِكَ } [ الأنفال : 32 ] الآية .
{ وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُّسَمًّى } فيه أربعة أقاويل
: أحدها : أنه يوم القيامة ، قاله ابن جبير .
الثاني : أجل الحياة إلى حين الموت وأجل الموت إلى حين البعث إليه بين أجلين من الله ، قاله قتادة .
الثالث : أنه النفخة الأولى ، قاله يحيى بن سلام .
{ لَّجَآءَهُمُ الْعَذَابُ } يعني الذي استعجلوه
. { وَلَيِأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً } أي فجأة
. { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } لا يعلمون بنزوله بهم
. روى نعيم بن عبد الله عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « تَقُومُ السَّاعَةُ وَالرَّجُلُ قَدْ رَفَعَ أَْكْلَتَهُ إِلَى فِيهِ تَصِلُ إِلَى فِيهِ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ
» .


يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63)

قوله تعالى : { يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ ءَآمَنُواْ إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ } فيه خمسة تأويلات
: أحدها : أي جانبوا أهل المعاصي بالخروج من أرضهم ، قاله ابن جبير وعطاء .
الثاني : اطلبوا أولياء الله إذا ظهروا بالخروج إليهم ، قاله أبو العالية .
الثالث : جاهدوا أعداء الله بالقتال لهم ، قاله مجاهد .
الرابع : إن رحمتي واسعة لكم ، قاله مطرف بن عبد الله .
الخامس : إن رزقي واسع لكم ، وهو مروي عن مطرف أيضاً .
{ فَإِيَّايَ فَاعْبدُونِ } فيه ثلاثة تأويلات
: أحدها : فارهبون ، قاله بلال بن سعد .
الثاني : فاعبدون بالهجرة إلى المدينة ، قاله السدي .
الثالث : فاعبدون بألا تطيعوا أحداً في معصيتي ، قاله علي بن عيسى .
قوله : { كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ } وفيه وجهان :
أحدهما : يعني أن كل حي ميت .
الثاني : أنها تجد كربه وشدته ، وفي إعلامهم بذلك وإن كانوا يعلمونه وجهان :
أحدهما : إرهاباً بالموت ليقلعوا عن المعاصي .
الثاني : ليعلمهم أن أنبياء الله وإن اختصوا بكرامته وتفردوا برسالته فحلول الموت بهم كحلوله بغيرهم حتى لا يضلوا بموت من مات منهم ، وروى جعفر الصادق عن أبيه عن جده عن علي بن أبي طالب قال لما توّفي رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءهم آت يسمعون حسه ولا يرون شخصه فقال : السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته ، { كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمُوتِ } ، إن في الله عزاء من كل مصيبة ، وخَلَفاً من كل هالك ودركاً من كل فائت؛ فبالله فثقوا ، وإياه فارجوا ، فإن المصاب من حُرِمَ الثواب .
{ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ } يريد البعث في القيامة بعد الموت في الدنيا . قوله تعالى : { . . . لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِّنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً } قرأ حمزة والكسائي { لَنُثَوِّيَنَّهُم } بالثاء من الثواء وهو طول المقام وقرأ الباقون بالباء { لَنُبَوِّئَنَّهُم } معناه لنسكننهم أعالي البيوت . وإنما خصهم بالغرف لأمرين :
أحدهما : أن الغرف لا تستقر إلا فوق البيوت فصار فيها جمع بين أمرين .
الثاني : لأنها أنزه من البيوت لإشرافها وألذ سكنى منها لرياحها وجفافها .
وقد روى أبو مالك الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إِنَّ فِي الجَنَّةِ غُرَفاً يُرَى ظَاهِرُهَا مِن بَاطِنِها ، وَبَاطِنُها مِن ظَاهِرِهَا ، أَعدَّهَا اللَّهُ لِمَن أَطْعَمَ الطَّعَامَ وَأَطَابَ الكَلاَمَ وَتَابَعَ الصَّلاَةَ وَالصِّيَامَ وَقَامَ باللِّيلِ وَالنَّاسُ نِيامٌ
» . قوله : { وَكَأَيِّن مِّن دَآبَّةٍ لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا } فيه أربعة أقاويل
: أحدها : معناه تأكل بأفواهها ولا تحمل شيئاً ، قاله مجاهد .
الثاني : تأكل لوقتها ولا تدخر لغدها ، قاله الحسن .
الثالث : يأتيها من غير طلب .
الرابع : أنه النبي صلى الله عليه وسلم يكل ولا يدخر ، حكاه النقاش .
قال ابن عباس : الدواب هو كل ما دب من الحيوان . وكله لا يحمل رزقه ولا يدخر إلا ابن آدم والنمل والفأر .
{ اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ } أي يسوي بين الحريص المتوكل في رزقه وبين الراغب القانع وبين الجلود والعاجز حتى لا يغتر الجلْد أنه رزق بجلده ولا يتصور العاجز أنه ممنوع بعجزه .
قال ابن عباس : نزلت هذه الآية لما أُذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة وأمر المسلمين بها خافوا الضيعة والجوع فقال قوم نهاجر إلى بلد ليس فيها معاش فنزلت هذه الآية فهاجرواْ .


وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64) فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66)

قوله تعالى : { إِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ } قال الضحاك : الحياة الدائمة وقال أبو عبيدة : الحيوان والحياة واحد .


أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (68) وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)

قوله : { أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً ءَآمِناً } قال عبد الرحمن بن زيد : هي مكة وهم قريش أمنهم الله بها .
{ وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ } قال الضحاك : يقتل بعضهم بعضاً ويسبي بعضهم بعضاً فأذكرهم الله بهذه النعمة ليذعنوا له بالطاعة .
{ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ } فيه وجهان
: أحدهما : أفبالشرك ، قاله قتادة .
الثاني : بإبليس ، قاله يحيى بن سلام .
{ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ } فيه أربعة أوجه
: أحدها : بعافية الله ، قاله ابن عباس .
الثاني : بعطاء الله وإحسانه ، قاله ابن شجرة .
الثالث : ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من الهدى ، قاله يحيى بن سلام .
الرابع : بإطعامهم من جوع وأمنهم من خوف ، حكاه النقاش ، وهذا تعجب وإنكار خرج مخرج الاستفهام .
قوله تعالى : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً } بأن جعل لله شريكاً أو ولداً .
{ أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُ } فيه ثلاثة تأويلات
: أحدها : بالتوحيد ، قاله السدي .
الثاني : بالقرآن ، قاله يحيى بن سلام .
الثالث : بمحمد صلى الله عليه وسلم ، قاله ابن شجرة .
{ مَثْوًى . . . } أي مستقراً
. قوله : { وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا } فيه أربعة أوجه :
أحدها : قاتلوا المشركين طائعين لنا .
الثاني : جاهدوا أنفسهم في هواها خوفاً منا .
الثالث : اجتهدوا في العمل بالطاعة والكف عن المعصية رغبة في ثوابنا وحذراً من عقابنا .
الرابع : جاهدوا أنفسهم في التوبة من ذنوبهم .
{ لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } فيه أربعة تأويلات
: أحدها : يعني الطريق إلى الجنة ، قاله السدي .
الثاني : نوفقهم لدين الحق ، حكاه النقاش .
الثالث : معناه الذين يعملون بما يعلمون يهديهم لما لا يعلمون ، قاله عباس أبو أحمد .
الرابع : معناه لنخلصنّ نياتهم وصدقاتهم وصلواتهم وصيامهم ، قاله يوسف بن أسباط .
{ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ } أي في العون لهم ، الله أعلم .


الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7)

قوله تعالى : { الم . غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الأَرْضِ } الآية . روى ابن جبير عن ابن عباس قال : كان المسلمون يحبون أن يظهر الروم على فارس لأنهم أهل كتاب ، وكان المشركون يحبون أن تظهر فارس على الروم لأنهم أهل أوثان .
قال ابن شهاب : فغلبت فارس الروم فسر بذلك المشركون وقالوا للمسلمين إنكم تزعمون أنكم ستغلبوننا لأنكم أهل كتاب ، وقد غلبت فارس الروم والروم أهل كتاب .
وقيل : إنه كان آخر فتوح كسرى أبرويز فتح فيه القسطنطينية حتى بنى فيها بيت النار فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فساءه فأنزل الله هاتين الآيتين فلما قال :
{ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيْغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ } سر بذلك المسلمون وبادر أبو بكر رضي الله عنه إلى مشركي قريش فأخبرهم بما أنزل عليهم وأن الروم ستغلب الفرس . قال قتادة : فاقتمر أبو بكر والمشركون على ذلك ، وذلك قبل تحريم القمار مدة اختلف الناس فيها على ثلاثة أقاويل :
أحدها : مدة ثلاث سنين تظهر الروم فيها على فارس ، قاله السدي .
الثاني : خمس سنين ، قاله قتادة .
الثالث : سبع سنين ، قاله الفراء .
وكان الذي تولى ذلك من المسلمين أبو بكر رضي الله عنه ، واختلف في الذي تولاه من المشركين مع أبي بكر على قولين :
أحدهما : أنه أبو سفيان بن حرب ، قاله السدي .
الثاني : أنه أُبي بن خلف ، قاله قتادة . وحكىلنقاش أن أبا بكر لما أراد الهجرة مع النبي صلى الله عليه وسلم عَلِق به أبي بن خلف وقال : اعطني كفيلاً بالخطر إن غلبت فكفله ابنه عبد الرحمن .
واختلف في قدر العوض المبذول على قولين :
أحدهما : أربع قلائص ، قاله عامر .
الثاني : خمس قلائص ، قاله قتادة .
فلما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أبا بكر لهم هذه المدة أنكرها وقال : « مَا حَمَلَكَ عَلَىَ مَا فَعَلْتَ؟ » قال : ثقة بالله وبرسوله ، قال : « فَكَم البِضْعُ » قال : ما بلغ بين الثلاث والعشر فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : « زِدْهُم فِي الخَطَرِ فِي وَزِدْ الأَجَلِ » فزادهم قلوصين وازداد منهم في الأجل سنتين فصارت القلائص ستاً على القول الأول ، وسبعاً على الثاني ، وصار الأجل خمساً على القول الأول ، وسبعاً على الثاني : وتسعاً على الثالث .
واختلف في الاستزاده والزيادة على قولين :
أحدهما : أنها كانت بعد انقضاء الأجل الأول قبل ظهور الغلبة ، قاله عامر .
الثاني : أنها كانت قبل انقضاء الأجل الأول ، قاله ابن شهاب ، فأظفر الله الروم بفارس قبل انقضاء الأجل الثاني تصديقاً لخبره في التقدير ولرسوله صلى الله عليه وسلم في التنزيل .
واختلف في السنة التي غلبت الروم أهل فارس على ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها عام بدر ظهر الروم على فارس فيه وظهر المسلمون على قريش فيه ، قاله أبو سعيد ، قال : فكان يوم بدر .

الثاني : أن ظهور فارس على الروم كان قبل الهجرة بسنتين ، وظهور المسلمين على قريش كان في عام بدر بعد الهجرة بسنتين ، ولعله قول عكرمة .
الثالث : عام الحديبية ظهرت الروم على فارس وكان ظهور المسملين على المشركين في الفتح بعد مدة الحديبية ، قاله عبيد الله بن عبد الله .
فأما قوله تعالى : { فِي أَدْنَى الأَرْضِ } ففيه قولان :
أحدهما : في أدنى أرض فارس؛ حكاه النقاش .
الثاني : في أدنى أرض الروم ، وهو قول الجمهور وفي أدنى أرض الروم أربعة أقاويل :
أحدها : أطراف الشام ، قاله ابن عباس .
الثاني : الجزيرة وهي أقرب أرض الروم إلى فارس ، قاله مجاهد .
الثالث : الأردن وفلسطين ، قاله السدي .
الرابع : أذرعات الشام وكانت بها الوقعة ، قاله يحيى بن سلام .
وقرأ أبو عمرو وحده : { غَلَبَتِ } بالفتح أي ظهرت فقيل له علام غلبت؟ فقال : في أدنى ريف الشام .
قوله تعالى : { فِي بِضْعِ سِنِينَ } وهو ما بين الثلاث إلى العشر وهذا نص عن الرسول صلى الله عليه وسلم . وقال بعض أهل اللغة هو ما بين العقدين من الواحد إلى العشرة فيكون من الثاني إلى التاسع .
وأما النيف ففيه قولان :
أحدهما : ما بين الواحد والتسعة ، قاله ابن زيد .
الثاني : ما بين الواحد والثلاثة ، وهو قول الجمهور .
{ لِلَّهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ } فيه وجهان
: أحدهما : من قبل أن تغلب الروم ومن بعد ما غلبت .
الثاني : من قبل غلبة دولة فارس على الروم ومن بعد غلبة دولة الروم على فارس .
{ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ } فيه قولان
: أحدهما : أنه الخبر الذي ورد على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية بهلاك كسرى ففرح ومن معه فكان هذا يوم فرحهم بنصر الله لضعف الفرس وقوة العرب .
الثاني : يعني به نصر الروم على فارس .
وفي فرحهم بذلك ثلاثة أوجه :
أحدها : تصديق خبر الله وخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم .
الثاني : لأنهم أهل كتاب مثلهم .
الثالث : لأنه مقدمة لنصرهم على المشركين .
{ بِنَصْرِ اللَّهِ } يعني من أوليائه لأن نصره مختص بغلبة أوليائه لأعدائه فأما غلبة أعدائه لأوليائه فليس بنصر وإنما هو ابتلاء .
{ وَهُوَ الْعَزِيزُ } في نقمته { الرَّحِيمُ } لأهل طاعته
. قوله تعالى : { يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } فيه وجهان :
أحدهما : يعلمون أمر معايشهم متى يزرعون ومتى يحصدون وكيف يغرسون وكيف يبنون ، قاله ابن عباس وعكرمة وقتادة . وقال الضحاك : هو بنيان قصورها وتشقيق أنهارها وغرس أشجارها فهذا ظاهر الحياة الدنيا .
الثاني : يعلمون ما ألقته الشياطين لهم من أمور الدنيا عند استراقهم السمع من سماء الدنيا ، قاله ابن جبير .
ويحتمل ثالثاً : أن ظاهر الحياة الدنيا العمل لها ، وباطنها عمل الآخرة .
{ وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ } يحتمل وجهين
: أحدهما : عما أعده الله في الآخرة من ثواب عن طاعته وعقاب على معصيته .
الثاني : عما أمرهم الله به من طاعة وألزمهم إياه .


أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ (10)

قوله تعالى : { أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ فِي أَنفُسِهِم مَّا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَواتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ } يحتمل أربعة أوجه :
أحدها : بالعدل .
الثاني : بالحكمة .
الثالث : إلا ما استحق عليهم الطاعة والشكر .
والرابع : قاله الفراء ، معناه إلا للحق يعني الثواب والعقاب .
{ وَأَجَلِ مُّسَمًّى } فيه وجهان
: أحدهما : قيام الساعة ، قاله ابن عباس .
الثاني : وهو محتمل أنه أجل كل مخلوق على ما قدر له .
فدل ذل على أمرين :
أحدهما : دل به على الفناء وعلى أن لكل مخلوق أجلاً .
الثاني : نبه على ثواب المحسن وعقاب المسيء .
قوله تعالى : { ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ أَسَآءُواْ } قال ابن عباس : كفرواْ .
{ السُّوأَى } فيه وجهان
: أحدهما : جهنم ، قاله السدي .
الثاني : العذاب في الدنيا والآخرة ، قاله الحسن .
وفي الفرق بين الإساءة والسوء وجهان :
أحدهما : أن الإساءة إنفاق العمر في الباطل ، والسوء إنفاق رزقه في المعاصي .
الثاني : أن الإِساءَة فعل المسيء والسوء الفعل مما يسوء .
{ أَن كَذَّبُواْ } لأن كذبواْ
. { بِئَايَاتِ اللَّهِ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن ، قاله الكلبي .
الثاني : بالعذاب أن ينزل بهم ، قاله مقاتل .
الثالث : بمعجزات الرسل ، قاله الضحاك .
{ وَكَانُواْ بِهَا يَسْتَهْزِءُونَ } أي بالآيات .


اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ (13) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16)

قوله تعالى : { يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ } فيه ستة أوجه
: أحدها : أنه الفضيحة ، قاله مجاهد .
الثاني : الاكتئاب ، قاله ابن أبي نجيح .
الثالث : الإياس ، قاله ابن عباس .
الرابع : الهلاك ، قاله السدي .
الخامس : الندامة ، قاله ابن قتيبة .
السادس : الحيرة ، قال العجاج :
يا صاح هل تعرف رسْماً مكرساً ... قال نعم أعرفه وأبلسَا
قوله تعالى : { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ } فيه وجهان
: أحدهما : في الجزاء بالثواب والعقاب .
الثاني : في المكان بالجنة والنار .
قوله تعالى : { . . . فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يَحْبَرُونَ } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : يمكرون ، قاله ابن عباس .
الثاني : ينعمون ، قاله مجاهد وقتادة .
الثالث : يتلذذون بالسماع والغناء ، قاله يحيى بن أبي كثير .
الرابع : يفرحون ، قاله السدي . والحبرة عند العرب السرور والفرح قال العجاج :
فالحمد لله الذي أعطى الحبر ... موالي الحي إن المولى يَسَر
فأما الروضة فهي البستان المتناهي منظراً وطيباً ولم يكن عند العرب أحسن منظراً ولا أطيب منها ريحاً قال الأعشى :
ما روضة من رياض الحزن معشبةٌ ... خضراء جاد عليها مسبل هطل
يضحك الشمس منها كوكب شَرِقٌ ... مؤزر بعميم النبت مكتهل
يوماً بأطيب منها نشر رائحةٍ ... ولا بأحسن منها إذا دنا الأُصُل
قوله تعالى : { فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ } فيه خمسة تأويلات
: أحدها : مدخلون ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : نازلون ومنه قوله : { إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوتُ } [ البقرة : 180 ] و [ المائدة : 106 ] أي نزل به .
الثالث : مقيمون ، قاله ابن شجرة .
الرابع : معذبون .
الخامس : مجموعون ، ومعاني هذه التأويلات متقاربة .


فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19)

قوله : { فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ } وفي تسمية الصلاة بالتسبيح وجهان :
أحدهما : لما تضمنتها من ذكر التسبيح في الركوع والسجود .
الثاني : مأخوذ من السبحة ، والسبحة الصلاة ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم « تَكُونُ لَكُم سَبْحَةٌ يَوْمَ القِيَامَةِ » أي صلاة .
وقوله : { حِينَ تُمْسُونَ } أي صلاة المغرب والعشاء ، قاله ابن عباس وابن جبير والضحاك . { وَحِينَ تُصْبِحُونَ } صلاة الصبح في قولهم أيضاً .
{ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَواتِ وَالأَرْضِ } فيه قولان
: أحدهما : الحمد لله على نعمه وآلائه .
الثاني : الصلاة لاختصاصها بقراءة الحمد في الفاتحة .
{ وَعَشِّياً } يعني صلاة العصر
. { وَحِينَ تَظْهِرُونَ } يعني صلاة الظهر وإنما خص صلاة الليل باسم التسبيح وصلاة النهار باسم الحمد لأن الإنسان في النهار متقلب في أحوال توجب حمد الله عليها ، وفي الليل على خلوة توجب تنزيه الله من الأسواء فيها فلذلك صار الحمد بالنهار أخص فسميت به صلاة النهار ، والتسبيح بالليل أخص فسميت به صلاة الليل .
والفرق بين المساء والعشي أن المساء بدو الظلام بعد المغيب ، والعشي آخر النهار عند ميل الشمس للمغيب وهو مأخوذ من عشا العين وهو نقص النور من الناظر كنقص نور الشمس ، فجاءت هذه الآية جامعة لأوقات الصلوات الخمس ، وقد روى سفيان عن عاصم أن نافع بن الأزرق سأل ابن عباس : هل تجد في كتاب الله الصلوات الخمس؟ فقرأ هذه الآية .
قال يحيى ابن سلام : كل صلاة ذكرت في كتاب الله قبل الليلة التي أسري فيها برسول الله صلى الله عليه وسلم فليست من الصلوات الخمس لأنها فرضت في الليلة التي أسري به فيها وذلك قبل الهجرة بسنة ، قال : وهذه الآية نزلت بعد ليلة الإسراء وقبل الهجرة .
{ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ } فيه أربعة تأويلات
: أحدها : يخرج الإنسان الحي من النطفة الميتة ويخرج النطفة الميتة من الإنسان الحي ، قاله ابن مسعود وابن عباس وأبو سعيد الخدري ومجاهد وقتادة وابن جبير .
الثاني : يخرج المؤمن من الكافر ويخرج الكافر من المؤمن ، قاله عمر بن الخطاب رضي الله عنه والزهري ، ورواه الأسود بن عبد يغوث عن النبي صلى الله عليه وسلم .
الثالث : يخرج الدجاجة من البيضة ويخرج البيضة من الدجاج ، قاله عكرمة .
الرابع : يخرج النخلة من النواة ويخرج النواة من النخلة؛ والسنبلة من الحبة والحبة من السنبلة ، قاله ابن مالك والسدي .
ويحتمل خامساً : يخرج الفطن اللبيب من العاجز البليد ويخرج العاجز البليد من الفطن اللبيب .
{ وَيُحْيِى الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } يعني بالنبات لأنه حياة أهلها فصار حياة لها
. ويحتمل ثانياً : أنه كثرة أهلها لأنهم يحيون مواتها ويعمرون خرابها .
{ وَكَذِلِكَ تُخْرَجُونَ } أي كما أحيا الأرض بإخراج النبات وأحيا الموتى كذلك يحييكم بالبعث . وفي هذا دليل على صحة القياس .


وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21)

قوله تعالى : { وَمِنَ ءَايَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً } فيه قولان
: أحدهما : حواء خلقها من ضلع آدم ، قاله قتادة .
الثاني : أن خلق سائر الأزواج من أمثالهم من الرجال والنساء ، قاله علي بن عيسى .
{ لِّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا } لتأنسوا إليها لأنه جعل بين الزوجين [ من ] الأنسية ما لم يجعله بين غيرهما .
{ وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً } فيه أربعة
: أحدها : أن المودة المحبة والرحمة والشفقة ، قاله السدي .
الثاني : أن المودة الجماع والرحمة الولد ، قاله الحسن .
الثالث : أن المودة حب الكبير والرحمة الحنو على الصغير ، قاله الكلبي .
الرابع : أنهما التراحم بين الزوجين ، قاله مقاتل .
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } يحتمل وجهين
: أحدهما : يتفكرون في أن لهم خالقاً معبوداً .
الثاني : يتفكرون في البعث بعد الموت .


وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22) وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23)

قوله : { وَمِنْ ءَايَاتِهِ خَلْقُ السَّموَاتِ وَالأَرْضِ } فيه وجهان
: أحدهما : لما فيهما من الآيات والعبر .
الثاني : لإعجاز الخلق عن إحداث مثلهما .
{ وَاخْتلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ } فيه وجهان
: أحدهما : اختلاف ألسنتكم بالكلام ، فللعرب كلام وللفرس كلام وللروم كلام . وألوانكم أبيض وأسود وأحمر ، قاله السدي ، وحكى وهب بن منبه في المبتدأ أن جميع الألسنة اثنان وسبعون لساناً منها في ولد سام بن نوح تسعة عشر لساناً ، وفي ولد حام سبعة عشر لساناً ، وفي ولد يافث ستة وثلاثون لساناً .
والوجه الثاني : اختلاف ألسنتكم : النغمة والصوت حتى لا يشتبه صوتان من أخوين لأم وأب ، وألوانكم : الصورة حتى لا يشتبه الناس في المعارف والمناكح والحقوق .
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ } قال ابن عيسى : الجن والإنس . وروى حفص عن عاصم { للعالمين } بكسر اللام يعني جميع العلماء .
قوله : { وَمِنْ ءَايَاتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَؤُكُمْ مِّن فَضْلِهِ } فيه وجهان :
أحدهما : أن الليل والنهار معاً وقت للنوم ووقت لابتغاء الفضل ، لأن من الناس من يتصرف في كسبه ليلاً وينام نهاراً .
الثاني : أن الليل وقت النوم والنهار وقت لابتغاء الفضل ، ويكون تقدير الكلام : ومن آياته منامكم بالليل ، وابتغاؤكم من فضله بالنهار .
وفي ابتغاء الفضل وجهان :
أحدهما : التجارة ، قاله مجاهد .
الثاني : التصرف والعمل . فجعل النوم في الليل دليلاً على الموت ، والتصرف في النهار دليلاً على البعث .
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ } فيه ثلاث أوجه
: أحدها : يسمعون الحق فيتبعونه .
الثاني : يسمعون الوعظ فيخافونه .
الثالث : يسمعون القرآن فيصدقونه .


وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25)

قوله تعالى : { وَمِن ءَايَاتِهِ يُرِيكُمْ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً } فيه أربعة تأويلات
: أحدها : خوفاً للمسافر وطمعاً للمقيم ، قاله قتادة .
الثاني : خوفاً من الصواعق وطمعاً في الغيث ، قاله الضحاك .
الثالث : خوفاً من البرد أن يهلك الزرع وطمعاً في المطر أن يحيي الزرع ، حكاه يحيى بن سلام .
الرابع : خوفاً أن يكون البرق برقاً خُلّباً لا يمطر وطمعاً أن يكون ممطراً ، ذكره ابن بحر ، وأنشد قول الشاعر :
لا يكن برقك برقاً خُلّباً ... إن خير البرق ما الغيث معه
والعرب يقولون : إذا توالت أربعون برقة مطرت وقد أشار المتنبي إلى ذلك بقوله :
فقد أرد المياه بغير زادٍ ... سوى عَدّي لها بَرْق الغمام
قوله تعالى : { وَمِنْ ءَآيَاتِهِ أنْ تَقُومَ السَّمَآءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ } فيه وجهان
: أحدهما : أن تكون .
الثاني : أن تثبت .
{ بِأَمْرِهِ } فيه وجهان
: أحدهما : بتدبيره وحكمته .
الثاني : بإذنه لها أن تقوم بغير عمد .
{ ثُمَّ إِذا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنْ الأَرْضِ } أي وأنتم موتى في قبوركم
. { إِذَآ أَنتُمْ تَخْرُجُونَ } أي من قبوركم مبعوثين إلى القيامة . قال قتادة : دعاهم من السماء فخرجوا من الأرض .
ثم فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه أخرجهم بما هو بمنزلة الدعاء وبمنزلة قوله كن فيكون ، قاله ابن عيسى .
الثاني : أنهم أخرجهم بدعاء دعاهم به ، قاله قتادة .
الثالث : أنه أخرجهم بالنفخة الثانية وجعلها دعاء لهم . ويشبه أن يكون قول يحيى بن سلام .


وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (26) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)

قوله : { . . . كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ } فيه ستة تأويلات
: أحدها : مطيعون ، قاله مجاهد . روى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : كل حرف من القرآن يذكر فيه القنوت فهو الطاعة .
الثاني : مصلون ، قاله ابن عباس .
الثالث : مقرون بالعبودية ، قاله عكرمة وأبو مالك والسدي .
الرابع : كل له قائم يوم القيامة ، قاله الربيع بن أنس .
الخامس : كل له قائم بالشهادة أنه عبد له ، قاله الحسن .
السادس : أنه المخلص ، قاله ابن جبير .
قوله تعالى : { وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ } أما بدء خلقه فبعلوقه في الرحم قبل ولادته ، وأما إعادته فإحياؤه بعد الموت بالنفخة الثانية للبعث فجعل ما علم من ابتداء خلقه دليلاً على ما خفي من إعادته استدلالاً بالشاهد على الغائب .
ثم أكد ذلك بقوله : { وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها : إن إعادة الخلق أهون من ابتداء إنشائهم لأنهم ينقلون في الابتداء نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظماً ثم يعود رضيعاً ثم فطيماً ، وهو في الإعادة يصاح به .
فيقوم سوياً وهذا مروي عن ابن عباس .
الثالث : معناه وهو هين عليه فجعل { أهْونُ } مكان { هَيِّنٌ } كقول الفرزدق :
إن الذي سمك السماء بنى لنا ... بيتاً دعائمه أعز وأطول
أي دعائمه عزيرة طويلة
: وفي تأويل { أَهْوَنُ } وجهان :
أحدهما : أيسر ، قاله ابن عباس .
الثاني : أسهل ، وأنشد ابن شجرة قول الشاعر :
وهان على أسماءَ أن شطت النوى ... يحن إليها والهٌ ويتوق
أي هي أسهل عليه ، وقال الربيع بن هيثم في قوله تعالى : { وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } قال : ما شيء على الله بعزيز .
{ وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى } أي الصفة العليا . وفيه ثلاثة أقاويل
: أحدها : أنه ليس كمثله شيء ، قاله ابن عباس .
الثاني : هو شهادة أن لا إله إلا الله ، قاله قتادة .
الثالث : أنه يحيي ويميت ، قاله الضحاك .
ويحتمل رابعاً : -هو أعلم- أنه جميع ما يختص به من الصفات التي لا يشاركه المخلوق فيها .
{ فِي السَّموَاتِ وَالأَرْضِ } أي لا إله فيها غيره
. { وَهُوَ الْعَزِيزُ } فيه وجهان
: أحدهما : المنيع في قدرته .
الثاني : في انتقامه .
{ الْحَكِيمُ } فيه وجهان
: أحدهما : في تدبيره لأمره وهو معنى قول أبي العالية .
الثاني : في إعذاره وحجته إلى عباده ، قاله جعفر بن الزبير .


ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (29)

قوله تعالى : { ضَرَبَ لَكُم مَّثَلاً مِّنْ أَنفُسِكُمْ } اختلف في سبب ضرب الله لهم المثل على ثلاثة أقاويل :
أحدها : لأن المشركين أشركوا به في العبادة غيره ، قاله قتادة .
الثاني : لأنه كانت تلبية قريش في الجاهلية : لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك ، إلا شريكاً وهو لك ، تملكه وما ملك ، فأنزل الله هذه الآية ، قاله ابن جبير .
الثالث : لأنهم كانوا لا يورثون مواليهم فضرب الله هذا المثل ، قاله السدي .
وتأويله : أنه لم يشارككم عبيدكم في أموالكم لأنكم مالكون لهم ، فالله أوْلى ألا يشاركه أحد من خلقه في العبادة لأنه مالكهم وخالقهم .
{ تَخَافُونَهُم كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : تخافون أن يشاركوكم في أموالكم كما تخافون ذلك من شركائكم ، قاله أبو مجلز .
الثاني : تخافون أن يرثوكم كما تخافون ورثتكم ، قاله السدي .
الثالث : تخافون لائمتهم كما تخافون بعضكم بعضاً ، قاله يحيى بن سلام .


فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)

قوله تعالى : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : قصدك .
الثاني : دينك ، قاله الضحاك .
الثالث : عملك ، قاله الكلبي .
{ لِلدِّينِ حَنِيفاً } فيه ستة تأويلات
: أحدها : مسلماً ، وهذا قول الضحاك .
والثاني : مخلصاً ، وهذا قول خصيف .
الثالث : متبعاً ، قاله مجاهد .
الرابع : مستقيماً ، قاله محمد بن كعب .
الخامس : حاجّاً ، قاله ابن عباس .
السادس : مؤمناً بالرسل كلهم ، قاله أبو قلابة .
{ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا } فيها تأويلان
: أحدهما : صنعة الله التي خلق الناس عليها ، قاله الطبري .
الثاني : دين الله الذي فطر خلقه عليه ، قاله ابن عباس والضحاك والكلبي يريد به الإسلام وقد روى عطاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « مِن فِطْرةِ إِبْرَاهِيمَ السُّوَاكُ » ومن قول كعب بن مالك :
إن تقتولنا فدين الله فطرتنا ... والقتل في الحق عند الله تفضيل
{ لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ } فيه ثلاثة تأويلات
: أحدها : لا تبديل لدين الله ، قاله مجاهد وقتادة .
الثاني : لا تغيير لخلق الله من البهائم أن يخصي فحولها ، قاله عمر بن الخطاب وابن عباس وعكرمة .
الثالث : لا تبديل خالق غير الله فيخلق كخلق الله ، لأنه خالق يخلق ، وغيره مخلوق لا يخلق ، وهو معنى قول ابن بحر .
ويحتمل رابعاً ، لا يشقى من خلقه سعيداً ولا يسعد من خلقه شقيّاً .
{ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ } فيه تأويلان
: أحدهما : ذلك الحساب البين ، قاله مقاتل بن حيان .
الثاني : ذلك القضاء المستقيم ، قاله ابن عباس .
{ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } أي لا يتفكرون فيعلمون أن لهم خالقاً معبوداً وإلهاً قديماً :
قوله : { مُنِيبِينَ إِلَيْهِ } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : مقبلين إليه ، قاله يحيى بن سلام والفراء .
الثاني : داعين إليه ، قاله عبيد بن يعلى .
الثالث : مطيعين له ، قاله عبد الرحمن بن زيد .
الرابع : تائبين إليه من الذنوب ، ومنه قول أبي قيس بن الأسلت :
فإن تابوا فإن بني سليم ... وقومهم هوازن قد أنابوا
وفي أصل الإنابة قولان
: أحدهما : أن أصله القطع ومنه أخذ اسم الناب لأنه قاطع فكأن الإنابة هي الانقطاع إلى الله عز وجل بالطاعة .
الثاني : أن أصله الرجوع مأخوذ من ناب ينوب إذا رجع مرة بعد مرة ومنه النوبة لأنها الرجوع إلى عادة .
قوله تعالى : { مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ } أي أوقعوا فيه الاختلاف حتى صاروا فرقاً وقرىء { فَارَقُواْ دِينَهُم } أي تركوه وقد قرأ بذلك علي رضي الله عنه وهي قراءة حمزة والكسائي وفيهم أربعة أقاويل :
أحدها : أنهم اليهود ، قاله قتادة .
الثاني : أنهم اليهود والنصارى ، قاله معمر .
الثالث : أنهم الخوارج من هذه الأمة ، وهذا قول أبي هريرة ورواه أبو أمامة مرفوعاً .
الرابع : أنهم أصحاب الأهواء والبدع ، روته عائشة مرفوعاً .
{ وَكَانُواْ شِيَعاً } فيه وجهان
: أحدهما : فرقاً ، قاله الكلبي .
الثاني : أدياناً ، قاله مقاتل .
ويحتمل ثالثاً : أنهم أنصار الأنبياء وأتباعهم .
{ كُلُّ حِزْبٍ } أي فرقة
. { بِمَا لَدَيْهِمْ فِرِحُونَ } أي بما عندهم من الضلالة
. { فَرِحُونَ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : مسرورون ، قاله الجمهور .
الثاني : معجبون ، قاله ابن زيد .
الثالث : متمسكون ، قاله مجاهد .


وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37)

قوله : { أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً } فيه أربعة تأويلات
: أحدها : يعني كتاباً ، قاله الضحاك .
الثاني : عذراً ، قاله قتادة .
الثالث : برهاناً ، وهو معنى قول السدي وعطاء .
الرابع : رسولاً ، حكاه ابن عيسى محتملاً .
{ فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُواْ بِهِ يُشْرِكُونَ } يحتمل وجهين
: أحدهما : معناه يخبر به .
الثاني : يحتج له .
قوله : { وَإِذَآ أَذَقْنا النَّاسَ رَحْمَةً } فيها وجهان :
أحدهما : أنها العافية والسعة ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : النعمة والمطر ، حكاه النقاش .
ويحتمل أنها الأمن والدعة .
{ فَرِحُواْ بِهَا } أي بالرحمة
. { وَإِن تُصِبْهُمْ سِيِّئَةً } فيها وجهان
: أحدهما : بلاء وعقوبة ، قاله مجاهد .
الثاني : قحط المطر ، قاله السدي .
ويحتمل ثالثاً : أنها الخوف والحذر .
{ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } أي بذنوبهم
. { إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ } فيه وجهان
: أحدهما : أن القنوط اليأس من الرحمة والفرج ، قاله الجمهور .
الثاني : أن القنوط ترك فرائض الله في اليسر ، قاله الحسن .


فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40)

قوله : { فَئَاتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ } فيهم وجهان
: أحدهما : أنهم قرابة الرجل ، أن يصل رحمهم بماله ونفسه ، قاله الحسن وقتادة .
الثاني : أنهم ذوو قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وهم بنو هاشم وبنو المطلب يعطون حقهم من الغنيمة والفيء ، قاله السدي .
{ وَالْمِسْكِينَ } هو الذي لا يجد كفايته
. { وَابْنَ السَّبِيلِ } فيه قولان
: أحدهما : المسافر ، قاله مجاهد فإن كان محتاجاً فحقه في الزكاة وإن كان غير محتاج فبرّاً وصلة .
الثاني : أنه الضيف الذي ينزل بك ، قاله ابن عباس وابن جبير وقتادة ، فإن أطعمه كان برّاً وصلة ولم يجز أن يكون من الزكاة محتاجاً كان أو غير محتاج . وإن دفعت إليه مالاً جاز إذا كان فقيراً أن يكون من الزكاة ، ولم يجز إن كان غنيّاً .
قوله : { وَمَاءَ آتَيْتُم مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَا فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلاَ يَرْبُواْ عِندَ اللَّهِ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه الرجل يهدي هدية ليكافأ عليها أفضل منها ، قاله ابن عباس ومجاهد .
الثاني : أنه في رجل صحبه في الطريق فخدمه فجعل له المخدوم بعض الربح من ماله جزاء لخدمته لا لوجه الله ، قاله الشعبي .
الثالث : أنه في رجل يهب لذي قرابة له مالاً ليصير به غنيّاً ذا مال ولا يفعله طلباً لثواب الله ، قاله إبراهيم .
ومعنى قوله : { فَلاَ يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ } أي فلا يكون له ثواب عند الله .
قال ابن عباس : هما رِبَوان أحدهما حلال والآخر حرام ، فما تعاطيتم بينكم حلال ولا يصل إلى الله .
{ وَمَا ءَآتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ } أي ثواب الله ، وفيها قولان
: أحدهما : أنها الزكاة المفروضة وهو الظاهر .
الثاني : أنها الصدقة ، قاله ابن عباس والسدي .
{ فَأُوْلَئِكَ الْمُضْعِفُونَ } فيه وجهان
: أحدهما : تضاعف لهم الحسنات لأن من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ، قاله السدي .
الثاني : تضاعف أموالهم في الدنيا بالزيادة فيها ، وقال الكلبي : لم يقل مال رجل من زكاة .


ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42)

قوله : { ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ } في { الفَسَادِ } أربعة أقاويل
: أحدها : الشرك ، قاله السدي .
الثاني : ارتكاب المعاصي ، قاله أبو العالية .
الثالث : قحط المطر ، قاله يحيى بن سلام .
الرابع : فساد البر : قتل ابن آدم أخاه ، وفساد البحر : أخذ السفينة غصباً .
ويحتمل خامساً : أن ظهور الفساد ولاة السوء .
{ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ } هنا أربعة أقاويل
: أحدها : أن البر الفيافي والبحر القرى ، قاله عكرمة ، وقال : إن العرب تسمي الأمصار البحار .
الثاني : البر أهل العمود والبحر أهل القرى والريف ، قاله قتادة .
الثالث : أن البر بادية الأعراب ، قاله الضحاك والبحر الجزائر؛ قاله عطاء .
الرابع : أن البر ما كان من المدن والقرى على غير نهر ، والبحر ما كان على شط نهر ، قاله ابن عباس .
وللمتعمقين في غوامض المعاني وجهان :
أحدهما : أن البر النفس والبحر القلب .
الثاني : أن البر اللسان والبحر القلب . لظهور ما على اللسان وخفاء ما في القلب . وهو بعيد .
{ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ } قال السدي : بما عملواْ من المعاصي واكتسبوا من الخطايا .
{ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا } من المعاصي جزاءً معجلاً في الدنيا وجزاءً مؤجلاً في الآخرة فصار عذاب الدنيا بعض الجزاء .
{ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : يرجعون عن المعاصي ، قاله أبو العالية .
الثاني : يرجعون إلى حق ، قاله إبراهيم .
الثالث : يرجع من بعدهم ، قاله الحسن .


فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (45)

قوله تعالى : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ } فيه وجهان
: أحدهما : أقم وجهك للتوحيد ، قاله السدي .
الثاني : استقم للدين المستقيم بصاحبه إلى الجنة ، قاله ابن عيسى .
{ مِن قَبْلِ يَأَتِيَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ } يعني يوم القيامة
. { يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ } قال ابن عباس : معناه يتفرقون قال الشاعر
:
وكنا كندماني جذيمة حقبةً ... من الدهر حتى قيل له يتصدعا
أي لن يتفرقا
. ويحتمل وجهاً ثانياً : أنه ما يصدعهم يوم القيامة من أهوال .
وفيه قولان :
أحدهما : يتفرقون في عرصة القيامة فريق في الجنة وفريق في السعير ، قاله قتادة .
الثاني : يتفرق المشركون وآلهتهم في النار ، قاله الكلبي .
قوله : { . . . فَلأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ } فيه تأويلان :
أحدهما : يسوون المضاجع في القبور ، قاله مجاهد .
الثاني : يوطئون في الدنيا بالقرآن وفي الآخرة بالعمل الصالح ، قاله يحيى بن سلام .


وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)

قوله : { وَمِنْ ءَايَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ } قال الضحاك : بالغيث
. ويحتمل وجهاً ثانياً : بخصب الزمان وصحة الأبدان .
وقال أُبي بن كعب : كل شيء في القرآن من الرياح فهو رحمة ، وكل شيء في القرآن من الريح فهو عذاب .
وقال عبد الله بن عمر : الريح ثمانية ، أربعة منها رحمة وأربعة منها عذاب ، فأما الرحمة فالناشرات والمبشرات والمرسلات والذاريات ، وأما العذاب فالعقيم والصرصر وهما في البر ، والعاصف والقاصف وهما في البحر .
{ وَلِيُذِيقَكُم مِّن رَّحْمَتِهِ } فيه تأويلان
: أحدهما : بردها وطيبها ، قاله الضحاك .
الثاني : المطر ، قاله مجاهد وقتادة .
{ وَلِتَجْزِي الْفُلْكُ } يعني السفن
. { بِأمْرِهِ . . . } يحتمل وجهين
: أحدهما : بقدرته في تسييرها .
الثاني : برحمته لمن فيها .
{ . . . وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } يعني ما عدّده من نعمه فتطيعوه لأن طاعة العبد لربه في شكره لنعمته إذ ليس مع المعصية شكر ولا مع كفر النعمة طاعة .
قوله : { . . . وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ } فيه وجهان :
أحدهما : نصر الأنبياء بإجابة دعائهم على المكذبين لهم من قومهم ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : نصر المؤمنين بإيجاب الذبّ عن أعراضهم ، روت أم الدرداء ، قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « مَا مِنِ امْرِىءٍ مُسْلِمٍ يَرُدُّ عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ إِلاَّ كَانَ حَقّاً عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَن يَرُدَّ عَنْهُ نَارَ جَهَنَّمَ يَوْمَ القِيَامِةِ » ثم تلا هذه الآية { وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ } .


اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50) وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51)

قوله : { . . . وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً } فيه ثلاثة تأويلات
: أحدها : قطعاً ، قاله قتادة .
الثاني : متراكماً بعضه على بعض ، قاله يحيى بن سلام .
الثالث : في سماء دون سماء ، قاله الضحاك .
{ فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ } أي من خلال السحاب . وقرأ الضحاك بن مزاحم : من خلله ، وفي { الْوَدْقَ } تأويلان :
أحدهما : أنه البرق ، حكاه أبو نخيلة الحماني عن أبيه .
الثاني : أنه المطر ، قاله مجاهد والضحاك ومنه قول الشاعر :
فلا مزنة ودقت ودْقُها ... ولا أرض أبقل إبقالها
قوله : { فَانظُرْ إِلَى ءَآثارِ رَحْمَةِ اللَّهِ } يعني المطر
. { كَيْفَ يُحْيي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهآ } يعني بالماء حتى أنبتت شجراً ومرعى بعد أن كانت بالجدب مواتاً ، قال عكرمة : ما أنزل الله من السماء قطرة إلا أنبت بها في الأرض عشبة أو في البحر لؤلؤة .
{ إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى } لأن القادر على إحياء الأرض الموات قادر على إحياء الأموات استدلالاً بالشاهد على الغائب .
وتأول من تعمّق في غوامض المعاني آثار رحمة الله أنه مواعظ القرآن وحججه تحيي القلوب الغافلة .
قوله : { وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً } فيه قولان :
أحدهما : فرأوا السحاب مصفراً ، لأن السحاب إذا كان كذلك لم يمطر ، حكاه علي ابن عيسى وقيل إنها الريح الدبور لأنها لا تلقح .
الثاني : فرأوا الزرع مصفراً بعد اخضراره ، قاله ابن عباس وأبو عبيدة .
{ لَظَلُّواْ مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ } ومعنى ظل هو أنه أوقع الفعل في صدر النهار وهو الوقت الذي فيه الظل ، لأنه وقت مختص بأهم الأمور لتقديمه عن نّية من الليل . وكذلك قولهم أضحى يفعل ، لكن قد يعبر بقولهم ظل يفعل عن فعل أول النهار وآخره اتساعاً لكثرة استعماله ، وقلَّما يستعمل أضحى يفعل إلا في صدر النهار دون آخره .
ويحتمل { يَكْفُرُونَ } هنا وجهين :
أحدهما : يَشْكَونَ .
الثاني : يذمّون .


فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53)

قوله : { فَإِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى } فيه قولان
: أحدهما : أن الموتى الكفار الذين يموتون على الكفر وهم الصم الذين تولوا عن الهدى فلم يسمعوه ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : أن هذا مثل ضربه الله للكافرين كما أن الميت إذا خوطب لم يسمع والأصم إذا دعي لم يسمع كذلك الكافر لا يسمع الوعظ لأن الكفر قد أماته والضلال قد أصمه .
قوله : { وَلاَ تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْ مُدْبِرِينَ } فالأصم لا يسمع الدعاء مقبلاً ولا مدبراً ولكن إذا دعي مقبلاً فقد يفهم الإشارة وإن لم يسمع الصوت ، فإذا دعي مدبراً فهو لا يفهم الإشارة ولا يسمع الصوت فلذلك صارت حاله مدبراً أسوأ ، فذكره بأسوأ أحواله . وقيل إنها نزلت في بني عبد الدار .


اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54)

قوله : { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ } قال قتادة : من نطفة
. { ثُمَّ جَعَلَ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً } قاله مجاهد : شباباً
. { ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً } يعني هرماً وشيبة ، قال قتادة : لأن بياض الشعر نذير بالفناء ، قال الشاعر :
أُريت الشيب من نذر المنايا ... لصاحبه وحسبك من نذير
{ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ } من قوة وضعف
. { وَهُوَ الْعَلِيمُ } بتدبيره { الْقَدِيرُ } على إرادته .


وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57)

قوله تعالى : { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ } قال ابن عباس : الكفار
. { مَا لَبِثواْ غَيْرَ سَاعَةٍ } فيه قولان
: أحدهما : في الدنيا استقلالاً لأجل الدنيا لما عاينوا من الآخرة ، قاله قتادة .
الثاني : في قبورهم ما بين موتهم ونشورهم ، قاله يحيى بن سلام .
{ كَذلِكَ } أي هكذا ، قاله ابن جبير
. { كَانُواْ يُؤْفَكُونَ } فيه وجهان
: أحدهما : يكذبون في الدنيا ، قاله قتادة .
الثاني : يصدون في الدنيا عن الإيمان بالبعث . قاله يحيى بن سلام .
قوله : { وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ } فيهم وجهان :
أحدهما : أنهم الملائكة ، قاله الكلبي .
الثاني : أهل الكتاب .
{ وَالإِيمَانَ } يحتمل وجهين
: أحدهما : الإيمان بالكتاب المتقدم من غير تحريف له ولا تبديل فيه .
الثاني : الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم .
{ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : لقد لبثتم في علم الله ، قاله الفراء .
الثاني : لقد لبثتم بما بيانه في كتاب الله ، قاله ابن عيسى .
الثالث : أن في الكلام تقديماً وتأخيراً تقديره : { وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ } في كتاب الله والإيمان { لَقَدْ لَبِثْتُم إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ } قاله قتادة .
وفي { لَبِثْتُمْ } قولان :
أحدهما : لبثوا في قبورهم .
الثاني : في الدنيا أحياء وفي قبورهم أموات .
{ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ } يعني الذي كذبتم به في الدنيا
. { وَلكِنَّكُمْ كِنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ } أي لا تعلمون في الدنيا أن البعث حق وقد علمتم الآن أنه حق .
قوله : { فَيَومَئِذٍ } يعني يوم القيامة .
{ لاَ يَنفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَعْذِرَتُهُمْ } أي عذرهم الذي اعتذروا به في تكذيبهم
. { وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : لا يعاتبون على سيئاتهم ، قاله النقاش .
الثاني : لا يستتابون ، قاله بعض المتأخرين .
الثالث : لا يطلب منهم العتبى وهو أن يُرَدُوا إلى الدنيا لِيُعْتَبُوا أي ليؤمنوا ، قاله يحيى بن سلام .


وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (58) كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60)

قوله : { فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ } هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ويحتمل وجهين
: أحدهما : أن وعد الله في نصرك وتأييدك حق .
الثاني : أن وعده في انتقامه من أعدائك حق .
{ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : لا يَسْتَعْجَلَنَّكَ ، قاله ابن شجرة .
الثاني : لا يَسْتَفِزَّنَّكَ ، قاله يحيى بن سلام .
الثالث : لا يستنزلنك ، قاله النقاش .
{ الَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ } فيه وجهان
: أحدهما : لا يؤمنون .
الثاني : لا يصدقون بالبعث والجزاء ، روى سعيد عن قتادة أن رجلاً من الخوارج قال لعلي كرم الله وجهه وهو خلفه في صلاة الصبح { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } الآية . فقال له عليّ وهو في الصلاة { فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ } ، والله أعلم .


الم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)

قوله : { الم . تِلْكَ ءَايَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ } فيه أربعة أوجه
: أحدها : المحكم أَحكمت آياته بالحلال والحرام والأحكام . قاله يحيى بن سلام .
الثاني : المتقن لا يأيته الباطل من بين يديه ولا من خلفه وهو قريب من المعنى الأول ، قاله ابن شجرة .
الثالث : البين أنه من عند الله ، قاله الضحاك .
الرابع : أنه يظهر من الحكمة بنفسه كما يظهره الحكيم بقوله ، قاله ابن عيسى .
قوله تعالى : { هُدًى } فيه وجهان :
أحدهما : هدى من الضلالة ، قاله الشعبي .
الثاني : هدى إلى الجنة ، قاله يحيى بن آدم .
{ وَرَحْمَةً } فيه وجهان
: أحدهما : أن القرآن رحمة من العذاب لما في من الزجر عن استحقاقه وهو وجهان :
أحدهما : أنه خرج مخرج النعت بأنه هدى ورحمة .
الثاني : أنه خرج مخرج المدح بأن فيه هدى ورحمة .
{ لِلْمُحْسِنِينَ } وفي الإحسان ثلاثة أوجه
: أحدها : أنه الإيمان الذي يحسن به إلى نفسه ، قاله ابن شجرة .
الثاني : أنه الصلة والصلاة ، قاله الحسن .
الثالث : ما روى عمر بن الخطاب قال : بينما أنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أتاه رجل فقال : يا رسول الله ما الإحسان؟ قال : « أًن تَخْشَى اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِن لَّمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ . وَتُحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحبُ لِنَفْسِكَ » قال : فإذا فعلت ذلك فأنا محسن؟ قال : « نعم » قال الرجل : صدقت . ثم انطلق الرجل فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « عَلَيَّ بِالرَّجُلِ » . فطلبناه فلم نقدر عليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « اللَّهُ أَكْبَرُ ذَلِكَ جِبْرِيلُ عَلَيِهِ السَّلاَمُ أَرَادَ أَنْ يُعَلِّمَكُم أَمُورَ دِينِكُم
» . قوله تعالى : { أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِن رَّبِّهِم } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : على نور من ربهم ، قاله ابن عباس .
الثاني : على بينة ، قاله ابن جبير .
الثالث : على بيان ، قاله يحيى بن سلام .
{ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } فيه أربعة أوجه
: أحدها : بمعنى السعداء ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : المنجحون ، قاله ابن شجرة .
الثالث : الناجحون ، قاله النقاش .
الرابع : أنهم الذين أدركوا ما طلبوا ونجوا من شر ما منه هربواْ ، قاله ابن عباس .


وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7)

قوله تعالى : { وَمِن النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ } فيه سبعة تأويلات
: أحدها : شراء المغنيات لرواية القاسم بن عبد الرحمن عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لاَ يَحِلُّ بَيْعُ الْمُغنِيَاتِ وَلاَ شِرَاؤُهُنَّ وَلاَ التِّجَارَةُ فِيهِنَّ وَلاَ أَثْمَانُهُنَّ وَفِيهِنَّ أنزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ
} » . الثاني : الغناء ، قاله ابن مسعود وابن عباس وعكرمة وابن جبير وقتادة
. الثالث : أنه الطبل ، قاله عبد الكريم ، والمزمار ، قاله ابن زخر .
الرابع : أنه الباطل ، قاله عطاء .
الخامس : أنه الشرك بالله ، قاله الضحاك وابن زيد .
السادس : ما ألهى عن الله سبحانه ، قال الحسن .
السابع : أنه الجدال في الدين والخوض في الباطل ، قاله سهل بن عبد الله .
ويحتمل إن لم يثبت فيه نص تأويلاً ثامناً : أنه السحر والقمار والكهانة .
وفيمن نزلت قولان :
أحدهما : أنها نزلت في النضر بن الحارث كان يجلس بمكة فإذا قالت قريش إن محمداً قال كذا وكذا ضحك منه وحدثهم بحديث رستم واسفنديار ويقول لهم إن حديثي أحسن من قرآن محمد ، حكاه الفراء والكلبي .
الثاني : أنها نزلت في رجل من قريش اشترى جارية مغنية فشغل بها الناس عن اتباع النبي صلى الله عليه وسلم ، حكاه ابن عيسى .
{ لِيُضِلَّ عَن سَبيلِ اللَّهِ بِغَيرِ عِلْمٍ } فيه وجهان
: أحدهما : ليصد عن دين الله ، قاله الطبري .
الثاني : ليمنع من قراءة القرآن ، قاله ابن عباس .
{ بِغَيرِ عِلْمٍ } يحتمل وجهين
: أحدهما : بغير حجة .
الثاني : بغير رواية .
{ وَيَتَّخِذُهَا هُزُواً } فيه وجهان
: أحدهما : يتخذ سبيل الله هزواً يكذب بها ، قاله قتادة . وسبيل الله دينه .
الثاني : يستهزىء بها ، قاله الكلبي .
{ وَأُوْلئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ } أي مذل .


إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (11)

قوله تعالى : { خَلَقَ السَّموَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا } فيه قولان
: أحدهما : بعمد لا ترونها ، قاله عكرمة ومجاهد .
الثاني : أنها خلقت بغير عمد ، قاله الحسن وقتادة .
{ وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ } أي جبالاً
. { أَن تَمِيدَ بِكُمْ } أي لئلا تميد بكم وفيه وجهان
: أحدهما : معناه أن لا تزول بكم ، قاله النقاش .
الثاني : أن لا تتحرك بكم ، قاله يحيى بن سلام . وقيل : إن الأرض كانت تتكفأ مثل السفينة فأرساها الله بالجبال وأنها تسعة عشر جبلاً تتشعب في الأرض حتى صارت لها أوتاداً فتثبتت وروى أبو الأشهب عن الحسن قال : لما خلق الله الأرض جعلت تميد فلما رأت الملائكة ما تفعل الأرض قالوا : ربنا هذه لا يقر لك على ظهرها خلق ، فأصبح قد ربطها بالجبال فلما رأت الملائكة الذي أرسيت به الأرض عجبواْ فقالوا : يا ربنا هل خلقت خلقاً هو أشد من الجبال؟ قال : نَعَم الرِّيحُ قالوا : هل خلقت خلقاً هو أشد من الريح؟ قال : « نَعَمْ ابنُ آدَمَ » .
{ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : وخلق فيها ، قاله السدي .
الثاني : وبسط ، قاله الكلبي .
الثالث : فرق فيها من كل دابة وهو الحيوان سُمِّيَ بذلك لدبيبه والدبيب الحركة .
{ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ } فيه قولان
: أحدهما : أنهم الناس هم نبات الأرض فمن دخل الجنة فهو كريم ومن دخل النار فهو لئيم ، قاله الشعبي .
الثاني : أن نبات الأرض أشجارها وزرعها ، والزوج هو النوع .
وفي الكريم ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه الحسن ، قاله قتادة .
الثاني : أنه الطيب الثمر ، قاله ابن عيسى .
الثالث : أنه اليانع ، قاله ابن كامل .
ويحتمل رابعاً : أن الكريم ما كثر ثمنه لنفاسة القدر .


وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12)

قوله تعالى : { وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ } اختلف في نبوته على قولين
: أحدهما : أنه نبي ، قاله عكرمة والشعبي .
الثاني : أنه حكيم وليس بنبي ، قاله مجاهد وقتادة وسعيد بن المسيب . ووهب بن منبه ، قال إسماعيل : كان لقمان من سودان مصر ذا مشافر أعطاه الله الحكمة ومنعه النبوة . وقال قتادة : خير الله لقمان بين النبوة والحكمة فاختار الحكمة على النبوة فأتاه جبريل وهو نائم فذر عليه الحكمة فأصبح ينطق بها ، فقيل له : كيف اخترت الحكمة على النبوة وقد خيرك ربك؟ فقال : إنه لو أرسل إليّ بالنبوة عزمة لرجوت فيه العون منه ولكنت أرجو أن أقوم بها ، ولكنه خيرني فخفت أن أضعف عن النبوة فكانت الحكمة أحب إليّ .
واختلف في جنسه على قولين :
أحدهما : أنه كان من النوبة قصيراً أفطس ، قاله جابر بن عبد الله .
الثاني : كان عبداً حبشياً ، قاله ابن عباس .
واختلف في صنعته على ثلاثة أقوال :
أحدها : أنه كان خياطاً بمصر ، قاله سعيد بن المسيب .
الثاني : أنه كان راعياً فرآه رجل كان يعرفه قبل ذلك فقال : ألست عبد بني فلان الذي كنت ترعى بالأمس؟ قال بلى ، قال : فما بلغ بك ما أرى؟ قال : قَدَرُ الله وأدائي الأمانة ، وصدق الحديث وتركي ما لا يعنيني ، قاله عبد الرحمن بن زيد بن جابر .
الثالث : أنه كان نجاراً فقال له سيده : اذبح لي شاة وأتني بأطيبها مضغتين فأتاه باللسان والقلب فقال له : ما كان فيها شيء أطيب من هذين فسكت ، ثم أمره فذبح له شاة ثم قال : أَلقِ أخبثها مضغتين فألقى اللسان والقلب فقال له : أمرتك أن تأتيني بأطيب مضغتين فأتيتني باللسان والقلب وأمرتك أن تلقي أخبثها مضغتين فألقيت باللسان والقلب فقال إنه ليس شيىء أطيب منهما إذا طابا ولا أخبث منهما إذا خبثا ، قاله خالد الربعي .
واختلف في زمانه على قولين :
أحدهما : أنه كان فيما بين عيسى ومحمد عليهما السلام .
الثاني : أنه ولد كوش بن سام بن نوح ، ولد لعشر سنين من ملك داود عليه السلام وبقي إلى زمن يونس عليه السلام .
وفي { الْحِكْمَةَ } التي أوتيها ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها الفهم والعقل ، قاله السدي .
الثاني : الفقه والعقل والإصابة في القول ، قاله مجاهد .
الثالث : الأمانة .
{ أَنِ اشكُرْ لِلَّهِ } يعني نعم اللَّه ، فيه وجهان
: أحدهما : معنى الكلام : ولقد آتيناه الحكمة وآتيناه الشكر لله ، قاله المفضل .
الثاني : آتيناه الحكمة لأن يشكر لله ، قاله الزجاج .
وفي شكره أربعة أوجه :
أحدها : هو حمده على نعمه .
الثاني : هو ألا يعصيه على نعمه .
الثالث : هو ألا يرى معه شريكاً في نعمه عليه .
الرابع : هو طاعته فيما أمره .
{ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ } أي يعود شكره إلى نفسه لأنه على النعمة إذا زاد من الشكر .
{ وَمَن كَفَرَ } فيه وجهان
: أحدهما : يعني كفر بالله واليوم الآخر ، قاله مجاهد .
الثاني : كُفْرُ النعمة ، قاله يحيى بن سلام .
{ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ } فيه وجهان
: أحدهما : غني عن خلقه حميد في فعله ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : غني عن شكره مستحمد إلى خلقه ، قاله ابن عيسى .


وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15)

قوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ } أي واذكر يا محمد مقالة لقمان لابنه ، وفي اسم ابنه ثلاثة أقاويل :
أحدها : مشكم ، قاله الكلبي .
الثاني : أنعم ، حكاه النقاش .
الثالث : بابان .
{ وَهُوَ يَعِظُهُ } أي يُذكِرُهُ ويؤدبه
. { يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكَ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } يعني عند اللَّه ، وسماه ظلماً لأنه قد ظلم به نفسه ، وقيل إنه قال ذلك لابنه وكان مشركاً ، وقوله { يَا بُنَيَّ } ليس هو حقيقة التصغير وإن كان على لفظه وإنما هوعلى وجه الترقيق كما يقال للرجل يا أُخَيّ . وللصبي هو كُوَيّس .
قوله تعالى : { وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ } يعني براً وتحنناً عليهما . وفيهما قولان :
أحدهما : أنها عامة وإن جاءت بلفظ خاص والمراد به جميع الناس ، قاله ابن كامل .
الثاني : خاص في سعد بن أبي وقاص وُصي بأبويه؛ واسم أبيه مالك واسم أمه حمنة بنت أبي سفيان بن أمية ، حكاه النقاش .
{ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : معناه شدة على شدة ، قاله ابن عباس .
الثاني : جهداً على جهد . قاله قتادة .
الثالث : ضعفاً على ضعف ، قاله الحسن وعطاء . ومن قول قعنب ابن أم صاحب :
هل للعواذل من ناهٍ فيزجرها ... إن العواذل فيها الأيْنُ والوهن
يعني الضعف
. ثم فيه على هذا التأويل ثلاثة أوجه :
أحدها : ضعف الولد على ضعف الوالدة ، قاله مجاهد .
الثاني : ضعف نطفة الأب على نطفة الأم ، قاله ابن بحر .
الثالث : ضعف الولد حالاً بعد حال فضعفه نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظماً سوياً ثم مولوداً ثم رضيعاً ثم فطيماً ، قاله أبو كامل .
ويحتمل رابعاً : ضعف الجسم على ضعف العزم .
{ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ } يعني بالفصال الفطام من رضاع اللبن
. واختلف في حكم الرضاع بعد الحولين هل يكون في التحريم كحكمه في الحولين على أربعة أقاويل :
أحدهما : أنه لا يحرم بعد الحولين ولو بطرفة عين لتقدير الله له بالحولين ولقول النبي صلى الله عليه وسلم : « لاَ رَضَاعةَ بَعْدَ الحَولَينِ » وهذا قول الشافعي .
الثاني : أنه يحرم بعد الحولين بأيام ، وهذا قول مالك .
الثالث : يحرم بعد الحولين بستة أشهر استكمالاً لثلاثين شهراً لقوله : { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً } [ الأحقاف : 15 ] قاله أبو حنيفة .
الرابع : أن تحريمه غير مقدر وأنه يحرم في الكبير كتحريمه في الصغير ، وهذا قول بعض أهل المدينة .
{ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ } أي اشكر لي النعمة ولوالديك التربية . وشكر الله بالحمد والطاعة وشكر الوالدين بالبر والصلة ، قال قتادة : إن الله فرق بين حقه وحق الوالدين وقال اشكر لي ولوالديك .
{ إِلَيَّ الْمَصِيرُ } يعني إلى اللَّه المرجع فيجازي المحسن بالجنة والمسيء بالنار ، وقد روى عطاء عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « رِضَا الرَّبِّ مِن رِضَا الوَالَدِ وَسَخَط الرَّبِّ مَن سَخَط الوَالِدِ
» . قوله تعالى : { وَإِن جَاهَدَاكَ } يعني أراداك
. { عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } معناه أنك لا تعلم أن لي شريكاً . { فَلا تُطِعْهُمَا } يعني في الشرك
. { وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً } أي احْتِسَاباً . قال قتادة : تعودهما إذا مرضا وتشيعهما إذا ماتا ، وتواسيهما مما أعطاك الله تعالى .
{ وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ } قال يحيى بن سلام : من أقبل بقلبه مخلصاً وهو النبي صلى الله عليه السلام والمؤمنون . روى مصعب بن سعد بن أبي وقاص قال : حلفت أم سعد ألا تأكل ولا تشرب حتى تشرب حتى يتحوّل سعد عن دينه فأبى عليها فلم تزل كذلك حتى غشى عليها ثم دعت الله عليه فأنزل الله فيه هذه الآية .


يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)

قوله تعالى : { يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مّنْ خَرْدَلٍ } وهذا مثل مضروب لمثقال حبة من خردل . قال قتادة : من خير أو شر .
{ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ } فيها قولان
: أحدهما : أنها الصخرة التي تحت الأرض السابعة قاله الرُبَيعُ بن أنس والسدي . قال عبد الله بن الحارث وهي صخرة على ظهر الحوت ، قال الثوري : بلغنا أن خضرة السماء من تلك الصخرة ، وقال ابن عباس هذه الصخرة ليست في السماء ولا في الأرض . وقيل إن هذه الصخرة هي سجِّين التي يكتب فيها أعمال الكفار ولا ترفع إلى السماء .
الثاني : معنى قوله في صخرة أي في جبل ، قاله قتادة .
{ أَوْ فِي السَّمَواتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ } فيه وجهان
: أحدهما : بجزاء ما وازنها من خير أو شر .
الثاني : يعلمها الله فيأتي بها إذا شاء ، كذلك قليل العمل من خير أو شر يعلمه الله فيجازي عليه .
{ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ } باستخراجها . { خَبِيرٌ } بمكانها ، قاله الربيع بن أنس
. روى علي بن رباح اللخمي قال : لما وعظ لقمان ابنه بهذا أخذ حبة من خردلٍ فأتى بها البحر فألقاها في عرضه ثم مكث ما شاء ثم ذكرها وبسط يده فبعث الله ذبابة فاختطفتها وحملتها حتى وضعتها في يده .
قوله تعالى : { وَاصْبِرْ عَلَى مَآ أَصَابَكَ } يحتمل وجهين :
أحدهما : على ما أصابك من الأذى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
الثاني : على ما أصابك من البلوى في نفسك أو مالك .
{ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : ما أمر الله به من الأمور .
الثاني : من ضبط الأمور ، قاله المفضل .
الثالث : من قطع الأمور .
وفي العزم والحزم وجهان :
أحدهما : أن معناهما واحد وإن اختلف لفظهما .
الثاني : معناهما مختلف وفي اختلافهما وجهان :
أحدهما : أن الحزم الحذر والعزم القوة ، ومنه المثل : لا خير في عزم بغير حزم .
الثاني : أن الحزم التأهب للأمر والعزم النفاذ فيه ، ومنه قولهم في بعض الأمثال : رَوِّ بحزم فإذا استوضحت فاعزم .
قوله تعالى : { وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ } قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي ونافع .
{ تُصَاعِر } بألف ، وتصاعر تفاعل من الصعر وفيه ثلاثة أوجه
: أحدها : أنه الكبر ، قاله ابن عباس .
الثاني : الميل ، قاله المفضل .
الثالث : التشدق في الكلام ، حكاه اليزيدي ، وتُصِّعرْ هو على معنى المبالغة .
وفي معنى الآية خمسة أوجه :
أحدها : أنه إعراض الوجه عن الناس تكبراً ، قاله ابن جبير .
الثاني : هوالتشدق ، قاله إبراهيم النخعي في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
الثالث : أن يلوي شدقه عند ذكر الإنسان احتقاراً ، قاله أبو الجوزاء ، قال عمرو بن كلثوم .
وكنا إذا الجبّارُ صعر خَدّه ... أقمنا له من صعره فتقوّما
الرابع : هو أن يعرض عمن بينه وبينه إحنة هجراً له فكأنه أمر بالصفح والعفو ، قاله الربيع بن أنس .
{ وَلاَ تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحاً } فيه ثلاثة أوجه

: أحدها : يعني بالمعصية ، قاله الضحاك .
الثاني : بالخيلاء والعظمة ، قاله ابن جبير .
الثالث : أن يكون بطراً أشراً ، قاله ابن شجرة .
{ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : أنه المنان ، قاله أبو ذر .
الثاني : المتكبر ، قاله مجاهد .
الثالث : البطر ، قاله ابن جبير . وروى أبو ذر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « ثَلاَثَةٌ يَشْنَؤُهُم اللَّهُ : الفَقِيرُ المُخْتَالُ ، والبَخِيلُ المَنَّانُ ، والبَيّعُ الحَلاَّفُ
» . { فَخُورٍ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : أنه المتطاول على الناس بنفسه ، قاله ابن شجرة .
الثاني : أنه المفتخر عليهم بما يصفه من مناقبه ، قاله ابن عيسى .
الثالث : أنه الذي يعدد ما أعطى ولا يشكر الله فيما أعطاه ، قاله مجاهد .
قوله تعالى : { وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ } فيه خمسة أوجه :
أحدها : معناه تواضع في نفسك ، قاله مجاهد .
الثاني : انظر في مشيك موضع قدمك ، قاله الضحاك .
الثالث : اسرْع في مشيتك ، قاله يزيد بن أبي حبيب .
الرابع : لا تسرع في المشي ، حكاه النقاش . وقد روى أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « سُرْعَةُ المَشْيِ تُذْهِبُ بَهَاءَ وَجْهِ المَرْءِ
» . الخامس : لا تختل في مشيتك ، قاله ابن جبير
. { وَاغْضُضْ مِن صَوتِكَ } أي اخفض من صوتك والصوت هو أرفع من كلام المخاطبة .
{ إِنَّ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ } يعني شر الأصوات ، قاله عكرمة وفيه أربعة أوجه :
أحدها : أقبح الأصوات ، قاله ابن جبير .
الثاني : قد تقدم .
الثالث : أشد ، قاله الحسن .
الرابع : أبعد ، قاله المبرد .
{ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ } فيه وجهان
: أحدهما : أنها العطسة المرتفعة ، قاله جعفر الصادق .
الثاني : أنه صوت الحمار .
وفي تخصيصه بالذكر من بين الحيوان وجهان :
أحدهما : لأنه أقبحها في النفس وأنكرها عند السمع وهو عند العرب مضروب به المثل ، قال قتادة : لأن أوله زفير وآخره شهيق .
الثاني : لأن صياح كل شيء تسبيحه إلا الحمار فإنه يصيح لرؤية الشيطان ، قاله سفيان الثوري ، وقد حكي عن بشر بن الحارث أنه قال : نهيق الحمار دعاء على الظلمة .
والسبب في أن ضرب الله صوت الحمار مثلا ما روى سليمان بن أرقم عن الحسن أن المشركين كانواْ في الجاهلية يتجاهرون ويتفاخرون برفع الأصوات فمن كان منهم أشد صوتاً كان أعز ، ومن كان أخفض صوتاً كان أذل ، فقال الله تعالى : { إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ } أي لو أن شيئاً يُهَابُ لصوته لكان الحمار فجعلهم في المثل بمنزلته .


أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21)

قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ سخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السَّموَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ } وفي تسخيره ذلك وجهان :
أحدهما : تسهيله .
الثاني : الانتفاع به .
{ وَأَسْبَغَ عَلَيَكُمْ نِعَمَهُ } قرأ نافع وأبو عمرو وحفص بغير تنوين على الجمع والباقون بالتنوين يعني نعمة واحدة ، وفي هذه القراءة وجهان :
أحدهما : أنه عنى الإسلام فجعلها واحدة ، قاله إبراهيم .
الثاني : أنه قصد التكثير بلفظ الواحد كقول العرب : كثر الدينار والدرهم ، والأرض سيف وفرس ، وهذا أبلغ في التكثير من لفظ الجمع ، قاله ابن شجرة .
وفي قوله : { ظَاهِرةً وَبَاطِنَةً } خمسة أقاويل :
أحدها : أن الظاهرة الإسلام ، والباطنة ما ستره الله من المعاصي قاله مقاتل .
الثاني : أن الظاهرة على اللسان ، والباطنة في القلب ، قاله مجاهد ووكيع .
الثالث : أن الظاهرة ما أعطاهم من الزي والثياب ، والباطنة متاع المنازل ، حكاه النقاش .
الخامس : الظاهرة الولد ، والباطنة الجماع .
ويحتمل سادساً : أن الظاهرة في نفسه ، والباطنة في ذريته من بعده .
ويحتمل سابعاً : أن الظاهرة ما مضى ، والباطنة ما يأتي .
ويحتمل ثامناً : أن الظاهرة في الدنيا ، والباطنة في الآخرة .
ويحتمل تاسعاً : أن الظاهرة في الأبدان ، والباطنة في الأديان .
{ وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ في اللَّهِ بِغَيرِ عَلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كَتَابٍ مُنِيرٍ } فيه قولان :
أحدهما : نزلت في يهودي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد أخبرني عن ربك من أي شيء هو؟ فجاءت صاعقة فأخذته .
الثاني : أنها نزلت في النضر بن الحارث كان يقول : إن الملائكة بنات الله ، قاله أبو مالك .


وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24)

قوله تعالى : { وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلّى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ } فيه ثلاثة تأويلات
: أحدها : معناه يخلص لله ، قاله السدي .
الثاني : يقصد بوجهه طاعة الله .
الثالث : يسلم نفسه مستسلماً إلى الله وهو محسن يعني في عمله .
{ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى } فيها أربعة تأويلات
: أحدها : قول لا إله إلا الله ، قاله ابن عباس .
الثاني : القرآن ، قاله أنس بن مالك .
الثالث : الإسلام ، قاله السدي .
الرابع : الحب في الله والبغض في الله ، قاله سالم بن أبي الجعد .
وفي تسميتها بالعروة الوثقى وجهان :
أحدهما : أنه قد استوثق لنفسه فيما تمسك به كما يستوثق من الشيء بإمساك عروته . الثاني : تشبيهاً بالبناء الوثيق لأنه لا ينحل .
{ وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبةُ الأُمُورِ } قال مجاهد : وعند الله ثواب ما صنعواْ .


وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26) وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28)

قوله تعالى : { وَلَو أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ . . } الآية . وفي سبب نزولها قولان :
أحدهما : ما رواه سعيد عن قتادة أن المشركين قالوا إنما هو كلام يعني القرآن يوشك أن ينفد ، فأنزل الله هذه الآية يعني أنه لو كان شجر البر أقلاماً ومع البحر سبعة أبحر مداداً لتكسرت الأقلام ونفد ماء البحور قبل أن تنفد عجائب ربي وحكمته وعلمه .
الثاني : ما رواه ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة قالت له أحبار اليهود يا محمد أرأيت قولك : { وَمَا أُوتِيْتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً } [ الإٍسراء : 85 ] إِيانا تريد أم قومك؟ قال : « كُلٌ لَمْ يُؤْتَ مِنَ الُعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً أَنْتُم وَهُمْ » قالوا : فإنك تتلو فيما جاءك من الله أنَّا قد أوتينا التوراة وفيها تبيان كل شيء ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إنَّهَا فِي عِلْمِ اللَّهِ قَلِيلٌ » فنزلت هذه الآية
. ومعنى : { . . . يَمُدُّهُ . . . } أي يزيد فيه شيئاً بعد شيء فيقال في الزيادة .
مددته وفي المعونة أمددته . { . . . مَا نَفَدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ } ونفاد الشيء هو فناء آخره بعد نفاد أوله فلا يقال لما فني جملة : نفد .
وفي { كَلِمَاتُ اللُّهِ } هنا أربعة أوجه :
أحدها : أنها نعم الله على أهل طاعته في الجنة .
الثاني : على أصناف خلقه .
الثالث : جميع ما قضاه في اللوح المحفوظ من أمور خلقه .
الرابع : أنها علم الله .
قوله تعالى : { مَا خَلْقَكُمُ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ } يقال إنها نزلت في أُبي بن خلف وأبي الأشدين ومنبه ونبيه ابني الحجاج بن السباق قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : إِن الله خلقنا أطواراً نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظاماً ثم تقول إنا نبعث خلقاً جديداً جميعاً في ساعة واحدة فأنزل الله هذه الآية لأن الله لا يصعب عليه ما يصعب على العباد وخلقه لجميع العالم كخلقه لنفس واحدة .
{ إنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ } سميع لما يقولون ، بصير بما يفعلون .


أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30)

قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِج النَّهارِ فِي اللَّيلِ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : يأخذ الصيف من الشتاء ويأخذ الشتاء من الصيف ، قاله ابن مسعود ومجاهد .
الثاني : ينقص من النهار ليجعله في الليل وينقص من الليل ليجعله في النهار ، قاله الحسن وعكرمة وابن جبير وقتادة .
الثالث : يسلك الظلمة مسالك الضياء ويسلك الضياء مسالك الظلمة فيصير كل واحد منهما مكان الآخر ، قاله ابن شجرة .
ويحتمل رابعاً : أنه يدخل ظلمة الليل في ضوء النهار إذا أقبل ، ويدخل ضوء النهار في ظلمة الليل إذا أقبل ، فيصير كل واحد منهما داخلاً في الآخر .
{ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ } أي ذللهما بالطلوع والأفول تقديراً للآجال وإتماماً للمنافع .
{ كَلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُّسَمَّى } فيه وجهان
: أحدهما : يعني إلى وقته في طلوعه وأفوله لا يعدوه ولا يقصر عنه ، وهو معنى قول قتادة .
الثاني : إلى يوم القيامة ، قاله الحسن .
{ وَأَنَّ اللَّهَ بَمَا َعْمَلُونَ خَبِيرٌ } يعني بما تعملون في الليل والنهار
. قوله تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : هو الله الذي لا إله غيره ، قاله ابن كامل .
الثاني : أن الحق اسم من أسماء الله ، قاله أبو صالح .
الثالث : أن الله هو القاضي بالحق .
ويحتمل رابعاً : أن طاعة الله حق .
{ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ البَاطِلُ } فيه وجهان
: أحدهما : الشيطان هو الباطل ، قاله مجاهد .
الثاني : ما أشركوا بالله تعالى من الأصنام والأوثان ، قاله ابن كامل .
{ وأن الله هو العلي الكبير } أي العلي في مكانته الكبير في سلطانه .


أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32)

قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ } يحتمل وجهين
: أحدهما : برحمة الله لكم في خلاصكم منه .
الثاني : بنعمة الله عليكم في فائدتكم منه .
{ لِيُرِيَكُم مِّنَ ءَايَاتِهِ } فيه ثلاثة تأويلات
: أحدها : يعني جري السفن فيه ، قاله يحيى بن سلام ، وقال الحسن : مفتاح البحار السفن ، ومفتاح الأرض الطرق ، ومفتاح السماء الدعاء .
الثاني : ما تشاهدونه من قدرة الله فيه ، قاله ابن شجرة .
الثالث : ما يرزقكم الله منه ، قاله النقاش .
{ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } فيه وجهان
: أحدهما : صبَّار على البلوى شكور على النعماء .
الثاني : صبَّار على الطاعة شكور على الجزاء .
قال الشعبي : الصبر نصف الإيمان ، والشكر نصف الإيمان ، واليقين الإيمان كله ، ألم تر إلى قوله : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } وإلى قوله : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُوقِنِينَ } .
قوله تعالى : { وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ } فيه وجهان :
أحدهما : كالسحاب ، قاله قتادة .
الثاني : كالجبال ، قاله الحسن ويحيى بن سلام .
وفي تشبيهه بالظل وجهان :
أحدهما : لسواده ، قاله أبو عبيدة .
الثاني : لعظمه .
{ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } يعني موحدين له لا يدعون لخلاصهم سواه .
{ فَلَمَّا نَجَّاهُم إِلَى الْبَرِّ } يعني من البحر
. { فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : معناه عَدل في العهد ، يفي في البر بما عاهَد الله عليه في البحر ، قاله النقاش .
الثاني : أنه المؤمن المتمسك بالتوحيد والطاعة ، قاله الحسن .
الثالث : أنه المقتصد في قوله وهو كافر ، قاله مجاهد .
{ وَمَا يَجْحَدُ بِئَايَاتِنَآ إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ } فيه وجهان
: أحدهما : أنه الجاحد ، قاله عطية .
الثاني : وهو قول الجمهور أنه الغدار ، قال عمرو بن معدي كرب :
فإنك لو رأيت أبا عمير ... ملأت يديك من غدرٍ وختر
وجحد الآيات إنكار أعيانها والجحد بالآيات دلائلها .


يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33)

قوله تعالى : { يَأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُم وَاخْشُوْاْ يَوْماً لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : معناه لا يغني والد عن ولده يقال جزيت عنك بمعنى أغنيت عنك ، قاله ابن عيسى . عيسى .
الثاني : لا يقضي والد عن ولده ، قاله المفضل وابن كامل .
الثالث : لا يحمل والد عن ولده ، قال الراعي :
وأجزأت أمر العالمين ولم يكن ... ليجزي إلا كاملٌ وابن كامل
أي حملت
. { وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حقٌّ } يعني البعث والجزاء
. { فَلاَ تَغُرَّنَّكُمْ الحَيَاةُ الدُّنْيَا } يحتمل وجهين
: أحدهما : لا يغرنكم الإمهال عن الانتقام .
الثاني : لا يغرنكم المال عن الإسلام .
{ وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ } وهي تقرأ على وجهين
: أحدهما : بالضم .
الثاني : بالفتح وهي قراءة الجمهور .
ففي تأويلها بالضم وجهان :
أحدهما : أن الغُرور الشيطان ، قاله مجاهد .
الثاني : الأمل وهو تمني المغفرة في عمل المعصية ، قاله ابن جبير .
ويحتمل ثالثاً : أن تخفي على الله ما أسررت من المعاصي .


إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)

قوله : { إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ } يحتمل وجهين
: أحدهما : أن قيامها مختص بعلمه .
الثاني : أن قيامها موقوف على إرادته .
{ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ } فيما يشاء من زمان ومكان
. { وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ } فيه وجهان
: أحدهما : من ذكر وأنثى ، سليمٍ وسقيم .
الثاني : من مؤمن وكافر وشقي وسعيد .
{ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً } فيه وجهان
: أحدهما : من خير أو شر .
الثاني : من إيمان أو كفر .
{ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ } فيه وجهان
: أحدهما : على أي حكم تموت من سعادة أو شقاء ، حكاه النقاش .
الثاني : في أي أرض يكون موته ودفنه وهو أظهر . وقد روى أبو مليح عن أبي عزة الهذلي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إِذَا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى قَبْضَ رُوحٍ عَبْدٍ بَأَرْضٍ جَعَلَ إِلَيْهَا حَاجَةً فَلَمْ يَنْتهِ حَتَّى يُقَدِمَهَا » ثم قرأ صلى الله عليه وسلم { إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ } إلى قوله : { بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ } .
وقال هلال بن إساف : ما من مولود يولد إلا وفي سرته من تربة الأرض التي يدفن فيها .
{ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } يحتمل وجهين
: أحدهما : عليم بالغيب خبير بالنية .
الثاني : عليم بالأعمال خبير بالجزاء .
ويقال إن هذه الآية نزلت في رجل من أهل البادية يقال له الوارث بن عمرو بن حارثة أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن امرأتي حبلى فأخبرني ماذا تلد ، وبلادنا جدبة فأخبرني متى ينزل الغيث ، وقد علمت متى ولدت فأخبرني متى تقول الساعة؟ فنزلت هذه الآية ، والله أعلم .


الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3)

قوله تعالى : { الم . تَنزِيلُ الْكِتَابِ } يعني القرآن
. { لاَ رَيْبَ فِيهِ } أي لا شك فيه أنه تنزيل
. { مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ } والريب هو الشك الذي يميل إلى السوء والخوف ، قال أبو ذؤيب :
أسرين ثم سمعن حساً دونه ... سرف الحجاب وريب قرع يقرع
{ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ } يعني كفار قريش يقولون إن محمداً افترى هذا القرآن ويكذبه .
{ بَلْ هَوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ } يعني القرآن حق نزل عليك من ربك
. { لِتُنْذِرَ قَوْماً مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ } يعني قريشاً ، قاله قتادة : كانوا أمة أمية لم يأتهم نذير من قبل محمد صلى الله عليه وسلم .


اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (4) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6)

قوله تعالى : { يُدَبِّرُ الأَمْرَ } فيه وجهان
: أحدهما : يقضي الأمر ، قاله مجاهد .
الثاني : ينزل الوحي ، قاله السدي .
{ مِنَ السَّمَآءِ إِلَى الأَرْضِ } قال السدي من سماء الدنيا إلى الأرض العليا وفيه وجهان :
أحدهما : يدبر الأمر في السماء وفي الأرض .
الثاني : يدبره في السماء ثم ينزل به الملك إلى الأرض وروى عمرو بن مرة عن عبد الرحمن بن سابط أنه قال : يدبر أمر الدنيا أربعة : جبريل وميكائيل وملك الموت وإسرافيل ، فأما جبريل فموكل بالرياح والجنود ، وأمَّا ميكائيل فموكل بالقطر والماء ، وأما ملك الموت فموكل بقبض الأرواح ، وأما إسرافيل فهو ينزل بالأمر عليهم .
{ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيهِ } فيه ثلاثة أقاويل
: أحدها : أنه جبريل يصعد إلى السماء بعد نزوله بالوحي ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : أنه الملك الذي يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ، قاله النقاش .
الثالث : أنها أخبار أهل الأرض تصعد إليه مع حملتها من الملائكة ، قاله ابن شجرة .
{ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ ممَّا تَعُدُّونَ } فيه ثلاثة أقاويل
: أحدها : أنه يقضي أمر كل شيء لألف سنة في يوم واحد ثم يلقيه إلى ملائكته فإذا مضت قضى لألف سنة أخرى ثم كذلك أبداً ، قاله مجاهد .
الثاني : أن الملك ينزل ويصعد في يوم مسيرة ألف سنة ، قاله ابن عباس . والضحاك .
الثالث : أن الملك ينزل ويصعد في يوم مقداره ألف سنة فيكون مقدار نزوله خمسمائة سنة ومقدار صعوده خمسمائة سنة ، قاله قتادة : فيكون بين السماء والأرض على قول ابن عباس والضحاك مسيرة ألف سنة ، وعلى قول قتادة والسدي مسيرة خمسمائة سنة .
{ مِمَّا تَعُدُّونَ } أي تحسبون من أيام الدنيا وهذا اليوم هو عبارة عن زمان يتقدر بألف سنة من سني العالم وليس بيوم يستوعب نهاراً بين ليلتين لأنه ليس عند الله ليل استراحة ولا زمان تودع ، والعرب قد تعبر عن مدة العصر باليوم كما قال الشاعر :
يومان يوم مقامات وأندية ... ويوم سيرٍ إلى الأعداءِ تأويب
وليس يريد يومين مخصوصين وإنما أراد أن زمانهم ينقسم شطرين فعبر عن كل واحد من الشطرين بيوم .


الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (9)

قوله تعالى : { الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ } فيه خمسة تأويلات
: أحدها : أنه جعل كل شيء خلقه حسناً حتى جعل الكلب في خلقه حسناً ، قاله ابن عباس .
الثاني : أحكم كل شيء خلقه حتى أتقنه ، قاله مجاهد .
الثالث : أحسن إلى كل شيء خلق فكان خلقه له إحساناً ، قاله علي بن عيسى .
الرابع : ألهم ما خلقه ما يحتاجون إليه حتى علموه من قولهم فلان يحسن كذا أي يعلمه .
الخامس : أعطى كل شيء خلقه ما يحتاج إليه ثم هداه إليه ، رواه حميد بن قيس .
ويحتمل سادساً : أنه عرف كل شيء خلقه وأحسنه من غير تعلم ولا سبق مثال حتى ظهرت فيه القدرة وبانت فيه الحكمة .
{ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِن طِينٍ } يعني آدم ، روى عون عن أبي زهير عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم : أن الله عز وجل خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض فجاء بنوه على ألوان الأرض منهم الأبيض والأحمر وبين ذلك والسهل والحزن والخبيث والطيب وبين ذلك .
{ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ } أي ذريته { مِن سُلاَلَةٍ } لاِنسِلاَلِهِ من صلبه { مِن مَّآءٍ مَّهِينٍ } قال مجاهد ضعيف .
قوله تعالى : { ثُمَّ سَوَّاهُ } فيه وجهان :
أحدهما : سوى خلقه في الرحم .
الثاني : سوى خلقه كيف يشاء .
{ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ } فيه أربعة أوجه
: أحدها : من قدرته ، قاله أبو روق .
الثاني : من ذريته ، قاله قتادة .
الثالث : من أمره أن يكون فكان ، قاله الضحاك .
الرابع : روحاً من روحه أي من خلقه وأضافه إلى نفسه لأنه من فعله وعبر عنه بالنفخ لأن الروح من جنس الريح .
{ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ } يعني القلوب وسمى القلب فؤاداً لأنه ينبوع الحرارة الغريزية مأخوذ من المفتأد وهو موضع النار ، وخصص الأسماع والأبصار والأفئدة بالذكر لأنها موضع الأفكار والاعتبار .


وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (10) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11)

قوله : { وَقَالُواْ أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : هلكنا ، قاله مجاهد .
الثاني : صرنا فيه رفاتاً وتراباً ، قاله قتادة والعرب تقول لكل شيء غلب عليه غيره حتى خفي فيه أثره قد ضل ، قال الأخطل :
كنت القذى في موج أكدر مزبد ... تقذف الأتيُّ به فَضَلَّ ضلالاً .
الثالث : غُيِّبنا في الأرض ، قاله قطرب وأنشد النابغة :
فآب مُضلُّوه بعين جلية ... وغودر بالجولان حزمٌ ونائل
وقرأ الحسن : صللنا ، بصاد غير معجمة وفيه على قراءته وجهان
: أحدهما : أي أنتنت لحومنا من قولهم صل اللحم إذا أنتن ، قاله الحسن .
الثاني : صللنا من الصلة وهي الأرض اليابسة ومنه قوله تعالى : { مِن صَلصَالٍ كَالْفَخَّارِ } { أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ } أي أَتُعَادُ أجسامنا للبعث خلقاً جديداً تعجباً من إعادتها وإنكاراً لبعثهم وهو معنى قوله تعالى :
{ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِم كَافِرُونَ } وقيل إن قائل ذلك أُبي بن خلف
. قوله تعالى : { قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوتِ الَّذِي وُكّلَ بِكُمْ } أي يقبض أرواحكم والتوفي أخذ الشيء على تمام ، مأخوذ من توفية العدد ومنه قولهم استوفيت دَيْني من فلان .
ثم في توفي ملك الموت لهم قولان :
الأول : بأعوانه .
الثاني : بنفسه . روى جعفر الصادق عن أبيه قال نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ملك الموت عند رأس رجل من الأنصار فقال له النبي صلى الله عليه وسلم [ يا ملك الموت ] : « ارْفُقْ بِصَاحِبِي فَإِنَّهُ مُؤْمِنٌ » فقال ملك الموت عليه السلام يا محمد طب نفساً وقر عيناً فإني بكل مؤمن رفيق واعلَمْ أن ما من أهل بيت مدر ولا شعر إلا وأنا أتصفحهم في كل يوم خمس مرات حتى لأنا أعرف بصغيرهم وكبيرهم منهم بأنفسهم ، واللَّه يا محمد لو أني أردت أن أقبض روح بعوضة ما قدرت على ذلك حتى يكون الله تعالى هو الآمر بقبضها ، قال جعفر إنما يتصفحهم عند مواقيت الصلوات .
{ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم تُرْجعُونَ } فيه وجهان
: أحدهما : إلى جزائه .
الثاني : إلى أن لا يملك لكم أحد ضراً ولاً نفعاً إلا اللَّه .


وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12) وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14)

قوله تعالى : { وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُواْ رُءُسِهِم عِند رَبِّهمُ } أي عند محاسبة ربهم وفيه أربعة أوجه :
أحدها : من الغم ، قاله ابن عيسى .
الثاني : من الذل ، قاله ابن شجرة .
الثالث : من الحياء ، حكاه النقاش .
الرابع : من الندم ، قاله يحيى بن سلام .
{ رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا } فيه وجهان
: أحدهما : أبصرنا صدق وعيدك وسمعنا تصديق رسلك ، قاله ابن عيسى .
الثاني : أبصرنا معاصينا وسمعنا ما قيل فينا ، قال قتادة ، أبصروا حين لم ينفعهم البصر وسمعوا حين لم ينفعهم السمع .
{ فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ } أي ارجعنا إلى الدنيا نعمل فيها صالحاً
. { إِنَّا مُوقِنُونَ } فيه وجهان
: أحدهما : مصدقون بالبعث ، قاله النقاش .
الثاني : مصدقون بالذي أتي به محمد صلى الله عليه وسلم أنه حق ، قاله يحيى بن سلام .
قال سفيان : فأكذبهم الله فقال : { وَلَو رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنهُ } [ الأنعام : 28 ] الآية .
قوله تعالى : { وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍٍ هُدَاهَا } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : هدايتها للإيمان .
الثاني : للجنة .
الثالث : هدايتها في الرجوع إلى الدنيا لأنهم سألوا الرجعة ليؤمنوا .
{ وَلَكِنْ حَقَّ الْقَولُ مِنِّي } فيه وجهان
: أحدهما : معناه سبق القول مني ، قاله الكلبي ويحيى بن سلام .
الثاني : وجب القول مني ، قاله السدي كما قال كثير :
فإن تكن العتبى فأهلاً ومَرْحباً ... وحقت لها العتبى لدنيا وقلّت
{ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِن الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ } يعني من عصاه من الجنة والناس . وفي الجنة قولان :
أحدهما : أنه الجن ، قاله ابن كامل .
الثاني : أنهم الملائكة ، رواه السدي عن عكرمة ، وهذا التأويل معلول لأن الملائكة لا يعصون الله فيعذبون . وسموا جنة لاجتنانهم عن الأبصار ومنه قول زيد بن عمرو :
عزلت الجن والجنان عني ... كذلك يفعل الجلد الصبور
قوله : { فَذُوقُواْ بِمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَذَا } فيه وجهان :
أحدهما : فذوقوا عذابي بما تركتم أمري ، قال الضحاك .
الثاني : فذوقوا العذاب بما تركتم الإيمان بالبعث في هذا اليوم ، قاله يحيى بن سلام .
{ إِنَّا نَسِينَاكُمْ } فيه وجهان
: أحدهما : إنا تركناكم من الخير ، قاله السدي .
الثاني : إنا تركناكم في العذاب ، قاله مجاهد .
{ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ } وهو الدائم الذي لا انقطاع له
. { بِمَ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } يعني في الدنيا من المعاصي ، وقد يعبر بالذوق عما يطرأ على النفس وإن لم يكن مطعوماً لإحساسها به كإحساسها بذوق الطعام ، قال ابن أبي ربيعة :
فذُقْ هجرها إن كنت تزعم أنه ... رشاد ألا يا رب ما كذب الزعم


إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)

قوله : { إِنَّمَا يُؤْمِنُ بئَايَاتِنَا } فيه وجهان
: أحدهما : يصدق بحجتنا ، قاله ابن شجرة .
الثاني : يصدق بالقرآن وآياته ، قاله ابن جبير .
{ الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُواْ بِهَا خَرُّواْ سُجَّداً } فيه وجهان
: أحدهما : الذين إذا دعوا إلى الصلوات الخمس بالأذان أو الإقامة أجابوا إليها قاله أبو معاذ ، لأن المنافقين كانوا إذا أقيمت الصلاة خرجوا من أبواب المساجد .
الثاني : إذا قرئت عليهم آيات القرآن خضعوا بالسجود على الأرض طاعة لله وتصديقاً بالقرآن . وكل ما سقط على شيء فقد خر عليه قال الشاعر :
وخر على الألاءِ ولم يوسد ... كأن جبينه سيف صقيل
{ وَسَبَّحُواْ بِحْمْدِ رَبِّهِمْ } فيه وجهان
: أحدهما : معناه صلوا حمداً لربهم ، قاله سفيان .
الثاني : سبحوا بمعرفة الله وطاعته ، قاله قتادة .
{ وَهُمْ لاَ يَستَكْبِرُونَ } فيه وجهان
: أحدهما : عن عبادته ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : عن السجود كما استكبر أهل مكة عن السجود له ، حكاه النقاش .
قوله : { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عِنِ الْمَضَاجِعِ } أي ترتفع عن مواضع الاضطجاع قال ابن رواحة :
يبيت يجافي جنبه عن فِراشِه ... إذا استثقلت بالمشركين المضاجع
وفيما تتجافى جنوبهم عن المضاجع لأجله قولان
: أحدهما : لذكر الله إما في صلاة أو في غير صلاة قاله ابن عباس والضحاك .
الثاني : للصلاة -روى ميمون بن شبيب عن معاذ بن جبل قال كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فقال : « إِنْ شِئْتَ أَنبَأْتُكَ بَأبوابِ الْخَيرِ : الصَّوْمُ جُنَّةٌ وَالصَّدَقَةُ تُطْفِىءُ الخَطِيئَة وَقِيَامُ الرَّجُلِ فِي جَوْفِ اللَّيلِ » ثم تلا هذه الآية .
وفي الصلاة التي تتجافى جنوبهم لأجلها أربعة أقاويل :
أحدها : التنفل بين المغرب والعشاء ، قاله قتادة وعكرمة .
الثاني : صلاة العشاء التي يقال لها صلاة العتمة ، قاله الحسن وعطاء .
الثالث : صلاة الصبح والعشاء في جماعة ، قاله أبو الدرداء وعبادة .
الرابع : قيام الليل ، قاله مجاهد والأوزاعي ومالك وابن زيد .
{ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً } فيه وجهان
: أحدهما : خوفاً من حسابه وطمعاً في رحمته .
الثاني : خوفاً من عقابه وطمعاً في ثوابه .
ويحتمل ثالثاً : يدعونه في دفع ما يخافون والتماس ما يرجون ولا يعدلون عنه في خوف ولا رجاء .
{ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } فيه أربعة تأويلات
: أحدها : يؤتون الزكاة احتساباً لها ، قاله ابن عباس .
الثاني : صدقة يتطوع بها سوى الزكاة ، قاله قتادة .
الثالث : النفقة في طاعة الله ، قال قتادة : أنفقوا مما أعطاكم الله فإنما هذه الأموال عواري وودائع عندك يا ابن آدم أوشكت أن تفارقها .
الرابع : أنها نفقة الرجل على أهله .
قوله : { فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ } فيه قولان :
أحدهما : أنه للذين تتجافي جنوبهم عن المضاجع ، قاله ابن مسعود .
الثاني : أنه للمجهدين قاله تبيع . وفي { قُرَّةِ أَعْيُنٍ } التي أخفيت لهم أربعة أوجه :
أحدها : رواه الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، « قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِنِي أَعْدَدْتُ لِعبَادي الصَّالِحِينَ مَا لاَ عَينٌ رَأَتْ وَلاَ أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلاَ خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ اقْرَأُواْ إِنْ شِئْتُم : { فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ } » الآية .
الثاني : أنه جزاء قوم أخفوا عملهم فأخفى الله ما أعده لهم . قال الحسن بالخفية : خفية وبالعلانية علانية .
الثالث : أنها زيادة تحف من الله ليست في حياتهم يكرمهم بها في مقدار كل يوم من أيام الدنيا ثلاث مرات ، قاله ابن جبير .
الرابع : أنه زيادة نعيمهم وسجود الملائكة لهم ، قاله كعب .
ويحتمل خامساً : اتصال السرور بدوام النعيم .
{ جَزَآءً بِمَ كَانُواْ يَعْمَلُونَ } يعني من فعل الطاعات واجتناب المعاصي .


أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22)

قوله تعالى : { أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً } المؤمن هنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه والفاسق عقبة بن أبي معيط قال ابن عباس : سابّ عقبة علياً فقال أنا أبسط منك لساناً وأحدّ منك سناناً وأملأ منك حشواً فقال له علي كرم الله وجهه : ليس كما قلت يا فاسق فنزلت ، فيهما هذه الآية .
{ لاَ يَسْتَوُونَ } قال قتادة : لا والله لا يستوون لا في الدينا ولا عند الموت ولا في الآخرة .
قوله تعالى : { وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ } أما العذاب الأدنى ففي الدنيا وفيه سبعة أقاويل :
أحدها : أنها مصائب الدنيا في الأنفس والأموال ، قاله أُبي .
الثاني : القتل بالسيف ، قاله ابن مسعود .
الثالث : أنه الحدود ، قاله ابن عباس .
الرابع : القحط والجدب ، قاله إبراهيم .
الخامس : عذاب القبر ، قاله البراء بن عازب ومجاهد .
السادس : أنه عذاب الدنيا كلها ، قاله ابن زيد .
السابع : أنه غلاء السعر والأكبر خروج المهدي ، قاله جعفر الصادق .
ويحتمل ثامناً : أن العذاب الأدنى في المال ، والأكبر في الأنفس .
والعذاب الأكبر عذاب جهنم في الآخرة .
{ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } فيه وجهان
: أحدهما : يرجعون إلى الحق ، قاله إبراهيم .
الثاني : يتوبون من الكفر ، قاله ابن عباس .


وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (23) وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25)

قوله تعالى : { وَلَقْدَ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكَتِابَ فَلاَ تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَائِهِ } فيه خمسة أقاويل :
أحدها : فلا تكن يا محمد في شك من لقاء موسى ولقد لقيته ليلة الإسراء روى أبو العالية الرياحي عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « رَأيتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي مُوسَى بْنَ عمرانَ رَجُلاً طُوَالاً جَعْداً كَأَنَّهُ مِن رِجَالِ شَنُوءَةَ . وَرَأَيْتُ عِيسَى ابنَ مَرْيَمَ رَجُلاً مَرْبُوعَ الخَلْقِ إِلَى الحُمْرَةِ وَالبَيَاضِ سَبْطَ الرَّأُسِ » قال أبو العالية قد بين الله ذلك في قوله : { وَاسْأَلْ مِنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا } .
الثاني : فلا تكن يا محمد في شك من لقاء موسى في القيامة وستلقاه فيها .
الثالث : فلا تكن في شك من لقاء موسى في الكتاب ، قاله مجاهد والزجاج .
الرابع : فلا تكن في شك من لقاء الأذى كما لقيه موسى ، قاله الحسن .
الخامس : فلا تكن في شك من لقاء موسى لربه حكاه النقاش .
{ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ } فيه وجهان :
أحدهما : جعلنا موسى ، قاله قتادة .
الثاني : جعلنا الكتاب ، قاله الحسن .
قوله تعالى : { وَجَعَلْنَا مِنهُمْ أَئِمَةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا } فيه وجهان :
أحدهما : أنهم رؤساء في الخير تبع الأنبياء ، قاله قتادة .
الثاني : أنهم أنبياء ، وهو مأثور .
{ لَمَّا صَبَرُواْ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : على الدنيا ، قاله سفيان .
الثاني : على الحق ، قاله ابن شجرة .
الثالث : على الأذى بمصر لما كلفوا ما لا يطيقون ، حكاه النقاش .
{ وَكَانُوا بِئَايَاتِناَ } يعني بالآيات التسع { يُوقِنُونَ } أنها من عند الله
. قوله : { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ } الآية فيها وجهان :
أحدهما : يعني بين الأنبياء وبين قومهم ، حكاه النقاش .
الثاني : يقضي بين المؤمنين والمشركين فيما اختلفوا فيه من الإيمان والكفر ، قاله يحيى بن سلام .


أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (26) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (27)

قوله تعالى : { نَسُوقُ الْمَآءَ } فيه وجهان
: أحدهما : بالمطر والثلج .
الثاني : بالأنهار والعيون .
{ إِلَى الأَرْضِ الجُرُزِ } فيها خمسة أقاويل
: أحدها : أنها الأرض اليابسة ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : أنها الأرض التي أكلت ما فيها من زرع وشجر ، قاله ابن شجرة .
الثالث : أنها الأرض التي لا يأتيها الماء إلا من السيول ، قاله ابن عباس .
الرابع : أنها أرض أبْينَ لا تنبت ، قاله مجاهد .
الخامس : أنها قرى نبيا بين اليمن والشام ، قاله الحسن . وأصل الجرز الانقطاع مأخوذ من قولهم سيف جراز أي قطاع وناقة جراز أي كانت تأكل كل شيء لأنها لا تبقي شيئاً إلا قطعته بفيها . ورجل جروز أكول قال الراجز :
حبُّ جروز وإذا جاع بكى ... يأكل التمر ولا يلقى النوى
وتأول ابن عطاء هذه الآية على أنه توصل بركات المواعظ إلى القلوب القاسية .


وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)

قوله تعالى : { وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ } فيه ثلاثة أقاويل
: أحدها : أنه فتح مكة ، قاله الفراء .
الثاني : أن الفتح انقضى بعذابهم في الدنيا ، قاله السدي .
الثالث : الحكم بالثواب والعقاب في القيامة ، قاله مجاهد . قال الحسن لم يبعث الله نبياً إلا وهو يحذر من عذاب الدنيا وعذاب الآخرة .
{ قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لاَ يَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِيمَانهُمْ } فيه ثلاثة أقاويل
: أحدها : أنهم الذي قتلهم خالد بن الوليد يوم فتح مكة من بني كنانة ، قاله الفراء .
الثاني : أن يوم الفتح يوم القيامة ، قاله مجاهد .
الثالث : أن اليوم الذي يأتيهم من العذاب ، قاله عبد الرحمن بن زيد .
{ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ } أي لا يؤخرون بالعذاب إذا جاء الوقت
. { فَأَعْرضْ عَنهُمْ } الآية . قال قتادة : نزلت قبل أن يؤمر بقتالهم ، ويحتمل ثلاثة أوجه :
أحدها : أعرض عن أذاهم وانتظر عقابهم .
الثاني : أعرض عن قتالهم وانتظر أن يؤذن لك في جهادهم .
الثالث : فأعرض بالهجرة وانتظر ما يمدك به من النصرة ، والله أعلم .


يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (3)

قوله تعالى : { يَأَيُّهَا الَّنبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ } وهذا وإن كان معلوماً من حاله ففي أمره به أربعة أوجه :
أحدهما : أن معنى هذا الأمر الإكثار من اتقاء الله في جهاد أعدائه .
الثاني : استدامة التقوى على ما سبق من حاله .
الثالث : أنه خطاب توجه إليه والمراد به غيره من أمته .
الرابع : أنه لنزول هذه الآية سبباً وهو ما روي أن أبا سفيان وعكرمة بن أبي جهل وأبا الأعور السلمي قدموا المدينة ليجددوا خطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في عهد بينه وبينهم فنزلوا عند عبد الله بن أبي بن سلول والجد بن قيس ومعتب بن قشير وائتمروا بينهم وأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرضوا عليه أموراً كره جميعها فهمَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون أن يقتلوهم فأنزل الله : { يَأَيُّهَا الَّنبِيُّ اتقِ اللَّهَ } يعني في نقض العهد الذي بينك وبينهم إلى المدة المشروطة لهم .
{ وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ } من أهل مكة
. { وَالْمُنَافِقِينَ } من أهل المدينة فيما دعوا إليه
. { إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً } يحتمل وجهين
: أحدهما : عليماً بسرائرهم حكيماً بتأخيرهم .
الثاني : عليماً بالمصلحة حكيماً في التدبير .


مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5)

قوله تعالى : { مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَينِ } فيه ستة أقاويل
: أحدها : أن النبي صلى الله عليه وسلم قام يوماً يصلي فخطر خطرة فقال المنافقون الذين يصلون معه إن له قلبين قلباً معكم وقلباً معهم فأنزل الله هذه تكذيباً لهم؛ قاله ابن عباس ويكون معناه ما جعل الله لرجل من جسدين .
الثاني : أن رجلاً من مشركي قريش من بني فهر قال : إن في جوفي قلبين أعقل بكل واحد منهما أفضل من عقل محمد وكذب فنزلت فيه ، قاله مجاهد . ويكون معناه : ما جعل الله لرجل من عقلين .
الثالث : أن جميل بن معمر ويكنى أبا معمر من بني جُمَح كان أحفظ الناس لما يسمع وكان ذا فهم ودهاء فقالت قريش ما يحفظ جميل ما يحفظ بقلب واحد إن له قلبين فلما كان يوم بدر وهزموا أفلت وفي يديه إحدى نعليه والأخرى في رجليه فلقيه أبو سفيان بشاطىء البحر فاستخبره فأخبره أن قريشا قتلوا وسمى من قتل من أشرافهم ، قال له : إنه قد ذهب عقلك فما بال نعليك إحداهما في يدك والأخرى في رجلك؟ قال : ما كنت أظنها إلا في رجلي فظهر لهم حاله فنزلت فيه الآية ، قاله السدي ويكون معناه : ما جعل الله لرجل من فهمين .
الرابع : أن رجلاً كان يقول إن لي نفسين نفساً تأمرني ونفساً تنهاني فنزل ذلك فيه ، قاله الحسن ويكون معناه : ما جعل الله لرجل من نفسين .
الخامس : أنه مثل ضربه الله لزيد بن حارثة حين تبناه النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أعتقه فلما نزل تحريم التبنّي منع من ادعائه ولداً ونزل فيه { مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنَ قَلْبِينِ } يقول : ما جعل الله لرجل من أبوين ، كذلك لا يكون لزيد أبوين حارثة ومحمد صلى الله عليه وسلم ، قاله مقاتل بن حيان . وفيه إثبات لمذهب الشافعي في نفي الولد عن أبوين ويكون معناه : ما جعل الله لرجل من أبوين .
السادس : معناه : أنه لا يكون لرجل قلب مؤمن معنا وقلب كافر علينا لأنه لا يجتمع الإيمان والكفر في قلب واحد ويكون معناه : ما جعل الله لرجل من دينين ، حكاه النقاش .
{ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ الَّلآئِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ } وهو أن يقول لزوجته أنت عليّ كظهر أمي ، فهذا ظهار كانوا في الجاهلية يحرمون به الزوجات ويجعلونهن في التحريم كالأمهات فأبطل الله بذلك أن تصير محرمة كالأم لأنها ليست بأم وأوجب عليه بالظهار منها إذا صار فيه عامداً كفارة ذكرها في سورة المجادلة ومنعه من إصابتها حتى يكفر وسنذكر ذلك في موضعه من هذا الكتاب .
{ وَمَا جَعلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ } يعني بذلك أدعياء النبي . قال مجاهد كان الرجل في الجاهلية يكون ذليلاً فيأتي ذا القوة والشرف فيقول : أنا ابنك فيقول نعم فإذا قبله واتخذه ابناً أصبح أعز أهله وكان زيد بن حارثة منهم قد تبناه رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما كان يصنع أهل الجاهلية فلما جاءت هذه الآية أمرهم الله أن يلحقوهم بآبائهم فقال : { وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ } في الإسلام .

{ ذَلِكُم قَوْلُكُم بِأَفْواهِكُمْ } أن امرأته بالظهار أُمُّه وأن دَعيه بالتبني ابنه { وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ } في أن الزوجة لا تصير في الظهار أُمّاً والدعيُّ لا يصير بالتبني ابناً .
{ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ } يعني في إلحاق النسب بالأب ، وفي الزوجة أنها لا تصير كالأم .
قوله تعالى : { ادْعُوهُمْ لآبآئِهِمْ } يعني التبني : قال عبد الله بن عمر ما كنا ندعو زيد بن حارثة إلا زيد بن محمد إلى أن نزل قوله تعالى : { ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ } قال السدي فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم إلى حارثة وعرف كل نسبه فأقرّوا به وأثبتوا نسبه .
{ هُوَ أَقْسَطُ عِنَد اللهِ } أي أعدل عند الله قولاً وحكماً .
{ فَإِنَ لَّمْ تَعْلَمُواْ ءَابَآءَهُمْ فإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : فانسبوهم إلى أسماء إخوانكم ومواليكم مثل عبد الله وعبيد الله وعبد الرحمن وعبد الرحيم وعبد العزيز ، قاله مقاتل بن حيان .
الثاني : قولوا أخونا فلان وولينا فلان ، قاله يحيى بن سلام . وروى محمد بن المنكدر قال : جلس نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منهم جابر بن عبد الله الأنصاري فتفاخروا بالآباء فجعل كل واحد منهم يقول أنا فلان بن فلان حتى انتهوا إلى سلمان فقال أنا سلمان ابن الإسلام فبلغ ذلك عمر بن الخطاب فقال صدق سلمان وأنا عمر بن الإسلام وذلك قوله : { فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ } .
الثالث : إنه إن لم يُعرف لهم أب ينسبون إليه كانوا إخواناً إن كانوا أحراراً ، وموالي إن كانوا عتقاء كما فعل المسلمون فيمن عرفوا نسبه وفيمن لم يعرفوه فإن المقداد بن عمرو كان يقال له المقداد بن الأسود بن عبد يغوث الزهري فرجع إلى أبيه وسفيان بن معمر كانت أمه امرأة معمر في الجاهلية فادعاه ابناً ثم أسلم سفيان وشهد بدراً فنسب إلى أبيه ونسبه في بني زريق من الأنصار . وممن لم يعرف له أب سالم ، مولى أبي حذيفة ونسب إلى ولاء أبي حذيفة .
{ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأَتُمْ بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : ما أخطأتم قبل النهي وما تعمدت قلوبكم بعد النهي في هذا وغيره ، قاله مجاهد .
الثاني : ما أخطأتم به ما سهوتم عنه ، وما تعمدمت قلوبكم ما قصدتموه عن عمد ، قاله حبيب بن أبي ثابت .
الثالث : ما أخطأتم به أن تدعوه إلى غير أبيه ، قاله قتادة .
{ وَكَانَ اللَّهُ غَفوراً رَحيماً } أي غفوراً عما كان في الشرك ، رحيماً بقبول التوبة في الإسلام .


النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (6)

قوله تعالى : { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ } فيه أربعة أوجه
: أحدها : أنه أولى بهم من بعضهم ببعض لإرساله إليهم وفرض طاعته عليهم ، وقاله مقاتل بن حيان .
الثاني : أنه أولى بهم فيما رآه له بأنفسهم ، قاله عكرمة .
الثالث : أنه كان في الحرف الأول : هو أب لهم . وكان سبب نزولها أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد غزاة تبوك أمرالناس بالخروج فقال قوم منهم نستأذن آباءنا وأمهاتنا فأنزل الله فيهم هذه الآية ، حكاه النقاش .
الرابع : أنه أولى بهم في قضاء ديونهم وإسعافهم في نوائبهم على ما رواه عبد الرحمن بن أبي عمرة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مَا مِن مُؤمنٍ إِلاَّ أَنَا أَولَى النَّاس بِهِ فِي الدُّنيَا وَالآخِرَةِ اقْرَأُوا إِن شِئْتُم { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ } فَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ تَرَكَ مَالاً فَلْتَرِثْهُ عُصْبَتُهُ مَن كَانُوا ، وَإِن تَرَكَ دَيناً أَوْ ضِيَاعاً فَلْيَأْتِنِي فَأَنَا مَوْلاَهُ
» . { وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ } يعني من مات عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم من أزواجه هن كالأمهات في شيئين .
أحدهما : تعظيم حقهن .
الثاني : تحريم نكاحهن . وليس كالأمهات في النفقة والميراث .
واختلف في كونهن كالأمهات في المحرم وإباحة النظر على الوجهين :
أحدهما : هن محرم لا يحرم النظر إليهن لتحريم نكاحهن .
الثاني : أن النظر إليهن محرم لأن تحريم نكاحهن إنما كان حفظاً لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهن فكان من حفظ حقه تحريم النظر إليهن ولأن عائشة رضي الله عنها كانت إذا أرادت دخول رجل عليها أمرت أختها أسماء أن ترضعه ليصير ابناً لأختها من الرضاعة فيصير محرماً يستبيح النظر .
وأما اللاتي طلقهن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته فقد اختلف في ثبوت هذه الحرمة لهن على ثلاثة أوجه :
أحدها : تثبت لهن هذه الحرمة تغليباً لحرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
الثاني : لا يثبت لهن ذلك بل هذه كسائر النساء لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أثبت عصمتهن وقال : أزواجي في الدنيا هن أزواجي في الآخرة .
الثالث : أن من دخل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم منهن ثبتت حرمتها ويحرم نكاحها وإن طلقها حفاظاً لحرمته وحراسة لخلوته ومن لم يدخل بها لم يثبت لها هذه الحرمة ، وقد همّ عمر بن الخطاب برجم امرأة فارقها النبي صلى الله عليه وسلم فنكحت بعده فقالت : لم هذا وما ضرب عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حجاباً ولا سميت للمؤمنين أماً ، فكف عنها .
وإذا كان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين فيما ذكرناه فقد اختلف فيهن هل هن أمهات المؤمنات على وجهين :
أحدهما : أنهن أمهات المؤمنين والمؤمنات تعظيماً لحقهن على الرجال والنساء .

الثاني : أن هذا حكم يختص بالرجال المؤمنين دون النساء لاختصاص الحظر والإباحة بالرجال دون النساء . وقد روى الشعبي عن مسروق عن عائشة أن امرأة قالت لها يا أماه فقالت لست بأم لك أنا أم رجالكم .
{ وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجرِينَ } .
قيل إنه أراد بالمؤمنين الأنصار ، وبالمهاجرين قريشاً . وفيه قولان :
أحدهما : أن هذا ناسخ للتوارث بالهجرة حكى سعيد عن قتادة قال كان نزل في الأنفال { وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتهِمْ مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ } فتوارث المسلمون بالهجرة فكان لا يرث الأعرابي المسلم من قريبه المهاجر المسلم شيئاً ثم نسخ ذلك في هذه السورة بقوله { وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُم أَوْلَى بِبَعْضٍ } .
الثاني : أن ذلك ناسخ للتوارث بالحلف والمؤاخاة في الدين روى هشام بن عمرو عن أبيه عن الزبير بن العوام قال أنزل فينا خاصة معشر قريش والأنصار لما قدمنا المدينة قدمناه ولا أموال لنا فوجدنا الأنصار نعم الإخوان فآخيناهم فأورثونا وأورثناهم ، فآخى أبو بكر خارجة بن زيد وآخيت أنا كعب بن مالك ، فلما كان يوم أُحد قتل كعب بن مالك فجئت فوجدت السلاح قد أثقله فوالله لقد مات ما ورثه غيري حتى أنزل الله هذه الآية فرجعنا إلى مواريثنا .
قوله تعالى : { فِي كِتَابِ اللَّهِ } فيه وجهان :
أحدهما : في القرآن ، قاله قتادة .
الثاني : في اللوح المحفوظ الذي قضى أحوال خلقه ، قاله ابن بحر .
{ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ } يعني أن التوارث بالأنساب أولى من التوارث بمؤاخاة المؤمنين وبهجرة المهاجرين ما لم يختلف بالمتناسبين دين فإن اختلف بينهما الدين فلا توارث بينهما روى شهر بن حوشب عن أبي أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لاَ يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتِينِ
» . { إِلاَّ أَن تَفْعَلُواْ إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَّعْرُوفاً } فيه أربعة أوجه
: أحدها : أنه أراد الوصية للمشرك من ذوي الأرحام ، قاله قتادة .
الثاني : أنه عنَى الوصية للحلفاء الذي آخى بينهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار ، قاله مجاهد .
الثالث : أنه أراد الذين آخيتم تأتون إليهم معروفاً ، قاله مقاتل بن حيان .
الرابع : أنه عنى وصية الرجل لإخوانه في الدين ، قاله السدي .
{ كَانَ ذَلِكَ فِي الْكَتَابِ مَسْطُوراً } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : كان التوارث بالهجرة والمؤاخاة في الكتاب مسطوراً قبل النسخ .
والثاني : كان نسخه بميراث أولي الأرحام في الكتاب مسطوراً قبل التوارث .
الثالث : كان أن لا يرث مسلم كافرا في الكتاب مسطوراً .
وفي { الْكِتَابِ } أربعة أوجه :
أحدها : في اللوح المحفوظ ، قاله إبراهيم التيمي .
الثاني : في الذكر ، قاله مقاتل بن حيان .
الثالث : في التوراة أمر بني اسرائيل أن يصنعوا مثله في بني لاوي بن يعقوب حكاه النقاش .
الرابع : في القرآن ، قاله قتادة .


وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (7) لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (8)

قوله تعالى : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : ميثاقهم على قومهم أن يؤمنوا بهم ، قاله ابن عباس .
الثاني : ميثاق الأمم على الأنبياء أن يبلغوا الرسالة إليهم ، قاله الكلبي .
الثالث : ميثاق الأنبياء أن يصدق بعضهم بعضاً ، قاله قتادة .
{ وَمِنكَ وَمِن نَّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ } روى قتادة عن الحسن عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن قول الله تعالى : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِنَ نُّوحٍ } قال « كُنتُ أَوَّلَهُم فِي الخَلْقِ وَآخِرَهُم في البَعْثِ
» . { وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثاقاً غَلِيظاً } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : أن الميثاق الغليظ تبليغ الرسالة .
الثاني : يصدق بعضهم بعضاً .
الثالث : أن يعلنوا أن محمداً رسول الله ، ويعلن محمد أنه لا نبي بعده .
وفي ذكر من سمى من الأنبياء مع دخولهم في ذكر النبيين وجهان :
أحدهما : تفضيلاً لهم .
الثاني : لأنهم أصحاب الشرائع .
قوله تعالى : { لِّيَسْأَلَ الصَادِقِينَ عَنَ صِدْقِهِمْ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : ليسأل الأنبياء عن تبليغهم الرسالة إلى قومهم ، حكاه النقاش . الثاني : ليسأل الأنبياء عما أجابهم به قومهم ، حكاه النقاش ابن عيسى .
الثالث : ليسأل الأنبياء عن الوفاء بالميثاق الذي أخذه عليهم ، حكاه ابن شجرة .
الرابع : ليسأل الأفواه الصادقة عن القلوب المخلصة .


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9) إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10)

قوله تعالى : { اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ } قال ابن عباس يعني يوم الأحزاب حين أنعم الله عليهم بالصبر ثُم بالنصر .
{ إِذْ جَآءَتْكُم جُنُودٌ } قال مجاهد : جنود الأحزاب أبو سفيان وعيينة بن حصين وطلحة بن خويلد وأبو الأعور السلمي وبنو قريظة .
{ فَأرْسَلْنَا عَلَيِهِمْ رِيحاً } قال مجاهد : هي الصَّبا أرسلت على الأحزاب يوم الخندق حتى كفأت قدورهم ونزعت فساطيطهم وروى ابن جبير عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « نُصِرْتُ بِالصّبَا وأُهْلِكَت عَادٌ بِالدَّبُورِ » وكان من دعائه يوم الأحزاب « اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَورَتَنَا وَآمِن رَوْعَتَنَا » فضرب الله وجوه أعدائه بريح الصَبا .
{ وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا } قال مجاهد وقتادة : هم الملائكة
. وفي ما كان منهم أربعة أقاويل :
أحدها : تفريق كلمة المشركين وإقعاد بعضهم عن بعض .
الثاني : إيقاع الرعب في قلوبهم ، حكاه ابن شجرة .
الثالث : تقوية نفوس المسلمين من غير أن يقاتلوا معهم وأنها كانت نصرتهم بالزجر حتى جاوزت بهم مسيرة ثلاثة أيام فقال طلحة بن خويلد : إن محمداً قد بدأكم بالسحر فالنجاة النجاة .
{ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً } يعني من حفر الخندق والتحرز من العدو
. قوله تعالى : { إِذْ جَآءُوكُمْ مِّن فَوْقِكُمْ } يعني من فوق الوادي وهو أعلاه من قبل المشرق ، جاء منه عوف بن مالك في بني نضر ، وعيينة بن حصين في أهل نجد ، وطلحة بن خويلد الأسدي في بني أسد .
{ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ } يعني من بطن الوادي من قبل المغرب أسفل أي تحتاً من النبي صلى الله عليه وسلم ، جاء منه أبو سفيان بن حرب على أهل مكة ، ويزيد بن جحش على قريش ، وجاء أبو الأعور السلمي ومعه حيي بن أخطب اليهودي في يهود بني قريظة مع عامر بن الطفيل من وجه الخندق .
{ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ } فيه وجهان
: أحدهما : شخصت .
الثاني : مالت :
{ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبِ الْحَنَاجِرَ } أي زالت عن أماكنها حتى بلغت القلوب الحناجر وهي الحلاقيم واحدها حنجرة . وقيل إنه مثل مضروب في شدة الخوف ببلوغ القلوب الحناجر وإن لم تزل عن أماكنها مع بقاء الحياة . وروي عن ابي سعيد الخدري أنه قال يوم الخندق : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم هل تأمر بشيء تقوله فقد بلغت القلوب الحناجر فقال : « نعم قُولُواْ : اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَتَنَا وَآمِنْ رَوْعَتَنَا » قال : فضرب الله وجوه أعدائه بالريح فهزموا بها .
{ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا } فيه وجهان
: أحدهما : فيما وعدوا به من نصر ، قاله السدي .
الثاني : أنه اختلاف ظنونهم فظن المنافقون أن محمداً وأصحابه يُستأصلون وأيقن المؤمنون أن ما وعدهم الله ورسوله حق وأنه سيظهره على الدين كله ولو كره المشركون ، قاله الحسن .


هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12) وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13)

قوله تعالى : { هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : بالحصر ، حكاه النقاش .
الثاني : بالجوع فقد أصابهم بالخندق جوع شديد ، قاله الضحاك .
الثالث : امتحنوا في الصبر على إيمانهم وتميز المؤمنون عن المنافقين ، حكاه ابن شجرة . وحكى ابن عيسى أن { هُنالِكَ } للبعد من المكان ، وهناك للوسط وهنا للقريب .
{ وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً } فيه أربعة أوجه
: أحدها : حركوا بالخوف تحريكاً شديداً ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : أنه اضطرابهم عما كانوا عليه فمنهم من اضطرب في نفسه ومنهم من اضطرب في دينه .
الثالث : أنه حركهم الأمر بالثبات والصبر ، وهو محتمل .
الرابع : هو إزاحتهم عن أماكنهم حتى لم يكن لهم إلا موضع الخندق ، قاله الضحاك .
قوله تعالى : { وَإِذْ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } فيه وجهان :
أحدهما : أن المرض النفاق ، قاله قتادة .
الثاني : أنه الشرك ، قاله الحسن .
{ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً } حكى السدي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحفر الخندق لحرب الأحزاب فبينا هو يضرب فيه بمعوله إذ وقع المعول على صفاة فطار منها كهيئة الشهاب من نار في السماء ، وضرب الثاني فخرج مثل ذلك ، وضرب الثالث فخرج مثل ذلك فرأى ذلك سلمان فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : « رَأَيتَ مَا خَرَجَ فِي كُلّ ضَرْبَةٍ ضَرَبْتَهَا » قال : نعم يا رسول الله فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : « تُفْتَحُ لَكُمْ بِيضُ المَدَائِنِ وَقُصُورُ الرُّومِ وَمَدَائِنُ اليَمن » قال ففشا ذلك في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتحدثواْ به ، فقال رجل من الأنصار يدعى قشير بن معتب . وقال غيره قشير بن عدي الأنصاري من الأوس : وعدنا محمد أن تفتح لنا مدائن اليمن وقصور الروم وبيض المدائن وأحدنا لا يستطيع أن يقضي حاجته إلا قتل؟ هذا والله الغرور فأنزل الله هذه الآية .
قوله تعالى : { وَإِذْ قَالت طَّآئِفَةٌ مِّنهُمْ } يعني من المنافقين قيل إنهم من بني سليم ، وقيل إنه من قول أوس بن فيظي ومن وافقه على رأيه ، ذكر ذلك يزيد بن رومان ، وحكى السدي أنه عبد الله بن أُبي وأصحابه .
{ يَأَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مَقُامَ لَكُم فَارْجِعُواْ } قرأ حفص عن عاصم بضم الميم ، والباقون بالفتح . وفي الفرق بينهما وجهان :
أحدهما : وهو قول الفراء أن المقام بالفتح الثبات على الأمر ، وبالضم الثبات في المكان .
الثاني : وهو قول ابن المبارك انه بالفتح المنزل وبالضم الإقامة .
وفي تأويل ذلك ثلاثة أوجه :
أحدها : أي لا مقام لكم على دين محمد فارجعوا إلى دين مشركي العرب ، قاله الحسن .
الثاني : لا مقام لكم على القتال فارجعوا إلى طلب الأمان ، قاله الكلبي .
الثالث : لا مقام في مكانكم فارجعوا إلى مساكنكم ، قال النقاش .
والمراد بيثرب المدينة وفيه قولان :
أحدهما : أن يثرب هي المدينة ، حكاه ابن عيسى .

الثاني : أن المدينة في ناحية من يثرب ، قاله أبو عبيدة وقد روى يزيد بن أبي زياد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن البراء بن عازب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « مَن قَالَ المَدِينَةُ يَثْرِبُ فَلْيَسْتَغْفِرِ اللَّهَ ، هَي طَابَةُ » ثلاثة مرات
. { وَيَسْتَئْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ } قال السدي : الذي استأذنه منهم رجلان من الأنصار من بني حارثة ، أحدهما أبو عرابة بن أوس ، والآخر أوس بن فيظي . قال الضحاك : ورجع ثمانون رجلاً بغير إذن .
{ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : قاصية من المدينة نخاف على عورة النساء والصبيان من السبي ، قاله قتادة .
الثاني : خالية ليس فيها إلا العورة من النساء ، قاله الكلبي والفراء ، مأخوذ من قولهم قد اعور الفارس إذا كان فيه موضع خلل للضرب قال الشاعر :
له الشدة الأولى إذا القرن أعورا ... الثالث : مكشوفة الحيطان نخاف عليها السراق والطلب ، قاله السدي والعرب تقول قد أعور منزلك إذا ذهب ستره وسقط جداره وكل ما كره انكشافه فهو عندهم عورة ، وقرأ ابن عباس : إن بيوتنا عَوِرة ، بكسر الواو ، أي ممكنة العورة .
ثم قال : { وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ } تكذيباً لهم فيما ذكروه .
{ إِن يُريدُونَ إِلاَّ فِرَاراً } يحتمل وجهين
: أحدهما : فراراً من القتل .
الثاني : من الدِّين . وحكى النقاش أن هذه الآية نزلت في قبيلتين من الأنصار من بني حارثة وبني سلمة ، همّوا أن يتركوا مراكزهم يوم الخندق وفيهم أنزل الله { إذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنكُمْ أن تَفْشَلاَ } [ آل عمران : 122 ] الآية . فلما نزلت هذه الآية قالوا : والله ما سرّنا ما كنا هممنا به إن كان الله ولينا .


وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (14) وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (17)

قوله تعالى : { وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا } أي لو دخل على المنافقين من أقطار المدينة ونواحيها .
{ ثُمَّ سُئِلُواْ الْفِتْنَةَ لأَتَوهَا } فيه وجهان
: أحدهما : ما تلبثوا عن الإجابة إلى الفتنة إلا يسيراً ، قاله ابن عيسى .
الثاني : ما تلبثوا بالمدينة إلا يسيراً حتى يعدموا ، قاله السدي .
قوله : { وَلَقَدْ كَانُواْ عَاهَدُواْ اللَّهَ مِن قَبْلُ } الآية ، فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنهم عاهدوه قبل الخندق وبعد بدر ، قاله قتادة .
الثاني : قبل نظرهم إلى الأحزاب ، حكاه النقاش .
الثالث : قبل قولهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا .
وحكي عن ابن عباس أنهم بنو حارثة .
{ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولاً } يحتمل وجهين
: أحدهما مسئولاً عنه للجزاء عليه .
الثاني : للوفاء به .
قوله تعالى : { قُل مَن الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِّن اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً } .
فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : إن أراد بكم هزيمة أو أراد بكم نصراً ، حكاه النقاش .
الثاني : إن أراد بكم عذاباً ، أو أراد بكم خيراً ، قاله قتادة .
الثالث : إن أراد بكم قتلاً أو أراد بكم توبة ، قاله السدي .


قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (19)

قوله تعالى : { قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ } يعني المثبطين من المنافقين ، قيل إنهم عبد الله بن أُبي وأصحابه .
{ وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِليْنَا } فيه ثلاثة أقاويل
: أحدها : أنهم المنافقون قالوا للمسلمين ما محمد إلا أكلة رأس وهو هالك ومن معه فهلم إلينا .
الثاني : أنهم اليهود من بني قريظة قالوا لإخوانهم من المنافقين هلم إلينا أي تعالوا إلينا وفارقوا محمداً فإنه هالك وإن أبا سفيان إن ظفر لم يبق منكم أحداً .
الثالث : ما حكاه ابن زيد أن رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم انصرف من عند يوم الأحزاب فوجد أخاه بين يديه شواء ورغيف فقال : أنت هكذا ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين الرماح والسيوف ، فقال له أخوه كان من أبيه وأمه . هلّم إليّ قد تُبع بك وبصاحبك أي قد أحيط بك وبصاحبك ، فقال له : كذبت والله لأخبرنه بأمرك وذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبره فوجده قد نزل عليه جبريل عليه السلام بقوله تعالى : { قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ المُعَوِّقينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا } .
{ وَلاَ يَأْتُونَ البََأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً } فيه وجهان
: أحدهما : لا يحضرون القتال إلا كارهين وإن حضروه كانت أيديهم مع المسلمين وقلوبهم مع المشركين قاله قتادة .
الثاني : لا يشهدون القتال إلا رياء وسمعة ، قاله السدي ، وقد حكي عن الحسن في قوله تعالى : { وَلاَ يَذْكُرُونَ إلاَّ قَلِيلاً } إنما قل لأنه كان لغير الله عز وجل .
قوله تعالى : { أَشِحَّةً عَلَيكُمْ } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : أشحة بالخير ، قاله مجاهد .
الثاني : بالقتال معكم ، قاله ابن كامل .
الثالث : بالغنائم إذا أصابوها ، قاله السدي .
الرابع : أشحة بالنفقة في سبيل الله ، قاله قتادة .
{ فَإِذَا جَآءَ الْخَوفُ } فيه قولان
: أحدهما : إذا جاء الخوف من قتال العدو إذا أقبل ، قاله السدي .
الثاني : الخوف من النبي صلى الله عليه وسلم إذا غلب ، قاله ابن شجرة .
{ رَأيْتُهُمْ يَنْظُرُونَ إِليَكَ } خوفاً من القتال على القول الأول ، ومن النبي صلى الله عليه وسلم على القول الثاني .
{ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيهِ مِنَ الْمَوتِ } يحتمل وجهين
: أحدهما : تدور أعينهم لذهاب عقولهم حتى لا يصح منهم النظر إلى جهة .
الثاني : تدور أعينهم لشدة خوفهم حذراً أن يأتيهم القتل من كل جهة .
{ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ } فيه وجهان
: أحدهما : أي رفعوا أصواتهم عليكم بألسنة حداد أي شديدة ذربة ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : « لَعَنَ اللَّهُ السَّالِقَةَ وَالخَارِقَةُ وَالحَالِقَةَ » يعني بالسالقة التي ترفع صوتها بالنياحة والخارقة التي تخرق ثوبها في المصيبة وبالحالقة التي تحلق شعرها .
الثاني : معناه آذوكم بالكلام الشديد . والسلق الأذى ، قاله ابن قتيبة . قال الشاعر :
ولقد سلقن هوازنا ... بنواهلٍ حتى انحنينا
وقال الخليل : سلقته باللسان إذا أسمعته ما يكره وفي سلقهم بألسنةٍ حداد وجهان :
أحدهما : نزاعاً في الغنيمة ، قاله قتادة .
الثاني : جدالاً عن أنفسهم ، قاله الحسن .
{ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : على قسمة الغنيمة ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : على المال ينفقونه في سبيل الله ، قاله السدي .
الثالث : على النبي صلى الله عليه وسلم بظفره .
{ أَوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُواْ } يعني بقلوبهم
. { فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ } يعني حسناتهم أن يثابوا عليها لأنهم لم يقصدوا وجه الله تعالى بها .
{ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً } فيه وجهان
: أحدهما : وكان نفاقهم على الله هيناً .
الثاني : وكان إحباط عملهم على الله هيناً .


يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا (20)

قوله تعالى : { يَحْسَبُونَ الأَحْزَابِ لَمْ يَذْهَبُواْ } يعني أن المنافقين يحسبون أبا سفيان وأحزابه من المشركين حين تفرقوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مغلوبين لم يذهبوا عنه وأنهم قريب منهم ثم فيه وجهان :
أحدهما : أنهم كانواعلى ذلك لبقاء خوفهم وشدة جزعهم .
الثاني : تصنعاً للرياء واستدامة التخوف .
{ وَإِنَ يَأْتِ الأَحْزَابُ } يعني أبا سفيان وأصحابه من المشركين
. { يَوَدُّواْ لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأَعرْابِ } أي يود المنافقون لو أنهم في البادية مع الأعراب حذراً من القتل وتربصاً للدوائر .
{ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ } أي عن أخبار النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يتحدثون : أما هلك محمد وأصحابه ، أما غلب أبو سفيان وأحزابه .
{ وَلَوْ كَانُواْ فِيكُم مَا قَاتَلُواْ إِلاَّ قَلِيلاً } فيه وجهان
: أحدهما : إلا كرهاً .
الثاني : إلا رياءً .


لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21) وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22)

قوله تعالى : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُوُلِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ } فيه وجهان :
أحدهما : أي مواساة عند القتال ، قاله السدي .
الثاني : قدوة حسنة يتبع فيها ، والأسوة الحسنة المشاركة في الأمر يقال هو مواسيه بماله إذا جعل له نصيباً .
وفي المراد بذلك وجهان :
أحدهما : الحث على الصبر مع النبي صلى الله عليه وسلم في حروبه .
الثاني : التسلية لهم فيما أصابهم فإن النبي صلى الله عليه وسلم شُج وكُسِرَت رباعيته وقتل عمه حمزة .
{ لِمَن كَانَ يَرْجُواْ اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِر } فيه وجهان
: أحدهما : لمن كان يرجو ثواب الله في اليوم الآخر قاله ابن عيسى .
الثاني : لمن كان يرجوا الله بإيمانه ويصدق بالبعث الذي فيه جزاء الأعمال ، قاله ابن جبير .
{ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً } يحتمل وجهين
: أحدهما : أي استكثر من العمل بطاعته تذكراً لأوامره .
الثاني : أي استكثر من ذكر الله خوفاً من عقابه ورجاء لثوابه واختلف فيمن أريد بهذا الخطاب على قولين :
أحدهما : المنافقون عطفاً عل ما تقدم من خطابهم .
الثاني : المؤمنون لقوله : { لِمَن كَانَ يَرْجُواْ اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ } .
واختلف في هذه الأسوة بالرسول هل هي على الإِيجاب أو على الاستحباب على قولين :
أحدهما : على الإيجاب حتى يقوم دليل علىلاستحباب .
الثاني : على الاستحباب حتى يقول دليل على الإيجاب .
ويحتمل أن يحمل على الإيجاب في أمور الدين ، وعلى الاستحباب في أمور الدنيا .
قوله تعالى : { وَلَمَّا رَأَى المُؤْمِنُونَ الأحْزَابِ . . . } الآية . فيه قولان :
أحدهما : أن الله وعدهم في سورة البقرة فقال { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم } [ البقرة : 214 ] الآية . فلما رأواْ أحزاب المشركين يوم الخندق { قَالُواْ هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ } قاله قتادة .
الثاني : ما رواه كثير بن عبد الله بن عمرو المزني عن أبيه عن جده قال خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم عام ذكرت الأحزاب فقال : « أَخْبَرَنِي جِبْرِيلُ أَنَّ أُمَّتِي ظَاهِرَةُ عَلَيهَا يَعْنِي قُصُورِ الحِيرَةِ وَمَدَائِنِ كِسرَى فَأبْشِرُوا بِالنَّصْرِ » فاستبشر المسلمون وقالوا : الحمد لله موعد صادق إذ وعدنا بالنصر بعد الحصر فطلعت الأحزاب فقال المؤمنون { هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولَهُ } الآية .
{ . . . إِيمَاناً وَتَسْلِيماً } فيه قولان
: أحدهما : إلا إيماناً وتسلمياً للقضاء ، قاله الحسن .
الثاني : إلا إيماناً بما وعد الله وتسليماً لأمر الله .


مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (24)

قوله تعالى : { مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ اللَّهَ عَلَيْهِ } فيهم قولان
: أحدهما : أنهم بايعوا الله على ألا يفرُّوا ، فصدقوا في لقائهم العدو يوم أحد ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : أنهم قوم لم يشهدوا بدراً فعاهدوا الله ألا يتأخروا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حرب يشهدها أو أمر بها ، فوفوا بما عاهدوا الله عليه ، قاله أنس بن مالك .
{ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنْتَظِرُ } فيه ثلاثة تأويلات
: أحدها : فمنهم من مات ومنهم من ينتظر الموت ، قاله ابن عباس ومنه قول بشر بن أبي خازم :
قضى نحب الحياة وكلُّ حي ... إذا يُدْعى لميتته أجابا
الثاني : فمنهم من قضى عهده قتل أو عاش ، ومنهم من ينتظر أن يقضيه بقتال أو صدق لقاء ، قاله مجاهد .
الثالث : فمنهم من قضى نذره ومنه قول الراعي :
حتى تحنّ إلى ابن أكرمها ... حسباً وكن منجز النحب
فيكون النحب على التأويل الأول الأجل ، وعلى الثاني العهد ، وعلى الثالث النذر
. { وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً } فيه وجهان
: أحدهما : ما غيروا كما غير المنافقون ، قاله ابن زيد .
الثاني : ما بدلوا ما عاهدوا الله عليه من الصبر ولا نكثوا بالفرار ، وهذا معنى قول الحسن .
قوله : { لِّيَجْزِيَ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ } يحتمل وجهين :
أحدهما : الذين صدقوا لما رأواْ الأحزاب { هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ } الآية .
الثاني : الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه من قبل فثابوا ولم يغيروا .
{ وَيُعَذِّبُ الْمُنَافِقِينَ إِن شَآءَ } فيه وجهان
: أحدهما : يعذبهم إن شاء ويخرجهم من النفاق إن شاء ، قاله قتادة .
الثاني : يعذبهم في الدنيا إن شاء أو يميتهم على نفاقهم فيعذبهم في الآخرة إن شاء ، قاله السدي .
{ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } قال السدي يخرجهم من النفاق بالتوبة حتى يموتوا وهم تائبون .
{ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } يحتمل وجهين
: أحدهما : غفرواً بالتوبة رحيماً بالهداية إليها .
الثاني : غفوراً لما قبل التوبة رحيماً لما بعدها .


وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25)

قوله تعالى : { وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَغَيظِهِمْ } يعني أبا سفيان وجموعه من الأحزاب .
{ بِغَيظِهِمْ } فيه وجهان
: أحدهما : بحقدهم .
الثاني : بغمّهم .
{ لَمْ يَنَالُواْ خَيراً } قال السدي لم يصيبوا من محمد وأصحابه ظفراً ولا مغنماً
. { وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ } فيه وجهان
: أحدهما : بعلي بن ابي طالب كرم الله وجهه . حكى سفيان الثوري عن زيد عن مرة قال أقرأنا ابن مسعود هذا الحرف : { وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ } بعلي بن أبي طالب .
الثاني : بالريح والملائكة ، قاله قتادة والسدي .
{ وََكَانَ اللَّهُ قَوِياً } في سلطانه . { عَزِيزاً } في انتقامه .


وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (27)

قوله تعالى : { وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْل الْكِتَابِ } هم بنو قريظة من اليهود ظاهرواْ أبا سفيان ومجموعة من الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم أي عاونوه والمظاهرة هي المعاونة . وكان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فنقضوه فغزاهم بعد ستة عشر يوماً من الخندق قال قتادة نزل عليه جبريل وهو عند زينب بنت جحش يغسل رأسه فقال عفا الله عنك ما وضعت الملائكة سلاحها منذ أربعين ليلة فانهد إلى بني قريظة فإني قد قلعت أوتادهم وفتحت أبوابهم وتركتهم في زلزال وبلبال فسار إليهم فحاصرهم إحدى وعشرين ليلة حتى نزلوا على التحكيم في أنفسهم .
وفيمن نزلوا على حكمه قولان :
أحدهما : أنهم نزلوا على حكم سعد بن معاذ فحكم فيهم أن يقتل مقاتلوهم ويسبى ذراريهم وأن عقارهم للمهاجرين دون الأنصار فقال قومه : آثرت المهاجرين بالعقار علينا ، فقال : إنكم ذوو عقار وليس للمهاجرين فكبّر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال « قُضِيَ فِيهِم بِحُكْمِ اللَّهِ » قاله قتادة
. الثاني : أنهم نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يحكموا سعداً لكن أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد فقال : « أَشِر عَلَيَّ فِيهِم » فقال : لو وليتني أمرهم لقتلت مقاتليهم ولسبيت ذراريهم ولقسمت أموالهم فقال : « وَالَّذِي نَفْسِ بِيَدِهِ لََقَدْ أَشَرتَ عَلَيَّ فِيهِم بِالَّذِي أَمَرَنِي اللَّهُ بِهِ » وروي ذلك عن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ عن أبيه .
{ مِن صَيَاصِيهِمْ } من حصونهم قال الشاعر
:
فأصبحت النسوان عقرى وأصبحت ... نساء تميم يبتدرْن الصياصيا .
وسميت بذلك لامتناعهم بها ، ومنه سميت قرون البقر صياصي لامتناعها بها ، وسميت شوكة الديك التي في ساقه صيصية .
{ وَقَذَفَ فِي قُُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ } قال قتادة بصنيع جبريل بهم
. { فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً } حكى عطية القرظي أنهم عُرضوا على النبي صلى الله عليه وسلم يوم بني قريظة فمن كان احتلم أو نبتت عانته قتل ، فنظروا إليّ فلم تكن نبتت عانتي فتركت فقيل إنه قتل منهم أربعمائة وخمسين رجلاً وهم الذين عناهم الله بقوله { فَرِيقاً تقتلون } وسبي سبعمائة وخمسين رجلاً وهم الذين عناهم الله تعالى بقوله { وتأسرون فريقاً } وقال قتادة : قتل أربعمائة وسبى سبعمائة .
{ وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُم وَأَمْوَالَهُم } يريد بالأرض النخل والمزارع ، وبالدبار المنازل وبالأموال المنقولة .
{ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُوهَا } فيها أربعة أقاويل
: أحدها : أنها مكة ، قاله قتادة .
الثاني : خيبر ، قاله السدي وابن زيد .
الثالث : فارس والروم ، قاله الحسن .
الرابع : ما ظهر عليه المسلمون إلى يوم القيامة ، قاله عكرمة .
{ وَكَانَ اللَّهُ علََى كُلِّ شَيءٍ قَدِيراً } فيه وجهان
: أحدهما : على ما أراد بعباده من نقمة أو عفو قديرٌ ، قاله ابن اسحاق .
الثاني : على ما أراد أن يفتحه من الحصون والقرى ، قدير ، قاله النقاش .


يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29)

قوله تعالى : { يَأَيُّها النَبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِن كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا وَزِينَتَهَا } الآية .
وهذا أمر من الله لنبيه أن يخبر أزواجه ، واختلف أهل التأويل في تخييره لهن على قولين :
أحدهما : خيرهن بين اختيار الدنيا فيفارقهن واختيار الآخرة فيمسكهن ، ولم يخيرهن في الطلاق ، قاله الحسن وقتادة .
الثاني : أنه خيّرهن بين الطلاق أو المقام معه ، وهذا قول عائشة رضي الله عنها وعكرمة والشعبي ومقاتل .
روى عبد الله بن أبي ثورعن ابن عباس قال : قالت عائشة رضي الله عنها : أنزلت آية التخيير فبدأني أول امرأة من نسائه ، فقال : « إنّي ذَاكَرٌ أَمْراً وَلاَ عَلَيك أَلاَّ تَعْمَلِي حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبُوَيكِ » وقد علم أن أبويّ لم يكونا يأمراني بفراقه قالت : ثم تلا آية التخيير فقالت أفي هذا أستأمر أبويّ؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة . ثم خير نساءه كلهن فقلن مثل قولي . وقال سعيد بن جبير : إلا الحميرية فإنها اختارت نفسها .
واختلف في السبب الذي لأجله خير رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه على خمسة أقاويل :
أحدها : لأن الله تعالى خير نبيه بين ملك الدنيا ونعيم الآخرة ، فاختار الآخرة على الدنيا وقال : « اللَّهُمَّ احْيِنِي مِسْكِيناً وَأمِتْنِي مِسْكِينَاً وَاحْشْرْنِي فِي زُمْرَةِ المَساكِين » فلما اختار ذلك أمره الله تعالى بتخيير نسائه ليكنَّ على مثل حاله إن كان اختيارهن مثل ما اختاره . حكاه أبو القاسم الصيمري .
الثاني : لأنهن تغايرن عليه ، فروت عمرة عن عائشة رضي الله عنها قالت : حلف رسول الله صلى الله عليه وسلم ليهجرنَنّا شهراً فدخل عليّ بعد صبحة تسعة وعشرين ، فقلت يا رسول الله : ألم تكن حلفت لتهجرننا شهراً؟ فقال : « إن الشهر هكذا وهكذا وهكذا ، » ثم خنس الإبهام ، ثم قال يا عائشة : « إِنّي ذَاكِرٌ لَكِ أَمْراً وَلاَ عَلَيْكِ أَن لاَّ تَعْجَلِي حَتَّى تَسْتَشِيري أَبُويكِ » وخشي حداثة سني قلت : وما ذاك؟ قال « أُمِرْتُ أَن أَخَيِّرَكُنَّ
» . الثالث : أن أزواجه طالبنه وكان غير مستطيع فكان أوّلهن أم سلمة فسألته ستراً معلماً ، فلم يقدر عليه ، وسألته ميمونة حلة يمانية ، وسألته زينب بنت جحش ثوباً مخططاً وهو البرد اليماني ، وسألته أم حبيبة ثوباً سحولياً ، وسألته حفصة ثوباً من ثياب مصر ، وسألته جويرية معجزاً ، وسألته سودة قطيفة جبيرية ، وكل واحدة منهن طلبت نصيباً إلاّ عائشة لم تطلب شيئاً ، فأمر الله تعالى بتخييرهن ، حكاه النقاش .
الرابع : لأن أزواجه اجتمعن يوماً فقلن : نريد ما تريد النساء من الحلي والثياب حتى قال بعضهن : لو كنا عن غير النبي صلى الله عليه وسلم إذن لكان لنا شأن وثياب وحلي ، فأنزل الله تعالى آية التخيير ، حكاه النقاش .
الخامس : لأن الله تعالى صان خلوة نبيه فخيرهن على ألا يتزوجن بعده ، فلما أجَبْنَ إلى ذلك أمسكهن . قال مقاتل بن حيان : قاله الحسن وقتادة : وكان تحته يومئذ تسع سوى الحميرية ، خمس من قريش : عائشة وحفصة وأم حبيبة بنت أبي سفيان وأم سلمة بنت أبي أمية وسودة بنت زمعة ، هؤلاء خمس من قريش ، وكان تحته صفية بنت حيي بن أخطب الحميرية ، وميمونة بنت الحارث الهلالية ، وزينب بنت جحش الأسدية ، وجويرية بنت الحارث المصطلقية . فلما اخترنه والصبر معه على ما يلاقيه من شدة ورخاء عوضهن الله تعالى على صبرهن بأمرهن بأمرين :

أحدهما : بأن يجعلهن أمهات المؤمنين فقال تعالى : { وَأَزْوَاجُهُ أَمَّهَاتُكُمْ } تعظيماً لحقوقهن وتأكيداً لحرمتهن .
الثاني : أن حظر عليهن طلاقهن والاستبدال بهن فقال { لاَ يَحِلُّ لك النِّسَاءُ مِن بَعد . . . } الآية . فكان تحريم طلاقهن مستداماً . وأما تحريم التزويج عليهن فقد كان ذلك لما كان النبي صلى الله عليه وسلم في شدته وقلة مكنته .
ثم اختلف الناس بعد سعة الدنيا عليه هل أحل الله له النساء على قولين :
أحدهما : أنه كان تحريمه عليهن باقياً لأن الله تعالى جعله جزاء لصبرهن .
الثاني : أن الله تعالى أحل له النساء أن يتزوج عليهن عند اتساع الدنيا عليه ، لأن علة التحريم الضيق والشدة ، فإذا زالت زال موجبها . قالت عائشة رضي الله عنها ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحلّ له النساء ، يعني اللاتي حظرن عليه ، وقيل إن الناسخ لتحريمهن قوله عز وجل : { يَأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ } الآية .
فأما غير رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يلزمهم تخيير نسائهم فإن خيروهن فقد اختلف الفقهاء في حكمهن على ثلاثة مذاهب .
أحدها : إن اخترن الزوج فلا فرقة ، وإن اخترن أنفسهن كانت تطليقة رجعية . وهذا قول الزهري وعائشة والشافعي .
الثاني : إن اخترن الزوج فهي تطليقة وله الرجعة ، وإن اخترن أنفسهن فهي تطليقة بائن والزوج كأحد الخطاب ، وهذا قول عليّ رضي الله عنه .
الثالث : إن اخترن الزوج فهي تطليقة والزوج كأحد الخطاب ، وإن اخترن أنفسهن فهي ثلاث ولا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره ، وهذا قول زيد بن ثابت .


يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (31)

قوله عز وجل : { يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشةٍ مُّبَيِّنَةٍ } فيها قولان
: أحدهما : الزنى ، قاله السدي .
الثاني : النشوز وسوء الخلق ، قاله ابن عباس .
{ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ } فيه قولان
: أحدهما : أنه عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ، قاله قتادة .
الثاني : أنهما عذابان في الدنيا لعظم جرمهن بأذية رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال مقاتل : حدّان في الدنيا غير السرقة .
وقال أبو عبيدة والأخفش : الضعفان أن يجعل الواحد ثلاثة ، فيكون عليهن ثلاثة حدود لأن ضعف الواحد اثنان فكان ضِعْفا الواحد ثلاثة .
وقال ابن قتيبة : المراد بالضعف المثل فصار المراد بالضعفين المثلين .
وقال آخر : إذا كان ضعف الشيء مثليه وجب بأن يكون ضعفاه أربعة أمثاله .
قال سعيد بن جبير : فجعل عذابهن ضعفين ، وجعل على من قذفهن الحد ضعفين .
{ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً } أي هيناً
. قوله عز وجل : { وَمَن يَقْنُتْ مِنُكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ } أي تُطِع الله ورسوله والقنوت الطاعة .
{ وَتَعْمَلُ صَالِحاً } أي فيما بينها وبين ربها
. { نُؤْتِهَا أَجرَهَا مَرَّتِين } أي ضعفين ، كما كان عذابها ضعفين . وفيه قولان
: أحدهما : أنهما جميعاً في الآخرة .
الثاني : أن أحدهما في الدنيا والآخر في الآخرة .
{ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً } فيه وجهان
: أحدهما : في الدنيا ، لكونه واسعاً حلالاً .
الثاني : في الآخرة وهو الجنة .
{ كَرِيماً } لكرامة صاحبه ، قاله قتادة .


يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33) وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (34)

قوله عز وجل : { يَا نِسَآءَ النَّبِيَّ لَسْتنَّ كَأَحَدٍ مّنَ النِّسَآءِ } قال قتادة : من نساء هذه الأمة .
{ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ } قال مقاتل : إنكن أحق بالتقوى من سائر النساء
. { فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ } فيه ستة أوجه
: أحدها : معناه فلا ترققن بالقول .
الثاني : فلا ترخصن بالقول ، قاله ابن عباس .
الثالث : فلا تُلِن القول ، قاله الفراء .
الرابع : لا تتكلمن بالرفث ، قاله الحسن . قال متمم .
ولستُ إذا ما أحدث الدهر نوبة ... عليه بزوّار القرائب أخضعا
الخامس : هو الكلام الذي فيه ما يهوى المريب
. السادس : هو ما يدخل من كلام النساء في قلوب الرجال ، قاله ابن زيد .
{ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ } فيه قولان
: أحدهما : أنه شهوة الزنى والفجور ، قاله عكرمة والسدي .
الثاني : أنه النفاق ، قاله قتادة . وكان أكثر من تصيبه الحدود في زمان النبي صلى الله عليه وسلم المنافقون .
{ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : صحيحاً ، قاله الكلبي .
الثاني : عفيفاً ، قاله الضحاك .
الثالث : جميلاً .
قوله عز وجل : { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ } قرئت على وجهين :
أحدهما : بفتح القاف ، قرأه نافع وعاصم ، وتأويلها اقررن في بيوتكن ، من القرار في مكان .
الثاني : بكسر القاف : قرأها الباقون ، وتأويلها كن أهل وقار وسكينة .
{ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى } وفي خمسة أوجه
: أحدها : أنه التبختر ، قاله ابن أبي نجيح .
الثاني : كانت لهن مشية تكسرٍ وتغنج ، فنهاهن عن ذلك ، قاله قتادة ، ومنه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال « المَائِلاَتُ المُمِيلاَتُ : اللاَّئِي يَسْتَمِلْنَ قُلُوبَ الرِّجَالِ إلَيهِنَّ
» . الثالث : أنه كانت المرأة تمشي بين يدي الرجل ، فذلك هو التبرج ، قاله مجاهد .
الرابع : هو أن تلقي الخمار على رأسها ولا تشده ليواري قلائدها وعنقها وقرطها ، ويبدو ذلك كله منها ، فذلك هو التبرج ، قال مقاتل بن حيان .
الخامس : أن تبدي من محاسنها ما أوجب الله تعالى عليها ستره ، حكاه النقاش وأصله من برج العين وهو السعة فيها .
وفي { الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى } أربعة أقاويل :
أحدها : ما بين عيسى ومحمد عليهما السلام ، قاله الشعبي وابن أبي نجيح .
الثاني : زمان إبراهيم ، قاله مقاتل والكلبي ، وكانت المرأة في ذلك الزمان تلبس درعاً مفرجاً ليس عليها غيره وتمشي في الطريق ، وكان زمان نمرود .
الثالث : أنه ما بين آدم ونوح عليهما السلام ثمانمائة سنة ، وكان نساؤهم أقبح ما تكون النساء ، ورجالهم حسان ، وكانت المرأة تريد الرجل على نفسها ، فهو تبرج الجاهلية الأولى : قاله الحسن .
الرابع : أنه ما بين نوح وإدريس . روى عكرمة عن ابن عباس أن الجاهلية الأولى كانت ألف سنة . وفيه قولان :
أحدهما : أنه كانت المرأة في زمانها تجمع زوجاً وخلما ، والخلم الصاحب ، فتجعل لزوجها النصف الأسفل ولخلمها نصفها الأعلى ، ولذلك يقول بعض الخلوم :
فهل لك في البدال أبا خبيب ... فأرضى بالأكارع والعجُوز
الثاني : وهو مبدأ الفاحشة ، وهو أن بطنين من بني آدم كان أحدهما يسكن السهل ، والآخر يسكن الجبل ، وكان رجال الجبل صباحاً وفي النساء دمامة ، وأن إبليس اتخذ لهم عيداً فاختلط أهل السهل بأهل الجبل فظهرت الفاحشة فيهم ، فهو تبرج الجاهلية .

قوله عز وجل : { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ } وفي الرجس ها هنا ستة أقاويل :
أحدها : الإثم ، قاله السدي .
الثاني : الشرك ، قاله الحسن .
الثالث : الشيطان ، قاله ابن زيد .
الرابع : المعاصي .
الخامس : الشك .
السادس : الأقذار .
وفي قوله تعالى { أَهْلَ الْبَيْتِ } - ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه عنى علياً وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم ، قاله أبو سعيد الخدري وأنس بن مالك وعائشة وأم سلمة رضي الله عنهم .
الثاني : أنه عنى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم خاصة ، قاله ابن عباس وعكرمة .
الثالث : أنها في الأهل والأزواج ، قاله الضحاك .
{ وَيُطَهّرَكُمْ تطْهِيراً } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : من الإثم ، قاله السدي .
الثاني : من السوء ، قاله قتادة .
الثالث : من الذنوب ، قاله الكلبي ، ومعانيها متقاربة .
وفي تأويل هذه الآية لأصحاب الخواطر ثلاثة أوجه :
أحدها : يذهب عنكم رجس الأهواء والتبرج ويطهركم من دنس الدنيا والميل إليها .
الثاني : يذهب عنكم رجس الغل والحسد ، ويطهركم بالتوفيق والهداية .
الثالث : يذهب عنكم رجس البخل والطمع ويطهركم بالسخاء والإيثار ، روى أبو ليلى الكندي عن أم سلمة أن هذه الآية نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في بيتها على منام له ، عليه كساء خيبري .
قوله عز وجل : { وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ ءَايَاتِ اللَّهِ } قال قتادة القرآن .
{ وَالْحِكْمَةِ } فيها وجهان
: أحدهما : السنة ، قاله قتادة .
الثاني : الحلال والحرام والحدود ، قاله مقاتل .
{ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً } قال عطية العوفي : لطيفاً باستخراجها خبيراً بموضعها .


إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35)

قوله عز وجل : { إنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِنَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } سبب نزول هذه الآية ما رواه يحيى بن عبد الرحمن عن أم سلمة قالت : يا رسول الله ما للرجال يذكرون في القرآن ولا تذكر النساء؛ فنزلت { إنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ } - الآية وفيها قولان :
أحدهما : يعني بالمسلمين والمسلمات المتذللين والمتذللات . وبالمؤمنين والمؤمنات المصدقين والمصدقات .
الثاني : أنهما في الدين ، فعلى هذا في الإسلام والإيمان قولان :
أحدهما : أنهما واحد في المعنى وإن اختلفا في الأسماء .
الثاني : أنهما مختلفان على قولين :
أحدهما : أن الإسلام الإقرار باللسان ، والإيمان التصديق به ، قاله الكلبي .
الثاني : أن الإسلام هو اسم الدين والإيمان هو التصديق به والعمل عليه .
{ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتاتِ } فيه وجهان
: أحدهما : المطيعين والمطيعات ، قاله ابن جبير .
الثاني : الداعين والداعيات .
{ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ } فيه وجهان
: أحدهما : الصادقين في إيمانهم والصادقات ، قاله ابن جبير .
الثاني : في عهودهم .
{ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ } فيه وجهان
: أحدهما : على أمر الله ونهيه ، قاله ابن جبير .
الثاني : في البأساء والضراء .
{ والْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : المتواضعين والمتواضعات ، قاله ابن جبير .
الثاني : الخائفين والخائفات : قاله يحيى بن سلام وقتادة .
الثالث : المصلين والمصليات ، قاله الكلبي .
{ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ } فيه وجهان
: أحدهما : المتصدقين والمتصدقات بأنفسهم في طاعة الله .
الثاني : بأموالهم . ثم فيه وجهان :
أحدهما : المؤدين الزكوات المفروضات .
الثاني : المتطوعين بأداء النوافل بعد المفروضات ، قاله ابن شجرة .
{ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ } فيه وجهان
: أحدهما : الإمساك عن المعاصي والقبائح .
الثاني : عن الطعام والشراب وهو الصوم الشرعي . وفيه وجهان :
أحدهما : صوم الفرض .
الثاني : شهر رمضان وثلاثة أيامٍ من كل شهر ، قاله ابن جبير . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « صَومُ الشَّهْرِ وَثَلاَثَةُ أَيَّامٍ يُذْهِبْنَ وَغْرَ الصَّدْرِ
» . { وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ } فيه وجهان
: أحدهما : عن الفواحش .
الثاني : أنه أراد منافذ الجسد كلها فيحفظون أسماعهم عن اللغو والخنا ، وأفواههم عن قول الزور وأكل الحرام . وفروجهم عن الفواحش .
{ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ } فيهم ثلاثة أوجه
: أحدها : باللسان قاله يحيى بن سلام .
الثاني : التالون لكتابه ، قاله ابن شجرة .
الثالث : المصلين والمصليات ، حكاه النقاش .
{ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجَرْاً عَظِيماً } لعلمهم ، قاله ابن جبير ، قال قتادة : وكانت هذه الآية أول آية نزلت في النساء فذكرن بخير .


وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)

قوله تعالى : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيرَةُ مِنُ أَمْرِهِمْ } فيها قولان :
أحدهما : أنها نزلت في زينب بنت جحش خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد بن حارثة فامتنعت وامتنع أخوها عبد الله بن جحش وأنهما ولدا عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم أمهما أميمة بنت عبد المطلب وأن زيداً كان بالأمس عبداً فنزلت هذه الآية فقالت : أمري بيدك يا رسول الله فزوجها به ، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة . قال مقاتل : ساق إليها عشرة دنانير وستين درهماً وملحفة ودرعاً وخمسين مداً من طعام وعشرة أمداد من تمر .
الثاني : أنها نزلت في أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط وكانت أول امرأة هاجرت من النساء فوهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم قال « قَدْ قَبِلْتُ » فزوجها زيد بن حارثة فسخطت هي وأخوها وقالا : إنما أردنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فزّوجنا عبده فنزلت هذه الآية ، قاله ابن زيد .
{ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ ورَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُّبِيناً } فيه قولان
: أحدهما : فقد جار جوراً مبيناً ، قاله ابن شجرة .
الثاني : فقد أخطأ خطأ طويلاً ، قاله السدي ومقاتل .


وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (37)

قوله تعالى : { وَإذْ تَقُولُ لِلَّذِيّ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ } قال قتادة والسدي وسفيان هو زيد بن حارثة وفيه وجهان :
أحدهما : أنعم الله عليه لمحبة رسوله وأنعم الرسول عليه بالتبني .
الثاني : أنعم الله عليه بالإسلام وأنعم عليه الرسول صلى الله عليه وسلم بالعتق .
{ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ } يعني زينب بنت جحش ، قاله الكلبي ، أتى النبي صلى الله عليه وسلم منزل زيد زائراً فأبصرها قائمة فأعجبته فقال : « سُبْحَانَ مُقَلّبَ القُلُوبِ » فلما سمعت زينب منه ذلك جلست قال أبو بكر بن زياد : وجاء زيد إلى قوله فذكرت له ذلك فعرف أنها وقعت في نفسه فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله ائذن لي في طلاقها فإن فيها كِبْراً وإنها لتؤذيني بلسانها فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم « اتَّقِ اللَّهَ وَأَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ » وفي قلبه صلى الله عليه وسلم غير ذلك .
{ وَتُخْفي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ } فيه أربعة أقاويل
: أحدها : أن الذي أخفاه في نفسه ميله إليها .
الثاني : إشارة لطلاقها ، قاله ابن جريج .
الثالث : أخفى في نفسه إن طلقها زيد تزوجها .
الرابع : أن الذي أخفاه في نفسه أن الله أعلمه أنها ستكون من أزواجه قبل أن يتزوجها ، قاله الحسن .
{ وَتَخْشى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ } فيه وجهان
: أحدهما : أن نبي الله خشي قالة الناس ، قاله قتادة .
الثاني : أنه خشي أن يبديه للناس فأيّد الله سره ، قاله مقاتل بن حيان .
قال الحسن : ما نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم آية أشد عليه منها .
وقال عمر بن الخطاب : لو كتم رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً من القرآن لكتم هذه الآية التي أظهرت غيبه .
{ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا } الوطر الأرب المنتهي وفيه هنا قولان
: أحدهما : أنه الحاجة ، قاله مقاتل .
الثاني : أنه الطلاق ، قاله قتادة .
قال يحيى بن سلام : فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد فقال له « ائْتِ زَينبَ فَأَخْبِرْهَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ زَوَّجْنِيهَا » فانطلق زيد فاستفتح الباب فقالت من هذا؟ فقال : زيد قالت : وما حاجة زيد إليّ وقد طلقني؟ فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلني إليك فقالت : مرحباً برسول الله صلى الله عليه وسلم ففتحت له فدخل عليها وهي تبكي فقال زيد : لا أبْكَى الله لَكِ عيناً قد كنت نعمت المرأة إن كنت لتبرين قسمي وتطيعين أمر الله وتشبعين مسرتي فقد أبدلك الله خيراً مني فقالت : من لا أبا لك؟ قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرت ساجدة لله تعالى قال الضحاك : فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يومئذ في عسرة فأصدقها قِرْبَةً وعَبَاءَةً ورحى اليد ووسادة حَشْوُهَا ليف وكانت الوليمة تمراً وسُوَيقاً . قال أنس فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل عليها بغير إذن . قال قتادة : فكانت تفخر على نساء النبي صلى الله عليه وسلم تقول أنتن زوجكن آباؤكن وأما أنا فزوجني ربُّ العرش تبارك وتعالى .

{ لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً } حكى ابن سلام أن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم زعمت أن حليلة الابن لا تحل للأب وقد تزوجت حليلة ابنك زيد فقال الله تعالى : { لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجلٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ } أي أن زيداً دعيٌّ وليس بابن من الصلب فلم يحرم نكاح زوجته .
{ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفعُولاً } أي كان تزويج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش حكماً لازماً وقضاء واجباً ، ومنه قول الشاعر :
حتى إذا نزلت عجاجة فتنة ... عمياء كان كتابها مفعولاً


مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38)

قوله تعالى : { مَّا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ } فيه ثلاثة أقاويل
: أحدها : فيما أحله الله له من تزويج زينب بنت جحش ، قاله مقاتل .
الثاني : التي وهبت نفسها للنبي إذ زوجها الله إياه بغير صداق ولكن النبي صلى الله عليه وسلم قد تطوع عليها وأعطاها الصداق ، قاله الحسن .
الثالث : في أن ينكح من شاء من النساء وإن حرم على أمته أكثر من أربع لأن اليهود عابوه بذلك ، قاله الضحاك .
قال الطبري : نكح رسول الله خمس عشرة ، ودخل بثلاثة عشرة ، ومات على تسع ، وكان يقسم لثمان .
{ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ } السنة الطريقة المعتادة أي ليس على الأنبياء حرج فيما أحل الله لهم كما أحل لداود مثل هذا في نكاح من شاء وفي المرأة التي نظر إليها وتزوجها ونكح مائة امرأة وأحل لسليمان ثلاثمائة امرأة وسبعمائة سُرّية .
{ وَكَانَ أَمُرُ اللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً } فيه وجهان
: أحدهما : فعلاً مفعولاً ، قاله الضحاك .
الثاني : قضاء مقضياً وهو قول الجمهور . وكانت زينب إذا أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم سفراً تصلح طعامه وهي أول من مات من أزواجه في خلافة عمر ضي الله عنه وهي أول امرأة حملت على نعش لأن عمر قال حين ماتت : واسوأتاه تحمل أم المؤمنين مكشوفة كما يحمل الرجال فقالت أسماء بنت عميس : يا أمير المؤمنين إني قد كنت شاهدت في بلاد الحبشة شيئاً فيه للمرأة صيانة ووصفته له فأمر بعمله فلما رآه قال : نِعم خباء الظعينة .


الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39) مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (40)

قوله تعالى : { مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ } يعني زيد بن حارثة فإن المشركين قالوا إن محمد تزوج امرأة ابنه فأكذبه الله بقوله { مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُم } أي لم يكن أباً لزيد .
{ وَلكِن رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّنَ } يعني آخرهم وينزل عيسى فيكون حكماً عدلاً وإماماً مقسطاً فيقتل الدجال ويكسر الصليب وقد روى نعيم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَخْرجُ دَجَّالُونَ كَذَّابُونَ قَرِيبٌ مِن ثَلاَثِينَ كُلُّهُم يَزْعَمُ أَنَّهُ نَبِيٌ وَلا نَبِيَّ بَعْدِي » قال مقاتل بن سليمان ولم يجعل محمداً أبا أحد من الرجال لأنه لو جعل له ابناً لجعله نبياً وليس بعده نبي قال الله { وَخَاتَمَ النَّبِيِّنَ } .


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا (44)

قوله تعالى : { اذْكُرُواْ اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً } فيه قولان
: أحدهما : ذاكروه بالقلب ذكراً مستديماً يؤدي إلى طاعته واجتناب معصيته .
الثاني : اذكروا الله باللسان ذكراً كثيراً ، قاله السدي . وروى مجاهد عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « مَن عَجَزَ عَنِ اللَّيْلِ أَن يُكَابِدَهُ ، وَجَبُنَ عَنِ العَدُوِّ أَن يُجَاهِدَهُ ، وَبَخِلَ بِالمَالِ أَن يُنفِقَهُ فَلْيَكْثِرْ ذِكْرَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلّ » وفي ذكره هنا وجهان :
أحدها : الدعاء له والرغبة إليه ، قاله ابن جبير .
الثاني : الإقرار له بالربوبية والاعتراف له بالعبودية .
قوله : { وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأصِيلاً } قال قتادة صلاة : الصبح والعصر ، قال الأخفش : والأصيل ما بين العصر والليل . وقال الكلبي : الأصيل صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء .
وفي التسبيح هنا ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه التسبيح الخاص الذي هو التنزيه .
الثاني : أنه الصلاة .
الثالث : أنه الدعاء ، قاله جرير .
فلا تنس تسبيح الضُّحى إن يونسا ... دعا ربه فانتاشه حين سبحا .
قوله تعالى : { هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُم وَمَلآئِكَتُهُ } فيه أربعة أقاويل
: أحدها : أنه ثناؤه ، قاله أبو العالية .
الثاني : كرامته ، قاله سفيان .
الثالث : رحمته ، قاله الحسن .
الرابع : مغفرته ، قاله ابن جبير .
وفي صلاة الملائكة قولان :
أحدهما أنه دعاؤهم ، قاله أبو العالية .
الثاني : استغفارهم ، قاله مقاتل بن حيان .
{ لِيُخْرِجَكُمْ مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ } فيه ثلاثة أقاويل
: أحدها : من الكفر إلى الإيمان ، قاله مقاتل .
الثاني : من الضلالة إلى الهدى ، قاله عبد الرحمن بن زيد .
الثالث : من النار إلى الجنة .


يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا (47) وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (48)

قوله تعالى : { يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشّراً وَنَذِيراً } قال ابن عباس شاهداً على أمتك ومبشراً بالجنة ونذيراً من النار .
قوله : { وَدَاعِياَ إلَى اللَّه بِإِذْنِهِ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : إلى شهادة أن لا إله إلا الله ، قاله ابن عباس .
الثاني : إلى طاعة الله ، قاله ابن عيسى .
الثالث : إلى الإسلام ، قاله النقاش .
وفي قوله : { بِإِذْنِهِ } ثلاثة أوجه :
أحدها : بأمره ، قاله ابن عباس .
الثاني : بعمله قاله الحسن .
الثالث : بالقرآن ، قاله يحيى بن سلام .
{ وَسِرَاجاً مُّنِيراً } فيه قولان
: أحدهما : أنه القرآن سراج منير أي مضيء لأنه يُهْتدى به ، قاله ابن عباس وقتادة .
الثاني : أنه الرسول كالسراج المنير في الهداية ، قاله ابن شجرة ، ومنه قول كعب بن زهير :
إن الرسول لنورُ يستضاءُ به ... مُهَنّدُ من سيوف الله مَسْلول
قوله : { وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّهُ لَهُم مِّنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً } فيه وجهان
: أحدهما : ثواباً عظيماً ، قاله الكلبي .
الثاني : أنه الجنة ، قاله قتادة والكلبي ، وسبب نزول هذه الآية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجع من الحديبية أنزل الله عليه { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً } [ الفتح : 1 ] الآيات فقال المسلمون هنيئاً لك يا رسول الله بما أعطاك الله فقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فما لنا يا رسول الله؟ فأنزل الله : { وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ } الآية .
قوله تعالى : { وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ } قال مقاتل يريد بالكافرين من أهل مكة أبا سفيان وعكرمة وأبا الأعور وبالمنافقين من أهل المدينة عبد الله ابن أُبي وعبد الله بن سعد وطعمة بن أبيرق اجتمعوا على رسول اله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا محمد اذكر أن لآلهتنا شفاعة .
فقال الله : { وَدَعْ أَذَاهُمْ } وفيه أوجه :
أحدها : دع ذكر آلهتهم أن لها شفاعة ، قاله مقاتل .
الثاني : كف عن أذاهم وقتالهم وهذا قبل أن يؤمر بالقتال ، قاله الكلبي .
الثالث : معناه اصبر على أذاهم ، قاله قتادة وقطرب .
الرابع : هو قولهم زيد بن محمد وما تكلموا به حين نكح زينب . قاله الضحاك .


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (49)

قوله تعالى : { إذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ . . . } الآية . أجمع أهل العلم أن الطلاق إن كان قبل المسيس والخلوة فلا عدة فيه وليس للمطلقة من المهر إلا نصفه إن كان لها مهر سُمِّي ولا رجعة للمطلق ولكنه كأحد الخطاب إن كان طلاقه دون الثلاث . وإن كان ثلاثاً حرمت عليه ولا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره . وقال عطاء وجابر بن زيد إذا طلق البكر ثلاثاً [ فهي ] طلقة واحدة وهو خلاف قول الجمهور .
وإن كان الطلاق بعد الخلوة وقبل المسيس ففي وجوب العدة وكمال المهر وثبوت الرجعة قولان :
أحدهما : وهو قول أبي حنيفة أن العدة قد وجبت والمهر قد كمل والرجعة قد ثبتت وأقام الخلوة مقام المسيس إلا أن يكونا في الخلوة مُحرمين أو صائمين أو أحدهما .
والقول الثاني : وهو مذهب الشافعي وهو المعول عليه من أقاويله إنه لا عدة ولا رجعة ولا تستحق من المهر إلا نصفه .
{ . . فَمَتِّعُوهُنَّ وسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً } معنى فمتعوهن أي متعة الطلاق بدلاً من الصداق لأن المطلقة قبل الدخول إذا كان لها صداق مسمى فليس لها متعة وإن لم يكن لها صداق مسمى فلها بدل نصف المسمى متعة تقول مقام المسمى تختلف باختلاف الإعسار والإيسار وقدرها حماد بنصف مهر المثل وقال أبو عبد الله الزيدي أعلاها خادم وأوسطها ثوب وأقلها ما له ثمن .
فأما المدخول بها ففي استحقاقها المتعة من الصداق قولان :
أحدهما ليس لها مع استكمال الصداق متعة .
الثاني : لها المتعة بالطلاق ولها الصداق بالنكاح .
وفي قوله : { وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً } وجهان :
أحدهما : أنه دفع المتعة حسب الميسرة والعسرة ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنه طلاقها طاهراً من غير جماع ، قاله قتادة .


يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (50)

قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاَّتِي ءَاتَيْتَ أُجُورَهُنَّ } يعني صداقهن وفيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أحل له لهذه الآية أزواجه الأول اللاتي كن معه قبل نزول هذه الآية قاله مجاهد . وأما إحلال غيرهن فلا لقوله { لاَّ يَحِلُّ لَكَ النِّسَآءُ مِنْ بَعُدْ } .
الثاني : أنه أحل له بهذه الآية سائر النساء ونسخ به قوله { لاَّ يَحِلُّ لَكَ النِّسَآءُ مِنْ بَعْدُ } .
الثالث : أنه أحل بها من سماه فيها من النساء دون من لم يسمعه من قوله .
{ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ } يعني الإماء
. { مِمَّا أَفَّآءَ اللَّهُ عَلَيْكَ } يعني من الغنيمة فكان من الإماء مارية أم ابنه إبراهيم . ومما أفاء الله عليه صفية وجويرية أعتقهما وتزوج بهما .
{ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وبَنَاتِ خَالاَتِكَ } قاله أُبي بن كعب ثم قال : { اللاَّتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ } فيه قولان :
أحدهما : يعني المسلمات .
الثاني : المهاجرات إلى المدينة . روى أبو صالح عن أم هانىء قالت : نزلت هذه الآية وأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوجني فنهي عني لأني لم أهاجر واختلف في الهجرة على قولين :
أحدهما : أنها شرط في إحلال النساء لرسول الله صلى الله عليه وسلم من غريبة وقريبة حتى لا يجوز أن ينكح إلا بمهاجرة .
الثاني : أنها شرط في إحلال بنات عمه عماته المذكورات في الآية . وليست شرطاً في إحلال الأجنبيات .
{ وامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إن وَهَبْتَ نَفْسَهَا للِنَّبِيِّ } اختلف أهل التأويل هل كان عند النبي صلى لله عليه وسلم امرأة وهبت نفسها على قولين :
أحدهما : لم تكن عنده امرأة وهبت نفسها له ، وهو قول ابن عباس ومجاهد وتأويل من قرأ إن وهبت بالكسر محمول على المستقبل .
الثاني : أنه كانت عنده امرأة وهبت نفسها ، وهو قول الجمهور وتأويل من قرأ بالفتح أنه في امرأة بعينها متى وهبت نفسها حل له أن ينكحها ، ومن قرأ بالكسر أنه في كل امرأة وهبت نفسها أنه يحل له أن ينحكها .
واختلف في التي وهبت نفسها له على أربعة أقاويل :
أحدها : أنها أم شريك بنت جابر بن ضباب ، وكانت امرأة صالحة ، قاله عروة بن الزبير .
الثاني : أنها خولة بنت حكيم ، وهذا قول عائشة رضي الله عنها .
الثالث : أنها ميمونة بنت الحارث ، قاله ابن عباس .
الرابع : أنا زينب بنت خزيمة أم المساكين امرأة من الأنصار . قاله الشعبي .
{ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونَِ الْمُؤْمِنِينَ } فيه ثلاثة أقاويل
: أحدها : أنها خالصة له إذا وهبت له نفسها أن ينكحها بغير أمر ولي ولا مهر .
وليس ذلك لأحد من المؤمنين ، قاله قتادة .
الثاني : أنها خالصة له إذا وهبت له نفسها أن لا يلزمه لها صداق وليس ذلك لغيره من المؤمنين ، قاله أنس بن مالك وسعيد بن المسيب .
الثالث : أنها خالصة له أن يملك عقد نكاحها بلفظ الهبة وليس ذلك لغيره من المؤمنين ، قاله الشافعي .
قوله عز وجل : { قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِم فِي أَزْوَاجِهِمْ } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : فرضنا ألا تتزوج امرأة إلا بولي وشاهدين .
الثاني : فرضنا ألا يتجاوز الرجل أربع نسوة ، وهذا قول مجاهد .
الثالث : فرضنا عليهم لهن النفقة عليهن والقسم بينهن . قاله بعض الفقهاء .
{ وَمَا مَلَكَتُ أَيْمَانُهُمْ } يعني أن يحللن له من غير عدد محصور ولا قسم مستحق { لِكَيلاَ يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ } فيه وجهان
: أحدهما : أنه راجع إلى قوله : { إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ } ؛ قال ابن عيسى .
الثاني : إلى قوله : { وَامْرَأةً مُّؤْمِنَةً إن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ } ويشبه أن يكون قول يحيى بن سلام .


تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا (51)

قوله عز وجل : { تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنهُنَّ وَتُئْوِي إِلَيْكَ مَن تَشَآءُ } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : تطلق من تشاء من نسائك وتمسك من تشاء منهن ، قاله ابن عباس .
الثاني : تترك نكاح من تشاء وتنكح من تشاء ، قاله الحسن .
الثالث : تعزل من شئت من أزواجك فلا تأتيها ، وتأتي من شئت من أزواجك فلا تعزلها ، قاله مجاهد . ويدل على أن القَسم في هذا التأويل كان ساقطاً عنه .
الرابع : تؤخر من تشاء من أزواجك ، وتضم إليك من تشاء منهن ، قاله قتادة . وروى منصور عن ابن رزين قال : بلغ بعض نسوة النبي صلى الله عليه وسلم أنه يريد أن يخلي سبيلهن ، فأتينه فقلن : لا تخل سبيلنا وأنت في حل فيما بيننا وبينك ، فأرجأ منهن نسوة وآوى نسوة فكان ممن أرجأ جويرية وميمونة وأم حبيبة وصفية وسودة . وكان يقسم بينهن من نفسه وماله ما تشاء ، وكان ممن آوى عائشة وحفصة وأم سلمة وزينب وكان قسمه في ماله ونفسه فيهن سواء .
{ وَمَنِ ابْتَغَيتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ } أي من ابتغيت فأويته إليك ممن عزلت أن تؤديه إليك .
{ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ } فيهن وجهان
: أحدهما : فلا جناح عليك في من ابتغيت ، وفي من عزلت . قاله يحيى بن سلام .
الثاني : فلا جناح في من عزلت أن تؤويه إليك ، قاله مجاهد .
{ ذَلِكَ أَدْنَى أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلاَ يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَآ ءَاتيتَهُنَّ كُلُهُنَّ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : إذا علمن أنه لا يطلقهن قرت أعينهن ولم يحزن .
الثاني : إذا علمن أنه لا يتزوج عليهن قرت أعينهن ولم يحزن . قاله قتادة .
الثالث : إذا علمن أن هذا من حكم الله تعالى فيهن قَرَّت أعينهن ولم يحزن . قاله قتادة .
الرابع : أنهن علمن أن له ردهن إلى فراشه إذا اعتزلهن قرَّت أعينهن ولم يحزن ، قاله مجاهد .


لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا (52)

قوله عز وجل : { لاَّ يَحِلُّ لَكَ النِّسَآءُ مِنْ بَعْدُ } فيه ثلاثة أقاويل
: أحدها : لا يحل لك نساء من بعد نسائك اللاتي خيرتهن فاخترن الله ورسوله والدار الآخرة . قال ابن عباس وقتادة . وهن التسع صار مقصوراً عليهن وممنوعاً من غيرهن .
الثاني : لا يحل لك النساء من بعد الذي أحللنا لك بقولنا { إِنَّآ أحْلَلْنَا لَكَ أَزَْوَاجَكَ اللاَّتِي ءَآتَيْتَ أُجُورَهُنَّ } إلى قوله { إن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ } الآية .
وكانت الإباحة بعد نسائه مقصورة على بنات عمه وبنات عماته وبنات خاله وبنات خالاته المهاجرات معه ، قاله أبي بن كعب .
الثالث : لا يحل لك النساء من غير المسلمات كاليهوديات والنصرانيات والمشركات ، ويحل ما سواهن من المسلمات ، قاله مجاهد .
{ وَلاَ أَن تَبَدَّلَ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنَهُنَّ } فيه ثلاثة أقوايل
: أحدها : ولا أن تبدل بالمسلمات مشركات ، قاله مجاهد .
الثاني : لا تطلق زوجاتك لتستبدل بهن من أعجبك حسنهن ، قاله الضحاك . وقيل التي أعجبه حسنها أسماء بنت عميس بعد قتل جعفر بن أبي طالب عنها .
الثالث : ولا أن تبدل بأزواجك زوجات غيرك فإن العرب كانوا في الجاهلية يتبادلون بأزواجهم فيعطي أحدهم زوجته لرجل ويأخذ بها منه زوجته بدلاً منها ، قاله ابن زيد .


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا (53) إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (54)

قوله عز وجل : { يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامُنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النَّبِيِّ إلاَّ أَن يُؤذَنَ لَكُمْ } سبب نزل هذه الآية ما رواه أبو نضرة عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بنساء من نسائه وعندهن رجال يتحدثون ، فكره ذلك وكان إذا كره الشىء عُرف من وجهه فلما كان العَشي خرج فصعد المنبر فتلا هذه الآية .
قوله عز وجل : { إِلَى طَعَامِ غَيْرَ نَاظِرينَ إِنَاهُ } فيه تأويلان :
أحدهما : غير منتظرين نضجه ، قاله الضحاك ومجاهد .
الثاني : غَيْرَ متوقعين لحينه ووقته ، قاله قتادة .
{ وَلكِن إذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُواْ } فدل هذا على حظر الدخول بغير إذن
. { فَإذَا طَعِمْتُمْ فآنتَشِرُواْ } أي فاخرجوا ، فدلّ على أن الدخول للأكل يمنع من المقام بعد الفراغ من الأكل .
{ وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ . . . } روى أبو قلابة عن أنس . قال : لما أهديت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم زينبُ بنت جحش وضع طعاماً ودعا قوماً فدخلوا وزينب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجعلوا يتحدثون وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج ثم يرجع وهم قعود فأنزل الله تعالى : { فَإذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُواْ } .
قوله عز وجل : { . . فَيَسْتَحْي مِنكُمْ } يعني النبي صلى الله عليه وسلم أن يخبركم .
{ وَاللَّهُ لاَ يَسْتَحْي مِنَ الْحَقِّ } أن يأمركم به
. { وَإذَا سَألْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : حاجة ، قاله السدي .
الثاني : صحف القرآن ، قاله الضحاك .
الثالث : عارية ، قاله مقاتل . ومعانيها متقاربة .
{ فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ } أمرن وسائر النساء بالحجاب عن أبصار الرجال وأمر الرجال بغض أبصارهم عن النساء .
وفي سبب الحجاب ثلاثة أقاويل :
أحدها ما رواه مجاهد عن عائشة رضي الله عنها قالت : كنت آكل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حيساً في قعب ، فمر عمر فدعاه فأكل فأصابت إصبعه إصبعي فقال عمر لو أُطَاعُ فيكن ما رأتكن عين ، فنزلت آيات الحجاب .
الثاني : ما رواه عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كن يخرجن بالليل إلى المباضع وهي صعيد أفيح يتبرزن فيه ، وكان عمر يقول للنبي صلى الله عليه وسلم : احجب نساءك يا رسول الله ، فلم يكن يفعل ، فخرجت سودة بنت زمعة ليلة من الليالي ، وكانت امرأة طويلة فناداها بصوته الأعلى : قد عرفناك يا سودة ، حرصاً أن ينزل الحجاب قالت : فأنزل الله تعالى الحجاب .
الثالث : ما روى ابن مسعود أن عمر رضي الله عنه أمر نساء النبي صلى الله عليه وسلم بالحجاب فقالت زينب بنت جحش : يا ابن الخطاب إنك لتغار علينا والوحي ينزل في بيوتنا ، فأنزلت الآية : { وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَآءِ حَجَابٍ } .
{ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُم وَقُلُوبِهنَّ } يحتمل وجهين
: أحدهما : أطهر لها من الريبة .
الثاني : أطهر لها من الشهوة .
{ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤُذُواْ رَسُولَ اللَّهِ وَلآَ أَن تَنكِحُواْ أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً } حكى السدي أن رجلاً من قريش من بني تميم قال عند نزول الحجاب أيحجبنا رسول الله عن بنات عمنا ويتزوج نساءَنا لئن حدث به حدث لنتزوجن نساءه من بعده ، فأنزلت هذه الآية . ولتحريمه تعديهن لزمت نفقاتهن من بيت المال .
واختلف أهل العلم في وجوب العدة عليهن بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهن على وجهين :
أحدهما : لا تجب عليهن العدة لأنها مدة تربص ينتظر بها الإباحة .
الثاني : تجب لأنها عبادة وإن لم تعقبها إباحة .


لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (55)

قوله عز وجل : { لاَّ جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِّي ءَابَآئِهِنَّ وَلآ أَبْنَآئِهِنَّ } فيه قولان
: أحدهما : لا جناح عليهن في ترك الحجاب . قاله قتادة .
الثاني : في وضع الجلباب ، قاله مجاهد .
{ وَلاَ إخْوَانِهِنَّ وَلآَ أَبْنَآءِ إخَوَانِهِنَّ وَلآ أَبْنَآءِ أَخَوَاتِهِنَّ } قال الشعبي لم يذكر العم لأنها تحل لابنه فيصفها له .
{ وَلاَ نِسَآئِهِنَّ } فيه وجهان
: أحدهما : يعني النساء المسلمات دون المشركات ، قاله مجاهد .
الثاني : أنه في جميع النساء .
{ وَلاَ مَا مَلََكَتْ أَيْمَانُهُنَّ } فيه قولان
: أحدهما : الإماء دون العبيد ، قاله سعيد بن المسيب .
الثاني : أنه عام في الإماء والعبيد . واختلف من قال بهذا فيما أبيح للعبد على قولين :
أحدهما : ما أبيح لذوي المحارم من الآباء والأبناء ما جاوز السرة وانحدر عن الركبة لأنها تحرم عليه كتحريمها عليهم .
الثاني : ما لا يواريه الدرع من ظاهر بدنها ، قاله إبراهيم . لأنه العبد وإن حرم في الحال فقد يستباح بالعتق في ثاني حال . وسبب نزول هذه الآية ما حكاه الكلبي أنه لما نزل في آية الحجاب { وَإذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مَن ورَآءِ حَجَابٍ } قام الآباء والأبناء وقالوا يا رسول الله نحن لا نكلمهن أيضاً إلا من وراء حجاب ، فنزلت هذه الآية .


إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56)

قوله عز وجل : { إنَّ اللَّهَ وَملاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ } فيه ثلاثة أقاويل
: أحدها : أن صلاة الله تعالى عليه ثناؤه عليه عند الملائكة ، وصلاة الملائكة الدعاء ، قاله أبو العالية .
الثاني : أن صلاة الله تعالى عليه المغفرة له ، وصلاة الملائكة الاستغفار له ، قاله سعيد بن جبير .
الثالث : أن صلاة الله تعالى عليه رحمته ، وصلاة الملائكة الدعاء له ، قاله الحسن ، وهو معنى قول عطاء بن أبي رباح .
الرابع : أن صلاتهم عليه أن يباركوا عليه؟ قاله ابن عباس .
{ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلَّمُواْ تَسْلِيماً } روى عبد الرحمن بن أبي ليلى قال : لقيني كعب بن عجرة فقال : ألا أهدي لك هدية سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قلت : بلى . قال : سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا : يا رسول الله قد عرفنا السلام عليك فكيف الصلاة عليك؟ فقال : « قُولُواْ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صلَيتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آل إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ . اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ
» . قال أبو العباس ثعلب : معنى قولنا اللهم صل على محمد أي زد محمداً بركة ورحمة ، ويجري فيه التأويلات المذكورة .
وقوله تعالى : { وَسَلِّمُواْ تَسْلِيماً } يحتمل وجهين :
أحدهما : سلموا لأمره بالطاعة له تسليماً .
الثاني : وسلموا عليه بالدعاء له تسليماً أي سلاماً .
حكى مقاتل قال : لما نزلت هذه الآية قال المسلمون فما لنا يا رسول الله؟ فنزلت { هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلآَئِكَتُهُ } الآية .


إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58)

قوله عز وجل : { إنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنيَا وَالآخِرَةِ } فيهم ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنهم أصحاب التصاوير؛ قاله عكرمة .
الثاني : أنهم الذين طعنوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اتخذ صفية بنت حيي بن أخطب ، قاله ابن عباس .
الثالث : أنهم قوم من المنافقين كانوا يكذبون على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويبهتونه قاله يحيى بن سلام .
وفي قوله : { يُؤْذُونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ } ثلاثة أوجه :
أحدها : معناه يؤذون أولياء الله .
الثاني : أنه جعل أذى رسوله صلى الله عليه وسلم أذى له تشريفاً لمنزلته .
الثالث : هو ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم : « يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ شَتَمَنِي ابْنُ آدَمَ وَمَا كَانَ يَنبَغِي لَهُ أَن يَشْتُمَنِي ، وَكَذَّبَنِي وَمَا كَانَ لَهُ أَن يُكَذِّبَنِي فَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّاي فَقَولُهُ إِنَّ لِيَ وَلَداً وَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ فَقَولُهُ إنِّي لاَ أَبْعَثُ بَعدَ المَوتِ أَحداً . وَلَعنُة الدُّنْيَا التَّقْتِيلُ وَالجَلاَءُ ، وَلَعْنَةُ الآخرَةِ النَّارُ
» . قوله تعالى : { وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } الآية . فيمن نزلت فيه هذه الآية ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها نزلت في الزناة وكانوا يمشون فيرون المرأة فيغمزونها؛ قاله الكلبي .
الثاني : نزلت في قوم كانوا يؤذون علياً رضي الله عنه ، ويكذبون عليه ، قاله مقاتل والنقاش .
الثالث : أنها نزلت فيمن تكلم في عائشة وصفوان بن المعطل بالإفك ، قاله الضحاك . وروى قتادة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأها ذات ليلة فأفزعه ذلك حتى انطلق إلى أبيّ فقال يا أبا المنذر إني قرأت كتاب الله فوقعت مني كل موقع . { وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤمِنِينَ وَالمُؤمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُواْ } والله إني لأعاقبهم وأضربهم ، فقال : إنك لست منهم ، إنما أنت مؤدب ، إنما أنت معلم .


يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (59) لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62)

قوله تعالى : { . . . يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبَهنَّ } فيه ثلاثة أقاويل
: أحدها : أن الجلباب الرداء ، قاله ابن مسعود والحسن .
الثاني : أنه القناع؛ قاله ابن جبير .
الثالث : أنه كل ثوب تلبسه المرأة فوق ثيابها ، قاله قطرب .
وفي إدناء جلابيبهن عليهن قولان :
أحدهما : أن تشده فوق رأسها وتلقيه فوق خمارها حتى لا ترى ثغرة نحرها ، قاله عكرمة .
الثاني : أن تغطي وجهها حتى لا تظهر إلا عينها اليسرى ، قاله عَبيدة السلماني .
{ ذَلِكَ أَدْنَى أن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ } فيه وجهان
: أحدهما : ليعرفن من الإماء بالحرية .
الثاني : يعرفن من المتبرجات بالصيانة . قال قتادة : كانت الأمة إذا مرت تناولها المنافقون بالأذى فنهى الله الحرائر أن يتشبهن بالإماء .
قوله : { لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } فيهم قولان :
أحدهما : أنهم الزناة ، قاله عكرمة والسدي .
الثاني : أصحاب الفواحش والقبائح ، قاله سلمة بن كهيل .
وفي قوله : { لَّئِن لَمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ } قولان :
أحدهما : عن إيذاء نساء المسلمين قاله الكلبي .
الثاني : عن إظهار ما في قلوبهم من النفاق ، قاله الحسن وقتادة .
{ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ } فيهم ثلاثة أقاويل
: أحدها : أنهم الذين يكاثرون النساء ويتعرضون لهن ، قاله السدي .
الثاني : أنهم الذين يذكرون من الأخبار ما يضعف به قلوب المؤمنين وتقوى به قلوب المشركين قاله قتادة .
الثالث : أن الإرجاف التماس الفتنة ، قاله ابن عباس ، وسيت الأراجيف لاضطراب الأصواب بها وإفاضة الناس فيها .
{ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ } فيه ثلاثة تأويلات
: أحدها : معناه لنسلطنك عليهم ، قاله ابن عباس .
الثاني : لنعلمنك بهم ، قاله السدي .
الثالث : لنحملنك على مؤاخذتهم ، وهو معنى قول قتادة .
{ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إلاَّ قَلِيلاً } قيل بالنفي عنها ، وقيل الذي استثناه ما بين قوله لهم اخرجوا وبين خروجهم .
قوله : { سُنَّةُ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : يعني سنته فيهم أن من أظهر الشرك قتل ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : سنته فيهم أن من زَنَى حُد ، وهو معنى قول السدي .
الثالث : سنته فيهم أن من أظهر النفاق أبعد ، قاله قتادة .
{ ولَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً } فيه وجهان
: أحدهما : يعني تحويلاً وتغييراً ، حكاه النقاش .
الثاني : يعني أن من قتل بحق فلا دية له على قاتله ، قاله السدي .


يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (63) إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (68)

قوله : { . . . إنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرآءَنَا } في السادة هنا ثلاثة أقاويل
: أحدها : أنهم الرؤساء .
الثاني : أنهم الأمراء ، قاله أبو أسامة .
الثالث : الأشراف ، قاله طاوس .
وفي الكبراء هنا قولان :
أحدهما : أنهم العلماء ، قاله طاووس .
الثاني : ذوو الأسنان ، وهو مأثور .
{ فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاَ } يعني طريق الإيمان
. وفي قوله الرسولا والسبيلا وجهان :
أحدهما : لأنها مخاطبة يجوز مثل ذلك فيها عند العرب ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : أن الألف للفواصل في رؤوس الآي ، قاله ابن عيسى ، وقيل إن هذه الآية نزلت في اثني عشر رجلاً من قريش هم المطعمون يوم بدر .
قوله : { رَبَّنَا ءَاتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ } فيه وجهان :
أحدهما : أي عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ، قاله قتادة .
الثاني : عذاب الكفر وعذاب الإضلال .
{ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً } بالباء قراءة عاصم يعني عظيماً وقرأ الباقون بالتاء يعني اللعن على اللعن .


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69)

قوله : { يَأَيُّها الَّذِينَ ءَامُنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ أَذَواْ مُوسَى } معناه لا تؤذوا محمداً فتكونوا كالذين آذواْ موسى .
وفيما آذوا به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم قولان :
أحدهما : قولهم زيد بن محمد ، حكاه النقاش .
الثاني : أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم قسماً فقال رجل من الأنصار إن هذه القسمة ما أُريد بها وجه الله فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فغضب وقال : « رَحِمَ اللَّهُ مُوسَى قَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هذا فَصَبِرَ » قاله أبو وائل .
وفيما أوذي به موسى عليه السلام ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن رَمَوهُ بالسحر والجنون .
الثاني : ما رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إنَّ مُوسَى كَانَ رَجُلاً حَيِيّاً سَتِيراً لاَ يَكَادُ يُرَى مِن جَسَدِهِ شَيءٌ يَسْتَحَيا مِنُه فآذَاهُ مَن آذَاهُ مِن بَنِي إسْرَائِيلَ وَقَالُواْ مَا يَسْتَتِرُ إلاَّ مِن عَيبٍ بِجِلْدِهِ أَوْ جِسْمِهِ ، إمَّا مِن بَرَصٍ وَإمَّا آدَرٌ أَوْ بِهِ آفَةٌ وَإنَّ اللَّهَ أَرَادَ أَنْ يُبْرِئَهُ مِمَّا قَالُواْ وَإنَّ مُوسَى خَلاَ يَوماً وَحْدَهُ فَوَضَعَ ثِيَابَهُ عَلَى حَجَرٍ ثُمَّ اغْتَسَلَ ، فَلَمَّا فَرَغَ أَقْبَلَ إلَى ثَوبِهِ لِيَأْخُذَهُ وَإنَّ الْحَجَرَ عَدَا بثيَابِهِ فَطَلَبَهُ مُوسَى فَانتَهَى إلَى مَلإٍ مِن بَنِي إسْرَائِيلَ فَرأَوهُ عُرْيَاناً كَأَحْسَنِ الرِّجالِ خَلْقاً فَبَرَّأَهُ اللَّه مِمَّا قَالُواْ
» . الثالث : ما رواه ابن عباس عن علي رضي الله عنه أن موسى صعد وهارون الجبل فمات هارون فقال بنو إسرائيل أنت قتلته وكان ألين لنا منك وأشد حباً فآذوه بذلك فأمر الله الملائكة فحملته فمروا به على مجلس بني إسرائيل فتكلمت الملائكة بموته ثم دفنته فما عرف موضع قبره إلا الرخم وأن الله جعله أصم أبكم ومات هارون قبل موسى في التيه ومات موسى قبل انقضاء مدة التيه بشهرين .
{ وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهاً } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : أنه المقبول ، قاله ابن زيد .
الوجه الثاني : لأنه مستجاب الدعوة قاله الحسن .
الثالث : لأنه ما سأل الله شيئاً إلا أعطاه إلى النظر ، قاله ابن سنان . قاله قطرب : والوجيه مشتق من الوجه لأنه أرفع الجسد .


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)

قوله : { َوَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً } فيه ستة تأويلات
: أحدها : عدلاً ، قاله السدي .
الثاني : صدقاً ، قاله قتادة .
الثالث : صواباً ، قاله ابن عيسى .
الرابع : هو قول لا إله إلا الله ، قاله عكرمة .
الخامس : هو الذي يوافق ظاهره باطنه .
السادس : أنه ما أريد به وجه الله دون غيره .
ويحتمل سابعاً : أن يكون الإصلاح بين المتشاجرين وهو مأخوذ من تسديد السهم ليصاب به الغرض .
{ يُصْلِحُ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ } فيه وجهان
: أحدهما : يصلحها بالقبول .
الثاني : بالتوفيق .


إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (73)

قوله : { إنَّا عرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَواتِ وَالأَرْضِ وَالِجبَالِ } فيها خمسة أقاويل :
أحدها : أن هذه الأمانة هي ما أمر الله سبحانه من طاعته ونهى عن معصيته ، قاله أبو العالية .
الثاني : أنها القوانين والأحكام التي أوجبها الله على العباد وهو قريب من الأول ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، والحسن ، وابن جبير .
الثالث : هي ائتمان الرجال والنساء على الفروج ، قاله أبي . وقيل إن أول ما خلق الله من آدم الفرج فقال : « يَا آدَمُ هَذِهِ أَمَانَةٌ خَبَّأْتُهَا عِندَكَ فلاَ تَلبِسْها إِلاَّ بِحَقٍ فإن حَفِظْتَهَا حَفِظْتُكَ
» . الرابع : أنها الأمانات التي يأتمن الناس بعضهم بعضاً عليها وأولها ائتمان آدم ابنه قابيل على أهله ، وولده حين أراد التوجه إلى أمر ربه فخان قابيل الأمانة في قتل أخيه هابيل ، قاله السدي .
الخامس : أن هذه الأمانة هي ما أودعه الله في السموات والأرض والجبال والخلق من الدلائل على ربوبيته أن يظهرونها فأظهروها إلا الإنسان فإنه كتمها وجحدها قاله بعض المتكلمين .
وفي عرض هذه الأمانة ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن عرضها هو الأمر بما يجب من حفظها وعظم المأثم في تضييعها . قاله بعض المتكلمين .
الثاني : الأمانة عورضت بالسموات والأرض والجبال فكانت أثقل منها لتغليظ حكمها فلم تستقل بها وضعفت عن حملها ، قاله ابن بحر .
الثالث : أن الله عرض حملها ليكون الدخول فيها بعد العلم بها .
واختلف قائلو هذا على وجهين :
أحدهما : أنها عرضت على السموات والأرض والجبال ، قاله ابن عباس ، ومجاهد .
الثاني : أنها عرضت على أهل السموات وأهل الأرض وأهل الجبال من الملائكة قاله الحسن .
{ فَأَبَينَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأشْفَقْنَ مِنْهَا } يحتمل وجهين
: أحدهما : أَبَينَ أن يحملنها عجزاً وأشفقن منها خوفاً .
الثاني : أبين أن يحملنها حذراً وأَشْفَقْنَ منها تقصيراً .
{ وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ } فيه قولان
: أحدهما : جميع الناس ، قاله ثعلب .
الثاني : أنه آدم ثم انتقلت منه إلى ولده ، قاله الحسن . روي عن معمر عن الحسن أن الأمانة لما عرضت على السموات والأرض والجبال قالت : وما فيها؟ قيل لها : إن أحسنت جزيت وإن أسأت عوقبت فقالت : لا . قال مجاهد : فلما خلق الله آدم عرضها عليه قال : وما هي؟ قال : { إن أَحْسَنْتَ آجَرْتُكَ وَإنْ أَسَأْتَ عَذَّبْتُكَ } قال تحملتها يا رب . قال مجاهد : فما كان بين أن تحملها إلى أن خرج من الجنة إلا قدر ما بين الظهر والعصر .
{ إنَّهُ كَنَ ظَلُوماً جَهُولاً } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : ظلوماً لنفسه ، جهولاً بربه ، قاله الحسن .
الثاني : ظلوماً في خطيئته ، جهولاً فيما حَمَّلَ ولده من بعده ، قاله الضحاك .
الثالث : ظلوماً لحقها ، قاله قتادة . جهولاً بعاقبة أمره ، قاله ابن جريج .
قوله : { لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ } فيه قولان :
أحدهما : أنه يعذبهم بالشرك والنفاق وهو معنى قول مقاتل .
الثاني : بخيانتهما الأمانة . قال الحسن : هما اللذان ظلماها ، واللذان خاناها : المنافق ، والمشرك .
{ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } أي يتجاوز عنه بأداء الأمانة والوفاء بالميثاق .
{ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً } لمن تاب من شِرْكه { رَحِيماً } بالهداية إلى طاعتهK والله أعلم .


الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2)

قوله عز وجل : { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّموَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ } فيه وجهان :
أحدهما : الذي خلق ما في السموات وما في الأرض .
الثاني : الذي يملك ما في السموات وما في الأرض .
{ ولَهُ الْحَمْدُ فِي الآخرَةِ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : هو حمد أهل الجنة من غير تَكْلِفٍ فسرورهم بحمده كقولهم : الحمد لله الذي صدقنا وعْدَه ، الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن ، قاله ابن عيسى .
الثاني : يعني أن له الحمد في السموات وفي الأرضين لأنه خلق السموات قبل الأرضين فصارت هي الأولى ، والأرضون هي الآخرة ، حكاه النقاش .
الثالث : له الحمد في الآخرة على الثواب والعقاب لأنه عَدْل منه ، قاله بعض المتأخرين .
{ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ } يعني الحكيم في أمره ، الخبير بخلقه
. قوله عز وجل : { يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وََمَا يَخْرُجُ مِنهَا } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : ما يلج في الأرض المطر ، وما يخرج منها النبات ، قاله الضحاك .
الثاني : ما يلج فيها الأموات ، قاله الكلبي ، وما يخرج منها كنوز الذهب والفضة ، والمعادن ، حكاه النقاش .
الثالث : ما يلج فيها : البذور ، وما يخرج منها : الزروع .
{ وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَآءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : الملائكة تنزل من السماء وتعرج فيها ، قاله السدي .
الثاني : وما ينزل من السماء : القضاء ، وما يعرج فيها : العمل ، وهو محتمل .
الثالث : ما ينزل من السماء : المطر ، قاله الضحاك ، وما يعرج فيها : الدعاء . وهو محتمل .


وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6)

قوله عز وجل : { وَالَّذِينَ سَعَواْ فِي ءَايَاتِنَا } فيه وجهان
: أحدهما : أن سعيهم فيها بالجحود لها ، قاله الضحاك .
الثاني : بالتكذيب بها .
{ مُعَاِجِزِينَ } وقرىء . { مُعْجِزِينَ } وفي تأويل معاجزين أربعة أوجه
: أحدها : مسابقين ، قاله قتادة .
الثاني : مجاهدين ، قاله ابن زيد .
الثالث : مراغمين مشاقين ، وهو معنى قول ابن عباس وعكرمة .
الرابع : أي لا يعجزونني هرباً ولا يفوتونني طلباً ، وهو معنى قول الكلبي . وفي تأويل معجزين ثلاثة أوجه :
أحدها : مثبطين الناس عن اتباع الرسول ، قاله مجاهد .
الثاني : مضعّفين لله أن يقدر عليهم ، قاله بعض المتأخرين .
الثالث : معجزين من آمن وصَدَّقَ بالبعث بإضافة العجز إليه .
ويحتمل رابعاً : أنهم نسبوا المؤمنين إلى العجز عن الانتصار لدينهم إما بضعف الحجة وإما بقلة القوة .
{ أُوْلئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٍ } قال قتادة : الرجز هو العذاب الأليم
. قوله عز وجل : { وَيَرَى الَّذينَ أوتُواْ الْعِلْمَ } فيهم قولان :
أحدهما : أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم .
الثاني : أنهم المؤمنون من أهل الكتاب ، قاله الضحاك .
{ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ } قال الحسن هو القرآن كله حق
. { وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } فيه قولان
: أحدهما : يهدي إلى دين الله وهو الإسلام ، رواه النواس بن سمعان الأنصاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
الثاني : إلى طاعة الله وسبيل مرضاته .


وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ (8) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9)

قوله عز وجل : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ } يعني بالبعث
. { هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ } يعني محمداً صلى الله عليه وسلم
. { يُنَبِّئُكُمْ إذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ } أي يخبركم أنكم إذا متم فأكلتكم الأرض أو الطير حتى صرتم عظاماً ورفاتاً .
{ إنَكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ } أي تحشرون وتبعثون . قيل إن أبا سفيان ابن حرب قال هذا لأهل مكة ، فأجاب بعضهم بعضاً .
{ أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَم بِهِ جِنَّةٌ } أي قائل هذا أن يكون كذاباً أو مجنوناً فرد الله تعالى عليهم قولهم هذا بأن قال :
{ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالأَخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلاَلِ الْبَعِيدِ } العذاب في الآخرة ، والضلال البعيد في الدنيا . وفيه وجهان :
أحدهما : أنه البعيد من الهدى ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : أنه الشقاء الطويل ، قاله السدي .
قوله عز وجل : { أَفَلَمْ يَرَوْاْ إلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُم مِّنَ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ } فيه وجهان :
أحدهما : معناه ألم ينظروا إلى السماء والأرض كيف أحاطت بهم؟ لأنك إن نظرت عن يمينك أو شمالك ، أو بين يديك أو خلفك رأيت السماء والأرض ، قاله قتادة ، إذكاراً لهم بقدرة الله تعالى عليهم وإحاطتها بهم ، لأنهم ، لا يرون لأوليتهما ابتداء ولا لآخرتهما انتهاء ، وإن بعدوا شرقاً وغرباً .
الثاني : يعني { مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ } فمن أهلكهم الله تعالى من الأمم الماضية في أرضه { وَمَا خَلْفَهُم } من أمر الآخرة في سمائه ، قاله أبو صالح .
{ إن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأَرْضَ } يعني كما خسفنا بمن كان قبلهم
. { أَوْ نُسْقِطْ عَلَيهِمْ كِسَفاً مِّنَ السَّمَآءِ } فيه وجهان
: أحدهما : أن الكسف العذاب قاله السدي .
الثاني : قطعاً من السماء ليعلموا أنه قادر على أن يعذب بسمائه إن شاء ويعذب بأرضه إن شاء ، وكل خلقه له جند ، قاله قتادة .
{ إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ } فيه أربعة تأويلات
: أحدها : أنه المجيب ، قاله مجاهد وعطاء .
الثاني : أنه المقبل بتوبته ، قاله قتادة ، قال الشاعر :
أناب إلى قولي فأصبحت مرصداً ... له بالمكافأة المنيبة والشكر
الثالث : أنه المستقيم إلى ربه ، وهو قول الضحاك
. الرابع : أنه المخلص للتوحيد ، حكاه النقاش .


وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11)

قوله تعالى : { وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً } فيه سبعة أقاويل
: أحدها : النبوة .
الثاني : الزبور .
الثالث : فصل القضاء بالعدل .
الرابع : الفطنة والذكاء .
الخامس : رحمة الضعفاء .
السادس : حسن الصوت .
السابع : تسخير الجبال له والطير .
{ يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ } فيه ثلاثة تأويلات
: أحدها : سبحي معه ، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة .
الثاني : سيرى معه قاله الحسن وهو من السير ما كان في النهار كله أو في الليل كله ، وقيل : بل هو سير النهار كله دون الليل .
الثالث : ارجعي إذا رجع ، قال الشاعر :
يومان يوم مقاماتٍ وأنديةٍ ... ويوم سير إلى الأعداء تأويب .
أي رجوع بعد رجوع
. { وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ } قال قتادة كان يعمل به كما يعمل بالطين لا يدخله النار ولا يضربه بمطرقة .
ويحتمل وجهاً آخر أنه سهل له الحديد أن يعمل منه ما شاء وإن كان على جوهره وطبعه من قولهم قد لان لك فلان إذا تسهل عليك .
قوله عز وجل : { أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ } أي درعاً تامة ، ومنه إسباغ النعمة إتمامها ، قال الشاعر :
وأكثرهم دروعاً سابغات ... وأمضاهم إذا طعنوا سنانا
{ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ } فيه قولان
: أحدهما : عدِّل المسامير في الحلقة لا تصغر المسمار وتعظم الحلقة فيسلس ، ولا تعظم المسمار وتصغر الحلقة فتنفصم الحلقة ، قاله مجاهد .
الثاني : لا تجعل حلقه واسعة فلا تقي صاحبها ، قال قتادة : وكان داود أول من عملها ، وكان قبل ذلك صفائح .
وفي { السَّرْدِ } قولان :
أحدهما : أنه النقب الذي في حلق الدرع ، قاله ابن عباس ، قال لبيد :
وما نسجت أسراد داود وابنه ... مضاعفة من نسجه إذ يقاتل
الثاني : أنه المسامير التي في حلق الدرع ، قاله قتادة ، مأخوذ من قولهم : سرد الكلام يسرده إذا تابع بينه ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : في الأشهر الحرم ثلاثة سردٌ وواحد فرد . وقال الهذلي :
وعليهما مسرودتان قضاهما ... داود أو صنع السوابغ تبّع
وحكى ضمرة بن شوذب أن داود عليه السلام كان يرفع كل يوم درعاً فيبيعها بستة آلآف درهم ، ألفان لأهله ، وأربعة آلاف يطعم بها بني إسرائيل خبز الحواري .
وحكى يحيى بن سلام والفراء أن لقمان حضر داود عند أول درع عملها فجعل يتفكر فيما يريد به ولا يدري ما يريد ، فلم يسله حتى إذا فرغ منها داود قام فلبسها وقال : نعمت جنة الحرب هذه ، فقال لقمان : الصمت حكمة وقليل فاعله .
{ وَاعْمَلُواْ صَالِحاً } فيه وجهان
: أحدهما : هو قول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ، قاله ابن عباس .
الثاني : فعل جميع الطاعات .
{ إنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } أي يعلم ما تعملون من خير أو شر .


وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13)

قوله عز وجل : { وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ } أي وسخرنا لسليمان الريح
. { غُدُوَّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ } قال قتادة : تغدو مسيرة شهر إلى نصف النهار فهي تسير في اليوم الواحد مسيرة شهرين .
وقال الحسن : كان يغدو من دمشق فيقبل بإصطخر وبينهما مسيرة شهر للمسرع ويروح فيبيت بكابل وبينهما مسيرة شهر للمسرع .
{ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ } قال قتادة هي عين بأرض اليمن ، قال السدي : سيلت له ثلاثة أيام ، قال عكرمة : سال له القطر ثلاثة أيام من صنعاء اليمن كما يسيل الماء .
وقال الضحاك : هي عين بالشام .
وفي القطر قولان :
أحدهما : أنه النحاس ، قاله ابن عباس وقتادة والسدي .
الثاني : الصَّفر ، قاله مجاهد وعطاء وابن زيد .
{ وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ } يعني أن منهم من سخره الله تعالى للعمل بين يديه ، فدل على أن منهم غير مسخر .
{ بِإِذْنِ رَبِّهِ } أي بأمر ربه
. { وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا } فيه قولان
: أحدهما : يعني عن طاعة الله تعالى وعبادته ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : عما يأمره سليمان ، قاله قتادة : لأن أمر سليمان كان كأمر الله تعالى لكونه نبياً من أنبيائه .
{ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ السَّعِيرِ } أي النار المسعرة وفيه قولان
: أحدهما : نذيقه ذلك في الآخرة ، قاله الضحاك .
الثاني : في الدنيا ، قاله يحيى بن سلام . لأنه لم يكن يسخر منهم إلا الكفار فإذا آمنوا أرسلوا ، قال وكان مع المسخرين منهم ملك بيده سوط من عذاب السعير فإذا خالف سليمان ضربه الملك بذلك السوط .
قوله عز وجل : { يَعْمَلَونَ لَهُ مَا يَشَآءُ مِن مَّحَارِيبَ } فيها ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها قصور ، قاله عطية .
الثاني : المساجد ، قاله قتادة ، والحسن .
الثالث : المساكن ، قاله ابن زيد .
قال أبو عبيدة : محراب الدار أشرف موضع فيها ، ولا يكون إلا أن يرتقى إليه .
{ وَتَمَاثِيلَ } هي الصور ، قال الحسن ولم تكن يومئذ محرمة ، وفيها قولان
: أحدهما : أنها من نحاس ، قاله مجاهد .
الثاني : من رخام وشبَه ، قاله قتادة .
ثم فيها قولان :
أحدهما : أنها كانت طواويس وعقاباً ونسوراً على كرسيه ودرجات سريره لكي يهاب من شاهدها أن يتقدم ، قاله الضحاك .
الثاني : صور الأنبياء الذين قبله ، قاله الفراء .
{ وِجِفَانٍ } قال مجاهد : صحاف
. { كَالْجَوَابِ } فيه ثلاثة أقاويل
: أحدها : كالحياض ، قاله الحسن .
الثاني : كالجوبة من الأرض ، قاله مجاهد .
الثالث : كالحائط ، قاله السدي .
{ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ } فيه ثلاثة تأويلات
: أحدها : عظام ، قاله مجاهد .
الثاني : أن أثافيها منها ، قاله ابن عباس .
الثالث : ثابتات لا يزلن عن أماكنهن ، قاله قتادة ، مأخوذ من الجبال الرواسي لثبوتها وثبوت الأرض بها . قال ابن جريج : ذكر لنا أن تلك القدور باليمن أبقاها الله تعالى آية وعبرة .
{ اعْمَلُواْ ءَال دَاوُدَ شُكْراً } فيه ستة تأويلات
: أحدها : أنه توحيد الله تعالى ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : تقوى الله والعمل بطاعته ، قاله محمد بن كعب .
الثالث : صوم النهار وقيام الليل ، قاله ابن أبي زياد ، فليس ساعة من نهار إلا وفيها من آل داود صائم ولا ساعة من الليل إلا وفيها من آل داود قائم .

الرابع : اعملوا من الأعمال ما تستوجبون عليه الشكر ، قاله ابن عطاء .
الخامس : اذكروا أهل البلاء وسلوا ربكم العافية .
السادس : ما حكاه الفضيل أنه لما قال الله تعالى : { اعْمَلُواْ ءَالَ دَاوُدَ شُكْراً } فقال داود إِلهي كيف أشكرك والشكر نعمة منك؟ قاله : « الآنَ شَكَرْتِنِي حِينَ عَلمْتَ أَنَّ النِّعَمَ مِنِّي
» . { وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ } فيه ثلاثة تأويلات
: أحدها : المؤمن ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : الموحّد ، وهو معنى قول ابن عباس .
الثالث : المطيع ، وهو مقتضى قول محمد بن كعب .
الرابع : ذاكر نعمه ، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية ثم قال : « ثَلاَثَةٌ مَنْ أُوتِيَهُنَّ فَقَدْ أُتُي مِثْلُ مَا أوتِيَ ءَالُ دَاوُد : العَدْلُ فِي الغَضَبِ وَالرِّضَا ، والقَصدُ فِي الفَقْرِ وَالغِنَى ، وَخَشَيَةُ اللَّهِ فِي السِّرِ وَالعَلاَنِيَةِ
» . وفي الفرق بين الشاكر والشكور ثلاثة أوجه
: أحدها : أن الشاكر من لم يتكرر شكره والشكور من تكرر شكره .
الثاني : أن الشاكر على النعم والشكور على البلوى .
الثالث : أن الشاكر خوفه أغلب والشكور رجاؤه أغلب .


فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14)

قوله عز وجل : { فََلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ . . } الآية . روى عطاء بن السائب . عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إنَّ سُلَيْمَانَ نَبِيُّ اللَّهِ عَلَيهِ السَّلاَمُ كَانَ لاَ يُصَلِّي صَلاَةً إلاَّ وَجَدَ شََجَرَةً ثَّابِتَةً بَيْنَ يَدَيهِ فَيقُولُ لَهَا : مَا اسْمُكِ؟ فَتَقُولُ : كَذَا كَذَا ، فَيقُولُ لَمَا أَنتِ؟ فَتَقُولُ لِكَذَا وَكَذَا ، فَصَلَّى يَوماً فَإِذَا شَجَرةٌ ثَابِتَةٌ بَيْنَ يَدَيهِ فَقَالَ لَهَا مَا اسْمُكِ؟ فَقَالَتْ : الخَرُّوبُ فَقَالَ : لِمَ أَنتَ؟ فَقَالَتْ لِخَرَابِ هذَا البَيْتِ . فَقَالَ سُلَيمَانُ اللَّهُمَّ أَغُمَّ عَلَى الجِنِّ مَوتي حَتَّى يَعْلَمُ الإنسُ أَنَّ الجِنَّ كَانُوا لاَ يَعْلَمُونَ الغَيبَ قَالَ فَهَيَّأََ عَصاً ثُمَّ تَوَكَّأَ عَلَيهَا حَولاً وَهُم لا َ يَعلَمُونَ ، قَالَ ثُمَّ أَكَلَتْهَا الأَرَضَةُ فَسَقَطَ فَعَلِمُواْ عِندَ ذَلِكَ مَوتَهُ فَشَكَرَتِ الجِنُّة ذلِكَ لِلأَرضَةِ فَإنَّمَا كَانُوا يَأْتُونَهَا بِالمَاءِ » قال السدي : والطين ، ألم تر إلى الطين الذي يكون في جوف الخشب فإنما هو مما تأتيها به الشياطين شكراً : قال وقدروا مقدار أكلها العصا فكان مقدار سنة .
وفي { دَابَّةُ الأَرْضِ } قولان :
أحدهما : الأرضة ، قاله ابن عباس ومجاهد ، وقد قرىء دابة الأرض بفتح الراء وهو واحد الأرضة .
الثاني : أنها دابة تأكل العيدان يقال لها القادح ، قاله ابن زيد .
والمنسأة العصا ، قال الشاعر :
إذا دببت على المنسأة من هرم ... فقد تباعد عنك اللهو والغزل
وأصلها مأخوذ من نسأت الغنم إذا سقتها ، وقال السدي هي العصا بلسان الحبشة .
وفي دلالتها للجنة على موته قولان :
أحدها : وهو المشهور المرفوع عن النبي صلى الله عليه وسلم أن سليمان وقف في محرابه يصلي متوكئاً على عصاه فمات وبقي على حاله قائماً على عصاه سنة والجن لا تعلم بموته ، وقد كان سأل الله أن لا يعلموا بموته حتى مضى عليه سنة .
واختلف في سبب سؤاله لذلك على قولين :
أحدهما : لأن الجن كانوا يذكرون للإنس أنهم يعلمون الغيب ، فسأل الله تعالى ذلك ليعلم الإنس أن الجن لا يعلمون الغيب ، وهذا مأثور .
الثاني : لأن داود عليه السلام كان أسس بيت المقدس ثم مات فبناه سليمان بعده وسخر الجن في عمله ، وقد كان بقي من إتمامه بعد موته بناء سنة فسأل الله تعالى ألا يعلم الجن بموته حتى يتموا البناء فأتموه .
ثم دلتهم دابة الأرض في أكل منسأته على موته بعد سنة من موته لأنه سقط عنها حين أكلتها الأرضة فعلمت الجن أنه قد مات .
والقول الثاني : ما حكاه ابن عباس أن الله تعالى ما قبض نبيه سليمان إلا على فراشه وكان الباب في وجهه مغلقاً على عادته في عبادته فلما كان بعد سنة أكلت الأرضة العتبة فخر الباب ساقطاً فتبينت الجن ذلك . قال : وكان سليمان يعتمد على العتبة إذا جلس .

{ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الجِنُّ } والشياطين ومن كانوا مسخرين في العمل
. { أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثواْ فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ } .
الثاني : تبينت الإنس أن الجن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين سنة . وروى سفيان عن عمر وعن ابن عباس أنه كان يقرأ التلاوة : { فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الإنسُ أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الْغَيبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ سَنَةً } .
الثالث : أن الجن دخلت عليهم شبهة توهموا بها أنهم يعلمون الغيب لما خر تبينوا أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين .
وحكي أن سليمان عليه السلام ابتدأ بناء بيت المقدس في السنة الرابعة من ملكه واستكمل بناءه في السنة الحادية عشرة من ملكه وقرب بعد فراغه منه اثني عشر ألف ثور ومائة وعشرين ألف شاة ، واتخذ اليوم الذي فرغ من بنائه عيداً ، وقام على الصخرة رافعاً يديه إلى الله تعالى بالدعاء فقال اللهم أنت وهبت لي هذا السلطان وقويتني على بناء هذا المسجد فأوزعني [ أن ] أشكرك على ما أنعمت علي ، وتوفني على ملتك ، ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني ، اللهم إني اسألك لمن دخل هذا المسجد خمس خصال : لا يدخله مذنب دخل للتوبة إلا غفرت له وتبت عليه ، ولا خائف إلا أمنته ، ولا سقيم إلا شفيته ، ولا فقير إلا أغنيته ، والخامس ألا تصرف نظرك عمن دخله حتى يخرج منه ، إلا من أراد إلحاداً أو ظلماً يا رب العالمين .


لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17)

قوله عز وجل : { لَقَدْ كَانَ لِسَبَإِ فِي مَسْكَنِهِمْ } الآية . وقد ذكرنا اختلاف الناس في سبإ على قولين :
أحدهما : أنه اسم أرض باليمن يقال لها مأرب ، قاله سفيان .
الثاني : اسم قبيلة .
واختلف من قال بهذا هل هو اسم امرأة أو رجل على قولين .
أحدهما : أنه اسم امرأة نسبت القبيلة إليها لأنها أمهم .
الثاني : أنه رجل . روي أن فروة الغطيفي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سبأ ما هو؟ أبلد أم رجل أم امرأة؟ فقال : « بَلْ رَجُلٍ وَلَدَ عَشْرَةً ، فَسَكَنَ اليَمَنَ مِنهُم سِتَّةٌ وَالشَّامَ أَرْبَعَةٌ أَمَّا اليَمَانِيُّونَ فَمَذْحَجٌ وَكِيْدَهٌ وَالأزد وَالأَشعَرِيُّونَ وَأَنَمَارُ وحِمْيَرُ وَأَمَّا الشَّامِيُّونَ فَلَخْمٌ وَخِذَامُ وَغَسَّانُ وَعَامِلَةُ
» . وذكر أهل النسب أنه سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان . قال السدي : بعث إلى سبأ ثلاثة عشر نبياً .
وأما { جَنَّتَانِ } فقال سفيان وجد فيهما قصران مكتوب على أحدهما : نحن بنينا سالمين ، في سبعين خريفاً دائبين ، وعلى الآخر : نحن بنينا صرواح ، مقيل ومراح ، وكانت إحدى الجنتين عن يمين الوادي والأخرى عن شماله .
وفي الآية التي لسبأ في مساكنهم قولان :
أحدهما : أنه لم يكن في قريتهم بعوضة قط ولا ذبابة ولا برغوث ولا حية ولا عقرب وان الركب ليأتون في ثيابهم القمل والدواب فتموت تلك الدواب ، قاله عبد الرحمن بن زيد .
الثاني : أن الآية هي الجنتان كانت المرأة تمشي فيهما وعلى رأسها مكتل فيمتلىء وما مسته بيدها ، قاله قتادة .
{ كُلُواْ مِن رِّزْقِ رَبّكُمْ } يعني الذي رزقكم من جنتكم
. { وَاشْكُرُواْ لَهُ } يعني على ما رزقكم
. { بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ } قال مجاهد : هي صنعاء
. ويحتمل وجهين :
أحدهما : لأن أرضها وليست بسبخة .
الثاني : لأنها ليس بها هوام .


وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19)

قوله عز وجل : { وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا } فيها قولان :
أحدهما : أنها بيت المقدس ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنها الشام ، قاله مجاهد وقتادة .
{ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا } يعني بالشجر والثمر والماء . وقيل إنها كانت أربعة آلاف وسبعمائة قرية .
ويحتمل أن يكون التي باركنا فيها بكثرة العدد .
{ قُرىً ظَاهِرَةً } فيه أربعة أوجه
: أحدها : متصلة ينظر بعضهم إلى بعض ، قاله الحسن ، وأبو مالك .
الثاني : أنها العامرة .
الثالث : الكثيرة الماء .
الرابع : أن القرى الظاهرة هي القرى القريبة ، قاله سعيد بن جبير ، والضحاك .
وفيها ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها السروات ، قاله مجاهد .
الثاني : أنها قرى لصنعاء ، قاله ابن منبه .
الثالث : أنها قرى ما بين مأرب والشام ، قاله سعيد بن جبير .
{ وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيرَ } فيها ثلاثة أقاويل
: أحدها : قدرنا فيها المقيل والمبيت ، قاله الكلبي .
الثاني : أنهم كانوا يصبحون في قرية ويمسون في أخرى ، قاله الحسن .
الثالث : أنه قدر فيها السير بأن جعل ما بين القرية والقرية مقداراً واحداً ، قاله ابن قتيبة .
{ سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً ءَامِنِينَ } فيه قولان
: أحدهما : من الجوع والظمأ ، قاله قتادة . حتى أن المرأة تمشي وعلى رأسها مكتل فيمتلىء من الثمر .
الثاني : آمنين من الخوف قاله يحيى بن سلام ، كانوا يسيرون مسيرة أربعة أشهر في أمان لا يحرك بعضهم بعضاً ، ولو لقي الرجل قاتل أبيه لم يحركه .
قوله عز وجل : { فَقَالُواْ رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَرِنَا } قرأ أبو عمرو ، وابن كثير { بَعِّد } بغير ألف وبتشديد العين ، وقرأ الباقون { بَاعِدْ } بألف وبتخفيف العين وفيهما ثلاثة تأويلات :
أحدها : أنهم قالوا ذلك لأنهم ملّوا النعم كما ملَّ بنو اسرائيل المن والسلوى ، قاله الحسن .
الثاني : أنهم قالوا لو كانت ثمارنا أبعد مما هي كانت أشهى في النفوس وأحلى ، قاله ابن عيسى ، وهو قريب من الأول لأنه بطر . فصار نوعاً من الملل .
الثالث : معناه زد في عمارتنا حتى تبعد فيه أسفارنا ، حكاه النقاش . وهذا القول منهم طلباً للزيادة والكثرة .
وقرأ بعض القراء { بَعُد } بضم العين وتخفيفها ، وهذا القول منهم شكوى لبعد سفرهم وتمني قصره .
{ وَظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ } فيه ثلاثة أقاويل
: أحدها : ظلموها بقولهم باعد بين أسفارنا ، قاله بن زيد .
الثاني : بتكذيب الرسل وهم ثلاثة عشر نبياً . قال الكلبي : أنهم قالوا لرسلهم حين ابتلوا وهم مكذبون : وقد كنا نأبى عليكم وأرضنا عامرة خير أرض فكيف اليوم وأرضنا خراب شر أرض .
الثالث : أنهم ظلموا أنفسهم بالتغيير والتبديل بعد أن كانوا مسلمين ، قاله الحسن .
{ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ } أي يتحدث الناس بما كانوا فيه من نعيم وما صارواْ إليه من هلاك ، حتى ضرب المثل فقيل : تفرقوا أيدي سبأ ، ومنه قول الشاعر :
باد قوم عصف الدهر بهم ... فرقوا عن صرفه أيدي سبأ
{ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ } فيه قولان
: أحدهما : أنهم فرقوا بالهلاك حتى صاروا تراباً تذروه الرياح ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : أنهم مزقوا بالتفريق والتباعد ، قاله قتادة .
حكى الشعبي قال : أما غسان فلحقوا بالشام ، وأما خزاعة فحلقوا بمكة ، وأما الأوس والخزرج فلحقوا بيثرب يعني المدينة ، وأما الأزد فلحقوا بعمان .
{ إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } يحتمل وجهين
: أحدهما : صبار على البلوى شكور على النعماء .
الثاني : صبور على أمر الله شكور في طاعة الله .


وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21)

قوله عز وجل : { وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إبْلِيسُ ظَنَّهُ } فيه أربعة أقاويل
: أحدها : أنه لما أُهْبِطَ آدم من الجنة ومعه حواء ، وهبط إبليس ، قال إبليس أما إذ أصيب من الأبوين ما أصبت فالذرية أضعف وأضعف وكان ظناً من إبليس ، فأنزل الله تعالى : { وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيهِمْ إبْلِيسُ ظَنَّهُ } قاله الحسن .
الثاني : أن إبليس إذ قال : خُلِقْتُ من نار وخلق آدم من طين والنار تحرق كل شيء ، لأحتنكن ذريته إلا قليلاً ، فصدق ظنه عليه ، قاله ابن عباس .
الثالث : أنه قال : يا رب أرأيت هؤلاء القوم الذين كرمتهم وشرفتهم وفضلتهم علىّ لا تجد أكثرهم شاكرين ، ظن منه فصدق عليهم ظنه ، قاله زيد بن أسلم .
الرابع : أنه ظن أنه إن أغواهم أجابوه وإن أضَلّهم أطاعوه فصدق ظنه فاتبعوه قاله الكلبي .
{ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَريقاً مِّنَ المُؤْمِنِينَ } فيه وجهان
: أحدهما : فاتبعوا إبليس ، قاله الحسن .
الثاني : فاتبعوا ظنه ، قاله مجاهد .


قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23)

قوله عز وجل : { وَلاَ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } حكى الفراء فيه وجهين :
أحدهما : حتى يؤذن له في الشفاعة .
الثاني : حتى يؤذن له فيمن يشفع له ، ووجدت الأول قول الكلبي والثاني قول مقاتل .
{ حَتَّى إذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ } فيه ستة تأويلات
: أحدها : معناه خلي عن قلوبهم الفزع ، قاله ابن عباس ، وقال قطرب : أخرج ما فيها من الخوف .
الثاني : كشف عن قلوبهم الغطاء يوم القيامة ، قاله مجاهد .
الثالث : أنهم الشياطين فزع عن قلوبهم ففارقوا ما كانوا عليه من إضلال أوليائهم ، قاله ابن زيد .
الرابع : أنهم دعوا فاستجابوا من قبورهم مأخوذ من الفزع الذي هو الدعاء والاستصراخ فسمي الداعي فزعاً والمجيب فزعاً ، قال زهير :
إذا فزعوا طاروا إلى مستغيثهم ... طوال الرماح لا قصار ولا عُزْلُ
الخامس : أنهم الملائكة فزعوا عند سماع الوحي من الله تعالى لانقطاعه ما بين عيسى ومحمد عليهما السلام ، وكان لصوته صلصلة كوقع الحديد على الصفا ، فخرُّوا عنده سجوداً مخافة القيامة فسألوا فقالوا : ماذا قال ربكم؟ قالوا : الحق أي الوحي ، وهذا معنى قول كعب .
السادس : وهو تأويل قراءة الحسن : حتى فرغ عن قلوبهم بالغين معجمة يعني فرغ ما فيها من الشك والشرك .
{ قَالُواْ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ } أي قال لهم الملائكة : ماذا قال ربكم في الدنيا
. { قَالُواْ الْحَقَّ } يحتمل وجهين
: أحدهما : أن يجدوا ما وصفوه عن الله تعالى حقاً .
الثاني : أن يصدقوا بما قاله الله تعالى أنه حق .
{ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ } .


قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)

قوله عز وجل : { قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمواتِ وَالأَرْضِ } فيه وجهان
: أحدهما : أن رزق السموات المطر ورزق الأرض النبات ، قاله الكلبي .
الثاني : أن رزق السموات ما قضاه من أرزاق عباده ، ورزق الأرض ما مكنهم فيه من مباح . { قُلِ اللَّهُ } وهذا جواب قل من يزرقكم من السموات والأرض ، ويحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون للمشركين حين سئلوا عن ذلك لأنهم لا يجحدون أن الله رازقهم .
الثاني : أن يكون أمراً في أمر الله أي يجابوا به لأنهم لا يجحدونه لتقوم به الحجة عليهم .
{ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : معناه : إننا نحن لعلى هدى وإنكم أنتم لفي ضلال مبين ، قاله عكرمة وأبو عبيدة وزياد بن أبي مريم . قال الفراء : أو بمعنى الواو .
الثاني : أن أحدنا لعلى هدى والآخر لفي ضلال مبين ، دفعاً لأنقصهما ، ومنعاً من أرذلهما كقول القائل : إن أحدنا لكاذب ، دفعا للكذب عن نفسه وإِضافته إلى صاحبه وإن أحدنا لصادق ، إضافة للصدق إلى نفسه ودفعاً عن صاحبه ، قاله مجاهد .
الثالث : معناه : الله رزقنا وإياكم لعلى هدى كنا أو في ضلال مبين حكاه النقاش .
قوله عز وجل : { قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا } يعني يوم القيامة .
{ ثُمُّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ } أي يقضي بيننا لأنه بالقضاء يفتح وجه الحكم ، وقال السدي هي لغة يمانية .
قوله : { بِالْحَقِّ } قال مجاهد : بالعدل .
{ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَليمُ } أي القاضي العليم وفيه ثلاثة أوجه
: أحدها : العليم بما يخفون ، قاله محمد بن إسحاق .
الثاني : العليم بالحكم ، قاله ابن زياد .
الثالث : العليم بخلقه ، قاله مقاتل .


وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ (30)

قوله عز وجل : { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إلاَّ كَآفَّةً لِّلنَّاسِ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : يعني أنه رسول إلى كافة الناس أي إلى جميعهم ، قال ابن عباس .
الثاني : معناه أنك رسول الله إلى جميع الناس وتضمهم ، ومنه كف الثوب لأنه ضم طرفيه .
الثالث : معناه إنا أرسلناك كافاً للناس أي مانعاً لهم من الشرك وأدخلت الهاء للمبالغة ، قاله ابن بحر .


وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (33)

قوله عز وجل : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ } يعني كفار العرب ، { لَن نُّؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْءانِ وَلاَ بِالَّذي بَيْنَ يَدَيْهِ } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : التوراة ، والإِنجيل ، قاله السدي .
الثاني : من الأنبياء والكتب ، قاله قتادة .
الثالث : من أمر الآخرة ، قاله ابن عيسى . قال ابن جريج : قائل ذلك أبو جهل ابن هشام .
قوله عز وجل : { بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ } فيه خمسة تأويلات :
أحدها : معناه بل غركم اختلاف الليل والنهار ، قاله السدي .
الثاني : بل عملكم من الليل والنهار ، قاله سفيان .
الثالث : بل معصية الليل والنهار ، قاله قتادة .
الرابع : بل مر الليل والنهار ، قاله سعيد بن جبير .
الخامس : بل مكرهم في الليل والنهار ، قاله الحسن .
{ إذْ تَأْمُرُونَنَآ أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً } فيه وجهان
: أحدهما : أشباهاً ، قاله سعيد بن جبير .
الثاني : شركاء ، قاله أبو مالك .


وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34) وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36) وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (38) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39)

قوله عز وجل : { وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ } يعني من نبي ينذرهم بعذاب الله .
{ إلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا } فيهم ثلاثة تأويلات
: أحدها : يعني جبابرتها ، قاله ابن جريج .
الثاني : أغنياؤها ، قاله يحيى بن سلام .
الثالث : ذوو النعم والبطر ، قاله ابن عيسى .
قوله عز وجل : { نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وأَوْلاَداً } قالوا ذلك للأنبياء والفقراء ويحتمل قولهم ذلك وجهين :
أحدهما : أنهم بالغنى والثروة أحق بالنبوة .
الثاني : أنهم أولى بما أنعم الله عليهم من الغنى أن يكونوا على طاعة .
{ وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } يحتمل وجهين
: أحدهما : أي ما عذبنا بما أنتم فيه من الفقر .
الثاني : أي ما أنعم الله علينا بهذه النعمة وهو يريد عذابنا ، فرد الله تعالى عليهم ما احتجوا من الغنى فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم .
{ قُلْ إنَّ رَبِّي يُبْسُطُ الرّزْقَ لِمَن يَشَآءُ } أي يوسعه . { وَيَقْدِرُ } فيه ثلاثة تأويلات
: أحدها : أن يقترعليه ، قال الحسن يبسط لهذا مكراً به ، ويقدر لهذا نظراً له .
الثاني : بنظره له ، رواه حصين بن أبي الجميل .
الثالث : بخير له ، رواه حارث بن السائب .
{ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } أن الله يوسع على من يشاء ويقتر على من يشاء .
قوله عز وجل : { وَمَآ أَمْوَالُكُمْ وَلآ أَوْلاَدُكُمْ بالتَّي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى } قال مجاهد : أي قربى والزلفة القربة ، ويحتمل وجهين :
أحدهما : أن أموالكم في الدنيا لا تدفع عنكم عذاب الآخرة .
الثاني : أن إنعامنا بها عليكم في الدنيا لا يقتضي إنعامنا عليكم بالجنة في الآخرة .
{ إلاَّ مَنْ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً } روى ليث عن طاووس أنه كان يقول اللهم ارزقني الإيمان والعمل ، وجنبني المال والولد ، فإني سمعت فيما أوحيْتَ { وَمَآ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ بَالَّتِي تُقَرِّبْكْمُ عِندَنَا زُلْفَى إلاَّ مَنْ ءَامَنَ وَعَمِلَ صالِحاً } .
{ فَأُوْلئِكَ لَهُمْ جَزَآءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُواْ } فيه ثلاثة أقاويل
: أحدها : أنه أضعاف الحسنة بعشر أمثالها ، وأضعاف الدرهم بسبعمائة ، قاله ابن زيد .
الثاني : أن المؤمن إذا كان غنياً تقياً آتاه الله أجره مرتين بهذه الآية ، قاله محمد بن كعب .
الثالث : يعني فله جزاء مثل عمله لأن الضعف هو المثل ويقتضي ذلك المضاعفة ، قاله بعض المتأخرين .
{ وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ ءَامِنُونَ } يعني غرفات الجنة
. { ءَامِنُونَ } فيه أربعة أقاويل
: أحدها : آمنون من النار ، قاله يحيى ابن سلام .
الثاني : من انقطاع النعم ، قاله النقاش .
الثالث : من الموت ، قاله مقاتل .
الرابع : من الأحزان والأسقام .
قوله عز وجل : { وَمآ أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : فهو يخلفه إن شاء إذا رأى ذلك صلاحاً كإجابة الدعاء ، قاله ابن عيسى .
الثاني : يخلفه بالأجر في الآخرة إذا أنفقه في طاعة ، قاله السدي .
الثالث : معناه فهو أخلفه لأنه نفقته من خلف الله ورزقه ، قاله سفيان بن الحسين .
ويحتمل رابعاً : فهو يعني عنه .


وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (42)

قوله عز وجل : { وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً } يعني المشركين ومن عبدوه من الملائكة .
{ ثُمَّ نَقُولُ لِلْمَلآَئِكَةِ أَهَؤلآَءِ إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ } وهذا السؤال للملائكة تقرير وليس باستفهام ، وإن خرج مخرج الاستفهام .
{ قََالُواْ سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم } فيه وجهان
: أحدهما : أنت الذي توالينا بالطاعة دونهم .
الثاني : أنت ناصرنا دونهم .
{ بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الْجِنَّ } يعني أنهم أطاعوا الجن في عبادتنا ، وصاروا بطاعتهم عابدين لهم دوننا .
{ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ } أي جميعهم بهم مؤمنون ، وهذا خروج عن الظاهر .


وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (43) وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (45)

قوله عز وجل : { وََمَآ ءَاتَينَاهُم مِّن كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا } يعني مشركي قريش ما أنزل الله تعالى عليهم كتاباً قط يدرسونه ، فيه وجهان :
أحدهما : فيعلمون بدرسه أن ما جئت به حق أم باطل ، قاله السدي .
الثاني : فيعلمون أن الله تعالى شريكاً على ما زعموه ، قاله ابن زيد .
{ وَمَآ أَرْسَلْنَآ إلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِن نَّذِيرٍ } أي ما بعثنا إليهم رسولاً غيرك
. قوله عز وجل : { وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } يعني من قبل أمة محمد صلى الله عليه وسلم .
{ وَمَا بَلَغُواْ مِعْشَارَ مَآ ءاتَيْنَاهُمْ } فيه أربعة
: أحدها : يعني أنهم ما عملوا معشار ما أمروا به ، قاله الحسن .
الثاني : أنه يعني ما أعطى الله سبحانه قريشاً ومن كذب محمداً صلى الله عليه وسلم من أمته معشار ما أعطى من قبلهم من القوة والمال ، قاله ابن زيد .
الثالث : ما بلغ الذين من قبلهم معشار شكر ما أعطيناهم ، حكاه النقاش .
الرابع : ما أعطى الله من قبلهم معشار ما أعطاهم من البيان والحجة والبرهان . قال ابن عباس فليس أمة أعلم من أمته ولا كتاب أبين من كتابه .
وفي المعشار ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه العشر وهما لغتان .
الثاني : أنه عشر العشر وهو العشير .
الثالث : هو عشير العشير ، والعشير عشر العشر ، فيكون جزءاً من ألف جزء ، وهو الأظهر ، لأن المراد به المبالغة في التقليل .
{ فَكَذَّبُواْ رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ } أي عقابي وفي الكلام إضمار محذوف وتقديره : فأهلكناهم فكيف كان نذير .


قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46)

قوله عز وجل : { قُلْ إنَّمَآ أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ } فيه قولان
: أحدهما : يعني بطاعة الله عز وجل ، قاله مجاهد .
الثاني : بالا إله إلا الله ، قاله السدي .
ويحتمل ثالثاً : بالقرآن لأنه يجمع كل المواعظ .
{ أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى } يعني أن تقوموا لله بالحق ، ولم يُرد القيام على الأرجل كما قال تعالى : { وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَامَى بِالْقِسطِ } [ النساء : 127 ] .
وفي قوله : { مَثْنَى وَفُرَادَى } ثلاثة أوجه :
أحدها : معناه جماعة وفرادى ، قاله السدي .
الثاني : منفرداً برأيه ومشاوراً لغيره ، وهذا قول مأثور .
الثالث : مناظراً مع غيره ومفكراً في نفسه ، قاله ابن قتيبة .
ويحتمل رابعاً : أن المثنى عمل النهار ، والفرادى عمل الليل ، لأنه في النهار . مُعانٌ وفي الليل وحيد .
{ ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ } قال قتادة أي ليس بمحمد جنون . { إنْ هُوَ إلاَّ نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ } يعني في الآخرة ، قال مقاتل : وسبب نزولها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل كفار قريش ألا يؤذوه ويمنعوا منه لقرابته منهم حتى يؤدي رسالة ربه ، فسمعوه يذكر اللات والعزى في القرآن فقالوا يسألنا ألا نؤذيه لقرابته منا ويؤذينا بسبب آلهتنا فنزلت هذه الآية .


قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48) قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50)

قوله عز وجل : { قُلْ مَا سأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ } فيه قولان
: أحدهما : من مودة قاله ابن عباس ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم سأل قريشاً أن يكفوا عن أذيته حتى يبلغ رسالة ربه .
الثاني : من جُعْل قاله قتادة ، ويشبه أن يكون في الزكاة .
ويحتمل ثالثاُ : أن أجر ما دعوتكم إليه من إجابتي فهو لكم دوني .
{ إنْ أَجْرِيَ إلاَّ عَلَى اللَّهِ } أي ما ثوابي إلا على الله في الآخرة
. { وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٍ } فيه وجهان
: أحدهما : شهيد أن ليس بي جنون .
الثاني : شهيد أني لكم نذير بين يدي عذاب شديد .
قوله عز وجل : { قُلْ إنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ } فيه تأويلان :
أحدهما : بالوحي ، قاله قتادة .
الثاني : بالقرآن ، رواه معمر .
وفي قوله : { يَقْذِفُ } ثلاثة أوجه :
أحدها : يتكلم .
الثاني : يوحي .
الثالث : يلقي .
{ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ } قال الضحاك : الخفيات
. قوله عز وجل : { قُلْ جَآءَ الْحَقُّ } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قاله ابن زيد .
الثاني : القرآن ، قاله قتادة .
الثالث : الجهاد بالسيف ، قاله ابن مسعود .
{ وَمَا يُبْدِيءُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : أن الباطل الشيطان . رواه معمر .
الثاني : أنه إبليس . رواه خليد .
الثالث : أنه دين الشرك ، قاله ابن بحر .
وفي إبداء الباطل وإعادته ثلاثة أوجه :
أحدها : لا يخلق ولا يبعث ، قاله قتادة .
الثاني : لا يحيي ولا يميت ، قاله الضحاك .
الثالث : لا يثبت إذا بدا ، ولا يعود إذا زال ، قاله ابن بحر .


وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (51) وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (52) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (53) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)

قوله عز وجل : { وَلَوْ تَرَى إذْ فِزَعُواْ } في فزعهم خمسة أقاويل
: أحدها : فزعهم يوم القيامة ، قاله مجاهد .
الثاني : فزعهم في الدنيا حين رأو بأس الله عز وجل : قاله قتادة .
الثالث : هو الجيش الذي يخسف بهم في البيداء فيبقى منهم رجل فيخبر الناس بما لقي أصحابه فيفزعوا فهذا هو فزعهم ، قاله سعيد بن جبير .
الرابع : هو فزعهم يوم بدر حين ضربت أعناقهم فلم يستطيعوا فراراً من العذاب ولا رجوعاً إلى التوبة ، قاله السدي .
الخامس : هو فزعهم في القبور من الصيحة ، قاله الحسن .
وفي قوله تعالى : { فَلاَ فَوْتَ } ثلاثة أوجه :
أحدها : فلا نجاة ، قاله ابن عباس .
الثاني : فلا مهرب ، وهو معنى قول مجاهد .
الثالث : فلا سبق ، قاله قتادة .
{ وَأُخِذُواْ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ } فيه ستة أقاويل
: أحدها : من تحت أقدامهم ، قاله مجاهد .
الثاني : يوم بدر ، قاله زيد بن أسلم .
الثالث : هو جيش السفياني ، قاله ابن عباس .
الرابع : عذاب الدنيا ، قاله الضحاك .
الخامس : حين خرجوا من القبور ، قاله الحسن .
السادس : هو يوم القيامة ، قاله القاسم بن نافع .
ويحتمل سابعاً : في أسرِّ ما كانوا فيه نفوساً ، وأقوى ما كانوا عليه أملاً لأنه أقرب بلاء من نعمه .
قوله عز وجل : { وَقَالُوا ءَامَنَّا بِهِ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : يعني بالله ، قاله مجاهد .
الثاني : بالبعث ، قاله الحسن .
الثالث : بالرسل ، قاله قتادة .
{ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِن مَّكَانِ بَعِيدٍ } وفي التناوش ثلاثة أقاويل
: أحدها : هو الرجعة ، قاله ابن عباس ومنه قول الشاعر :
تمنى أن تؤوب إليّ ميٌّ ... وليس إلى تناوشها سبيل
الثاني : هو التوبة ، قاله السدي
. الثالث : هو التناول من قولهم نشته أنوشه نوشاً إذا تناوله من قريب ، وقد تناوش القوم إذا دنا بعضهم من بعض ولم يلتحم القتال بينهم ، قال الشاعر :
فهي تنوش الحوض نوشاً من علا ... نوشاً به تقطع أجواز الفلا
{ مِن مَّكَانِ بَعِيدٍ } فيه ثلاثة أقوايل
: أحدها : من الآخرة إلى الدنيا ، قاله مجاهد .
الثاني : ما بين الآخرة والدنيا ، رواه القاسم بن نافع .
الثالث : هو طلبهم الأمر من حيث لا ينال ، قاله الحسن .
ويحتمل قولاً رابعاً : بعيد عليهم لاستحالته عندهم .
قوله عز وجل : { وَقَدْ كَفَرُواْ بِهِ مِن قَبْلُ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنهم كفروا بالله تعالى ، قاله مجاهد .
الثاني : بالبعث ، قاله الحسن .
الثالث : بالرسول ، قاله قتادة .
{ مِن قَبْلُ } فيه وجهان
: أحدهما : في الدنيا ، قاله مجاهد .
الثاني : من قبل العذاب .
{ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ } فيه ثلاثة تأويلات
: أحدها : معناه يرجمون بالظن ويقولون في الدنيا لا بعث ولا جنة ولا نار ، قاله الحسن .
الثاني : أنه طعنهم في القرآن ، قاله عبد الرحمن بن زيد .
الثالث : هو طعنهم في رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه شاعر أو ساحر ، قاله مجاهد ، وسماه قذفاً لخروجه عن غير حق .
قوله عز وجل : { وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ } يعني بالموت ، وفيه خمسة تأويلات :

أحدها : حيل بينهم وبين الدنيا ، قاله مجاهد .
الثاني : بينهم وبين الإيمان ، قاله الحسن .
الثالث : بينهم وبين التوبة ، قاله السدي .
الرابع : بينهم وبين طاعة الله تعالى ، قاله خليد .
الخامس : حيل بين المؤمن وبين العمل ، وبين الكافر وبين الإيمان ، قاله يزيد بن أبي يزيد .
{ كَمَا فُعِلَ بِأَشْياعِهِم مّن قَبْلُ } فيهم ثلاثة أقاويل
: أحدها : أنهم أوائلهم من الأمم الخالية ، قاله مقاتل .
الثاني : أنه أصحاب الفيل حين أرادوا خراب الكعبة ، قاله الضحاك .
الثالث : هم أمثالهم من الكفار الذين لم يقبل الله سبحانه منهم التوبة عند المعاينة .
{ إنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُّرِيبٍ } فيه وجهان
: أحدهما : لا يعرفون نبيهم ، قاله مقاتل .
الثاني : هو شكهم في وقوع العذاب ، قاله الضحاك .


الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)

قوله عز وجل : { الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّموَاتِ وَالأَرْضِ } والفطر الشق عن الشيء بإظهاره للحسن يقال فطر ناب الناقة إذا طلع ، وفطر دمه إذا أخرجه . قال ابن عباس : كنت لا أدري ما فاطر السموات والأرض حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما : أنا فطرتها أي ابتدأتها .
وفي تأويله ههنا وجهان :
أحدهما : خالق السموات والأرض ، قاله قتادة ، والكلبي ، ومقاتل .
الثاني : أنه شقها لما ينزل منها وما يعرج فيها .
{ جَاعِلِ الْمَلآَئِكَةِ رُسُلاً } فيه قولان
: أحدهما : إلى الأنبياء ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : إلى العباد رحمة أو نقمة ، قاله السدي .
{ أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ } قال قتادة : بعضهم له جناحان ، وبعضهم ثلاثة ، وبعضهم أربعة . والمثنى والثلاث والرباع ما تكرر فيه الاثنان والثلاثة والأربعة .
{ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَآءُ } فيه ثلاثة تأويلات
: أحدها : أنه حسن الصوت ، قاله الزهري وابن جريج .
الثاني : أنه الشعر الجعد ، حكاه النقاش .
الثالث : يزيد في أجنحة الملائكة ما يشاء ، قاله الحسن .
ويحتمل رابعاً : أنه العقل والتمييز .
ويحتمل خامساً : أنه العلوم والصنائع . ويكون معناه على هذين التأويلين :
كما يزيد في الخلق ما يشاء كذلك يزيد في أجنحة الملائكة ما يشاء .


مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6)

قوله عز وجل : { مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا } فيه سبعة تأويلات :
أحدها : من خير ، قاله قتادة .
الثاني : من مطر ، قاله السدي .
الثالث : من توبة ، قاله ابن عباس .
الرابع : من وحي ، قاله الحسن .
الخامس : من رزق وهو مأثور .
السادس : من عافية ، قاله الكلبي .
السابع : من دعاء ، قاله الضحاك .
ويحتمل ثامناً : من توفيق وهداية .


الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7) أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8)

قوله عز وجل : { أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَءَاهُ حَسَناً } فيه أربعة أقاويل
: أحدها : أنهم اليهود والنصارى والمجوس ، قاله أبو قلابة ، ويكون سوء عمله معاندة الرسول .
الثاني : أنهم الخوارج ، رواه عمرو بن القاسم ، ويكون سوء عمله تحريف التأويل .
الثالث : الشيطان ، قاله الحسن ويكون سوء عمله الإغواء .
الرابع : كفار قريش ، قاله الكلبي ، ويكون سوء عملهم الشرك .
وقيل إنها نزلت في العاص بن وائل السهمي والأسود بن المطلب ، وقال غيره نزلت في أبي جهل بن هشام .
في قوله : { فَرءَاهُ حَسَناً } وجهان :
أحدهما : صواباً ، قاله الكلبي .
الثاني : جميلاً .
وفي الكلام محذوف اختلف فيه على ثلاثة أوجه :
أحدها : أن المحذوف منه : فإنه يتحسر عليه يوم القيامة ، قاله ابن عيسى .
الثاني : أن المحذوف منه : كمن آمن وعمل صالحاً لا يستويان ، قاله يحيى بن سلام .
الثالث : أن المحذوف منه : كمن عمل الحسن والقبح .


وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (9) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11)

قوله عز وجل : { مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً } فيه قولان
: أحدهما : يعني بالعزة المنعة فيتعزز بطاعة الله تعالى ، قاله قتادة .
الثاني : علم العزة لمن هي ، فلله العزة جميعاً .
وقيل إن سبب نزول هذه الآية ما رواه الحسن أن المشركين عبدوا الأوثان لتعزهم كما وصف الله تعالى عنهم في قوله : { وَاتَّخَذُواْ مِن اللهِ دُونِ ءَالِهَةً لِّيَكُونُواْ لَهُم عِزّاً } فأنزل الله تعالى : { مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فِلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً } .
{ إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ } فيه قولان
: أحدهما : أنه التوحيد ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : الثناء علىمن في الأرض من صالح المؤمنين يصعد به الملائكة المقربون ، حكاه النقاش .
{ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } فيه قولان
: أحدهما : أنه أداء الفرائض .
الثاني : أنه فعل القرب كلها .
وفي قوله : { يَرْفَعُهُ } ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن العمل الصالح يرفعه الكلام الطيب ، قاله الحسن ، ويحيى بن سلام .
الثاني : أن العمل الصالح يرفع الكلام الطيب ، قاله الضحاك وسعيد بن جبير .
الثالث : أن العمل يرفعه الله بصاحبه ، قاله قتادة ، السدي .
{ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ } يعني يشركون في الدنيا
. { لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ } يعني في الآخرة
. { وَمَكْرُ أُوْلئِكَ هُوَ يَبُورُ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : يفسد عند الله تعالى ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : يبطل ، قاله قتادة .
الثالث : يهلك ، والبوار الهلاك ، قاله قطرب .
وفي المراد : { أُوْلئِكَ } قولان :
أحدهما : أهل الشرك .
الثاني : أصحاب الربا ، قاله مجاهد .
قوله عز وجل : { وَاللَّهُ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ } يعني آدم .
{ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ } يعني نسله
. { ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً } فيه وجهان :
أحدهما : أصنافاً ، قاله الكلبي .
الثاني : ذكراناً وإناثاً ، والواحد الذي معه آخر من شكله زوج والاثنان زوجان ، قال الله تعالى : { وأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَينَ الذَّكَرَ والأُنْثَى } [ النجم : 45 ] وتأول قتادة قوله تعالى : { ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً } أي زوّج بعضكم لبعض .
{ وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ } يعني بأمره
. { وَمَا يَعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ منْ عَمُرِهِ . . } الآية . فيه قولان
: أحدهما : ما نمد في عمر معمر حتى يصير هرماً . ولا ينقص من عمر أحد حتى يموت طفلاً إلا في كتاب .
الثاني : ما يعمر من معمر قدر الله تعالى مدة أجله إلا كان ما نقص منه بالأيام الماضية عليه في كتاب عند الله .
قال سعيد بن جبير : هي صحيفة كتب الله تعالى في أولها أجله ، ثم كتب في أسفلها ذهب يوم كذا ويوم كذا حتى يأتي على أجله ، وبمثله قال أبو مالك ، والشعبي .
وفي عمر المعمر ثلاثة أقاويل :
أحدها : ستون سنة ، قاله الحسن .
الثاني : أربعون سنة .
الثالث : ثماني عشرة سنة ، قاله أبو غالب .
{ . . . إنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } أي هين
. ويحتمل وجهين :
أحدهما : أن إثبات ذلك على الله يسير .
الثاني : أن زيادة عمر المعمر ونقصان عمر الآخر عند الله تعالى يسير .
وللكلبي فيه ثالث : أن حفظ ذلك بغير كتاب على الله يسير .


وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)

{ وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ } يحتمل وجهين
: أحدهما : ما يستويان في أنفسهما .
الثاني : في منافع الناس بهما .
{ هذَا عَذْبٌ فُراتٌ } والفرات هو العذب وذكره تأكيداً لاختلاف اللفظين كما يقال هذا حسن جميل .
{ سَآئَغٌ شَرَابُهُ } أي ماؤه
. { وَهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ } أي مُرٌّ مأخوذ من أجة النار كأنه يحرق من شدة المرارة ، قال الشاعر :
دُرَّةٌ في اليمين أخرجها الغا ... ئص من قعر بحر ملح أجاج
{ وَمِن كُلٍّ تَأكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً } يعني لحم الحيتان مأكول من كلا البحرين
. { وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا } اللؤلؤ والمرجان يستخرج من الملح ، ويكون المراد أحدهما وإن عطف بالكلام عليهما .
وقيل : بل هو مأخوذ منهما لأن في البحر عيوناً عذبة ، وما بينهما يخرج اللؤلؤ عند التمازج وقيل من مطر السماء .
ثم قال : { تَلْبَسُونَهَا } وإن لبسها النساء دون الرجال لأن جمالها عائد عليهم جميعاً .
{ وَتَرى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ } فيه خمسة أوجه
: أحدها : مقبلة ومدبرة وريح واحدة ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : مواقر ، قاله الحسن . قال الشاعر :
تراها إذا راحت ثقالاً كأنها ... مواخر فلك أو نعام حوافل
الثالث : معترضة ، قاله أبو وائل
. الرابع : جواري ، قاله ابن قتيبة .
الخامس : تمخر الماء أي تشقه في جريها شقاً ، قاله علي بن عيسى .
{ لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ } قال مجاهد : التجاة في الفلك
. ويحتمل وجهاً آخر ما يستخرج من حليته ويصاد من حيتان .
{ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [ فيه وجهان ] :
أحدهما : على ما آتاكم من نعمه .
الثاني : على ما آتاكم من فضله .
ويحتمل ثالثاً : على ما أنجاكم من هوله .


يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17) وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18)

قوله عز وجل : { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخْرَى } أي لا تحمل نفس ما تحمله نفس أخرى من ذنوبها ، ومنه الوزير لأنه يحمل أثقال الملك بتدبيره .
{ وَإن تَدَعُ مُثْقَلَةٌ إلَى حِمْلِهَا لاَ يُحْمَل مِنْهُ شَيْءٌ } قال مجاهد مثقلة بالذنوب ، ومعنى الكلام أن النفس التي قد أثقلتها ذنوبها إذا دعت يوم القيامة من يتحمل الذنوب عنها لم تجد من يتحمل عنها شيئاً من ذنوبها .
{ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى } ولو كان المدعو إلى التحمل قريباً مناسباً ، ولو تحمله عنها ما قُبل تحمله ، لما سبق من قوله تعالى : { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } .
{ إنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهَم بِالْغَيْبِ } فيه وجهان
: أحدهما : في السر حيث لا يطلع عليه أحد ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : في التصديق بالآخرة ، حكاه ابن عيسى .
ويحتمل ثالثاً : يخشونه في ضمائر القلوب كما يخشونه في ظواهر الأفعال .


وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ (23) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (26)

قوله عز وجل : { وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ . . } الآية . فيه قولان
: أحدهما : أن هذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمن والكافر ، كما لا يستوي الأعمى والبصير ، ولا تستوي الظلمات ولا النور ، ولا يستوي الظل ولا الحرور لا يستوي المؤمن والكافر ، قاله قتادة .
الثاني : أن معنى قوله وما يستوي الأعمى والبصير أي عمى القلب بالكفر وبصره بالإيمان ، ولا تستوي ظلمات الكفر ونور الإيمان ، ولا يستوي ظل الجنة وحرور النار ، قاله السدي .
والحرور الريح الحارة كالسموم ، قال الفراء : الحرور يكون بالليل والنهار ، والسموم لا يكون إلا بالنهار .
وقال الأخفش : الحرور لا يكون إلا مع شمس النهار ، والسموم يكون بالليل والنهار .
قال قطرب : الحرور الحر ، والظل البرد . ومعنى الكلام : أنه لا يستوي الجنة والنار .
قوله عز وجل : { وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَآءُ وَلاَ الأَمْوَاتُ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه مثل ضربه الله تعالى للمؤمن والكافر ، كما أنه لا يستوي الأحياء والأموات فكذلك لا يستوي المؤمن والكافر ، قاله قتادة .
الثاني : أن الأحياء المؤمنون الذين أحياهم الإيمان . والأموات الكفار الذين أماتهم الكفر وهذا مقتضى قول السدي .
الثالث : أن الأحياء العقلاء ، والأموات الجهال ، قاله ابن قتيبة وفي { لاَ } في هذا الموضع وفيما قبله قولان :
أحدهما : أنها زائدة مؤكدة .
الثاني : أنا نافية لاستواء أحدهما بالآخر .
{ إنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَآءُ } أي يهدي من يشاء
. { وَمَآ أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِِ } فيه وجهان
: أحدهما : أنه مثل ضربه الله ، كما أنك لا تُسمع الموتى في القبور كذلك لا تسمع الكافر .
الثاني : أن الكافر قد أماته الكفر حتى أقبره في كفره فلذلك لا يسمع ، وقيل إن مراد الله تعالى بهذه الآية الإخبار أن بين الخير فروقاً ، كما أن بين الشر فروقاً ، ليطلب من درجات الخير أعلاها ولا يحتقر من درجات الشر أدناها ، وهو الظاهر من قول علي ابن عيسى .
قوله عز وجل : { إنَّآ أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً } أي بالقرآن بشرى بالجنة .
{ وَنَذِيراً } من النار . { وَإن مَّنْ أُمَّةِ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ } أي سلف فيها نبي ، قال ابن جريج : إلا العرب .


أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)

قوله عز وجل : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَنْا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا } وفيه مضمر محذوف تقديره مختلف ألوانها وطعومها وروائحها ، فاقتصر منها على ذكر اللون لأنه أظهرها { وَمِنَ الْجبَالَ جُدَدٌ } فيه وجهان :
أحدهما : أن الجدد القطع مأخوذ من جددت الشيء إذا قطعته ، حكاه ابن بحر .
الثاني : أنها الخطط واحدتها جُدة مثل مُدة ومدد ، ومنه قول زهير :
كأنه أسفع الخدين ذو جُدد ... طاوٍ ويرتع بعد الصيف عريانا
{ بِيضُ وَحُمرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ } والغربيب الشديد السواد الذي لونه كلون الغراب . ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم « إِنَّ اللَّهَ يَبْغَضُ الشَّيخَ الْغِرْبِيبَ » يعني الذي يخضب بالسواد ، قال امرؤ القيس :
العين طامعة واليد سابحة ... والرجل لافحة والوجه غربيب
وقيل فيه تقديم وتأخير ، وتقديره سود غرابيب
. وفي المراد بالغرابيب السود ثلاثة أوجه :
أحدها : الجبال السود ، قاله السدي .
الثاني : الطرائف السود ، قاله ابن عباس .
الثالث : الأودية السود ، قاله قتادة .
{ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوآبِّ وَالأَنعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلَوَانُهُ كَذلِكَ } فيه وجهان
: أحدهما : كذلك مختلف ألوانه أبيض وأحمر وأسود .
الثاني : يعني بقوله كذلك أي كما اختلف ألوان الثمار والجبال والناس والدواب والأنعام كذلك تختلف أحوال العباد في الخشية .
ثم استأنف فقال : { إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عَبَادِهِ الْعُلَمَآءُ } يعني بالعلماء الذين يخافون .
قال الربيع بن أنس : من لم يخش الله فليس بعالم . قال ابن مسعود : المتقون سادة ، والعلماء قادة . وقيل : فاتحة الزبور الحكمة خشية الله

======


 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق