في وداع الله يا اماي جاري فوري

تحميل المصخف بصيغه

  القرآن الكريم وورد word doc icon تحميل سورة العاديات مكتوبة pdfتحميل المصحف الشريف بصيغة pdf تحميل القرآن الكريم مكتوب بصيغة وورد

الاثنين، 24 أكتوبر 2022

ج7وج8.النكت والعيون /أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي

ج7وج8.النكت والعيون
ج7
كتاب : النكت والعيون أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي

هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)

قوله عز وجل : { هذا بلاغ للناس } فيه قولان :
أحدهما : هذا الإنذار كاف للناس ، قاله ابن شجرة .
الثاني : هذا القرآن كافٍ للناس ، قاله ابن زيد .
{ ولينذروا به } فيه وجهان :
أحدهما : بالرسول .
الثاني : بالقرآن .
{ وليعلموا أنما هو إله واحدٌ } لما فيه من الدلائل على توحيده .
{ وليذكّرَ أولوا الألباب } فيه وجهان :
أحدهما : وليتعظ ، قاله الكلبي .
الثاني : ليسترجع يعني بما سمع من المواعظ . أولو الألباب ، أي ذوو العقول . وروى يمان بن رئاب أن هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه .
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3)

{ ألر تلك أياتُ الكتاب وقرآن مبينٍ } فيه تأويلان :
أحدهما : أن الكتاب هو القرآن ، جمع له بين الاسمين .
الثاني : أن الكتاب هو التوراة والانجيل ، ثم قرنها بالقرآن بالقرآن المبين . وفي المراد بالمبين ثلاثة أوجه :
أحدها : المبين إعجازه حتى لا يعارض .
الثاني : المبين الحق من الباطل حتى لا يشكلا .
الثالث : المبين الحلال من الحرام حتى لا يشتبها .
قوله عز وجل : { رُبما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين } وفي زمان هذا التمني ثلاثة أقاويل :
أحدها : عند المعاينة في الدنيا حين يتبين لهم الهدى من الضلالة ، قاله الضحاك .
الثاني : في القيامة إذا رأوا كرامة المؤمنين وذل الكافرين .
الثالث : إذا دخل المؤمن الجنة ، والكافر النار .
وقال الحسن : إذا رأى المشركون المؤمنين وقد دخلوا الجنة وصاروا هم إلى النار تمنوا أنهم كانوا مسلمين .
وربما مستعملة في هذا الموضع للكثير ، وإن كانت في الأصل موضوعة للتقليل ، كما قال الشاعر :
ألا ربّما أهدت لك العينُ نظرة ... قصاراك مِنْها أنها عنك لا تجدي
وقال بعضهم هي للتقليل أيضاً في هذا الموضع ، لأنهم قالوا ذلك في بعض المواضع لا في كلها .
وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (4) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (5)

قوله عز وجل : { وما أهلكنا من قرية } يعني من أهل قرية .
{ إلا ولها كتاب معلوم } يحتمل وجهين :
أحدهما : أجل مقدر .
الثاني : فرض محتوم .
قوله عز وجل : { ما تسبق من أمةٍ أجَلَها وما يَستأخرون } يحتمل وجهين :
أحدهما : لا يتقدم هلاكهم عن أجله ولا يتأخر عنه .
الثاني : لا يموتون قبل العذاب فيستريحوا ، ولا يتأخر عنهم فيسلموا .
وقال الحسن فيه تأويلاً ثالثاً : ما سبق من أمة رسولها وكتابها فتعذب قبلهما ولا يستأخر الرسول والكتاب عنها .
وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (8) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)

قوله عز وجل : { ما ننزل الملائكة إلا بالحق } فيه أربعة أوجه :
أحدها : إلا بالقرآن ، قاله القاسم .
الثاني : إلا بالرسالة ، قاله مجاهد .
الثالث : إلا بالقضاء عند الموت لقبض أرواحهم ، قاله الكلبي .
الرابع : إلا بالعذاب إذا لم يؤمنوا ، قاله الحسن .
{ وما كانوا إذاً منظرين } أي مؤخَّرين .
قوله عز وجل : { إنا نحن نزلنا الذكر } قال الحسن والضحاك يعني القرآن .
{ وإنا له لحافظون } فيه قولان :
أحدهما : وإنا لمحمد حافظون ممن أراده بسوء من أعدائه ، حكاه ابن جرير .
الثاني : وإنا للقرآن لحافظون .
وفي هذا الحفظ ثلاثة أوجه :
أحدها : حفظه حتى يجزى به يوم القيامة ، قاله الحسن .
الثاني : حفظه من أن يزيد فيه الشيطان باطلاً ، أو يزيل منه حقاً ، قاله قتادة .
الثالث : إنا له لحافظون في قلوب من أردنا به خيراً ، وذاهبوان به من قلوب من أردنا به شراً .
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (11) كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13)

قوله عز وجل : { ولقد أرسلنا من قبلك في شيع الأولين } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن الشيع الأمم ، قاله ابن عباس وقتادة .
الثاني : أن الشيع جمع شيعة ، والشيعة الفرقة المتآلفة المتفقة الكلمة ، فكأن الشيع الفرق ، ومنه قوله تعالى { أو يلبسكم شيَعاً } [ الأنعام : 65 ] أي فرقاً ، وأصله مأخوذ من الشياع وهو الحطب الصغار يوقد به الكبار ، فهو عون النار .
الثالث : أن الشيع القبائل ، قاله الكلبي .
قوله عز وجل : { كذلك نسلكه في قلوب المجرمين } فيه أربعة أوجه :
أحدها : كذلك نسلك الاستهزاء في قلوب المجرمين ، وإن لم يعرفوا ، قاله قتادة .
الثاني : كذلك نسلك التكذيب في قلوب المجرمين ، قاله ابن جريج .
الثالث : كذلك نسلك القرآن في قلوب المجرمين ، وإن لم يؤمنوا ، قاله الحسن .
الرابع : كذلك إذا كذب به المجرمون نسلك في قلوبهم أن لا يؤمنوا به .
قوله عز وجل : { لا يؤمنون به } يحتمل وجهين :
أحدهما : بالقرآن أنه من عند الله .
الثاني : بالعذاب أن يأتيهم .
{ وقد خلت سنة الأولين } السنة : الطريقة ، قال عمر بن أبي ربيعة :
لها من الريم عيناه وسُنّتُهُ ... ونحرُه السابق المختال إذ صَهَلا
فيه وجهان :
أحدهما : قد خلت سنة الأولين بالعذاب لمن أقام على تكذيب الرسل .
الثاني : بأن لا يؤمنوا برسلهم إذا عاندوا .
ويحتمل ثالثاً : بأن منهم مؤمناً وكافراً .
كما يحتمل رابعاً : من أقام على الكفر بالمعجزات بعد مجيء ما طلب من الآيات .
وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15)

قوله عز وجل : { ولو فتحنا عليهم باباً من السماء فظلوا فيه يعرجون } فيه وجهان :
أحدهما : فظل هؤلاء المشركون يعرجون فيه ، قاله الحسن وقتادة .
الثاني : فظلت الملائكة فيه يعرجون وهم يرونهم ، قاله ابن عباس والضحاك .
قوله عز وجل : { لقالوا إنما سكرت أبصارنا } في { سكرت } قراءتان :
إحداهما بتشديد الكاف ، والثانية بتخفيفها ، وفي اختلافهما وجهان :
أحدهما : معناهما واحد ، فعلى هذا ستة تأويلات :
أحدها : سُدّت ، قاله الضحاك .
الثاني : عميت ، قاله الكلبي .
الثالث : أخذت ، قاله قتادة .
الرابع : خدعت ، قاله جويبر .
الخامس : غشيت وغطيت ، قاله أبو عمرو بن العلاء ، ومنه قول الشاعر :
وطلعت شمسٌ عليها مغفر ... وجَعَلَتْ عين الحرورو تسكر
السادس : معناه حبست ، قاله مجاهد . ومنه قول أوس بن حجر :
فصرن على ليلة ساهرة ... فليست بطلقٍ ولا ساكرة
والوجه الثاني : أن معنى سكرت بالتشديد والتخفيف مختلف ، وفي اختلافهما وجهان :
أحدهما : أن معناه بالتخفيف سُحِرَتْ ، وبالتشديد : أخذت .
الثاني : أنه بالتخفيف من سُكر الشراب ، وبالتشديد مأخوذ من سكرت الماء .
{ بل نحن مسحورون } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أي سحرنا فلا نبصر .
الثاني : مضللون ، حكاه ثعلب .
الثالث : مفسدون .
وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17) إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ (18) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20)

قوله عز وجل : { ولقد جعلنا في السماء بروجاً } فيه خمسة أقاويل :
أحدها : أنها قصور في السماء فيها الحرس ، قاله عطية .
الثاني : أنها منازل الشمس والقمر ، قاله علي بن عيسى .
الثالث : أنها الكواكب العظام ، قاله أبو صالح ، يعني السبعة السيارة .
الرابع : أنها النجوم ، قاله الحسن وقتادة .
الخامس : أنها البروج الاثنا عشر .
وأصل البروج الظهور ، ومنه تبرجت المرأة إذا أظهرت نفسها .
{ وزيناها للناظرين } أي حسنّاها .
{ وحفظناها من كل شيطان رجيم } يعني السماء . وفي الرجيم ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه الملعون ، قاله قتادة .
الثاني : المرجوم بقول أو فعل ، ومنه قول الأعشى :
يظل رجيماً لريب المنون ... والسقم في أهله والحزن
الثالث : أنه الشتيم . زعم الكلبي أن السموات كلها لم تحفظ من الشياطين إلى زمن عيسى ، فلما بعث الله تعالى عيسى حفظ منها ثلاث سموات ، إلى مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فحفظ جميعها بعد بعثه وحرسها منهم بالشهب .
قوله عز وجل : { إلا من استرق السمع } ومسترق السمع من الشياطين يسترقه من أخبار الأرض دون الوحي ، لأن الله تعالى قد حفظ وحيه منهم .
ومن استراقهم له قولان :
أحدهما : أنهم يسترقونه من الملائكة في السماء .
الثاني : في الهواء عند نزول الملائكة من السماء . وفي حصول السمع قبل أخذهم بالشهاب قولان :
أحدهما : أن الشهاب يأخذهم قبل وصولهم إلى السمع ، فيصرفون عنه .
الثاني : أنه يأخذهم بعد وصول السمع إليهم .
وفي أخذهم بالشهاب قولان :
أحدهما : أنه يخرج ويحرق ولا يقتل ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنه يقتل ، قاله الحسن وطائفة .
فعلى هذا القول في قتلهم بالشهب قبل إلقاء السمع إلى الجن قولان :
أحدهما : أنهم يقتلون قبل إلقائهم ما استرقوه من السمع إلى غيرهم ، فعلى هذا لا تصل أخبار السماء إلى غير الأنبياء ، قاله ابن عباس : ولذلك انقطعت الكهانة .
الثاني : أنهم يقتلون بعد إلقائهم ما استرقوه من السمع إلى غيرهم من الجن ، ولذلك ما يعودون إلى استراقه ، ولو لم يصل لانقطع الإستراق وانقطع الإحراق .
وفي الشهب التي يرجمون بها قولان :
أحدهما : أنها نور يمتد بشدة ضيائه فيحرقهم ولا يعود ، كما إذا أحرقت النار لم تعد .
الثاني : أنها نجوم يرجمون بها وتعود إلى أماكنها ، قال ذو الرمة :
كأنه كوكب في إثر عفريةٍ ... مُسَوَّمٌ في سوادِ الليل منقضبُ
قوله عز وجل : { والأرض مددناها } أي بسطناها . قال قتادة . بسطت من مكة لأنها أم القرى . { وألقينا فيها رواسي } وهي الجبال .
{ وأنبتنا فيها من كل شيء موزون } فيه أربعة أقاويل :
أحدها : يعني مقدر معلوم ، قاله ابن عباس وسعيد بن جبير . وإنما قيل { موزون } لأن الوزن يعرف به مقدار الشيء . قاله الشاعر :
قد كنت قبل لقائكم ذا مِرّةٍ ... عندي لكل مُخاصِم ميزانُه
الثاني : يعني به الأشياء التي توزن في أسواقها ، قاله الحسن وابن زيد .

الثالث : معناه مقسوم ، قاله قتادة .
الرابع : معناه معدود ، قاله مجاهد .
ويحتمل خامساً : أنه ما يوزن فيه الأثمان لأنه أجل قدراً وأعم نفعاً مما لا ثمن له .
قوله عز وجل : { وجعلنا لكم فيها معايش } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : أنها الملابس ، قاله الحسن .
الثاني : أنها المطاعم والمشارب التي يعيشون فيها ، ومنه قول جرير :
تكلفني معيشة آل زيدٍ ... ومَن لي بالمرقق والصنابِ
الثالث : أنها التصرف في أسباب الرزق مدة أيام الحياة ، وهو الظاهر .
{ ومن لستم له برازقين } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها الدواب والأنعام ، قاله مجاهد .
الثاني : أنها الوحوش ، قاله منصور .
الثالث : العبيد والأولاد الذين قال الله فيهم { نحن نرزقهم وإياكم } [ الإسراء : 31 ] قاله ابن بحر .
وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ (23) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25)

قوله عز وجل : { وإن من شيء إلا عندنا خزائنه } يعني وإن من شيء من أرزاق الخلق إلا عندنا خزائنه وفيه وجهان :
أحدهما : يعني مفاتيحه لأن في السماء مفاتيح الأرزاق ، وهو معنى قول الكلبي .
الثاني : أنها الخزائن التي هي مجتمع الأرزاق . وفيها وجهان :
أحدهما : ما كتبه الله تعالى وقدره من أرزاق عباده .
الثاني : يعني المطر المنزل من السماء ، لأنه نبات كل شيء ، قال الحسن : المطر خزائن كل شيء .
{ وما ننزله إلا بقدر معلوم } قال ابن مسعود : ما كان عامٌ بأمطر من عام ولكن الله يقسمه حيث يشاء ، فيمطر قوماً ويحرم آخرين .
قوله عز وجل : { وأرسلنا الرياحَ لواقِحَ } فيه قولان :
أحدهما : لواقح السحاب حتى يمطر ، قاله الحسن وقتادة ، وكل الرياح لواقح . غير أن الجنوب ألقح وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم : « ما هبت ريح جنوب إلا أنبع الله تعالى بها عيناً غدقة
» . الثاني : لواقح للشجر حتى يثمر ، قاله ابن عباس .
وقال أبو عبيدة : لواقح بمعنى ملاقح . وقال عبيد بن عمير : يرسل الله تعالى المبشرة فتقم الأرض قمّاً ، ثم يرسل المثيرة فتثير السحاب ، ثم يرسل المؤلفة فتؤلفه ، ثم يرسل اللواقح فتلقح الشجر .
قوله عز وجل : { فأنزلنا من السماء ماءً } يعني من السحاب مطراً .
{ فأسقيناكموه } أي مكناكم منه ، والفرق بين السقي والشرب أن السقي بذل المشروب ، والشرب : استعمال المشروب ، فصار الساقي باذلاً ، والشارب مستعملاً .
{ وما أنتم له بخازنين } فيه وجهان :
أحدهما : بخازني الماء الذي أنزلناه .
الثاني : بمانعي الماء الذي أنزلناه .
قوله عز وجل : { ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد عَلِمنا المستأخرين } فيه ثمانية تأويلات :
أحدها : أن المستقدمين الذين خلقوا ، والمستأخرين الذين لم يخلقوا ، قاله عكرمة .
الثاني : المستقدمين الذين ماتوا ، والمستأخرين الذين هم أحياء لم يموتوا ، قاله الضحاك .
الثالث : المستقدمين أول الخلق ، والمستأخرين آخر الخلق ، قاله الشعبي .
الرابع : المستقدمين أول الخلق ممن تقدم على أمة محمد ، والمستأخرين أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، قاله مجاهد .
الخامس : المستقدمين في الخير ، والمستأخرين في الشر ، قاله قتادة .
السادس : المستقدمين في صفوف الحرب ، والمستأخرين فيها ، قاله سعيد بن المسيب .
السابع : المستقدمين من قتل في الجهاد ، والمستأخرين من لم يقتل ، قاله القرظي .
الثامن : المستقدمين في صفوف الصلاة ، والمستأخرين فيها .
روى عمر بن مالك عن أبي الجوزاء عن ابن عباس قال : كانت تصلي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأةٌ من أحسن الناس ، لا والله ما رأيت مثلها قط ، فكان بعض الناس يستقدم في الصف الأول لئلا يراها ، ويستأخر بعضهم حتى يكون في الصف المؤخر فإذا ركع نظر من تحت إبطه في الصف ، فأنزل الله تعالى في شأنها هذه الآية .
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27)

قوله عز وجل : { ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حَمَإٍ مسنون } أما الإنسان ها هنا فهو آدم عليه السلام في قول أبي هريرة والضحاك .
أما الصلصال ففيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه الطين اليابس الذي لم تصبه نار ، فإذا نقرته صل فسمعت له صلصلة ، قاله ابن عباس وقتادة ، ومنه قول الشاعر :
وقاعٍ ترى الصَّلصال فيه ودونه ... بقايا بلالٍ بالقرى والمناكبِ
والصلصة : الصوت الشديد المسموع من غير الحيوان ، وهو مثل القعقعة في الثوب .
الثاني : أنه طين خلط برمل ، قاله عكرمة .
الثالث : أنه الطين المنتن ، قاله مجاهد ، مأخوذ من قولهم : صَلَّ اللحمُ وأصَلَّ إذا أنتن ، قال الشاعر :
ذاك فتى يبذل ذا قدرِهِ ... لا يفسد اللحم لديه الصلول
والحمأ : جمع حمأة وهو الطين الأسود المتغير .
وفي المسنون سبعة أقاويل :
أحدها : أن المسنون المنتن المتغير ، من قولهم قد أسن الماء إذا تغير ، قاله ابن عباس ، ومنه قول أبي قيس بن الأسلت :
سَقَتْ صدايَ رضاباً غير ذي أَسَنٍ ... كالمسكِ فُتَّ على ماءٍ العناقيد
الثاني : أن المسنون المنصوب القائم ، من قولهم وجه مسنون ، قاله الأخفش .
الثالث : أن المسنون المصبوب ، من قولهم سنيتُ الماء على الوجه إذا صببته عليه ، قاله أبو عمرو بن العلاء ، ومنه الأثر المروي عن عمر أنه كان يسن الماء على وجهه ولا يشنُّه ، والشن تفريق الماء ، والسن صبه .
الرابع : أن المسنون الذي يحك بعضه بعضاً ، من قولهم سننت الحجر على الحجر إذا حككت أحدهما بالآخر ، ومنه سمي المسَنّ لأن الحديد يسن عليه ، قاله الفراء .
الخامس : أن المسنون المنسوب .
السادس : أنه الرطب ، قاله ابن أبي طلحة .
السابع : أنه المخلص من قولهم سن سيفك أي اجلهُ .
قوله عز وجل : { والجانَّ خلقناه من قبل من نار السموم } وفي الجان ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه إبليس ، قاله الحسن .
الثاني : أنهم الجن حكاه ابن شجرة .
الثالث : أنه أبو الجن قاله الكلبي فآدم أبو الإنس ، والجان : أبو الجن ، وإبليس أبو الشياطين .
قال ابن عباس : الجان أبو الجن وليسوا شياطين . والشياطين ولد إبليس لا يموتون إلا مع إبليس . والجن يموتون ، ومنهم المؤمن ومنهم الكافر .
{ خلقناه من قبل } يعني من قبل آدم . قال قتادة : لأن آدم إنما خلق آخر الخلق .
وقوله تعالى : { من نار السّموم } فيه أربعة أقاويل :
أحدها : يعني من لهب النار ، قاله ابن عباس .
الثاني : يعني من نار الشمس ، قاله عمرو بن دينار .
الثالث : من حر السموم ، والسموم : الريح الحارة . ذكره ابن عيسى .
الرابع : أنه نار السموم نار الصواعق بين السماء وبين حجاب دونها ، قاله الكلبي وسمي سموماً لدخوله في مسام البدن .
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38)

قوله عز وجل : { قال رَبِّ فأنظرني إلى يوم يبعثونَ } وهذا السؤال من إبليس لم يكن من ثقة منه بمنزلته عند الله تعالى وأنه أهل أن يجاب له دعاء ، ولكن سأل تأخير عذابه زيادة في بلائه كفعل الآيس من السلامة . وأراد بسؤاله الإنظار إلى يوم يبعثون أن لا يموت ، لأن يوم البعث لا موت فيه ولا بعده .
فقال الله تعالى : { فإنك من المنظرين } يعني من المؤجلين .
{ إلى يوم الوقت المعلوم } فلم يجبه إلى البقاء .
وفي الوقت المعلوم وجهان :
أحدهما : معلوم عند الله تعالى ، مجهول عند إبليس .
الثاني : إلى يوم النفخة الأولى يموت إبليس . وبين النفخة والنفخة أربعون سنة . فتكون مدة موت إبليس أربعين سنة ، وهو قول ابن عباس وسمي يوم الوقت المعلوم لموت جميع الخلائق فيه .
وليس هذا من الله تعالى إجابة لسؤاله ، لأن الإجابة تكرمة ، ولكن زيادة في بلائه ، ويعرف أنه لا يضر بفعله غير نفسه .
وفي كلام الله تعالى له قولان :
أحدهما : أنه كلمه على لسان رسول .
الثاني : أنه كلمه تغليظاً في الوعيد لا على وجه التكرمة والتقريب .
قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44)

قوله عز وجل : { قال ربِّ بما أغوَيتني } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : بما أضللتني ، قاله ابن عباس .
الثاني : بما خيبتني من رحمتك .
الثالث : بما نسبتني إلى الإغواء .
ويحتمل هذا من إبليس وجهين :
أحدهما : أنه يقوله على وجه القسم وتقديره : وحق إغوائك لي .
الثاني : أنه يقوله على وجه الجزاء ، وتقديره لأجل إغوائك لي .
{ لأزينن لهم في الأرض } يحتمل وجهين :
أحدهما : لأزينن لهم فعل المعاصي .
الثاني : لأشغلنهم بزينة الدنيا عن فعل الطاعة . { ولأغوينهم أجمعين } أي لأضلنهم عن الهدى .
{ إلاّ عبادك منهم المخلصين } وهم الذين أخلصوا العبادة من فساد أو رياء حكى أبو ثمامة أن الحواريين سألوا عيسى عليه السلام عن المخلص للّه ، فقال : الذي يعمل لله ولا يحب أن يحمده الناس .
قوله عز وجل : { قال هذا صراطٌ عليَّ مستقيم } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : معناه هذا صراط يستقيم بصاحبه حتى يهجم به على الجنة ، قاله عمر رضي الله عنه .
الثاني : هذا صراط إليَّ مستقيم ، قاله الحسن فتكون عليَّ بمعنى إليَّ .
الثالث : أنه وعيد وتهديد ، ومعناه أن طريقه إليَّ ومرجعه عليَّ ، كقول القائل لمن يهدده ويوعده : عليَّ طريقك ، قاله مجاهد .
الرابع : معناه هذا صراط ، عليّ استقامته بالبيان والبرهان . وقيل بالتوفيق والهداية . وقرأ الحسن وابن سيرين : { عليٌّ مستقيم } برفع الياء وتنوينها ، ومعناه رفيع مستقيم ، أي رفيع أن ينال ، مستقيم أن يمال .
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (46) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47) لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48) نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)

قوله عز وجل : { ادخلوها بسلامٍ آمنين } في قوله { بسلام } ثلاثة أوجه :
أحدها : بسلامة من النار ، قاله القاسم ابن يحيى .
الثاني : بسلامة تصحبكم من كل آفة ، قاله علي بن عيسى .
الثالث : بتحية من الله لهم ، وهو معنى قول الكلبي .
{ آمنين } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : آمنين من الخروج منها .
الثاني : آمنين من الموت .
الثالث : آمنين من الخوف والمرض .
قوله عز وجل : { ونزعنا ما في صدورهم مِنْ غِلٍّ } فيه وجهان :
أحدهما : نزعنا بالإسلام ما في صدورهم من غل الجاهلية ، قاله علي بن الحسين .
الثاني : نزعنا في الآخرة ما في صدورهم من غل الدنيا ، قاله الحسن ، وقد رواه أبو سعيد الخدري مرفوعاً .
{ إخواناً عَلَى سُرُرٍ متقابلين } في السرر وجهان :
أحدهما : أنه جمع أسرة هم عليها .
الثاني : أنه جمع سرورهم فيه .
وفي { متقابلين } خمسة أوجه :
أحدها : متقابلين بالوجوه يرى بعضهم بعضاً فلا يصرف طرفه عنه تواصلاً وتحابياً ، قاله مجاهد .
الثاني : متقابلين بالمحبة والمودة ، لا يتفاضلون فيها ولا يختلفون ، قاله علي بن عيسى .
الثالث : متقابلين في المنزلة لا يفضل بعضهم فيها على بعض لاتفاقهم على الطاعة واستهوائهم في الجزاء ، قاله أبو بكر بن زياد .
الرابع : متقابلين في الزيارة والتواصل ، قاله قتادة .
الخامس : متقابلين قد أقبلت عليهم الأزواج وأقبلوا عليهم بالود ، حكاه القاسم .
قيل إن هذه الآية نزلت في العشرة من قريش . وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال : إني لأرجو أن أكون أنا وطلحة والزبير منهم .
قوله عز وجل : { نَبِّىء عبادي أني أنا الغفور الرحيم } سبب نزولها ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج على أصحابه وهم يضحكون ، فقال : « تضحكون وبين أيديكم الجنة والنار » فشق ذلك عليهم ، فأنزل الله تعالى : { نَبِّىء عبادي أني أنا الغفور الرحيم }
.
وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53) قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (55) قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56)

قوله عز وجل : { قالوا لا توجل } أي لا تخف ، ومنه قول معن بن أوس :
لعمرك ما أدري وأني لأوجل ... على أينا تعدو المنيةُ أوّلُ
{ إنّا نبشِّرك بغلامٍ عليم } أي بولد هو غلام في صغره ، عليم في كبره ، وهو إسحاق .
لقوله تعالى { فضحكت فبشرناها بإسحاق } .
وفي { عليم } تأويلان :
أحدهما : حليم ، قاله مقاتل .
الثاني : عالم ، قاله الجمهور .
فأجابهم عن هذه البشرى مستفهماً لها متعجباً منها { قال أبَشّرتموني على أن مسنيَ الكبر } أي علو السن عند الإياس من الولد .
{ فبم تبشرونَ } فيه وجهان :
أحدهما : أنه قال ذلك استفهاماً لهم ، هل بشروه بأمر الله؟ ليكون أسكن لنفسه .
الثاني : أنه قال ذلك تعجباً من قولهم ، قاله مجاهد .
{ قالوا بشرناك بالحقّ } أي بالصدق ، إشارة منهم إلى أنه عن الله تعالى .
{ فلا تكن مِنَ القانطين } أي من الآيسين من الولد .
قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60)

قوله عز وجل : { قالوا إنا أُرسلنا إلى قومٍ مجرمين إلاّ آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين } آل لوط اتباعه ومؤمنو قومه ، سمّاهم آلَهُ لنصرتهم له ، وإيمانهم به ، فاستثناهم من المجرمين المأمور بهلاكهم ، فخرجوا بالاستثناء منهم .
ثم قال تعالى { إلاّ امْراَته } فكانت مستثناة من آل لوط ولاحقة بالمجرمين ، لأن كل استثناء يعود إلى ما تقدمه فيخالفه في حكمه . فإن عاد إلى إثبات كان الاستثناء نفياً ، وإن عاد إلى نفي كان الاستثناء إثباتاً ، فصارت امرأة لوط ملحقة بالمجرمين المهلكين .
ومثال هذا في الإقرار أن يقول له : عليّ عشرة إلا سبعة إلا أربعة ، فيكون عليه سبعة لأن الأربعة استثناء يرجع إلى السبعة التي قبلها ، فصار الباقي منها ثلاثة . وتصير الثلاثة الباقية هي الاستثناء الراجع إلى العشرة ، فيبقى منها سبعة .
وهكذا في الطلاق لو قال لزوجته : أنت طالق ثلاثاً أو اثنتين إلا واحدة طلقت ثنتين لأن الواحدة ترجع إلى الثنتين ، فتبقى منها واحدة فتصير الواحدة هي القدر المستثنى من الثلاثة فيصير الباقي منها ثنتين وهكذا حكم قوله : { إلا امرأته } . { قدرنا } فيه وجهان :
أحدهما : معناه قضينا ، قاله النخعي .
الثاني : معناه كتبنا ، قاله علي بن عيسى .
{ إنها لَمِنَ الغابرين } فيه وجهان :
أحدهما : أي من الباقين في العذاب مع المجرمين .
الثاني : من الماضين بالعذاب .
فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66)

قوله عز وجل : { فأسرِ بأهلك بقطع مِن الليل } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : بآخر الليل ، قاله الكلبي .
الثاني : ببعض الليل ، قاله مقاتل .
الثالث : بظلمة الليل ، قاله قطرب ، ومنه قول الشاعر :
ونائحةٍ تنوحُ بقطع ليلٍ ... على رَجُلٍ بقارعةِ الصعيد
قوله عز وجل : { وقضينا إليه ذلك الأمر } أي أوحينا إليه ذلك الأمر .
{ أنّ دابر هؤلاء مقطوع مصبحين } فيه وجهان :
أحدهما : آخرهم .
الثاني : أصلهم .
{ مقطوع مصبحين } أي يستأصلون بالعذاب عند الصباح .
وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ (69) قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70) قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72)

قوله عز وجل : { لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون } لعمرك : قسم فيه أربعة أوجه :
أحدها : معناه وعيشك ، وهذا مروي عن ابن عباس .
الثاني : معناه وعملك ، قاله قتادة .
الثالث : معناه وحياتك ، وهذا مروي عن ابن عباس أيضاً وقال : ما أقسم الله تعالى بحياة غيره .
الرابع : وحقك ، يعني الواجب على أمتك ، والعمر الحق ، ومنه قولهم : لعمر الله ، أي وحق الله . وفي { سكرتهم } وجهان :
أحدهما : في ضلالتهم ، قاله قتادة .
الثاني : في غفلتهم ، قاله الأعمش .
وفي { يعمهون } أربعة أوجه :
أحدها : معناه يترددون ، قاله ابن عباس ومجاهد وأبو العالية وأبو مالك .
الثاني : يتمارون ، قاله السدي .
الثالث : يلعبون ، قاله الأعمش .
الرابع : يمنعون ، قاله الكلبي .
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77)

قوله تعالى : { إنَّ في ذلك لآياتٍ للمتوسمين } فيه خمسة أوجه :
أحدها : للمتفرسين ، قاله مجاهد . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله » ثم تلا هذه الآية . . .
الثاني : للمعتبرين ، قاله قتادة .
الثالث : للمتفكرين ، قاله ابن زيد .
الرابع : للناظرين ، قاله الضحاك . قال زهير بن أبي سلمى :
وفيهن ملهى للصديق ومنظر ... أنيقٌ لعَيْنِ الناظر المتوسم
الخامس : للمبصرين ، قاله أبو عبيدة . قال الحسن : هم الذين يتوسمون الأمور فيعلمون أن الذي أهلك قوم لوط قادر على أن يهلك الكفار ، ومنه قول عبدالله بن رواحة للنبي صلى الله عليه وسلم :
إني توسمت فيك الخير أعرِفُه ... والله يعلم أني ثابت البصر
قوله عز وجل : { وإنها لبسبيل مقيم } فيه تأويلان :
أحدهما : لهلاك دائم ، قاله ابن عباس .
الثاني : لبطريق معلم ، قاله مجاهد . يعني بقوله { وإنما } أهل مدائن قوم لوط وأصحاب الأيكة قوم شعيب .
وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ (79)

قوله عز وجل : { وإن كان أصحاب الأيكة لظالمين } يعني في تكذيب رسول الله إليهم وهو شعيب ، لأنه بعثَ إلى أمتين ، أصحاب الأيكة وأهل مدين . فأما أهل مدين فأهلكوا بالصيحة ، وأما أصحاب الأيكة فأهلكوا بالظلة التي احترقوا بنارها ، قاله قتادة .
وفي { الأيكة } ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها الغيضة ، قاله مجاهد .
الثاني : أنه االشجر الملتف ، وكان أكثر شجرهم الدوم وهو المقل ، وهذا قول ابن جرير ، ومنه قول النابغة الذبياني :
تجلو بِقادِمَتَي حمامةِ أيكة ... بَرَداص أُسفَّ لثاثُهُ الإثمدِ
الثالث : أن الأيكة اسم البلد ، وليكة اسم المدينة بمنزلة بكة من مكة ، حكاه ابن شجرة .
قوله عز وجل : { فانتقمنا منهم وإنهما لبإمامٍ مبينٍ } فيه تأويلان :
أحدهما : لبطريق واضح ، قاله قتادة . وقيل للطريق إمام لأن المسافر يأتم به حتى يصل إلى مقصده .
الثاني : لفي كتاب مستبين ، قاله السدي . وإنما سمي الكتاب إماماً لتقدمه على سائر الكتب ، وقال مؤرج : هو الكتاب بلغة حِمْيَر .
ويعني بقوله { وإنهما } أصحاب الأيكة وقوم لوط .
وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (81) وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (84)

قوله عز وجل : { ولقد كذب أصحاب الحجر المرسلين } وهم ثمود قوم صالح . وفي { الحجر } ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه الوادي ، قاله قتادة .
الثاني : أنها مدينة ثمود ، قاله ابن شهاب .
الثالث : ما حكاه ابن جرير أن الحجر أرض بين الحجاز والشام .
وروى جابر بن عبدالله أن النبي صلى الله عليه وسلم مرّ في غزاة تبوك بالحجر ، فقال : « هؤلاء قوم صالح أهلكهم الله إلاّ رجلاً كان في حَرَم الله ، منعه حرمُ الله من عذاب الله » . قيل : يا رسول الله من هو؟ قال : « أبو رغال
» . قوله عز وجل : { وكانوا ينحتون مِنَ الجبال بيوتاً آمنين } فيه أربعة أوجه :
أحدها : آمنين أن تسقط عليهم .
الثاني : آمنين من الخراب .
الثالث : آمنين من العذاب .
الرابع : آمنين من الموت .
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (86)

قوله عز وجل : { فاصفح الصفح الجميل } فيه أربعة أوجه :
أحدها : أنه الإعراض من غير جزع .
الثاني : أنه صفح المنكر عليهم بكفرهم ، المقيم على وعظهم ، قاله ابن بحر .
الثالث : أنه العفو عنهم بغير توبيخ ولا تعنيف .
الرابع : أنه الرضا بغير عتاب ، قاله علي بن أبي طالب .
وفيه قولان :
أحدهما : أنه أمر بالصفح عنهم في حق الله تعالى ، ثم نسخ بالسيف ، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك ، « لقد أتيتكم بالذبح ، وبعثت بالحصاد ولم أبعث بالزراعة » قاله عكرمة ومجاهد .
الثاني : أنه أمره بالصفح في حق نفسه فيما بينه وبينهم ، قاله الحسن .
وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88)

قوله عز وجل : { ولقد آتيناك سبعاً مِن المثاني والقرآن العظيم } فيه خمسة أقاويل :
أحدها : أن السبع المثاني هي الفاتحة ، سميت بذلك لأنها تثنى كلما قرىء القرآن وصُلّي ، قاله الربيع بن أنس وأبو العالية والحسن . وقيل : لأنها يثني فيها الرحمن الرحيم ، ومنه قول الشاعر :
نشدتكم بمنزل القرآن ... أمّ الكتاب السّبع من مثاني
ثُنِّين مِن آيٍ مِن القرآن ... والسبع سبع الطول الدواني
الثاني : أنها السبع الطوَل : البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف ويونس ، قاله ابن مسعود وابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد .
قال ابن عباس : سميت المثاني لما تردد فيها من الأخبار والأمثال والعبر وقيل : لأنها قد تجاوزت المائة الأولى إلى المائة الثانية . قال جرير :
جزى الله الفرزدق حين يمسي ... مضيعاً للمفصل والمثاني
الثالث : أن المثاني القرآن كله ، قاله الضحاك ، ومنه قول صفية بنت عبد المطلب ترثي رسول الله صلى الله عليه وسلم :
فقد كان نوراً ساطعاً يهتدى به ... يخص بتنزيل المثاني المعظم
الرابع : أن المثاني معاني القرآن السبعة أمر ونهي وتبشير وإنذار وضرب أمثال وتعديد نعم وأنباء قرون ، قاله زياد بن أبي مريم .
الخامس : أنه سبع كرامات أكرمه الله بها ، أولها الهدى ثم النبوة ، ثم الرحمةِ ثم الشفقة ثم المودة ثم الألفة ثم السكينة وضم إليها القرآن العظيم ، قاله جعفر بن محمد الصادق رضي الله عنهما .
قوله عز وجل : { لا تمدن عينيك إلى ما متّعنا به أزواجاً منهم } يعني ما متعناهم به من الأموال .
وفي قوله : { أزواجاً منهم } ثلاثة أوجه :
أحدها : أنهم الأشباه ، قاله مجاهد .
الثاني : أنهم الأصناف قاله أبو بكر بن زياد .
الثالث : أنهم الأغنياء ، قاله ابن أبي نجيح .
{ ولا تحزن عليهم } فيه وجهان :
أحدهما : لا تحزن عليهم بما أنعمت عليهم في دنياهم .
الثاني : لا تحزن بما يصيرون إليه من كفرهم .
{ واخفض جناحك للمؤمنين } فيه وجهان :
أحدهما : اخضع لهم ، قاله سعيد بن جبير .
الثاني : معناه أَلِنْ جانبك لهم ، قال الشاعر :
وحسبك فتيةٌ لزعيم قومٍ ... يمدّ على أخي سُقْم جَناحا
وروى أبو رافع أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل به ضيف فلم يلق عنده أمراً يصلحه ، فأرسل إلى رجل من اليهود يستسلف منه دقيقاً إلى هلال رجب ، فقال : لا إلاّ برهن ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم « أما والله إني لأمينٌ في السماء وأمين في الأرض ، ولو أسلفني أو باعني لأدّيتُ إليه » فنزلت عليه { لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم }
.
وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)

قوله عز وجل : { كما أنزلنا على المقتسمين } فيهم سبعة أقاويل :
أحدها : أنهم أهل الكتاب من اليهود والنصارى اقتسموا القرآن فجعلوه أعضاءً أي أجزاءً فآمنوا ببعض منها وكفروا ببعض ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنهم أهل الكتاب اقتسموا القرآن استهزاءً به ، فقال بعضهم : هذه السورة لي ، وهذه السورة لك ، فسموا مقتسمين ، قاله عكرمة .
الثالث : أنهم أهل الكتاب اقتسموا كتبهم ، فآمن بعضهم ببعضها ، وآمن آخرون منهم بما كفر به غيرهم وكفروا بما آمن به غيرهم ، فسماهم الله تعالى مقتسمين ، قاله مجاهد .
الرابع : أنهم قوم صالح تقاسموا على قتله ، فسموا مقتسمين ، كما قال تعالى { قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله } [ النمل : 49 ] قاله ابن زيد .
الخامس : أنهم قوم من كفار قريش اقتسموا طرق مكة ليتلقوا الواردين إليها من القبائل فينفروهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه ساحر أو شاعر أو كاهن أو مجنون ، حتى لا يؤمنوا به ، فأنزل الله تعالى عليهم عذاباً فأهلكهم ، قاله الفراء .
السادس : أنهم قوم من كفار قريش قسموا كتاب الله ، فجعلوا بعضه شعراً وبعضه كهانة وبعضه أساطير الأولين ، قاله قتادة .
السابع : أنهم قوم أقسموا أيماناً تحالفوا عليها ، قاله الأخفش .
وقيل إنهم العاص بن وائل وعبتة وشيبة ابنا ربيعة وأبو جهل بن هشام وأبو البختري بن هشام والنضر بن الحارث ، وأمية بن خلف ومنبه بن الحجاج .
قوله عز وجل : { الذين جعلوا القرآن عضين } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : يعني فرقاً ، فجعلوا بعضه شعراً ، وبعضه سحراً ، وبعضه كهانة ، وبعضه أساطير الأولين ، فجعلوه أعضاء كما يعضّى الجزور و { عضين } جمع عضو ، مأخوذ من عضَّيت الشيء تعضية إذا فرقته كما قال رؤبة بن العجاج :
وليس دينُ الله بالمعضى ... يعني بالمفرَّق ، قاله ابن عباس والضحاك .
الثاني : أن العضين جمع عضه وهو البهت ، ومن قولهم : عضهتُ الرجل أعضهه عضهاً إذا بهتّه ، لأنهم بهتوا كتاب الله تعالى فيما رموه به ، قاله قتادة . ومنه قول الشاعر :
إن العضيهة ليستْ فعل أحرار ... الثالث : أن العضين المستهزئون ، لأنه لما ذكر في القرآن البعوض والذباب والنمل والعنكبوت قال أحدهم : أنا صاحب البعوض ، وقال آخر : أنا صاحب الذباب وقال آخر : أنا صاحب النمل . وقال آخر : أنا صاحب العنكبوت ، استهزاء منهم بالقرآن ، قاله الشعبي والسدي .
الرابع : أنه عنى بالعضه السحر ، لأنهم جعلوا القرآن سحراً ، قاله مجاهد ، قال الشاعر :
لك من عضائهن زمزمة ... يعني من سحرهن . وقال عكرمة : العضه السحر بلسان قريش يقولون للساحرة العاضهة ، ومنه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لعن العاضهة والمستعضهه ، يعني الساحرة والمستسحرة .
وفي اشتقاق العضين وجهان :
أحدهما : أنه مشتق من الأعضاء ، وهو قول عبيدة .
الثاني : أنه مشتق من العضه وهو السحر ، وهو قول الفراء .
قوله عز وجل : { فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : يعني عما كانوا يعبدون ، قاله أبو العالية .
الثاني : عما كانوا يعبدون ، وماذا أجابوا المرسلين ، رواه الربيع بن أنس .
فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)

قوله عز وجل : { فاصدع بما تؤمر } فيه ستة تأويلات :
أحدها : فامضِ بما تؤمر ، قاله ابن عباس .
الثاني : معناه فاظهر بما تُؤمر ، قاله الكلبي . قال الشاعر :
ومَن صادعٌ بالحق يعدك ناطقٌ ... بتقوى ومَن إن قيل بالجوْر عيّرا
الثالث : يعني إجهر بالقرآن في الصلاة ، قاله مجاهد .
الرابع : يعني أعلن بما يوحى إليك حتى تبلغهم ، قاله ابن زيد .
الخامس : معناه افرق بين الحق والباطل ، قاله ابن عيسى .
السادس : معناه فرق القول فيهم مجتمعين وفرادى ، حكاه النقاش .
وقال رؤية : ما في القرآن أعْرَبُ من قوله { فاصدع بما تؤمر } { وأعرض عن الجاهلين } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه منسوخ بقوله تعالى { فاقتلوا المشركين } [ التوبة : 5 ] قاله ابن عباس .
الثاني : أعرض عن الاهتمام باستهزائهم .
الثالث : معناه بالاستهانة بهم ، قاله ابن بحر .
ثم فيه وجهان :
أحدهما : اصدع الحق بما تؤمر من اظهاره .
الثاني : اصدع الباطل بما تؤمر من إبطاله .
قوله تعالى : { إنّا كفيناكَ المستهزئينَ } وهم خمسة : الوليد بن المغيرة ، والعاص بن وائل ، وأبو زمعة ، والأسود بن عبد يغوث ، والحراث بن الطلاطلة . أهلكهم الله جميعاً قبل بدر لاتسهزائهم برسول الله صلى الله عليه وسلم .
وسبب هلاكهم ما حكاه مقسم وقتادة أن الوليد بن المغيرة ارتدى فعلق سهم بردائه ، فذهب فجلس فقطع أكحله فنزف فمات . وأما العاص بن وائل فوطىء على شوكة ، فتساقط لحمه عن عظامه ، فمات ، وأما أبو زمعة فعمى . وأما الأسود بن عبد يغوث فإنه أتى بغصن شوك فأصاب عينيه ، فسالت حدقتاه على وجهه ، فكان يقول : [ دعا ] عليّ محمد فاستجيب له ، ودعوت عليه فاستجيب لي ، دعا عليّ أن أعمى فعميت ، ودعوت عليه أن يكون طريداً بيثرب ، فكان كذلك ، وأما الحارث بن الطلاطلة فإنه استسقى بطنه ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجبريل [ حين ] نزل عليه بقوله تعالى : { إنا كفيناك المستهزئين } « دع لي خالي » يعني الأسود بن الطلاطلة فقال له : كفيت .
قوله عز وجل : { ولقد نعلم أنّك يضيق صدرك } أي قلبك لأن الصدر محل القلب .
{ بما يقولون } يعني من الاستهزاء ، وقيل من الكذب بالحق .
{ فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين } فيه وجهان :
أحدهما : الخاضعين .
الثاني : المصلين .
{ واعبد ربك حتى يأتيك اليقين } فيه وجهان :
أحدهما : الحق الذي لا ريب فيه من نصرك على أعدائك ، قاله شجرة .
الثاني : الموت الذي لا محيد عنه ، قاله الحسن ومجاهد وقتادة .
أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1)

قوله تعالى : { أتى أمرُ الله فلا تستعجلوهُ } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : أنه بمعنى سيأتي أمر الله تعالى .
الثاني : معناه دنا أمر الله تعالى .
الثالث : أنه مستعمل على حقيقة إتيانه في ثبوته واستقراره . وفي { أمر } أربعة أقاويل : أحدها : أنه إنذار رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قاله أبو مسلم .
الثاني : أنه فرائضه وأحكامه ، قاله الضحاك .
الثالث : أنه وعيد أهل الشرك ونصرة الرسول صلى الله عليه وسلم قاله ابن جريج .
الرابع : أنه القيامة ، وهو قول الكلبي . وروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال لما نزلت : { أتى أمر الله } رفعوا رؤوسهم فنزل { فلا تستعجلوه } أي فلا تستعجلوا وقوعه .
وحكى مقاتل بن سليمان أنه لما قرأ جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم { أتى أمر الله } نهض رسول الله خوفاً من حضورها حتى قرأ { فلا تستعجلوه } .
ويحتمل وجهين :
أحدهما : فلا تستعجلوا التكذيب فإنه لن يتأخر .
الثاني : فلا تستعجلوا أن يتقدم قبل وقته ، فإنه لن يتقدم .
يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (2)

قوله عز وجل : { ينزل الملائكة بالروحِ من أمره على من يشاء من عبادِهِ } فيه خمسة تأويلات :
أحدها : أن الروح ها هنا الوحي ، وهو النبوة ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنه كلام الله تعالى وهو القرآن ، قاله الربيع ابن أنس .
الثالث : أنه بيان الحق الذي يجب اتباعه ، قاله ابن عيسى .
الرابع : أنها أرواح الخلق . قال مجاهد لا ينزل ملك إلا ومعه روح .
الخامس : أن الروح الرحمة ، قاله الحسن وقتادة .
ويحتمل تأويلاً سادساً : أن يكون الروح الهداية ، لأنها تحيا بها القلوب كما تحيي الروح الأبدان .
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4) وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7)

قوله تعالى : { خَلَقَ الإنسان من نطفةٍ فإذا هو خصيم مبين } .
الخصيم المحتج في الخصومة ، والمبين هو المفصح عما في ضميره . وفي صفته بذلك ثلاثة أوجه :
أحدها : تعريف قدرة الله تعالى في إخراجه من النطفة المهينة إلى أن صار بهذه الحال في البيان والمكنة .
الثاني : ليعرفه نعم الله تعالى عليه في إخراجه إلى هذه الحال بعدما خلقه من نطفة مهينة .
الثالث : يعرفه فاحش ما ارتكب من تضييع النعمة بالخصومة في الكفر ، قاله الحسن . وذكر الكلبي أن هذه الآية نزلت في أُبي بن خلف الجمحي حين أخذ عظاماً نخرة فذراها وقال : أنُعادُ إذا صرنا هكذا .
قوله عز وجل : { والأنعام خلقها لكم فيها دفءٌ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه اللباس ، قاله ابن عباس .
الثاني : ما ستدفىء به من أصوافها وأوبارها وأشعارها ، قاله الحسن .
الثالث : أن الدفء صغار أولادها التي لا تركب ، حكاه الكلبي . { ومنافِعُ } فيها وجهان :
أحدهما : النسل ، قاله ابن عباس .
الثاني : يعني الركوب والعمل . { ومنها تأكلون } يعني اللبن واللحم . قوله عز وجل : { ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون } يحتمل وجهين :
أحدهما : أن الرواح من المراعي إلى الأفنية ، والسراح انتشارها من الأفنية إلى المراعي .
الثاني : أنه على عموم الأحوال في خروجها وعودها من مرعى أو عمل أو ركوب وفي الجمال بها وجهان :
أحدهما : قول الحسن إذا رأوها : هذه نَعَمُ فلان ، قاله السدي .
الثاني : توجه الأنظار إليها ، وهو محتمل .
وقد قدم الرواح على السراح وإن كان بعده لتكامل درها ولأن النفس به أسَرُّ . { وتحمل أثقالكم إلى بلدٍ لم تكونوا بالغيه إلا بِشِقِّ الأنفس } في البلد قولان :
أحدهما : أنه مكة لأنها من بلاد الفلوات .
الثاني : أنه محمول على العموم في كل بلد مسلكه على الظهر .
{ إلا بشق الأنفس } فيه وجهان :
أحدهما : أنكم لولاها ما بلغتموه إلا بشق الأنفس .
الثاني : أنكم مع ركوبها لا تبلغونه إلا بشق الأنفس ، فكيف بكم لو لم تكن .
وفي شق الأنفس وجهان :
أحدهما : جهد النفس ، مأخوذ من المشقة .
الثاني : أن الشق النصف فكأنه يذهب بنصف النفس .
وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8)

قوله تعالى : { . . . ويخلق ما لا تعلمُون } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : ما لا تعلمون من الخلق ، وهو قول الجمهور .
الثاني : في عين تحت العرش ، قاله ابن عباس .
الثالث : ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها أرض بيضاء مسيرة الشمس ثلاثين يوماً . مشحونة خلقاً لا يعلمون أن الله يعصى في الأرض ، قالوا : يا رسول الله فأين إبليس عنهم؟ قال « لا يعلمون أن الله خلق إبليس » ثم تلا { ويخلق ما لا تعلمون }
.
وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13)

{ وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر } يحتمل وجهين :
أحدهما : وعلى الله قصد الحق في الحكم بين عباده ومنهم جائر عن الحق في حكمه .
الثاني : وعلى الله أن يهدي إلى قصد الحق في بيان السبيل ، ومنهم جائر عن سبيل الحق ، أي عادل عنه لا يهتدي إليه . وفيهم قولان : أحدهما : أنهم أهل الأهواء المختلفة ، قاله ابن عباس .
الثاني : ملل الكفر .
وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18)

قوله عز وجل : { وَتَرَى الفلك مواخِرَ فيه } فيه خمسة أوجه :
أحدها : أن المواخر المواقر ، قاله الحسن .
الثاني : أنها التي تجري فيه معترضة ، قاله أبو صالح .
الثالث : أنها تمخر الريح من السفن ، قاله مجاهد : لأن المخر في كلامهم هبوب الريح .
الرابع : أنها تجري بريح واحدة مقبلة ومدبرة ، قاله قتادة .
الخامس : أنها التي تشق الماء من عن يمين وشمال ، لأن المخر في كلامهم شق الماء وتحريكه قاله ابن عيسى .
{ ولتبتغوا من فضله } يحتمل وجهين :
أحدهما : بالتجارة فيه .
الثاني : بما تستخرجون من حليته ، وتأكلونه من لحومه .
قوله عز وجل : { وعلاماتٍ وبالنجم هم يهتدون } في العلامات ثلاثة أقاويل : أحدها : أنها معالم الطريق بالنهار ، وبالنجوم يهتدون بالليل ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنها النجوم أيضاً لأن من النجوم ما يهتدي بها ، قاله مجاهد وقتادة والنخعي .
الثالث : أن العلامات الجبال . وفي { النجم } قولان :
أحدهما : أنه جمع النجوم الثابتة ، فعبر عنها بالنجم الواحد إشارة إلى الجنس .
الثاني : أنه الجدي وحده لأنه أثبت النجوم كلها في مركزه .
وفي المراد بالاهتداء بها قولان :
أحدهما : أنه أراد الاهتداء بها في جميع الأسفار ، قاله الجمهور .
الثاني : أنه أراد الاهتداء به في القِبلة . قال ابن عباس : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى { وبالنجم هم يهتدون } قال « هو الجدي يا ابن عباس عليه قبلتكم ، وبه تهتدون في بركم وبحركم
» . قوله عز وجل : { وإن تعدوا نعمة اللهِ لا تحصوها } فيه وجهان :
أحدهما : لا تحفظوها ، قال الكلبي . الثاني : لا تشكروها وهو مأثور . ويحتمل المقصود بهذا الكلام وجهين :
أحدهما : أن يكون خارجاً مخرج الامتنان تكثيراً لنعمته أن تحصى .
الثاني : أنه تكثير لشكره أن يؤدى . فعلى الوجه الأول يكون خارجاً مخرج الامتنان . وعلى الوجه الثاني خارجاً مخرج الغفران .
وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (19) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21) إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24)

قوله عز وجل : { وَإذَا قيل لهم ماذا أنزل ربُّكم } يعني وإذا قيل لمن تقدم ذِكره ممن لا يؤمن بالآخرة وقلوبهم منكرة بالبعث .
{ مَّاذَا أنزل ربكم } يحتمل القائل ذلك لهم وجهين :
أحدهما : أنه قول بعض لبعض ، فعلى هذا يكون معناه ماذا نسب إلى إنزال ربكم ، لأنهم منكرون لنزوله من ربهم .
والوجه الثاني : أنه من قول المؤمنين لهم اختباراً لهم ، فعلى هذا يكون محمولاً على حقيقة نزوله منه .
{ قالوا أساطير الأولين } وهذا جوابهم عما سئلوا عنه ويحتمل وجهين :
أحدهما : أي أحاديث الأولين استرذالاً له واستهزاءَ به .
الثاني : أنه مثل ما جاء به الأولون ، تكذيباً له ولجميع الرسل .
لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25)

قوله عز وجل : { ليحملوا أوزارهم } أي أثقال كفرهم وتكذيبهم .
{ كاملة يوم القيامة } يحتمل وجهين :
أحدهما : أنها لم تسقط بالتوبة .
الثاني : أنها لم تخفف بالمصائب .
{ ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علمٍ } يعني أنه قد اقترن بما حملوه من أوزارهم ما يتحملونه من أوزار من أضلوهم .
ويحتمل وجهين : أحدهما : أن المضل يتحمل أوزار الضال بإغوائه .
الثاني : أن الضال يتحمل أوزار المضل بنصرته وطاعته .
ويحتمل قوله تعالى { بغير علمٍ } وجهين :
أحدهما : بغير علم المضلّ بما دعا إليه .
الثاني : بغير علم الضال بما أجاب إليه .
ويحتمل المراد بالعلم وجهين :
أحدهما : يعني أنهم يتحملون سوء أوزارهم لأنه تقليد بغير استدلال ولا شبهة .
الثاني : أراد أنهم لا يعلمون بما تحملوه من أوزار الذين يضلونهم .
{ ألا ساءَ ما يزرون } يحتمل وجهين :
أحدهما : يعني أنهم يتحملون سوء أوزارهم .
الثاني : معناه أنه يسوؤهم ما تحملوه من أوزارهم . فيكون على الوجه الأول معجلاً في الدنيا ، وعلى الوجه الآخر مؤجلاً في الآخرة .
قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ (27)

قوله عز وجل : { قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد } فيه قولان :
أحدهما : أنه هدم بنيانهم من قواعدها وهي الأساس .
الثاني : أنه مثل ضربه الله تعالى لاستئصالهم .
{ فخرّ عليهم السقف من فوقهم } فيه وجهان :
أحدهما : فخرّ أعالي بيوتهم وهم تحتها ، فلذلك قال { من فوقهم } وإن كنا نعلم أن السقف عال إلا أنه لا يكون فوقهم إذ لم يكونوا تحته ، قاله قتادة .
الثاني : يعني أن العذاب أتاهم من السماء التي هي فوقهم ، قاله ابن عباس .
وفي الذين خر عليهم السقف من فوقهم ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه النمرود بن كنعان وقومه حين أراد صعود السماء وبنى الصرح . فهدمه الله تعالى عليه ، قاله ابن عباس وزيد بن أسلم .
الثاني : أنه بختنصر وأصحابه ، قاله بعض المفسرين .
الثالث : يعني المقتسمين الذين ذكرهم الله تعالى في سورة الحجر ، قاله الكلبي .
الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29) وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32)

قوله عز وجل : { الَّذِين تتوفّاهم الملائكة ظالمي أنفسهم } قال عكرمة : نزلت هذه الآية في قوم أسلموا بمكة ولم يهاجروا ، فأخرجتهم قريش إلى بدر كرها ، فقتلوا ، فقال الله { الذين تتوفاهم الملائكة } يعني بقبض أرواحهم . { ظالمي أنفسهم } في مقامهم بمكة وتركهم الهجرة . { فألقوا السّلَمَ } يعني في خروجهم معهم وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه الصلح ، قاله الأخفش .
الثاني : الاستسلام ، قاله قطرب .
الثالث : الخضوع ، قاله مقاتل . { ما كنا نعمل من سوء } يعني من كفر .
{ بَلَى إن الله عليمٌ بما كنتم تعملون } يعني إن أعمالهم أعمال الكفار .
قوله عز وجل : { . . . ولدار الآخرة خيرٌ } يحتمل وجهين :
أحدهما : أن الجنة خير من النار ، وهذا وإن كان معلوماً فالمراد به تبشيرهم بالخلاص منها .
الثاني : أنه أراد أن الآخرة خير من دار الدنيا ، قاله الأكثرون .
{ ولنعم دار المتقين } فيه وجهان :
أحدهما : ولنعم دار المتقين الآخرة . الثاني : ولنعم دار المتقين الدنيا ، قال الحسن : لأنهم نالوا بالعمل فيها ثواب الآخرة ودخول الجنة . قوله تعالى : { الذين تتوفاهم الملائكة طيبين }
قيل معناه صالحين .
ويحتمل طيبي الأنفس ثقة بما يلقونه من ثواب الله تعالى .
ويحتمل وجهاً ثالثاً أن تكون وفاتهم وفاة طيبة سهلة لا صعوبة فيها ولا ألم بخلاف ما تقبض عليه روح الكافر .
{ يقولون سلام عليكم } يحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون السلام عليهم إنذاراً لهم بالوفاة .
الثاني : أن يكون تبشيراً لهم بالجنة ، لأن السلام أمان .
{ ادخلوا الجنة } يحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون معناه أبشروا بدخول الجنة .
الثاني : أن يقولوا ذلك لهم في الآخرة .
{ بما كنتم تعملون } يعني في الدنيا من الصالحات .
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (34) وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35) وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (39) إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40) وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42)

قوله عز وجل : { والذين هاجروا في الله من بَعْدِ ما ظُلِموا } يعني من بعد ما ظلمهم أهل مكة حين أخرجوهم إلى الحبشة بعد العذاب والإبعاد .
{ لنبوئنهم في الدنيا حسنة } فيه أربعة أقاويل : أحدها : نزول المدينة ، قاله ابن عباس والشعبي وقتادة .
الثاني : الرزق الحسن ، قاله مجاهد .
الثالث : أنه النصر على عدوهم ، قاله الضحاك .
الرابع : أنه لسان صدق ، حكاه ابن جرير . ويحتمل قولاً خامساً : أنه ما استولوا عليه من فتوح البلاد وصار لهم فيها من الولايات .
ويحتمل قولاً سادساً : أنه ما بقي لهم في الدنيا من الثناء ، وما صار فيها لأولادهم من الشرف .
وقال داود بن إبراهيم : نزلت هذه الآية في أبي جندل بن سهل ، وقال الكلبي : نزلت في بلال وعمار وصهيب وخباب بن الأرتّ عذبهم أهل مكة حتى قالوا لهم ما أرادوا في الدنيا ، فلما خلوهم هاجروا إلى المدينة .
وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا دفع إلى المهاجرين العطاء قال : هذا ما وعدكم الله في الدنيا ، وما خولكم في الآخرة أكثر ، ثم تلا عليهم هذه الآية :
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)

قوله عز وجل : { وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم } هذا خطابٌ لمشركي قريش .
{ فاسألوا أهل الذكر إن كنت لا تعلمون } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن أهل الذكر العلماء بأخبار من سلف من القرون الخالية الذين يعلمون أن الله تعالى ما بعث رسولاً إلا من رجال الأمة ، وما بعث إليهم ملكاً .
الثاني : أنه عنى بأهل الذكر أهل الكتاب خاصة ، قاله ابن عباس ومجاهد .
الثالث : أنهم أهل القرآن ، قاله ابن زيد .
قوله تعالى : { . . . وأنزلنا إليك الذِّكر لتبين للناس ما نُزِّلَ إليهم } تأويلان :
أحدهما : أنه القرآن . الثاني : أنه العلم .
أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47)

قوله عز وجل : { أو يأخذهم في تقلبهم فما هم بمعجزين } فيه أربعة أوجه :
أحدها : في إقبالهم وإدبارهم ، قاله ابن بحر .
الثاني : في اختلافهم ، قاله ابن عباس . الثالث : بالليل والنهار ، قاله ابن جريج .
الرابع : في سفرهم .
{ أو يأخذهم على تخوفٍ } فيه ستة أوجه :
أحدها : يعني على تنقص بأن يهلك واحد بعد واحد فيخافون الفناء ، قاله ابن عباس ومجاهد والضحاك .
الثاني : على تقريع بما قدموه من ذنوبهم ، وهذا مروي عن ابن عباس أيضاً .
الثالث : على عجل ، وهذا قول الليث .
الرابع : أن يهلك القرية فتخاف القرية الأخرى ، قاله الحسن .
الخامس : أن يعاقبهم بالنقص من أموالهم وثمارهم ، قاله الزجاج . { فإن ربكم لرءُوف رحيم } أي لا يعاجل بل يمهل .
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50)

قوله عز وجل : { أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيؤا ظِلالُهُ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : يرجع ظلالُه ، لأن الفيء الرجوع ، ولذلك كان اسماً للظل بعد الزوال لرجوعه .
الثاني : معناه تميل ظلاله ، قاله ابن عباس .
الثالث : تدور ظلاله ، قاله ابن قتيبة .
الرابع : تتحول ظلاله ، قاله مقاتل .
{ عن اليمين والشمائل } فيه وجهان :
أحدهما : يعني تارة إلى جهة اليمين ، وتارة إلى جهة الشمال ، قاله ابن عباس . لأن الظل يتبع الشمس حيث دارت .
الثاني : أن اليمين أول النهار ، والشمال آخر النهار ، قاله قتادة والضحاك .
{ سجداً لله } فيه ثلاث تأويلات :
أحدهما : أن ظل كل شيء سجوده ، قاله قتادة .
الثاني : أن سجود الظلال سجود أشخاصها ، قاله الضحاك .
الثالث : أن سجود الظلال كسجود الأشخاص تسجد لله خاضعة ، قاله الحسن . ومجاهد .
وقال الحسن : أما ظلك فيسجد لله ، وأما أنت فلا تسجد لله ، فبئس والله ما صنعت .
{ وهم داخرون } أي صاغرون خاضعون ، قال ذو الرمة :
فلم يبق إلا داخرُ في مخيس ... ومنحجر في غير أرضك حُجر
قوله عز وجل : { ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض من دابة والملائكة } أما سجود ما في السموات فسجود خضوع وتعبد ، وأما سجود ما في الأرض من دابة فيحتمل وجهين :
أحدهما : أن سجوده خضوعه لله تعالى .
الثاني : أن ظهور ما فيه من قدرة الله يوجب على العباد السجود لله سبحانه .
وفي تخصيص الملائكة بالذكر ، وإن دخلوا في جملة من في السموات والأرض وجهان :
أحدهما : أنه خصهم بالذكر لاختصاصهم بشرف المنزلة فميزهم من الجملة بالذكر وإن دخلوا فيها .
الثاني : لخروجهم من جملة من يدب ، لما جعل الله تعالى لهم من الأجنحة فلم يدخلوا في الجملة ، فلذلك ذكروا .
وجواب ثالث : أن في الأرض ملائكة يكتبون أعمال العباد لم يدخلوا في جملة ملائكة السماء فلذلك أفردهم بالذكر .
{ وهم لا يستكبرون } يحتمل وجهين :
أحدهما : لا يستكبرون عن السجود لله تعالى .
الثاني : لا يستكبرون عن الخضوع لقدرة الله .
{ يخافون رَبَّهم من فوقهم } فيه وجهان :
أحدهما : يعني عذاب ربهم من فوقهم لأن العذاب ينزل من السماء .
الثاني : يخافون قدرة الله التي هي فوق قدرتهم وهي في جميع الجهات .
{ ويفعلون ما يؤمرون } فيه وجهان :
أحدهما : من العبادة ، قاله ابن عباس .
الثاني : من الانتقام من العصاة .
وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55)

قوله تعالى : { . . . وله الدين واصباً }
في { الدين } ها هنا قولان :
أحدهما : أنه الإخلاص ، قاله مجاهد .
الثاني : أنه الطاعة ، قاله ابن بحر .
وفي قوله تعالى : { واصباً } أربعة تأويلات :
أحدها : واجباً ، قاله ابن عباس .
الثاني : خالصاً ، حكاه الفراء والكلبي .
الثالث : مُتعِباً ، والوصب : التعب والإعياء ، قال الشاعر :
لا يشتكي الساق مِن أين ولا وصَبٍ ... ولا يزال أمام القوم يقتَفِرُ
الرابع : دائماً ، قاله الحسن ومجاهد وقتادة والضحاك ، ومنه قوله تعالى { ولهم عذاب واصب } [ الصافات : 9 ] أي دائم ، وقال الدؤلي :
لا أبتغي الحمد القليل بقاؤه ... يوماً بذم الدهر أجمع واصبا
قوله عز وجل : { . . . ثم إذا مَسّكُم الضُّرُّ فإليه تجأرون }
في { الضر } ها هنا ثلاثة تأويلات :
أحدها : أنه القحط ، قاله مقاتل .
الثاني : الفقر ، قاله الكلبي .
الثالث : السقم ، قاله ابن عباس .
{ فإليه تجأرون } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : تضجون ، قاله ابن قتيبة .
الثاني : تستغيثون .
الثالث : تضرعون بالدعاء ، وهو في اللغة الصياح مأخوذ من جؤار الثور وهو صياحه .
وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59) لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60)

قوله عز وجل : { وإذا بُشِّر أحَدُهُم بالأنثى ظلَّ وجهُهُ مسودّاً وهو كظيمٌ } في قوله { مسودّاً } ثلاثة أوجه :
أحدها : مسود اللون ، قاله الجمهور . الثاني : متغير اللون بسواد أو غيره ، قاله مقاتل . الثالث : ان العرب تقول لكل من لقي مكروهاً قد اسودّ وجهه غماً وحزناً ، قاله الزجاج .
ومنه : سَوَّدْت وجه فلان ، إذا سُؤتَه .
{ وهو كظيم } فيه ثلاثة أوجه : أحدها : أن الكظيم الحزين ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنه الذي يكظم غيظه فلا يظهر ، قاله الأخفش .
الثالث : أنه المغموم الذي يطبق فاه فلا يتكلم من الفم ، مأخوذ من الكظامة وهو سد فم القربة ، قاله ابن عيسى .
{ . . . أيمسكُهُ على هُونٍ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : هو الهوان بلغة قريش ، قاله اليزيدي .
الثاني : هو القليل بلغة تميم ، قاله الفراء .
الثالث : هو البلاء والمشقة ، قاله الكسائي . قالت الخنساء :
نهينُ النفوس وهون النفو ... س يوم الكريهة أبقى لها
{ أم يدُسُّهُ في التراب } فيه وجهان :
أحدهما : أنها الموءُودة التي تدس في التراب قتلاً لها .
الثاني : أنه محمول على إخفائه عن الناس حتى لا يعرفوه كالمدسوس في التراب لخفائه عن الأبصار . وهو محتمل .
قوله عز وجل : { للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء } يحتمل وجهين :
أحدهما : صفة السوء من الجهل والكفر .
الثاني : وصفهم الله تعالى بالسوء من الصاحبة والولد .
{ ولله المَثلُ الأعلى } فيه وجهان :
أحدهما : الصفة العليا بأنه خالق ورزاق وقادر ومُجازٍ . الثاني : الإخالص والتوحيد ، قاله قتادة .
وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (61) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62)

قوله عز وجل : { ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم } يعني في الدنيا بالانتقام لأنه يمهلهم في الأغلب من أحوالهم .
{ ما ترك عليها من دابّةٍ } يعني بهلاكهم بعذاب الاستئصال من أخذه لهم بظلمهم . { ولكن يؤخرهم إلى أجلٍ مسمى } فيه وجهان :
أحدهما : إلى يوم القيامة .
الثاني : تعجيله في الدنيا . فإن قيل : فكيف يعمهم بالهلاك مع أن فيهم مؤمناً ليس بظالم؟ فعن ذلك ثلاثة أجوبة :
أحدها : أنه يجعل هلاك الظالم انتقاماً وجزاء ، وهلاك المؤمن معوضاً بثواب الآخرة .
الثاني : ما ترك عليها من دابة من أهل الظلم .
الثالث : يعني أنه لو أهلك الآباء بالكفر لم يكن الأبناء ولا نقطع النسل فلم يولد مؤمن .
قوله عز وجل : { ويجعلون لله ما يكرهون } يعني من البنات . { وتصف ألسنتهم الكذب أنّ لهم الحُسنَى } فيه وجهان :
أحدهما : أن لهم البنين مع جعلهم لله ما يكرهون من البنات ، قاله مجاهد .
الثاني : معناه أن لهم من الله الجزاء الحسن ، قاله الزجاج . { لا جرم أن لهم النار } فيه أربعة أوجه :
أحدهما : معناه حقاً أن لهم النار . الثاني : معناه قطعاً أن لهم النار .
الثالث : اقتضى فعلهم أن لهم النار .
الرابع : معناه بلى إن لهم النار ، قاله ابن عباس .
{ وأنهم مفرطون } فيه خمسة تأويلات :
أحدها : معناه منسيون ، قاله مجاهد .
الثاني : مضيّعون ، قاله الحسن .
الثالث : مبعدون في النار ، قاله سعيد بن جبير .
الرابع : متروكون في النار ، قاله الضحاك .
الخامس : مقدَّمون إلى النار ، قاله قتادة . ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : « أنا فَرَطكم على الحوض » أي متقدمكم ، وقال القطامي :
فاستعجلونا وكانوا من صحابتنا ... كما تعجّل فرّاطٌ لوُرّادِ
والفرّاط : المتقدمون في طلب الماء ، والورّاد : المتأخرون .
وقرأ نافع { مُفْرِطون } بكسر الراء وتخفيفها ، ومعناه مسرفون في الذنوب ، من الإفراط فيها .
وقرأ الباقون من السبعة { مفرطون } أي معجلون إلى النار متروكون فيها .
وقرأ أبو جعفر القارىء { مفَرِّطون } بكسر الراء وتشديدها ، ومعناه من التفريط في الواجب .
تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64) وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66) وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67)

قوله عز وجل : { وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بُطونه } أي نبيح لكم شرب ما في بطونه ، فعبر عن الإباحة بالسقي .
{ مِن بين فرثٍ ودمٍ لبناً خالصاً } فيه وجهان :
أحدهما : خالصاً من الفرث والدم .
الثاني : أن المراد من الخالص هنا الأبيض ، قاله ابن بحر ومنه قول النابغة :
يصونون أجساداً قديمها نعيمُها ... بخالصةِ الأردان خُضْر المناكب
فخالصة الأردان أي بيض الأكمام ، وخضر المناكب يعني من حمائل السيوف . { سائغاً للشاربين } فيه وجهان :
أحدهما : حلال للشاربين .
الثاني : معناه لا تعافه النفس . وقيل : إنه لا يغص أحد باللبن . قوله عز وجل : { ومن ثَمَرات النخيل والأعناب تتخذون منه سَكراً ورزقاً حسَناً } فيها أربعة تأويلات :
أحدها : أن السكر الخمر ، والرزق الحسن التمر والرطب والزبيب . وأنزلت هذه الآية قبل تحريم الخمر ثم حرمت من بعد . قال ابن عباس : السَّكر ما حرم من شرابه ، والرزق الحسن ما حل من ثمرته ، وبه قال مجاهد وقتادة وسعيد بن جبير ومن ذلك قول الأخطل :
بئس الصُّحاة وبئس الشرب شربهم ... إذا جرى فيهم المزاءُ والسكُرُ
والسكر : الخمر ، والمزاء : نوع من النبيذ المسكر .
واختلف من قال بهذا هل خرج مخرج الإباحة أو مخرج الخبر على وجهين :
أحدهما : أنه خرج مخرج الإباحة ثم نسخ . قاله قتادة .
الثاني : أنه خرج مخرج الخبر أنهم يتخذون ذلك وإن لم يحل ، قاله ابن عباس .
الثاني : أن السّكَر : النبيذ المسكر ، والرزق الحسن التمر والزبيب ، قاله الشعبي والسدي .
وجعلها أهل العراق دليلاً على إباحة النبيذ .
الثالث : أن السكر : الخل بلغة الحبشة ، الرزق الحسن : الطعام .
الرابع : أن السكر ما طعم من الطعام وحل شربه من ثمار النخيل والأعناب وهو الرزق الحسن ، وبه قال أبو جعفر الطبري وأنشد قول الشاعر :
وَجَعلت عيب الأكرمين سكرا ...
وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)

قوله عز وجل : { وأوحى ربك إلى النحل } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن الوحي إليها هو إلهاماً ، قاله ابن عباس ومجاهد .
الثاني : يعني أنه سخرها ، حكاه ابن قتيبة .
الثالث : أنه جعل ذلك في غرائزها بما يخفى مثله على غيرها ، قاله الحسن .
{ أن اتخذي من الجبال بيوتاً ومن الشجر ومما يعرشُون } فذكر بيوتها لما ألهمها وأودعه في غرائزها من صحة القسمة وحسن المنعة .
{ ومما يعرشون } فيه تأويلان :
أحدهما : أنه الكرم ، قاله ابن زيد .
الثاني : ما يبنون ، قاله أبو جعفر الطبري .
{ ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك } أي طرق ربك .
{ ذللاً } فيه أربعة أوجه : أحدها : مذللة ، قاله أبو جعفر الطبري .
الثاني : مطيعة ، قاله قتادة .
الثالث : أي لا يتوعر عليها مكان تسلكه ، قاله مجاهد .
الرابع : أن الذلل من صفات النحل وأنها تنقاد وتذهب حيث شاء صاحبها لأنها تتبع أصحابها حيث ذهبوا ، قاله ابن زيد .
{ يخرج من بطونها شرابٌ } يعني العسل .
{ مختلف ألوانُهُ } لاختلاف أغذيتها . { فيه شفاءٌ للناس } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن ذلك عائد إلى القرآن ، وأن في القرآن شفاء للناس أي بياناً للناس ، قاله مجاهد .
الثاني : أن ذلك عائد إلى الاعتبار بها أن فيه هدى للناس ، قاله الضحاك .
الثالث : أن ذلك عائد إلى العسل ، وأن في العسل شفاء للناس ، قاله ابن مسعود وقتادة . روى قتادة قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكر أن أخاه اشتكى بطنه فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « اذهب فاسق أخاك عسلاً » ثم جاء فقال : ما زاده إلا شدة . فقال النبي صلى الله عليه وسلم « اذهب فاسق أخاك عسلاً » . ثم جاء فقال له : ما زاده إلا شدة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « اذهب فاسق أخاك عسلاً ، صدق الله وكذب بطن أخيك ، فسقاه فكأنه نشط من عِقال
»
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70)

قوله عز وجل : { ومنكم من يرد إلى أرذل العُمرِ } فيه أربعة أقاويل : أحدها : أوضعه وأنقصة ، قاله الجمهور .
الثاني : أنه الهرم ، قاله الكلبي .
الثالث : ثمانون سنة ، حكاه قطرب .
الرابع : خمس وسبعون سنة ، قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه . { لكيلا يعلم بعد عِلْمٍ شيئاً } يعني أنه يعود جاهلاً لا يعلم شيئاً كما كان في حال صغره .
أو لأنه قد نسي ما كان يعلم ، ولا يستفيد ما لا يعلم .
ويحتمل وجهاً ثالثاً : أن يكون معناه لكي لا يعمل بعد علم شيئاً ، فعبر عن العمل بالعلم لافتقاره إليه ، لأن تأثير الكبر في عمله أبلغ من تأثيره في علمه .
وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71)

قوله عز وجل : { والله فضل بعضكم على بعض في الرزق } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه أغنى وأفقر ، ووسّع وضيّق .
الثاني : في القناعة والرغبة .
الثالث : في العلم والجهل . قال الفضيل بن عياض : أجلُّ ما رزق الإنسان معرفة تدله على ربه ، وعقل يدله على رشده .
وفي التفضيل وجهان :
أحدهما : أنه فضل السادة على العبيد ، قاله ابن قتيبة ومن يرى أن التفضيل في المال .
الثاني : أنه فضل الأحرار بعضهم على بعض ، قاله الجمهور .
{ فما الذين فُضِّلُوا بِرادِّي رزقهم على ما ملكت أيمانُهم فهم فيه سواء } فيه وجهان :
أحدهما : أن عبيدهم لما لم يشركوهم في أموالهم لم يجز لهم أن يشاركوا الله تعالى في ملكه ، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة ، وفي هذا دليل على أن العبد لا يملك .
الثاني : أنهم وعبيدهم سواء في أن الله تعالى رزق جميعهم ، وأنه لا يقدر أحد على رزق عبده إلا أن يرزقه الله تعالى إياه كما لا يقدر أن يرزق نفسه ، حكاه ابن عيسى .
{ أفبنعمة الله يجحدون } وفيه وجهان : أحدهما : بما أنعم الله عليهم من فضله ورزقه ينكرون .
الثاني : بما أنعم الله عليهم من حججه وهدايته يضلون .
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72)

قوله عز وجل : { والّلهُ جَعَل لكُم مِن أنفسِكم أزواجاً } فيه وجهان : أحدهما : يعني جعل لكم من جنسكم مثلكم ، فضرب المثل من أنفسكم ، قاله ابن بحر . الثاني : يعني آدم خلق منه حوّاء ، قاله الأكثرون . { وجعل لكم مِن أزواجكم بنين وحفدة } وفي الحفدة خمسة أقاويل :
أحدها : أنهم الأصهار أختان الرجل على بناته ، قاله ابن مسعود وأبو الضحى . وسعيد بن جبير وإبراهيم ، ومنه قول الشاعر :
ولو أن نفسي طاوعتني لأصبحت ... لها حَفَدٌ مما يُعَدّث كثيرُ
ولكنها نفس عليَّ أبيّة ... عَيُوفٌ لأَصهارِ للئام قَذور
الثاني : أنهم أولاد الأولاد ، قاله ابن عباس .
الثالث : أنهم بنو امرأة الرجل من غيره ، وهذا مروي عن ابن عباس أيضاً .
الرابع : أنهم الأعوان ، قاله الحسن .
الخامس : أنهم الخدم ، قاله مجاهد وقتادة وطاووس ، ومنه قول جميل :
حفد الولائدُ حولهم وأسلمت ... بأكفهن أزِمّةَ الأجمال
وقال طرفة بن العبد :
يحفدون الضيف في أبياتهم ... كرماً ذلك منهم غير ذل
وأصل الحفد الإسراع ، والحفدة جمع حافد ، والحافد هو المسرع في العمل ، ومنه قولهم في القنوت وإليك نسعى ونحفد ، أي نسرع إلى العمل بطاعتك ، منه قول الراعي :
كلفت مجهولها نوقاً ثمانية ... إذا الحداة على أكسائها حفدوا
وذهب بعض العلماء في تفسير قوله تعالى { بنين وحفدة } البنين الصغار والحفدة الكبار . { ورزقكم من الطيبات } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : من الفيىء والغنيمة .
الثاني : من المباحات في البوادي .
الثالث : ما أوتيه عفواً من غير طلب ولا تعب .
{ أفبالباطِل يؤمنون } فيه وجهان :
أحدهما : بالأصنام .
الثاني : يجحدون البعث والجزاء .
{ وبنعمة الله يكفرون } فيها وجهان :
أحدهما : بالإسلام .
الثاني : بما رزقهم الله تعالى من الحلال آفة من أصنامهم . حكاه الكلبي .
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75)

قوله عز وجل : { ضرب الله مثلاً عبداً مملوكاً لا يقدر على شيء } فيه وجهان :
أحدهما : أنه لا يملك ما لم يؤذن وإن كان باقياً معه .
الثاني : أن لسيده انتزاعه من يده وإن كان مالكاً له . { ومَن رزقناه مِنا رزقاً حسناً } يعني الحُرّ ، وفيه وجهان :
أحدهما : ملكه ما بيده .
الثاني : تصرفه في الاكتساب على اختياره .
وفي هذا المثل قولان :
أحدهما : أنه مثل ضربه الله للكافر لأنه لا خير عنده ، ومن رزقناه منا رزقاً حسناً هو المؤمن ، لما عنده من الخير ، وهذا معنى قول ابن عباس وقتادة .
الثاني : أنه مثل ضربه الله تعالى لنفسه والأوثان ، لأنها لا تملك شيئاً ، وإنهم عدلوا عن عبادة الله تعالى الذي يملك كل شيء ، قاله مجاهد .
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76)

قوله عز وجل : { وضرب الله مثلاً رجلين أحدهما أبكمُ لا يقدر على شيء وهو كَلٌّ على مولاه أينما يوجهه لا يأْتِ بخير هل يستوي هو ومن يأمُرُ بالعدل وهو على صراط مستقيم } اختلف المفسرون في المثل المضروب بهذه الآية على ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه مثل ضربه الله تعالى لنفسه وللوثن ، فالأبكم الذي لا يقدر على شيء هو الوثن ، والذي يأمر بالعدل هو الله تعالى ، وهذا معنى قول قتادة .
الثاني : أنه مثل ضربه الله تعالى للمؤمن والكافر ، فالأبكم : الكافر ، والذي يأمر بالعدل : المؤمن ، قاله ابن عباس .
الثالث : أن الأبكم : عبد كان لعثمان بن عفان رضي الله عنه كان يعرض عليه الإسلام فيأبى . ومن يأمر بالعدل : عثمان ، وهذا مروي عن ابن عباس أيضاً .
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77) وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78) أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79)

قوله عزوجل : { ولله غيب السموات والأرض } يحتمل خمسة أوجه :
أحدها : ولله علم غيب السموات والأرض ، لأنه المنفرد به دون خلقه .
الثاني : أن المراد بالغيب إيجاد المعدومات وإعدام الموجودات .
الثالث : يعني فعل ما كان وما يكون ، وأما الكائن في الحال فمعلوم .
الرابع : أن غيب السماء الجزاء بالثواب العقاب . وغيب الأرض القضاء بالأرزاق والآجال .
{ وما أمْرُ الساعة إلاَّ كلمح البصر أو هو أقرب } لأنه بمنزلة قوله : { كن فيكون } وإنما سماها ساعة لأنها جزء من يوم القيامة وأجزاء اليوم ساعاته . وذكر الكلبي ومقاتل : أن غيب السموات هو قيام الساعة .
قال مقاتل : وسبب نزولها أن كفار قريش سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قيام الساعة استهزاء بها ، فأنزل الله تعالى هذه الآية .
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83)

قوله عز وجل : { والله جعل لكم مما خلق ظلالاً } فيه وجهان :
أحدهما : البيوت ، قاله الكلبي .
الثاني : الشجر ، قاله قتادة .
{ وجعل لكم من الجبال أكناناً } الأكنان : جمع كِنّ وهو الموضع الذي يستكن فيه ، وفيه وجهان :
أحدهما أنه ظل الجبال .
الثاني : أنه ما فيها من غار أو شَرَف .
{ وجعل لكم سرابيل تقيكم الحرّ } يعني ثياب القطن والكتان والصوف .
{ وسرابيل تقيكم بأسكم } يعني الدروع التي تقي البأس ، وهي الحرب .
قال الزجاج : كل ما لبس من قميص ودروع فهو سربال .
فإن قيل : فكيف قال : { وجعل لكم من الجبال أكناناً } ولم يذكر السهل وقال { تقكيم الحر } ولم يذكر البرد؟
فعن ذلك ثلاثة أجوبة :
أحدها : أن القوم كانوا أصحاب جبال ولم يكونوا أصحاب سهل ، وكانوا أهل حر ولم يكونوا أهل برد ، فذكر لهم نعمه عليه مما هو مختص بهم ، قاله عطاء .
الثاني : أنه اكتفى بذكر احدهما عن ذكر الآخر ، إذ كان معلوماً أن من اتخذ من الجبال أكناناً اتخذ من السهل ، واسرابيل التي تقي الحر تقي البرد ، قاله الفراء ، ومثله قول الشاعر :
وما أدري إذا يممتُ أرضاً ... أريد الخير أيهما يليني .
فكنى عن الشر ولم يذكره لأنه مدلول عليه .
الثالث : أنه ذكر الجبال لأنه قدم ذكر السهل بقوله تعالى : { والله جعل لكم من بيوتكم سكناً } وذكر الحرَّ دون البرد تحذيراً من حر جهنم وتوقياً لاستحقاقها بالكف عن المعاصي .
{ كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون } أي تؤمنون بالله إذا عرفتم نعمه عليكم . وقرأ ابن عباس { لعلكم تسلمون } بفتح التاء أي تسلمون من الضرر ، فاحتمل أن يكون عنى ضرر الحر والبرد واحتمل أن يكون ضرر القتال والقتل ، واحتمل أن يريد ضرر العذاب في الآخرة إن اعتبرتم وآمنتم .
قوله عز وجل : { يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها } فيه خمسة تأويلات :
أحدها : أنه عنى النبي صلى الله عليه وسلم يعرفون نبوته ثم ينكرونها ويكذبونه ، قاله السدي .
الثاني : أنهم يعرفون منا عدد الله تعالى عليهم في هذه السورة من النعم وأنها من عند الله وينكرونها بقولهم أنهم ورثوا ذلك عن آبائهم ، قاله مجاهد .
الثالث : أن انكارها أن يقول الرجل : لولا فلان ما كان كذا وكذا ولولا فلانٌ ما أصبت كذا ، قاله عون بن عبد الله .
الرابع : أن معرفتهم بالنعمة إقرارهم بأن الله رزقهم ، وإنكارهم قولهم : رزقنا ذلك بشفاعة آلهتنا .
الخامس : يعرفون نعمة الله بتقلبهم فيها ، وينكرونها بترك الشكر عليها .
ويحتمل سادساً : يعرفونها في الشدة ، وينكرونها في الرخاء .
ويحتمل سابعاً يعرفونها بأقوالهم ، وينكرونها بأفعالهم . قال الكلبي : هذه السورة تسمى سورة النعم ، لما ذكر الله فيها من كثرة نعمه على خلقه .
{ وأكثرهم الكفارون } فيه وجهان :
أحدهما : معناه وجميعهم كافرون ، فعبر عن الجميع بالأكثر ، وهذا معنى قول الحسن .
الثاني : أنه قال { وأكثرهم الكافرون } لأن فيهم من جرى عليه حكم الكفر تبعاً لغيره كالصبيان والمجانين ، فتوجه الذكر إلى المكلفين .
وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (85) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (86) وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (87) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88)

قوله عز وجل : { وألقوا إلى الله يومئذ السلم } يحتمل وجهين :
أحدهما : استسلامهم لعذابه ، وخضوعهم لعزه .
الثاني : إقرارهم بما كانوا ينكرون من طاعته .
{ وضَلَّ عنهم ما كانوا يفترون } يحتمل وجهين :
أحدهما : وبطل ما كانوا يأملون .
الثاني : خذلهم ما كانوا به يستنصرون .
قوله عز وجل : { الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زِدناهُم عذاباً فوق العذاب } فيه وجهان :
أحدهما : أن الزيادة هي عذاب الدنيا مع ما يستحق من عذاب الآخرة .
الثاني : أن أحد العذابين على كفرهم ، والعذاب الآخر على صدهم عن سبيل الله ومنعهم لغيرهم من الإيمان .
{ بما كانوا يفسدون } في الدنيا بالمعاصي .
وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)

قوله عز وجل : { ويوم نبعث في كل أمةٍ شهيداً عليهم من أنفسِهم } وهم الأنبياء شهداء على أممهم يوم القيامة وفي كل زمان شهيد وإن لم يكن نبياً . وفيهم قولان :
أحدهما : أنهم أئمة الهدى الذين هم خلفاء الأنبياء .
الثاني : أنهم العلماء الذين حفظ الله بهم شرائع أنبيائه .
{ وجئنا بك شهيداً على هؤلاء } يعني محمداً صلى الله عليه وسلم شهيداً على أمته .
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)

قوله عز وجل : { إنّ الله يأمر بالعدل والإحسان . . . } الآية . في تأويل هذه الآية ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن العدل : شهادة أن لا إله إلا الله ، والإحسان : الصبر على أمره ونهيه وطاعة الله في سره وجهره { وإيتاء ذي القربى } صلة الرحم ، { وينهى عن الفحشاء } يعني الزنى ، { والمنكر } القبائح . { والبغي } الكبر والظلم حكاه ابن جرير الطبري .
الثاني : أن العدل : القضاء بالحق ، والإحسان : التفضل بالإنعام ، وإيتاء ذي القربى : ما يستحقونه من النفقات . وينهى عن الفحشاء ما يستسر بفعله من القبائح . والمنكر : ما يتظاهر به منها فينكر . والبغي : منا يتطاول به من ظلم وغيره ، وهذا معنى ما ذكره ابن عيسى .
الثالث : أن العدل ها هنا استواء السريرة والعلانية في العمل لله . والإحسان أن تكون سريرته أحسن من علانيته . والفحشاء والمنكر : أن تكون علانيته أحسن من سريرته ، قاله سفيان بن عيينة . فأمر بثلاث ونهى عن ثلاث .
{ يعظكم لعلكم تذكرون } يحتمل وجهين : أحدهما : تتذكرون ما أمركم به وما نهاكم عنه .
الثاني : تتذكرون ما أعده من ثواب طاعته وعقاب معصيته .
وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91) وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92)

قوله عز وجل : { وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم } يحتمل ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه النذور .
الثاني : ما عاهد الله عليه من عهد في طاعة الله .
الثالث : أنه التزام أحكام الدين بعد الدخول فيه .
{ ولا تنقضوا الأيمان بَعْدَ توكيدها } يحتمل ثلاثة أوجه :
أحدها : لا تنقضوها بالامتناع بعد توكيدها بالالتزام .
الثاني : لا تنقضوها بالعذر بعد توكيدها بالوفاء .
الثالث : لا تنقضوها بالحنث بعد توكيدها بالِبّر .
وفي هذه الآية ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها نزلت في بيعة النبي صلى الله عليه وسلم . الثاني : أنها نزلت في الحلف الذي كان في الجاهلية بين أهل الشرك ، فجاء الإسلام بالوفاء به .
الثالث : أنها نزلت في كل عقد يمين عقده الإنسان على نفسه مختاراً يجب عليه الوفاء به ما لم تدع ضرورة إلى حله .
وقول النبي صلى الله عليه وسلم : « فليأت الذي هو خير » محمول على الضرورة دون المباح . وأهل الحجاز يقولون . وكّدت هذه اليمين توكيداً ، وأهل نجد يقولون أكدتها تأكيداً .
قوله عز وجل : { ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً } وهذا مثل ضربه الله تعالى لمن نقض عهده ، وفيه قولان :
أحدها : أنه عنى الحبْل ، فعبر عنه بالغزل ، قاله مجاهد .
الثاني : أنه عنى الغزل حقيقة .
{ من بعد قوة } فيه قولان :
أحدهما : من بعد إبرام . قاله قتادة .
الثاني : أن القوة ما غزل على طاق ولم يثن .
{ أنكاثاً } يعني أنقاضاً ، واحده نكث ، وكل شيء نقض بعد الفتل أنكاثٌ .
وقيل أن التي نقضت غزلها من بعد قوة امرأة بمكة حمقاء ، قال الفراء : إنها ريطة بنت عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مُرّة ، سميت جعدة لحمقها ، كانت تغزل الصوف ثم تنقضه بعدما تبرمه ، فلما كان هذا الفعل لو فعلتموه سفهاً تنكرونه كذلك نقض العهد الذي لا تنكرونه .
{ تتخذون أيمانكُمْ دَخَلاً بينكُمْ } فيه ستة تأويلات :
أحدها : أن الدخل الغرور .
الثاني : أن الدخل الخديعة .
الثالث : أنه الغل والغش .
الرابع : أن يكون داخل القلب من الغدر غير ما في الظاهر من لزوم الوفاء .
الخامس : أنه الغدر والخيانة ، قاله قتادة .
السادس : أنه الحنث في الأيمان المؤكدة .
{ أن تكون أمة هي أربى من أمة } أن أكثر عدداً وأزيد مدداً ، فتطلب بالكثرة أن تغدر بالأقل بأن تستبدل بعهد الأقل عهد الأكثر . وأربى : أفعل الربا ، قال الشاعر :
أسمر خطيّاً كأنّ كعوبه ... نوى القسب أو أربى ذراعاً على عشر
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93) وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94) وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96)

قوله عز وجل : { ما عندكم ينفد وما عند الله باقٍ } فيه وجهان :
أحدهما : يريد به أن الدنيا فانية ، والآخرة باقية .
الثاني : أن طاعتكم تفنى وثوابها يبقى .
مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)

قوله عز وجل : { مَن عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينهُ حياةً طيبة } فيها خمسة تأويلات :
أحدها : أنها الرزق الحلال ، قاله ابن عباس . الثاني : أنها القناعة ، قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه والحسن البصري .
الثالث : أن يكون مؤمناً بالله عاملاً بطاعته ، قاله الضحاك .
الرابع : أنها السعادة ، وهذا مروي عن ابن عباس أيضاً .
الخامس : أنها الجنة ، قاله مجاهد وقتادة . ويحتمل سادساً : أن تكون الحياة الطيبة العافية والكفاية . ويحتمل سابعاً : أنها الرضا بالقضاء . { ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون } يحتمل وجهين :
أحدهما : أن يجازى على أحسن الأعمال وهي الطاعة ، دون المباح منها . الثاني : مضاعفة الجزاء وهو الأحسن ، كما قال تعالى { من جاءَ بالحسنة فله عشر أمثالها } [ الأنعام : 160 ] .
فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)

قوله عز وجل : { فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : فإذا أردت قراءة القرآن فاستعذ بالله تعالى ، قاله الزجاج .
الثاني : فإذا كنت قارئاً فاستعذ بالله .
الثالث : أنه من المؤخر الذي معناه مقدم ، وتقديره : فإذا استعذت بالله من الشيطان الرجيم فاقرأ القرآن .
والاستعاذة هي استدفاع الأذى بالأعلى من وجه الخضوع والتذلل والمعنى فاستعذ بالله من وسوسة الشيطان عند قراءتك لتسلم في التلاوة من الزلل ، وفي التأويل من الخطأ . وقد ذكرنا في صدر الكتاب معنى الرجيم .
قوله عز وجل : { إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : ليس له قدرة على أن يحملهم على ذنب لا يغفر ، قاله سفيان .
الثاني : ليس له حجة على ما يدعوهم إليه من المعاصي ، قاله مجاهد .
الثالث : ليس له عليهم سلطان لاستعاذتهم باللَّه منه ، لقوله تعالى { وإمّا ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم } [ فصلت : 36 ] .
الرابع : أنه ليس له عليهم سلطان بحال لأن الله تعالى صرف سلطانه عنهم حين قال عدو الله إبليس { ولأغوينهم أجميعن إلا عبادَك منهم المخلصين } [ الحجر : 39-40 ] فقال الله تعالى { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين } [ الحجر : 42 ] وفي معنى السلطان وجهان :
أحدهما : الحجة ، ومنه سمي الوالي سلطاناً لأنه حجة الله تعالى في الأرض .
الثاني : أنها القدرة ، مأخوذ من السُّلْطَة ، وكذلك سمي السلطان سلطاناً لقدرته . { إنما سلطانه على الذين يتولونه } يعني يتبعونه .
{ والذين هُمْ به مشركون } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : والذين هم بالله مشركون ، قاله مجاهد . الثاني : والذين أشركوا الشيطان في أعمالهم ، قاله الربيع بن أنس .
الثالث : والذين هم لأجل الشيطان وطاعته مشركون ، قاله ابن قتيبة .
وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102)

قوله عز وجل : { وإذا بدّلنا آيةً مكان آيةٍ } فيه وجهان :
أحدهما : شريعة تقدمت بشريعة مستأنفة ، قاله ابن بحر .
الثاني : وهو قول الجمهور أي نسخنا آية بآية ، إما نسخ الحكم والتلاوة وإما نسخ الحكم مع بقاء التلاوة .
{ والله أعلم بما ينزل } يعني أعلم بالمصلحة فيه ينزله ناسخاً ويرفعه منسوخاً . { قالوا إنما مفْتَرٍ } أي كاذب .
{ بل أكثرهم لا يعلمون } فيه وجهان : أحدهما : لا يعلمون جواز النسخ . الثاني : لا يعلمون سبب ورود النسخ .
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105)

قوله عز وجل : { ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمُه بشرٌ } اختلف في اسم من أراده المشركون فيما ذكروه من تعليم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أربعة أقاويل :
أحدها : أنه بلعام وكان قيناً بمكة ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل عليه يعلمه ، فاتهمته قريش أنه كان يتعلم منه ، قاله مجاهد .
الثاني : أنه كان عبداً أعجمياً لامرأة بمكة ، يقال له أبو فكيهة ، كان يغشى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقرأ عليه ويتعلم منه ، فقالوا لمولاته احبسيه فحبستْه ، وقالت له : اكنس البيت وكل كناسته ، ففعل وقال : والله ما أكلت أطيب منه ولا أحلى ، وكان يسأل مولاته بعد ذلك أن تحبسه فلا تفعل .
الثالث : أنهما غلامان لبني الحضرمي ، وكانا من أهل عين التمر صيقلين يعملان السيوف اسم أحدها يسار ، والآخر جبر ، وكانا يقرآن التوراة ، وكان رسول الله ربما جلس إليهما ، قاله حصين بن عبد الله بن مسلم .
الرابع : أنه سلمان الفارسي ، قاله الضحاك .
{ لسان الذي يلحدون إليه أعجمي } في يلحدون تأويلان : أحدهما : يميلون إليه .
الثاني : يعترضون به ، يعني أن لسان من نسبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى التعلم منه أعجمي .
{ وهذا لسانٌ عربيٌ مبين } يعني باللسان القرآن لأنه يقرأ باللسان ، والعرب تقول : هذا لسان فلان ، تريد كلامه ، قال الشاعر :
لسان السوء تهديها إلينا ... وخُنْتَ وما حسبتُك أن تخونا
مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107) أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (109)

قوله عز وجل : { مَن كفر بالله من بعد إيمانه } ذكر الكلبي أنها نزلت في عبد الله بن أبي سرح ومقيس بن صبابة وعبد الله بن خطل وقيس بن الوليد بن المغيرة ، كفروا بعد إيمانهم ثم قال تعالى :
{ إلا من أُكره وقلبُه مطمئن بالإيمان } قال الكلبي : نزل ذلك في عمار بن ياسر وأبويه ياسر وسُمية وبلال وصهيب وخبّاب ، أظهروا الكفر بالإكراه وقلوبهم مطمئنة بالإيمان .
ثم قال تعالى : { ولكن من شرح بالكُفْر صدراً } وهم من تقدم ذكرهم ، فإذا أكره على الكفر فأظهره بلسانه وهو معتقد الإيمان بقلبه ليدفع عن نفسه بما أظهر ، ويحفظ دينه بما أضمر فهو على إيمانه ، ولو لم يضمره لكان كافراً .
وقال بعض المتكلمين : إنما يجوز للمكرَه إظهارُ الكفر عل وجه التعريض دون التصريح الباتّ . لقبح التصريح بالتكذيب وخطره في العرف والشرع ، كقوله إن محمداً كاذب في اعتقادكم ، أو يشير لغيره ممن يوافق اسمه لاسمه إذا عرف منه الكذب ، وهذا لعمري أولى الأمرين ، ولم يَصِرِ المكرَه بالتصريح كافر .
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (111) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (113)

قوله تعالى : { وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنةً مطمئنةً } يريد بالقرية أهلها { آمنة } يعني من الخوف . { مطمئنة } بالخصب والدعة .
{ يأتيها رِزقُها } فيه وجهان :
أحدهما : أقواتها .
الثاني : مرادها . { رغداً } فيه وجهان :
أحدهما : طيباً .
الثاني : هنيئاً .
{ من كُلِّ مكانٍ } يعني منها بالزراعة ، ومن غيرها بالتجارة ، ليكون اجتماع الأمرين لهم أوفر لسكنهم وأعم في النعمة عليها .
{ فكفرت بأنعم الله } يحتمل وجهين .
أحدهما : بترك شكره وطاعته .
الثاني : بأن لا يؤدوا حقها من مواساة الفقراء وإسعاف ذوي الحاجات .
وفي هذه القرية التي ضربها الله تعالى مثلاً أقاويل :
أحدها : أنها مكة ، كان أمنها أن أهلها آمنون لا يتفاوزون كالبوادي .
{ فأذاقها اللهُ لباسَ الجوع والخوْف } وسماه لباساً لأنه قد يظهر عليهم من الهزال وشحوبة اللون وسوء الحال ما هو كاللباس ، وقيل إن القحط بلغ بهم إلى أن أكلوا القد والعلهز وهو الوبر يخلط بالدم ، والقِد أديم يؤكل ، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة .
الثاني : أنها المدينة آمنت برسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم كفرت بأنعم الله بقتل عثمان بن عفان وما حدث بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بها من الفتن ، وهذا قول عائشة وحفصة رضي الله عنهما .
الثالث : أنه مثل مضروب بأي قرية كانت على هذه الصفة من سائر القرى .
فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115) وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117) وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119)

قوله عز وجل : { ثم إنّ ربّك للذين عملوا السُّوء بجهالةٍ } فيه وجهان :
أحدها : بجهالة أنها سوء .
الثاني : بجهالة لغلبة الشهوة عليهم مع العلم بأنها سوء .
ويحتمل ثالثاً : أنه الذي يعجل بالإقدام عليها ويعد نفسه بالتوبة .
{ ثم تابوا مِنْ بعد ذلك وأصْلَحوا } لأنه مجرد التوبة من السالف إذا لم يصلح عمله في المستأنف لا يستحق ولا يستوجب الثواب .
إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123)

قوله عز وجل : { إنّ إبراهيم كان أمّةً } فيه ثلاثة تأويلات : أحدها : يُعلّم الخير ، قاله ابن مسعود وإبراهيم النخعي . قال زهير :
فأكرمه الأقوام من كل معشر ... كرام فإن كذبتني فاسأل الأمم
يعني العلماء .
الثاني : أمة يقتدى به ، قاله الضحاك . وسمي أمة لقيام الأمة به . الثالث : إمام يؤتم به ، قاله الكسائي وأبو عبيدة . { قانتاً لله } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : مطيعاً لله ، قاله ابن مسعود .
الثاني : إن القانت هو الذي يدوم على العبادة لله .
الثالث : كثير الدعاء لله عز وجل .
{ حنيفاً } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : مخلص ، قاله مقاتل .
الثاني : حاجّا ، قاله الكلبي .
الثالث : أنه المستقيم على طريق الحق ، حكاه ابن عيسى .
{ ولم يَكُ من المشركين } فيه وجهان :
أحدهما : لم يك من المشركين بعبادة الأصنام .
الثاني : لم يك يرى المنع والعطاء إلا من اللَّه .
{ وآتيناه في الدنيا حسنة } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : أن الحسنة النبوة ، قاله الحسن .
الثاني : لسان صدق ، قاله مجاهد .
الثالث : أن جميع أهل الأديان يتولونه ويرضونه ، قاله قتادة .
الرابع : أنها تنوية الله بذكره في الدنيا بطاعته لربه . حكاه ابن عيسى .
ويحتمل خامساً : أنه بقاء ضيافته وزيارة الأمم لقبره .
{ وإنه في الآخرة لمن الصالحين } فيه وجهان :
أحدهما : في منازل الصالحين في الجنة .
الثاني : من الرسل المقربين .
قوله عز وجل : { ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً } فيه قولان :
أحدهما : اتباعه في جميع ملته إلا ما أمر بتركه ، وهذا قول بعض أصحاب الشافعي ، وهذا دليل على جواز الأفضل للمفضول لأن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء .
الثاني : اتباعه في التبرؤ من الأوثان والتدين بالإسلام ، قاله أبو جعفر الطبري .
إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124)

قوله عز وجل : { إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه } وهم اليهود وفي اختلافهم في السبت ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن بعضهم جعله أعظم الأيام حُرْمَةً لأن الله فرغ من خلق الأشياء فيه .
الثاني : أن بعضهم جعل الأحد أعظم حُرمة منه لأن الله ابتدأ خلق الأشياء فيه .
الثالث : أنهم عدلوا عما أمروا به من تعظيم الجمعة تغليباً لحرمة السبت والأحد ، قاله مجاهد وابن زيد .
ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)

قوله عز وجل : { ادعُ إلى سبيل ربِّك } يعني إلى دين ربك وهو الإسلام .
{ بالحكمة } فيها تأويلان :
أحدهما : بالقرآن ، قاله الكلبي .
الثاني : بالنبوة ، وهو محتمل .
{ والموعظة الحسنة } فيها تأويلان :
أحدهما : بالقرآن في لين من القول ، قاله الكلبي .
الثاني : بما فيه من الأمر والنهي ، قاله مقاتل .
{ وجادلْهُم بالتي هي أحسنُ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : يعني بالعفو .
الثاني : بأن توقظ القلوب ولا تسفه العقول . الثالث : بأن ترشد الخلف ولا تذم السلف .
الرابع : على قدر ما يحتملون . روى نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « أمرنا معاشر الأنبياء أن نكلم الناس على قدر عقولهم
» .
وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)

قوله عز وجل : { وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عُوقبتم به } فيها قولان :
أحدهما : أنها نزلت في قتلى أحُد حين مثلت بهم قريش .
واختلف قائل ذلك في نسخه على قولين :
أحدهما : أنها منسوخة بقوله تعالى : { واصبر وما صبرك إلا بالله }
الثاني : أنها ثابتة غير منسوخة فهذا أحد القولين .
والقول الثاني : أنها نزلت في كل مظلوم ان يقتص من ظالمه ، قاله ابن سيرين ومجاهد { واصبر } فيه وجهان :
أحدهما : اصبر على ما أصابك من الأذى ، وهو محتمل .
الثاني : واصبر بالعفو عن المعاقبة بمثل ما عاقبوا من المثلة بقتلى أُحد ، قاله الكلبي .
{ وما صبر إلا بالله } يحتمل وجهين :
أحدهما : وما صبر إلا بمعونة الله .
الثاني : وما صبرك إلا لوجه الله .
{ ولا تحزن عليهم } فيه وجهان :
أحدهما : إن لم يقبلوا .
الثاني : إن لم يؤمنوا .
{ ولا تك في ضيقٍ مما يمكرون } قرأ بن كثير { ضيق } بالكسر وقرأ الباقون بالفتح . وفي الفرق بينهما قولان :
أحدهما : أنه بالفتح ما قل ، وبالكسر ما كثر ، قاله أبو عبيدة .
الثاني : أنه بالفتح ما كان في الصدر ، وبالكسر ما كان في الموضع الذي يتسع ويضيق ، قاله الفراء .
قوله عز وجل : { إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون } اتقوا يعني فيما حرم الله عليهم . والذين هم محسنون فيما فرضه الله تعالى ، فجمع في هذه الآية اجتناب المعاصي وفعل الطاعات .
وقوله : { مع الذين اتقوا } أي ناصر الذي اتقوا . وقال بعض أصحاب الخواطر : من اتقى الله في أفعاله أحْسَنَ إليه في أحواله ، والله أعلم .
سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)

قوله عز وجل : { سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى } أما قوله { سبحان } ففيه تأويلان :
أحدهما : تنزيه الله تعالى من السوء ، وقيل بل نزه نفسه أن يكون لغيره في إسراء عبده تأثير .
الثاني : معناه برأه الله تعالى من السوء ، وقد قال الشاعر :
أقول لمّا جاءني فَخْرُه ... سبحان مِنْ علقمةَ الفاخِر
وهو ذكر تعظيم لله لا يصلح لغيره ، وإنما ذكره الشاعر على طريق النادر ، وهو من السبح في التعظيم وهو الجري فيه إلى أبعد الغايات . وذكر أبان بن ثعلبة أنها كلمة بالنبطية « شبهانك » . وقد ذكر الكلبي ومقاتل : إن { سبحان } في هذا الموضع بمعنى عجب ، وتقدير الآية : عجب من الذي أسرى بعبده ليلاً ، وقد وافق على هذا التأويل سيبويه وقطرب ، وجعل البيت شاهداً عليه ، وأن معناه عجبٌ من علقمة الفاخر . ووجه هذا التأويل أنه إذا كان مشاهدة العجب سبباً للتسبيح صار التسبيح تعجباً فقيل عجب ، ومثله قول بشار :
تلقي بتسبيحةٍ مِنْ حيثما انصرفت ... وتستفزُّ حشا الرائي بإرعاد
وقد جاء التسبيح في الكلام على أربعة أوجه :
أحدها : أن يستعمل في موضع الصلاة ، من ذلك قوله تعالى : { فلولا أنه كان من المسبِّحينَ } [ الصافات : 143 ] أي من المصلين .
الثاني : أن يستعمل في الاستثناء ، كما قال بعضهم في قوله تعالى : { ألم أقل لكم لولا تسبحون } [ القلم : 28 ] أي لولا تستثنون .
الثالث : النور ، للخبر المروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال « لأحرقت سبحات وجهه » أي نور وجهه .
الرابع : التنزيه ، روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن التسبيح فقال : « تنزيه الله تعالى عن السوء
» . وقوله تعالى : { أسرى بعبده } أي بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، والسُّرى : سير الليل ، قال الشاعر :
وليلة ذا ندًى سَرَيت ... ولم يلتني مِنْ سُراها ليت
وقوله { من المسجد الحرام } فيه قولان :
أحدهما : يعني من الحرم ، والحرم كله مسجد . وكان صلى الله عليه وسلم حين أُسرى به نائماً في بيت أم هانىء بنت أبي طالب ، روى ذلك أبو صالح عن أم هانىء .
الثاني : أنه أسرى به من المسجد ، وفيه كان حين أسري به روى ذلك أنس بن مالك . ثم اختلفوا في كيفية إسرائه على قولين :
أحدهما : أنه أسريَ بجسمه وروحه ، روى ذلك ابن المسيب وأبو سلمة بن عبد الرحمن وأبو هريرة وحذيفة بن اليمان .
واختلف قائلو ذلك هل دخل بيت المقدس وصلى فيه أم لا ، فروى أبو هريرة أنه صلى فيه بالأنبياء ، ثم عرج به إلى السماء ، ثم رجع به الى المسجد الحرام فصلى فيه صلاة الصبح من صبيحة ليلته .
وروى حذيفة بن اليمان أنه لم يدخل بيت المقدس ولم يُصلّ فيه ولا نزل عن البراق حتى عرج به ، ثم عاد إلى ملكه .

والقول الثاني : أن النبي صلى الله عليه السلام أسري بروحه ولم يسر بجسمه ، روى ذلك عن عائشة رضي الله عنها قالت : ما فُقِدَ جَسَدُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكن الله أسرى بروحه .
وروي عن معاوية قال : كانت رؤيا من الله تعالى صادقة ، وكان الحسن يتأول قوله تعالى { وما جَعَلنا الرؤيا التي أريناك إلاّ فتنةً للناس } [ الإسراء : 60 ] أنها في المعراج ، لأن المشركين كذبوا ذلك وجعلوا يسألونه عن بيت المقدس وما رأى في طريقه فوصفه لهم ، ثم ذكر لهم أنه رأى في طريقه قعباً مغطى مملوءاً ماء ، فشرب الماء ثم غطاه كما كان ، ثم ذكر لهم صفة إبل كانت لهم في طريق الشام تحمل متاعاً ، وأنها تقدُم يوم كذا مع طلوع الشمس ، يقدمها جمل أورق؛ فخرجوا في ذلك اليوم يستقبلونها ، فقال قائل منهم : هذه والله الشمس قد أشرقت ولم تأت ، وقال آخر : هذه والله العير يقدُمها جمل أورق كما قال محمد . وفي هذا دليل على صحة القول الأول أنه أسرى بجسمه وروحه .
وقوله تعالى : { إلى المسجد الأقصى } يعني بيت المقدس ، وهو مسجد سليمان بن داود عليهما السلام وسمي الأقصى لبعد ما بينه وبين المسجد الحرام .
ثم قال تعالى : { الذي باركنا حوله } فيه قولان :
أحدهما : يعني بالثمار ومجاري الأنهار .
الثاني : بمن جعل حوله من الأنبياء والصالحين ولهذا جعله مقدساً . وروى معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال « يقول الله تعالى : يا شام أنت صفوتي من بلادي وأنا سائق إليك صفوتي من عبادي
» . { لنريه من آياتنا } فيه قولان :
أحدهما : أن الآيات التي أراه في هذا المسرى أن أسرى به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى في ليلة ، وهي مسيرة شهر .
الثاني : أنه أراه في هذا المسرى آيات .
وفيها قولان :
أحدهما : ما أراه من العجائب التي فيها اعتبار .
الثاني : من أري من الأنبياء حتى وصفهم واحداً واحداً .
{ إنه هو السميع البصير } فيه وجهان :
أحدهما : أنه وصف نفسه في هذه الحال بالسميع والبصير ، وإن كانتا من صفاته اللازمة لذاته في الأحوال كلها لأنه حفظ رسوله عند إسرائه في ظلمة الليل فلا يضر ألا يبصر فيها ، وسمع دعاءه فأجابه إلى ما سأل ، فلهذين وصف الله نفسه بالسميع البصير .
الثاني : أن قومه كذبوه عن آخرهم بإسرائه ، فقال : السميع يعني لما يقولونه من تصديق أو تكذيب ، البصير لما يفعله من الإسراء والمعراج .
وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3)

قوله عز وجل : { وآتينا موسى الكتاب } يعني التوراة .
{ وجعلناه هدًى لبني إسرائيل } يحتمل وجهين :
أحدهما : أن موسى هدى لبني إسرائيل .
الثاني : أن الكتاب هدى لبني إسرائيل .
{ ألاّ تتخذوا من دوني وكيلاً } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : شريكاً ، قاله مجاهد .
الثاني : يعني ربّاً يتوكلون عليه في أمورهم ، قاله الكلبي .
الثالث : كفيلاً بأمورهم ، حكاه الفراء .
قوله عز وجل : { ذرية من حملنا مع نوح } يعني موسى وقومه من بني إسرائيل ذرية من حملهم الله تعالى مع نوح في السفينة وقت الطوفان .
{ إنّه كان عبداً شكوراً } يعني نوحاً ، وفيه قولان :
أحدهما : أنه سماه شكوراً لأنه كان يحمد الله تعالى على طعامه ، قاله سلمان .
الثاني : أنه كان يستجد ثوباً إلا حمد الله تعالى عند لباسه ، قاله قتادة .
ويحتمل وجهين :
أحدهما : أن نوحاً كان عبداً شكوراً فجعل الله تعالى موسى من ذريته .
الثاني : أن موسى كان عبداً شكوراً إذ جعله تعالى من ذرية نوح .
وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7) عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8)

قوله تعالى : { وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب } .
معنى قضينا ها هنا : أخبرنا .
ويحتمل وجهاً ثانياً : أن معناه حكمنا ، قاله قتادة .
ومعنى قوله : { وقضينا إلى بني إسرائيل } أي قضينا عليهم .
{ لتفسدن في الأرض مرتين } الفاسد الذي فعلوه قتلهم للناس ظلماً وتغلبهم على أموالهم قهراً ، وإخراب ديارهم بغياً . وفيمن قتلوه من الأنبياء في الفساد الأول قولان :
أحدهما : أنه زكريا قاله ابن عباس .
الثاني : أنه شعياً ، قاله ابن إسحاق ، وأن زكريا مات حتف أنفه .
أما المقتول من الأنبياء في الفساد الثاني فيحيى بن زكريا في قول الجميع قال مقاتل : وإن كان بينهما مائتا سنة وعشر .
{ فإذا جاء وعْد أولاهما } يعني أولى المرتين من فسادهم .
{ بعثنا عليكم عباداً لنا أولي بأسٍ شديدٍ } في قوله بعثنا وجهان :
أحدهما : خلينا بينكم وبينهم خذلاناً لكم بظلمكم ، قاله الحسن .
الثاني : أمرنا بقتالكم انتقاماً منكم .
وفي المبعوث عليهم في هذه المرة الأولى خمسة أقاويل :
أحدها : جالوت وكان ملكهم طالوت إلى أن قتله داود عليه السلام ، قاله ابن عباس وقتادة .
الثاني : أنه بختنصر ، وهو قول سعيد بن المسيب .
الثالث : أنه سنحاريب ، قاله سعيد بن جبير .
الرابع : أنهم العمالقة وكانوا كفاراً ، قاله الحسن .
الخامس : أنهم كانوا قوماً من أهل فارس يتجسسون أخبارهم ، وهو قول مجاهد .
{ . . . فجاسوا خلال الديار } فيه خمسة تأويلات :
أحدها : يعني مشوا وترددوا بين الدور والمساكن ، قال ابن عباس وهو أبلغ في القهر .
الثاني : معناه فداسوا خلال الديار ، ومنه قول الشاعر :
إِلَيْكَ جُسْتُ اللَّيْلَ بِالمَطِيِّ ... الثالث : معناه فقتولهم بين الدور والمساكن ، ومنه قول حسان بن ثابت :
ومِنَّا الَّذِي لاقَى بِسَيْفِ مُحَمَّدٍ ... فَجَاس بهِ الأَعْدَاءَ عَرْضَ العَسَاكر
الرابع : معناه فتشوا وطلبوا خلال الديار ، قاله أبو عبيدة .
الخامس : معناه نزلوا خلال الديار ، قاله قطرب ، ومنه قول الشاعر :
فَجُسنا ديارهم عَنْوَةً ... وأبنا بساداتهم موثَقينا
قوله عز وجل : { ثم رددنا لكم الكرة عليهم } يعني الظفر بهم ، وفي كيفية ذلك ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن بني إسرائيل غزوا ملك بابل واستنقذوا ما فيه يديه من الأسرى والأموال . الثاني : أن ملك بابل أطلق من في يده من الأسرى ، وردّ ما في يده من الأموال .
الثالث : أنه كان بقتل جالوت حين قتله داود .
{ وأمددناكم بأموالٍ وبنين } بتجديد النعمة عليهم .
{ وجعلناكم أكثر نفيراً } فيه وجهان :
أحدهما : أكثر عزاً وجاهاً منهم .
الثاني : أكثر عدداً ، وكثرة العدد تنفر عدوهم منهم ، قال تُبع بن بكر :
فأكرِم بقحْطَانَ مِن وَالِدٍ ... وحِمْيَرَ أَكْرِم بقَوْمٍ نَفِيراً
قال قتادة : فكانوا بها مائتي سنة وعشر سنين ، وبعث فيهم أنبياء .
قوله عز وجل : { إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم } لأن الجزاء بالثواب يعود إليها ، فصار ذلك إحساناً لها .
{ وإن أسأتُم فلها } أي فإليها ترجع الإساءة لما يتوجه إليها من العقاب ، فرغَّب في الإحسان وحذر من الإساءة .
ثم قال تعالى : { فإذا جاءَ وعْدُ الآخرة ليسوءُوا وجُوهكم } يعني وعد المقابلة على فسادهم في المرة الثانية . وفيمن جاءهم فيها قولان : أحدهما : بختنصّر ، قاله مجاهد .

الثاني : أنه انطياخوس الرومي ملك أرض نينوى ، وهو قول مقاتل ، وقيل إنه قتل منهم مائة ألف وثمانين ألفاً ، وحرق التوراة وأخرب بيت المقدس ، ولم يزل على خرابه حتى بناه المسلمون .
{ وليدخلوا المسجد كما دَخلوه أوّل مرّة } يعني بيت المقدس .
{ وليتبروا ما علوا تتبيراً } فيه تأويلان :
أحدهما : أنه الهلاك والدمار .
الثاني : أنه الهدم والإخراب ، قاله قطرب ، ومنه قول لبيد :
وما النَّاسُ إلا عَامِلان فَعَامِلٌ ... يُتَبِّرُ مَا يَبْنِي وَآخَرُ رَافِعٌ
قوله عز وجل : { عسى ربُّكم أن يرحمكم } يعني مما حل بكم من الانتقام منكم .
{ وإن عدتم عدنا } فيه تأويلان : أحدهما : إن عدتم إلى الإساءة عدنا إلى الانتقام ، فعادوا . قال ابن عباس وقتادة : فبعث الله عليهم المؤمنين يذلونهم بالجزية والمحاربة إلى يوم القيامة .
الثاني : إن عدتم إلى الطاعة عدنا إلى القبول ، قاله بعض الصالحين .
{ وجعلنا جهنم للكافرين حصيراً } فيه تأويلان :
أحدهما : يعني فراشاً ومهاداً ، قاله الحسن : مأخوذ من الحصير المفترش .
الثاني : حبساً يحبسون فيه ، قاله قتادة ، مأخوذ من الحصر وهو الحبس . والعرب تسمي الملك حصيراً لأنه بالحجاب محصور ، قال لبيد :
ومقامَةِ غُلْبِ الرِّقَابِ كَأَنَّهُمْ ... جِنٌّ لَدَى بَابِ الحَصِير قِيَامُ
إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10)

قوله عز وجل : { إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم } فيها تأويلان :
أحدهما : شهادة أن لا إله إلا الله ، قاله الكلبي والفراء .
الثاني : ما تضمه من الأوامر والنواهي التي هي أصوب ، قاله مقاتل .
وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (11)

قوله عز وجل : { ويدعو الإنسان بالشر دُعاءَه بالخير } فيه وجهان من التأويل :
أحدها : أن يطلب النفع في العاجل بالضر العائد عليه في الآجل .
الثاني : أن يدعوا أحدهم على نفسه أو ولده بالهلاك ، ولو استجاب دعاءه بهذا الشر كما استجاب له بالخير لهلك .
{ وكان الإنسان عجولاً } فيه تأويلان :
أحدهما : عجولاً في الدعاء على نفسه وولده وما يخصه ، وهذا قول ابن عباس وقتادة ومجاهد .
الثاني : أنه عنى آدم حين نفخ فيه الروح ، حتى بلغت الى سُرّته فأراد أن ينهض عجلاً ، وهذا قول إبراهيم والضحاك .
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12)

قوله عز وجل : { وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل } فيه قولان :
أحدهما : أنها ظلمة الليل التي لا نبصر فيها الطرقات كما لا نبصر ما محي من الكتاب ، وهذا من أحسن البلاغة ، وهو معنى قول ابن عباس .
الثاني : أنها اللطخة السوداء التي في القمر ، وهذا قول علي وقتادة ليكون ضوء القمر أقل من ضوء الشمس فيميز به الليل من النهار .
{ وجعلنا آية النهار مبصرة } فيه قولان :
أحدهما : أنها الشمس مضيئة للأبصار .
الثاني : موقظة .
وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14)

قوله عز وجل : { وكل إنسان ألزمنا طائره في عنقه } فيه قولان :
أحدهما : ألزمناه عمله من خير أو شر مثل ما كانت العرب تقوله سوانح الطير وبوارحه ، والسانح : الطائر يمر ذات اليمين وهو فأل خير ، والبارح : الطائر يمر ذات الشمال وهو فأل شر ، وأضيف إلى العنق .
الثاني : أن طائره حظه ونصيبه ، من قول العرب : طار سهم فلان إذا خرج سهمه ونصيبه منه ، قاله أبو عبيدة .
{ ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً } يعني كتاب طائره الذي في عنقه من خير أو شر .
ويحتمل نشر كتابه الذي يلقاه وجهين :
أحدهما : تعجيلاً للبشرى بالحسنة ، والتوبيخ بالسيئة .
الثاني : إظهار عمله من خير أو شر .
{ اقرأ كتابك } يحتمل وجهين :
أحدهما : لما في قراءته من زيادة التقريع والتوبيخ .
والثاني : ليكون إقراره بقراءته على نفسه .
{ كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً } فيه قولان :
أحدهما : يعني شاهداً .
والثاني : يعني حاكماً بعملك من خير أو شر . ولقد أنصفك من جعلك حسيباً على نفسك بعملك .
مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)

قوله عز وجل : { مَن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه } يعني لما يحصل له من ثواب طاعته .
{ ومَن ضلّ فإنما يضل عليها } يعني لما يحصل عليه من عقاب معصيته .
{ ولا تزر وازِرةٌ وزر أخرى } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : لا يؤاخذ أحد بذنب غيره .
الثاني : لا يجوز لأحد أن يعصى لمعصية غيره .
الثالث : لا يأثم أحد بإثم غيره .
ويحتمل رابعاً : أن لا يتحمل أحد ذنب غيره ويسقط مأثمه عن فاعله .
{ وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً } فيه وجهان :
أحدهما : وما كنا معذبين على الشرائع الدينية حتى نبعث رسولاً مبيناً ، وهذا قول من زعم أن العقل تقدم الشرع .
الثاني : وما كنا معذبين على شيء من المعاصي حتى نبعث رسولاً داعياً ، وهذا قول من زعم أن العقل والشرع جاءا معاً .
وفي العذاب وجهان :
أحدهما : عذاب الآخرة . وهو ظاهر قول قتادة .
الثاني : عذاب بالاستئصال في الدنيا ، وهو قول مقاتل .
وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16)

قوله عز وجل : { وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها . . } الآية في قوله { وإذا أردنا أن نهلك قرية } ثلاثة أقاويل :
أحدها : معناه إذا أردنا أن نحكم بهلاك قرية .
والثاني : معناه وإذا أهلكنا قرية ، وقوله { أردنا } صلة زائدة كهي في قوله تعالى : { جداراً يريد أن ينقض } [ الكهف : 77 ]
الثالث : أنه أراد بهلاك القرية فناء خيارها وبقاء شرارها .
{ أمرنا مترفيها } الذي عليه الأئمة السبعة من القراء أن أمرنا مقصور مخفف ، وفيه وجهان :
أحدهما : أمرنا متفريها بالطاعة ، لأن الله تعالى لا يأمر إلا بها ، { ففسقوا فيها } أي فعصوا بالمخالفة ، قاله ابن عباس .
الثاني : معناه : بعثنا مستكبريها ، قاله هارون ، وهي في قراءة أبيِّ : بعثنا أكابر مجرميها .
وفي قراءة ثانية { أمّرنا مترفيها } بتشديد الميم ، ومعناه جعلناهم أمراء مسلطين ، قاله أبو عثمان النهدي .
وفي قراءة ثالثة { آمَرْنا مُترفيها } ممدود ، ومعناه أكثرنا عددهم ، من قولهم آمر القوم إذا كثروا ، لأنهم مع الكثرة يحتاجون إلى أمير يأمرهم وينهاهم ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم « خير المال مهرة أو سُكة مأبورة » أي كثيرة النسل ، وقال لبيد :
إن يغبطوا يهبطوا وإن أمِروا ... يوماً يصيروا إلى الإهلاك والنكد
وهذا قول الحسن وقتادة .
وفي { مترفيها } ثلاثة تأويلات :
أحدها جباروها ، قاله السن .
الثاني : رؤساؤها ، قاله علي بن عيسى .
الثالث : فساقها ، قاله مجاهد .
وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19)

قوله عز وجل : { وكم أهلكنا من القرون من بعد نُوح } واختلفوا في مدة القرن على ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه مائة وعشرون سنة ، قاله عبد الله بن أبي أوفى .
الثاني : أنه مائة سنة ، قاله عبد الله بن بُسْر المازني . الثالث : أنه أربعون سنة ، روى ذلك محمد بن سيرين عن النبي صلى الله عليه وسلم .
كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21)

قوله عز وجل : { كُلاًّ نُمِدُّ هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربِّكَ } يعني البر والفاجر من عطاء ربك في الدنيا دون الآخرة .
{ وما كان عطاء ربك محظوراً } فيه تأويلان :
أحدهما : منقوصاً ، قاله قتادة .
الثاني : ممنوعاً ، قاله ابن عباس .
لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22) وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24)

قوله عز وجل : { وقضى ربُّك ألاّ تبعدوا إلاّ إياه } معناه وأمر ربك ، قاله ابن عباس والحسن وقتادة . وكان ابن مسعود وأبيّ بن كعب يقرآن { ووصى ربك } قاله الضحاك ، وكانت في المصحف : { ووصى ربك } لكن ألصق الكاتب الواو فصارت { وقضى ربك } .
{ وبالوالدين أحساناً } معناه ووصى بالوالدين إحساناً ، يعني أن يحسن إليهما بالبر بهما في الفعل والقول .
{ إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما } فيه وجهان :
أحدهما : يبلغن كبرك وكما عقلك .
الثاني : يبلغان كبرهما بالضعف والهرم .
{ فلا تقل لهما أفٍّ } يعني حين ترى منهما الأذى وتميط عنهما الخلا ، وتزيل عنهما القذى فلا تضجر ، كما كانا يميطانه عنك وأنت صغير من غير ضجر .
وفي تأويل { أف } ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه كل ما غلظ من الكلام وقبح ، قاله مقاتل .
الثاني : أنه استقذار الشيء وتغير الرائحة ، قاله الكلبي .
الثالث : أنها كلمة تدل على التبرم والضجر ، خرجت مخرج الأصوات المحكية . والعرب أف وتف ، فالأف وسخ الأظفار ، والتُّف ما رفعته من الأرض بيدك من شيء حقير .
{ وقل لهما قولاً كريماً } فيه وجهان :
أحدهما : ليناً .
والآخر : حسناً . قال ابن عباس : نزلت هذه الآية والآية التي بعدها في سعد بن أبي وقاص .
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25)

قوله عز وجل : { . . . إنه كان للأوّابين غفوراً } فيهم خمسة أقاويل :
أحدها : أنهم المحسنون ، وهذا قول قتادة .
والثاني : أنهم الذين يصلّون بين المغرب والعشاء ، وهذا قول ابن المنكدر يرفعه .
الثالث : هم الذي يصلون الضحى ، وهذا قول عون العقيلي .
والرابع : أنه الراجع عن ذنبه الذي يتوب ، وهذا قول سعيد بن جبير ومجاهد .
والخامس : أنه الذي يتوب مرة بعد مرة ، وكلما أذنب بادر بالتوبة وهذا قول سعيد بن المسيب .
وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28)

قوله عز وجل : { وإما تعرضَنَّ عنهم ابتغاء رحمةٍ من ربّك ترجوها فقل لهم قولاً ميسوراً } فيه تأويلان : أحدهما : معناه إذا أعرضت عمن سألك ممن تقدم ذكره لتعذره عندك { ابتغاء رحمة من ربك ترجوها } أي انتظاراً للزرق منه { فقل لهم قولاً ميسوراً } أي عِدْهم خيراً ورد عليهم رداً جميلاً ، وهذا قول الحسن ومجاهد . الثاني : معناه إذا أعرضت عمن سألك حذراً أن ينفقه في معصية فمنعته ابتغاء رحمة له فقل لهم قولاً ميسوراً ، أي ليناً سهلاً ، وهذا قول ابن زيد .
وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30)

قوله عز وجل : { إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر } أي ويقتر ويقلل .
{ إنه كان بعباده خبيراً بصيراً } يحتمل وجهين :
أحدهما : خبيراً بمصالحهم بصيراً بأمورهم .
والثاني : خبيراً بما أضمروا بصيراً بما عملوا .
وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31) وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32)

قوله عز وجل : { ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاقٍ } يعني وأد البنات أحياء خيفة الفقر .
{ نحن نرزقهم وإياكُم إنّ قتلهم كان خطئاً كبيراً }
والخِطءُ العدول عن الصواب بعمد ، والخطأ العدول عنه بسهو ، فهذا الفرق بين الخِطْءِ والخطأ ، وقد قال الشاعر :
الخِطْءُ فاحشةٌ والبِرُّ نافِلةٌ ... كعَجْوةٍ غرسَتْ في الأرض تؤتَبرُ
الثاني : أن الخطء ما كان إثماً ، والخطأ ما لا إثم فيه ، وقرأ الحسن خطاء بالمد .
وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33)

قوله عز وجل : { ولا تقتلوا النفس التي حَرَّم الله إلاَّ بالحق } يعني إلا بما تستحق به القتل .
{ ومَن قُتِل مظلوماً فقد جعلنا لوليّه سلطاناً } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه القود ، قاله قتادة .
الثاني : أنه الخيار بين القود أو الدية أو العفو ، وهذا قول ابن عباس والضحاك .
الثالث : فقد جعلنا لوليه سلطاناً ينصره وينصفه في حقه .
{ فلا يُسْرِف في القَتل } فيه قولان :
أحدهما : فلا يسرف القاتل الأول في القتل تعدياً وظلماً ، إن وليّ المقتول كان منصوراً ، قاله مجاهد .
الثاني : فلا يسرف وليّ المقتول في القتل .
وفي إسرافه أربعة أوجه :
أحدها : أن يقتل غير قاتله ، وهذا قول طلق بن حبيب .
الثاني : أن يمثل إذا اقتص ، قاله ابن عباس .
الثالث : أن يقتل بعد أخذ الدية ، قاله يحيى .
الرابع : أن يقتل جماعة بواحد ، قاله سعيد بن جبير وداود .
{ إنه كان منصوراً } فيه وجهان :
أحدهما : أن الولي كان منصوراً بتمكينة من القود ، قاله قتادة . الثاني : أن المقتول كان منصوراً بقتل قاتله ، قاله مجاهد .
وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35)

قوله عز وجل : { ولا تقربوا مال اليتيم إلاّ بالتي هي أحسن } وإنما خص اليتيم بالذكر لأنه إلى ذلك أحوج ، والطمع في ماله أكثر . وفي قوله { إلاّ بالتي هي أحسن } قولان :
أحدهما : حفظ أصوله وتثمير فروعه ، وهو محتمل .
الثاني : أن التي هي أحسن التجارة له بماله .
{ حتى يَبْلُغَ أَشدَّه } وفي الأشد وجهان : أحدهما : أنه القوة .
الثاني : المنتهى .
وفي زمانه ها هنا قولان :
أحدهما : ثماني عشرة سنة .
والثاني : الاحتلام مع سلامة العقل وإيناس الرشد .
{ وأوفوا بالعهد } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : أنها العقود التي تنعقد بين متعاقدين يلزمهم الوفاء بها ، وهذا قول أبي جعفر الطبري .
الثاني : أنه العهد في الوصية بمال اليتيم يلزم الوفاء به .
الثالث : أنه كل ما أمر الله تعالى به أو نهى فهو من العهد الذي يلزم الوفاء به .
{ إن العهد كان مسئولاً } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن العهد كان مطلوباً ، قاله السدي .
الثاني : أن العهد كان مسئولا عنه الذي عهد به ، فيكون ناقض العهد هو المسئول .
الثالث : أن العهد نفسه هو المسئول بم نقِضت ، كما تُسأل الموءُودة بأي ذنب قتلت .
قوله عز وجل : { . . . وزنُوا بالقسطاس المستقيم } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه القبان . قاله الحسن .
الثاني : أنه الميزان صغر أو كبر ، وهذا قول الزجاج .
الثالث : هو العدل .
واختلف من قال بهذا على قولين :
أحدهما : أنه رومي ، قاله مجاهد .
الثاني : أنه عربي مشتق من القسط ، قاله ابن درستويه .
{ ذلك خيرٌ وأحسنُ تأويلاً } فيه وجهان :
أحدهما : أحسن باطناً فيكون الخير ما ظهر ، وحسن التأويل ما بطن .
الثاني : أحسن عقابة ، تأويل الشيء عاقبته .
وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)

قوله عز وجل : { ولا تقف ما ليس لك به عِلْمٌ } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : معناه لا تقل ما ليس لك به علم فلا تقل رأيت ، ولم تر ، ولا سمعت ، ولم تسمع ، ولا علمت ولم تعلم . وهذا قول قتادة .
الثاني : معناه ولا ترم أحد بما ليس لك به علم ، وهذا قول ابن عباس . ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : « نحن بني النضر كنانة لا نقْفُو أمنا ولا ننتفي من أبينا
» . الثالث : أنه من القيافة وهو اتباع الأثر ، وكأنه يتبع قفا المتقدم ، قال الشاعر :
ومِثْلُ الدُّمى شُمُّ العَرَنِينِ سَاكِنٌ ... بِهِنَّ الْحَيَاءُ لا يُشِعْنَ التَّقَافِيَا
أي التقاذف .
{ إن السمع والبصر والفؤاد كلُّ أُولئك كان عنه مسئولاً } يحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون الإنسان هو المسئول عن السمع والبصر والفؤاد لأنه يعمل بها إلى الطاعة والمعصية .
الثاني : أن السمع والبصر والفؤاد تُسأل عن الإنسان ليكونوا شهوداً عليه ، وله ، بما فعل من طاعة وما ارتكب من معصية ، ويجوز أن يقال أولئك لغير الناس ، كما قال جرير :
ذُمّ المنازِلِ بَعْدَ منزِلِةِ اللِّوى ... والْعَيْشَ بَعْدَ أُولَئكَ الأَيَّامِ
وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37) كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38)

قوله عز وجل : { ولا تمش في الأرض مَرَحاً } فيه خمسة أوجه :
أحدها : أن المرح شدة الفرح بالباطل .
الثاني : أنه الخيلاء في المشي ، قاله قتادة .
الثالث : أنه البطر والأشر .
الرابع : أنه تجاوز الإنسان قدره .
الخامس : التكبر في المشي .
{ إنّك لن تخرِقَ الأرض ولن تبلغ الجبال طولاً } فيه وجهان :
أحدهما : إنك لن تخرق الأرض من تحت قدمك ولن تبلغ الجبال طولاً بتطاولك زجراً له عن تجاوزه الذي لا يدرك به غرضاً .
الثاني : أنه مثل ضربه الله تعالى له ، ومعناه كما أنك لن تخرق الأرض في مشيك ، ولن تبلغ الجبال طولاً فإنك لا تبلغ ما أردت بكبرك وعجبك ، إياساً له من بلوغ إرادته .
ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39) أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا (40) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا (41)

قوله عز وجل : { ولقد صرفنا في هذا القرآن } فيه وجهان :
أحدهما : كررنا في هذا القرآن من المواعظ والأمثال .
الثاني : غايرنا بين المواعظ باختلاف أنواعها .
{ ليذكروا } فيه وجهان :
أحدهما : ليذكروا الأدلة . الثاني : ليهتدوا إلى الحق .
{ وما يزيدهم الا نفوراً } فيه وجهان :
أحدهما : نفوراً عن الحق والاتباع له .
الثاني : عن النظر والاعتبار . وفي الكلام مضمر محذوف ، وتقديره ولقد صرفنا الأمثال في هذا القرآن .
قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (43)

قوله عز وجل : { قل لو كان مََعَهُ آلهةٌ كما يقولون إذاً لابتغوا إلى ذي العرش سبيلاً } فيه وجهان :
أحدهما : لطلبوا إليه طريقاً يتصلون به لأنهم شركاء؛ قاله سعيد بن جبير .
الثاني : ليتقربوا إليه لأنهم دونه ، قاله قتادة .
تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)

قوله عز وجل : { وإن من شيءٍ إلاّ يُسَبِّحُ بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : وإن من شيء من الأحياء الا يسبح بحمده ، فأما ما ليس بحي فلا ، قاله الحسن .
الثاني : إن جميع المخلوقات تسبح له من حي وغير حي حتى صرير الباب ، قاله إبراهيم .
الثالث : أن تسبيح ذلك ما يظهر فيه من لطيف صنعته وبديع قدرته الذي يعجز الخلق عن مثله فيوجب ذلك على من رآه تسبيح الله وتقديسه ، كما قال الشاعر :
تُلْقِي بِتَسْبِيحَةٍ مِنْ حَيْثُما انْصَرَفَتْ ... وتَسْتَقِرُّ حَشَا الرَّائِي بإِرْعَادِ
كَأَنَّمَا خُلِقتْ مِن قِشْرِ لُؤْلُؤةٍ ... فَكُلُّ أَكْنَافِها وَجْهٌ لِمِرْصَادِ
وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45) وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46)

قوله عز وجل : { وإذا قرأت القرآن جلعنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجاباً مستوراً } فيه وجهان :
أحدهما : أي جعلنا القرآن حجاباً ليسترك عنهم إذا قرأته .
الثاني : جعلنا القرآن حجاباً يسترهم عن سماعه إذا جهرت به . فعلى هذا فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنهم لإعراضهم عن قراءتك كمن بينك وبينهم حجاباً في عدم رؤيتك . قاله الحسن .
والثاني : أن الحجاب المستور أن طبع الله على قلوبهم حتى لا يفقهوه ، قاله قتادة .
الثالث : أنها نزلت في قوم كانوا يؤذونه في الليل إذا قرأ ، فحال الله بينه وبينهم من الأذى ، قاله الزجاج .
{ مستوراً } فيه وجهان :
أحدهما : أن الحجاب مستور عنكم لا ترونه .
الثاني : أن الحجاب ساتر عنكم ما وراءه ، ويكون مستور بمعنى ساتر ، وقيل إنها نزلت في بني عبد الدار .
نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (47) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (48)

قوله عز وجل : { نحن أعلم بما يستمعون به إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى } في هذه النجوى قولان :
أحدهما : أنه ما تشاوروا عليه في أمر النبي صلى الله عليه وسلم في دار الندوة .
الثاني : أن هذا في جماعة من قريش منهم الوليد بن المغيرة كانوا يتناجون بما ينفّرون به الناس عن اتباعه صلى الله عليه وسلم . قال قتادة : وكانت نجواهم أنه مجنون ، وأنه ساحر ، وأنه يأتي بأساطير الأولين .
{ إذ يقول الظالمون إن تتبعون إلا رجُلاً مسحوراً } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه سحر فاختلط عليه أمره ، يقولون ذلك تنفيراً عنه .
الثاني : أن معنى مسحور مخدوع ، قاله مجاهد .
الثالث : معناه أن له سحراً ، أي رئة ، يأكل ويشرب فهو مثلكم وليس بملك ، قاله أبو عبيدة ، ومنه قول لبيد :
فَإِنْ تَسْأَلِينَا فِيمَ نَحْنُ فَإِنَّنَا ... عَصَافِيرُ مِنْ هذَا الأَنَامِ الْمُسَحَّرِ
وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49) قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (52)

قوله عز وجل : { وقالوا أئِذا كُنّا عظاماً ورفاتاً } فيه تأويلان :
أحدهما : أن الرفات التراب ، قاله الكلبي والفراء .
الثاني : أنه ما أرفت من العظام مثل الفتات ، قاله أبو عبيدة ، قال الراجز :
صُمَّ الصَّفَا رَفَتَ عَنْهَا أَصْلُهُ ... قوله عز وجل : { قل كونوا حجارةً أو حديداً } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : معناه إن عجبتم من إنشاء الله تعالى لكم عظاماً ولحماً فكونوا أنتم حجارة أو حديداً إن قدرتم ، قاله أبو جعفر الطبري .
الثاني : معناه أنكم : لو كنتم حجارة أو حديداً لم تفوتوا الله تعالى إذا أرادكم إلا أنه أخرجه مخرج الأمر لأنه أبلغ من الإلزام ، قاله علي بن عيسى .
الثالث : معناه لو كنتم حجارة أو حديداً لأماتكم الله ثم أحياكم . { أو خَلْقاً ممّا يكبر في صدوركم } فيه أربعة أقاويل :
أحدها : أنه عنى بذلك السموات والأرض والجبال لعظمها في النفوس ، قاله مجاهد .
الثاني : أنه أراد الموت لأنه ليس شيء أكبر في نفس ابن آدم منه وقد قال أمية ابن أبي الصلت :
نادوا إلههمُ ليسرع خلقهم ... وللموت خلق للنفوس فظيعُ
وهذا قول ابن عمر وابن عباس وعبد الله بن عمرو بن العاص .
الثالث : أنه أراد البعث لأنه كان أكبر شيء في صدروهم قاله الكلبي .
الرابع : ما يكبر في صدوركم من جميع ما استعظمتموه من خلق الله تعالى ، فإن الله يميتكم ثم يحييكم ثم يبعثكم ، قاله قتادة . { . . . فسينغضون إليك رءُوسَهُم } قال ابن عباس وقتادة ، أي يحركون رؤوسهم استهزاء وتكذيباً ، قال الشاعر :
قلت لها صلي فقالت مِضِّ ... وحركت لي رأسها بالنغضِ
قوله عز وجل : { يَوْمَ يدعوكم فتستجيبون بحمده } في قوله تعالى يدعوكم قولان :
أحدهما : أنه نداء كلام يسمعه جميع الناس يدعوهم الله بالخروج فيه إلى أرض المحشر .
الثاني : أنها الصيحة التي يسمعونها فتكون داعية لهم إلى الاجتماع في أرض القيامة .
وفي قوله : { فتستجيبون بحمده } أربعة أوجه :
أحدها : فتستجيبون حامدين لله تعالى بألسنتكم .
الثاني : فتستجيبون على ما يقتضي حمد الله من أفعالكم .
الثالث : معناه فستقومون من قبوركم بحمد الله لا بحمد أنفسكم .
الرابع : فتستجيبون بأمره ، قاله سفيان وابن جريج .
{ وتظنون إن لبثتم إلاّ قليلاً } فيه خمس أوجه :
أحدها : إن لبثتم إلا قليلاً في الدنيا لطول لبثكم في الآخرة ، قاله الحسن .
الثاني : معناه الاحتقار لأمر الدنيا حين عاينوا يوم القيامة ، قاله قتادة .
الثالث : أنهم لما يرون من سرعة الرجوع يظنون قلة اللبث في القبور .
الرابع : أنهم بين النفختين يرفع عنهم العذاب فلا يعذبون ، وبينهما أربعون سنة فيرونها لاستراحتهم قليقلة؛ قاله الكلبي .
الخامس : أنه لقرب الوقت ، كما قال الحسن كأنك بالدنيا لم تكن وبالآخرة لم تزل .
وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53)

قوله عز وجل : { وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن } فيه أربعة أوجه :
أحدها : أنه تصديق النبي صلى الله عليه وسلم فيما جاء به .
{ إنّ الشيطان ينزغُ بينهم } في تكذيبه .
الثاني : أنه امتثال أوامر الله تعالى ونواهيه ، قاله الحسن .
الثالث : أنه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
الرابع : أن يرد خيراً على من شتمه .
وقيل إنها نزلت في عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقد شتمه رجل من بعض كفار قريش ، فهم به عمر ، فأنزل الله تعالى فيه { وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن }
.
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (54) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (55)

قوله عز وجل : { إن يشاء يرحمكم أو إن يشأ يعذبكم } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : إن يشأ يرحمكم بالهداية أو يعذبكم بالإضلال .
الثاني : إن يشاء يرحمكم فينجيكم من أعدائكم أو يعذبكم بتسلطهم عليكم ، قاله الكلبي .
الثالث : إن يشأ يرحمكم بالتوبة أو يعذبكم بالإقامة ، قاله الحسن :
{ وما أرسلناك عليهم وكيلاً } فيه وجهان :
أحدهما : ما وكلناك أن تمنعهم من الكفر بالله سبحانه ، وتجبرهم على الإيمان به .
الثاني : ما جعلناك كفيلاً لهم تؤخذ بهم ، قاله الكلبي ، قاله الشاعر :
ذكرت أبا أرْوَى فَبِتُّ كأنني ... بِرَدِّ الأمور الماضيات وكيلُ
وكيل : أي كفيل .
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57)

قوله عز وجل : { أولئك الذين يدعون يبتغُون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقْرَبُ } الآية فيها ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها نزلت في نفر من الجن كان يعبدهم قوم من الإنس ، فأسلم الجن ابتغاء الوسيلة عند ربهم ، وبقي الإنس على كفرهم؛ قاله عبد الله بن مسعود .
الثاني : أنهم الملائكة كانت تعبدهم قبائل من العرب ، وهذا مروي عن ابن مسعود أيضاً .
الثالث : هم وعيسى وأُمُّهُ ، قاله ابن عباس ومجاهد . وهم المعنيّون بقوله تعالى { قلِ ادعُوا الذين زعمتم مِن دونه }
وتفسيرها أن قوله تعالى { اولئك الذين يدعون } يحتمل وجهين :
أحدهما : يدعون الله تعالى لأنفسهم .
الثاني : يدعون عباد الله الى طاعته .
وقوله تعالى : { يبتغون إلى ربهم الوسيلة } وهي القربة ، وينبني تأويلها على احتمال الوجهين في الدعاء .
فإن قيل إنه الدعاء لأنفسهم كان معناه يتوسلون إلى الله تعالى بالدعاء إلى ما سألوا .
وإن قيل دعاء عباد الله إلى طاعته كان معناه أنهم يتوسلون لمن دعوه إلى مغفرته .
{ أيهم أقرَبُ } تأويله على الوجه الأول : أيهم أقرب في الإجابة . وتأويله على الوجه الثاني : أيهم أقرب إلى الطاعة .
{ ويرجون رحمته ويخافون عذابهُ } يحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون هذا الرجاء والخوف في الدنيا .
الثاني : أن يكونا في الآخرة .
فإن قيل إنه في الدنيا احتمل وجهين :
أحدهما : أن رجاء الرحمة التوفيق والهداية ، وخوف العذاب شدة البلاء . وإن قيل إن ذلك في الآخرة احتمل وجهين :
أحدهما : أن رجاء الرحمة دوام النعم وخوف عذاب النار .
الثاني : أن رجاء الرحمة العفو ، وخوف العذاب مناقشة الحساب .
ويحتمل هذا الرجاء والخوف وجهين : أحدهما : أن يكون لأنفسهم إذا قيل إن أصل الدعاء كان لهم .
الثاني : لطاعة الله تعالى إذا قيل إن الدعاء كان لغيرهم . ولا يمتنع أن يكون على عمومه في أنفسهم وفيمن دعوه .
قال سهل بن عبد الله : الرجاء والخوف ميزانان على الإنسان فإذا استويا استقامت أحواله ، وإن رجح أحدهما بطل الآخر .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لو وزن رجاء المؤمن وخوفه لاعتدلا » .
وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58) وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (59)

قوله عز وجل : { وما نرسل بالآيات إلا تخويفاً } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن الآيات معجزات الرسل جعلها الله تعالى من دلائل الإنذار تخويفاً للمكذبين .
الثاني : أنها آيات الانتقام تخويفاً من المعاصي .
الثالث : أنها تقلُّبُ الأحوال من صغر إلى شباب ثم إلى تكهُّل ثم إلى مشيب ، لتعتبر بتقلب أحوالك فتخاف عاقبة أمْرك ، وهذا قول أحمد بن حنبل رحمه الله .
وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا (60)

قوله عز وجل : { وإذا قلنا لك إنّ ربّك أحاط بالناس } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : معناه أحاطت بالناس قدرته فهم في قبضته ، قاله مجاهد وابن أبي نجيح .
الثاني : أحاط علمه بالناس ، قاله الكلبي .
الثالث : أنه عصمك من الناس أن يقتلوك حتى تبلغ رسالة ربك ، قاله الحسن وعروة وقتادة .
{ وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلاّ فتنة للناس } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها رؤيا عين ليلة الإسراء به من مكة إلى بيت المقدس ، قاله ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة وسعيد بن جبير والضحاك وابن أبي نجيح وابن زيد ، وكانت الفتنة ارتداد قوم كانوا أسلموا حين أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم أنه أُسريَ به .
الثاني : أنها رؤيا نوم رأى فيها أنه يدخل مكة ، فعجل النبي صلى الله عليه وسلم قبل الوقت يوم الحيبية ، فرجع فقال ناس قد كان قال إنه سيدخلها فكانت رجعته فتنتهم ، وهذا مروي عن ابن عباس أيضاً .
الثالث : أنها رؤيا منام رأى فيها قوماً يعلون على منابره ينزون نزو القردة . فساءه ، وهذا قول سهل بن سعد . وقيل إنه ما استجمع ضاحكاً حتى مات صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى هذه الآية .
{ والشجرة الملعونة في القرآن } فيها أربعة أقاويل :
أحدها : أنها شجرة الزقوم طعام الأثيم ، وقال الحسن ومجاهد وقتادة والضحاك وسعيد بن جبير وطاووس وابن زيد . وكانت فتنتهم بها قول أبي جهل وأشياعه : النار تأكل الشجر فكيف تنبتها .
الثاني : هي الكشوت التي تلتوي على الشجر ، قاله ابن عباس . الثالث : أنهم اليهود تظاهروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الأحزاب ، قاله ابن بحر . الرابع : أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في منامه قوماً يصعدون المنابر ، فشق عليه ، فأنزل الله تعالى { والشجرة الملعونة في القرآن } قاله سعيد بن المسيب .
والشجرة كناية عن المرأة ، والجماعة أولاد المرأة كالأغصان للشجر .
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61) قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62)

قوله عز وجل : { . . . لأحتنكن ذُرِّيته إلاّ قليلاً } فيه ستة تأويلات :
أحدها : معناه لأستولين عليهم بالغلبة ، قاله ابن عباس .
الثاني : معناه لأضلنهم بالإغواء .
الثالث : لأستأصلنهم بالإغواء .
الرابع : لأستميلنهم ، قاله الأخفش .
الخامس : لأقودنهم إلى المعاصي كما تقاد الدابة بحنكها إذا شد فيه حبل يجذبها وهو افتعال من الحنك إشارة إلى حنك الدابة .
السادس : معناه لأقطعنهم إلى المعاصي ، قال الشاعر :
أشْكوا إليك سَنَةً قد أجحفت ... جهْداً إلى جهدٍ بنا وأضعفت
واحتنكَتْ أَمْولُنا واجتلفت . ...
قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65)

قوله عز وجل : { واستفزز من استطعت منهم بصوتك } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : واستخف ، وهذا قول الكلبي والفراء .
الثاني : واستجهل .
الثالث : واستذل من استطعت ، قاله مجاهد .
{ بصوتك } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : أنه صوت الغناء واللهو ، قاله مجاهد .
الثاني : أنه صوت المزمار ، قاله الضحاك .
الثالث : بدعائك إلى معصية الله تعالى وطاعتك ، قاله ابن عباس .
{ وأجلب عليهم بخيلك ورجَلِكِ } والجلب هو السوْق بجلبه من السائق ، وفي المثل : إذا لم تغلب فأجلب .
وقوله { بخيلك ورجلك } أي بكل راكب وماشٍ في معاصي الله تعالى .
{ وشاركهم في الأموال والأولاد } أما مشاركتهم في الأموال ففيها أربعة أوجه :
أحدها : أنها الأموال التي أصابوها من غير حلها ، قاله مجاهد .
الثاني : أنها الأموال التي أنفقوها في معاصي الله تعالى ، قاله الحسن .
الثالث : ما كانوا يحرّمونه من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام ، قاله ابن عباس .
الرابع : ما كانوا يذبحون لآلهتهم ، قاله الضحاك .
وأما مشاركتهم في الأولاد ففيها أربعة أوجه :
أحدها : أنهم أولاد الزنى ، قاله مجاهد .
الثاني : أنه قتل الموؤودة من أولادهم ، قاله ابن عباس .
الثالث : أنه صبغة أولادهم في الكفر حتى هوّدوهم ونصّروهم ، قاله قتادة . الرابع : أنه تسمية أولادهم عبيد آلهتهم كعبد شمس وعبد العزَّى وعبد اللات ، رواه أبو صالح عن ابن عباس .
رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (66)

قوله عز وجل : { ربُّكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر } معناه يجريها ويسيرها ، قاله ابن عباس وقتادة وابن زيد ، قال الشاعر :
يا أيها الراكب المزجي مطيتُه ... سائل بني أسدٍ ما هذه الصوت
وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (67)

قوله عز وجل : { وإذا مَسّكم الضُّرُّ في البحر ضَلَّ من تدعون إلا إياه } فيه وجهان : أحدهما : بطل من تدعون سواه ، كما قال تعالى { أضلَّ أعمالهم } [ محمد : 1 ] أي أبطلها .
الثاني : معناه غاب من تدعون كما قال تعالى { أئِذا ضَلَلْنا في الأرض } [ السجدة : 10 ] أي غِبْنَا .
أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69)

قوله عز وجل : { أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البَرِّ } يحتمل وجهين :
أحدهما : يريد بعض البر وهو موضع حلولهم منه ، فسماه جانبه لأنه يصير بعد الخسف جانباً .
الثاني : أنهم كانوا على ساحل البحر ، وساحله جانب البر ، وكانوا فيه آمنين من أهوال البحر فحذرهم ما أمنوه من البر كما حذرهم ما خافوه من البحر .
{ أو يُرْسِلَ عليكم حاصباً } فيه وجهان :
أحدهما : يعني حجارة من السماء ، قاله قتادة .
الثاني : إن الحاصب الريح العاصف سميت بذلك لأنها تحصب أي ترمي بالحصباء . والقاصف الريح التي تقصف الشجر ، قاله الفراء وابن قتيبة .
وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)

قوله تعالى : { ولقد كَرّمنا بني آدم . . } فيه سبعة أوجه :
أحدها : يعني كرمناهم بإنعامنا عليهم .
الثاني : كرمناهم بأن جعلنا لهم عقولاً وتمييزاً .
الثالث : بأن جعلنا منهم خير أمة أخرجت للناس .
الرابع : بأن يأكلوا ما يتناولونه من الطعام والشراب بأيديهم ، وغيرهم يتناوله بفمه ، قاله الكلبي ومقاتل .
الخامس : كرمناهم بالأمر والنهي .
السادس : كرمناهم بالكلام والخط .
السابع : كرمناهم بأن سخّرنا جميع الخلق لهم .
{ . . . ورزقناهُمْ من الطيبات } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : ما أحله الله لهم .
الثاني : ما استطابوا أكله وشربه .
الثالث : أنه كسب العامل إذا نفع ، قاله سهل بن عبد الله .
{ وفضلناهم على كثير ممّن خلقنا تفضيلاً } فيه أربعة أوجه :
أحدها : بالغلبة والاستيلاء .
الثاني : بالثواب والجزاء .
الثالث : بالحفظ والتمييز .
الرابع : بإصابة الفراسة .
يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71) وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72)

قوله عز وجل : { يوم ندعوا كل أناسٍ بإمامِهمْ } فيه خمسة تأويلات :
أحدها : بنبيِّهم ، قاله مجاهد .
الثاني : بكتابهم الذي أنزل عليهم أوامر الله ونواهيه ، قاله ابن زيد .
الثالث : بدينهم ، ويشبه أن يكون قول قتادة .
الرابع : يكتب أعمالهم التي عملوها في الدنيا من خير وشر ، قاله ابن عباس .
الخامس : بمن كانوا يأتمرون به في الدنيا فيتبعونه في خير أو شر ، أو على حق ، أو باطل ، وهو معنى قول أبو عبيدة .
قوله عز وجل : { ومن كان في هذه أعمى . . } يحتمل أربعة أوجه :
أحدها : من كان في الدنيا أعمى عن الطاعة { فهو في الآخرة أعمى } عن الثواب . الثاني : ومن كان في الدنيا أعمى عن الاعتبار { فهو في الآخرة أعمى } عن الاعتذار .
الثالث : ومن كان في الدنيا أعمى عن الحق { فهو في الآخرة أعمى } عن الجنة .
الرابع : ومن كان في تدبير دنياه أعمى فهو تدبير آخرته أعمى { وأضل سبيلاً } .
وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75)

قوله تعالى : { وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره } فيه قولان :
أحدهما : ما روى سعيد بن جبير أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستلم الحجر في طوافه فمنعته قريش وقالوا لا ندعك تستلم حتى تلم بآلهتنا فحدث نفسه وقال : « ما عليّ أن ألمَّ بها بعد أن يعدوني أستلم الحجر واللّه يعلم أني لها كاره » فأبى الله تعالى وأنزل عليه هذه الآية ، قاله مجاهد وقتادة .
الثاني : ما روى ابن عباس أن ثقيفاً قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : أجِّلْنا سنة حتى نأخذ ما نُهدي لآلهتنا ، فإذا أخذناه كسرنا آلهتنا وأسلمْنا ، فهمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطيعهم ، فأنزل الله هذه الآية .
{ لِتَفْتَريَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ } يحتمل وجهين :
أحدهما : لتدّعي علينا غير وحينا .
الثاني : لتعتدي في أوامرنا .
{ وإذاً لاتخذوك خليلاً } فيه وجهان :
أحدهما : صديقاً ، مأخوذ من الخُلة بالضم وهي الصداقة لممالأته لهم .
الثاني : فقيراً ، مأخوذ من الخلة بالفتح وهي الفقر لحاجته إليهم .
قوله عز وجل : { إذاً لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات } فيه قولان :
أحدهما : لأذقناك ضعف عذاب الحياة وضعف عذاب الممات ، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك .
الثاني : لأذقناك ضعف عذاب الدنيا وضعف عذاب الآخرة ، حكاه الطبري :
وفي المراد بالضِّعف ها هنا وجهان :
أحدها : النصيب ، ومنه قوله تعالى { لكل ضِعفٌ } [ الأعراف : 38 ] أي نصيب .
الثاني : مثلان ، وذلك لأن ذنبك أعظم .
وفيه وجه ثالث : أن الضعف هو العذاب يسمى ضعف لتضاعف ألمه ، قاله أبان بن تغلب وأنشد قول الشاعر :
لمقتل مالكٍ إذ بان مني ... أبيتُ الليل في ضعفٍ أليم
قال قتادة : لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين
» .
وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77)

قوله عز وجل : { وإن كادوا ليستفزونَك مِنَ الأرض ليخرجوك منها } في قوله { ليستفزّونك } وجهان :
أحدهما : يقتلونك ، قاله الحسن .
الثاني : يزعجونك باتسخفافك ، قاله ابن عيسى . قال الشاعر :
يُطِيعُ سَفِيهَ القوْمِ إذ يَسْتَفِزُّهُ ... ويعْصِي حَكِيماً شَيَّبَتْهُ الْهَزَاهِزُ
وفي قوله { ليخرجوك منها } أربعة أقاويل :
أحدها : أنهم اليهود أرادوا أن يخرجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة ، فقالوا : إن أرض الأنبياء هي الشام وإن هذه ليست بأرض الأنبياء ، قاله سليمان التيمي .
الثاني : أنهم قريش هموا بإخراج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة قبل الهجرة ، قاله قتادة .
الثالث : أنهم أرادوا إخراجه من جزيرة العرب كلها لأنهم قد أخرجوه من مكة . الرابع : أنهم أرادوا قتله ليخرجوه من الأرض كلها ، قاله الحسن .
{ وإذاً لا يلبثون خلافك إلا قليلاً } يعني بعدك ، قال خلْفك وخلافك وقد قرئا جميعاً بمعنى بعدك ، ومنه قول الشاعر :
عَفَتِ الدِّيَارُ خِلاَفَها فَكَأَنَّما ... بَسَطَ الشَّوَاطبُ بَيْنَهُم حَصِيراً
وقيل خلفك بمعنى مخالفتك ، ذكره ابن الأنباري .
{ إلا قليلاً } فيه وجهان :
أحدهما : أن المدة التي لبثوها بعده ما بين إخراجهم له إلى قتلهم يوم بدر ، وهذا قوله من ذكر أنهم قريش .
الثاني : ما بين ذلك وقتل بني قريظة وجلاء بني النضير ، وهذا قول من ذكر أنهم اليهود .
أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79)

قوله عز وجل : { أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل } .
أما دلوك الشمس ففيه تأويلان :
أحدهما : أنه غروبها ، وأن الصلاة المأمور بها صلاة المغرب ، ومنه قول ذي الرمة :
مصابيح ليست باللواتي تقودها ... نجومٌ ولا بالآفات الدوالك
قاله ابن مسعود وابن زيد ، ورواه مجاهد عن ابن عباس ، وهو مذهب أبي حنيفة .
الثاني : أنه زوالها ، والصلاة المأمور بها صلاة الظهر ، وهذا قول ابن عباس في رواية الشعبي عنه ، وهو قول أبي بردة والحسن وقتادة ومجاهد ، وهو مذهب الشافعي ومالك لرواية أبي بكر بن عمرو بن حزم عن ابن مسعود وعقبة بن عامر قالا : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أتاني جبريل لدلوك الشمس حين زالت فصلى بي الظهر » وقال الشاعر :
هذا مُقام قَدَامي رباح ... ذَيّبَ حتى دَلَكت بَراح
وبراح اسم الشمس ، والباء التي فيه من أصل الكلمة ، وذهب بعض أهل العربية إلى أن الباء التي فيها باء الجر ، واسم الشمس راح .
فمن جعل الدلوك اسماً لغروبها فلأن الإنسان يدلك عينيه براحته لتبينها ، ومن جعله اسماً لزوالها فلأنه يدلك عينيه براحته لشدة شعاعها . وقيل إن أصل الدلوك في اللغة هو الميل ، والشمس تميل عند زوالها وغروبها فلذلك انطلق على كل واحدٍ منهما .
وأما { غسق الليل } ففيه تأويلان :
أحدهما : أنه ظهور ظلامه ، قاله الفراء وابن عيسى ، ومنه قول زهير :
ظَلَّت تَجُودُ يَدَاها وهِيَ لاَهِيَةٌ ... حتى إذا جَنَحَ الإِظْلاَمُ والغَسَقُ
الثاني : أنه دنوّ الليل وإقباله ، وهوقول ابن عباس وقتادة . قال الشاعر :
إن هذا الليل قد غسقا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وفي الصلاة المأمور بها قولان :
أحدهما : أنها صلاة المغرب ، وهو قول ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك
الثاني : هي صلاة العشاء الآخرة ، قاله أبو جعفر الطبري .
ثم قال { وقرآن الفَجْر إنّ قرآن الفجْر كان مشهوداً } في { قرآن } تأويلان :
أحدهما : أقم القراءة في صلاة الفجر ، وهذا قول أبي جعفر الطبري .
الثاني : معناه صلاة الفجر ، فسماها قرآناً لتأكيد القراءة في الصلاة ، وهذا قول أبي اسحاق الزجاج .
{ إن قرآن الفجر كان مشهوداً } فيه قولان :
أحدهما : إن من الحكمة أن تشهده بالحضور إليه في المساجد ، قاله ابن بحر .
الثاني : ان المراد به ما رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار
» وفي هذا دليل على أنها ليست من صلاة الليل ولا من صلاة النهار .
قوله عز وجل : { ومن الليل فتهجد به نافلة لك } أما الهجود فمن أسماء الأضداد ، وينطلق على النوم وعلى السهر ، وشاهد انطلاقه على السهر قول الشاعر :
ألا زارت وأهْلُ مِنىً هُجُود ... ولَيْتَ خَيَالَهَا بِمِنىً يعُود
وشاهد انطلاقه على النوم قول الشاعر :
أَلا طَرَقَتْنَا والرِّفَاقُ هُجُود ... فَبَاتَتْ بِعُلاَّت النّوالِ تجود

أما التهجد فهو السهر ، وفيه وجهان :
أحدهما : السهر بالتيقظ لما ينفي النوم ، سواء كان قبل النوم أو بعده .
الثاني : أنه السهر بعد النوم ، قاله الأسود بن علقمة .
وفي الكلام مضمر محذوف وتقديره : فتهجد بالقرآن وقيام الليل نافلة أي فضلاً وزيادة على الفرض .
وفي تخصيص النبي صلى الله عليه وسلم بأنها نافلة له ثلاثة أوجه :
أحدها : تخصيصاً له بالترغيب فيها والسبق إلى حيازة فضلها ، اختصاصها بكرامته ، قاله علي بن عيسى .
الثاني : لأنها فضيلة له ، ولغيره كفارة ، قاله مجاهد .
الثالث : لأنها عليه مكتوبة ولغيره مستحبة ، قاله ابن عباس .
{ عسى أن يبعثك ربُّك مقاماً محموداً } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن المقام المحمود الشفاعة للناس يوم القيامة ، قاله حذيفة بن اليمان .
الثاني : أنه إجلاسه على عرشه يوم القيامة ، قاله مجاهد .
الثالث : أنه إعطاؤه لواء الحمد يوم القيامة .
ويحتمل قولاً رابعاً : أن يكون المقام المحمود شهادته على أمته بما أجابوه من تصديق أو تكذيب ، كما قال تعالى { وجئنا بك على هؤلاء شهيداً } [ النساء : 41 ] .
وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (80) وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81)

قوله عز وجل : { وقل ربِّ أدخلني مدخل صدقٍ وأخرجني مُخرج صدق } فيه سبعة أقاويل :
أحدها : أن مدخل الصدق دخوله إلى المدينة حين هاجر إليها ، ومخرج صدق بخروجه من مكة حين هاجر منها ، قاله قتادة وابن زيد .
الثاني : أدخلني مدخل صدق إلى الجنة وأخرجني مخرج صدق من مكة إلى المدينة ، قاله الحسن .
الثالث : أدخلني مدخل صدق فيما أرسلتني به من النبوة ، وأخرجني منه بتبليغ الرسالة مخرج صدق ، وهذا قول مجاهد .
الرابع : أدخلني في الإسلام مدخل صدق ، وأخرجني من الدنيا مخرج صدق ، قاله أبو صالح .
الخامس : أدخلني مكة مدخل صدق وأخرجني منها مخرج صدق آمناً ، قاله الضحاك .
السادس : أدخلني في قبري مدخل صدق ، وأخرجني منه مخرج صدق ، قاله ابن عباس .
السابع : أدخلني فيما أمرتني به من طاعتك مدخل صدق ، وأخرجني مما نهيتني عنه من معاصيك مخرج صدق ، قاله بعض المتأخرين .
والصدق ها هنا عبارة عن الصلاح وحسن العاقبة . { واجعل لي من لدنك سلطاناً نصيراً } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : يعني مُلكاً عزيزاً أقهر به العصاة ، قاله قتادة .
الثاني : حجة بيّنة ، قاله مجاهد .
الثالث : أن السلطة على الكافرين بالسيف ، وعلى المنافقين بإقامة الحدود قاله الحسن .
ويحتمل رابعاً : أن يجمع له بين القلوب باللين وبين قهر الأبدان بالسيف .
قوله عز وجل : { وقُلْ جاء الحق وزهق الباطل } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : أن الحق هو القرآن ، والباطل هو الشيطان ، قاله قتادة .
الثاني : أن الحق عبادة الله تعالى والباطل عبادة الأصنام ، قاله مقاتل بن سليمان .
الثالث : أن الحق الجهاد ، والباطل الشرك ، قاله ابن جريج . { إن الباطل كان زهوقاً } أي ذاهباً هالكاً ، قال الشاعر :
ولقدْ شفَى نفسي وأبْرأ سُقْمَهَا ... إِقدامُهُ قهْراً له لَمْ يَزْهَق
وحكى قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل الكعبة ورأى فيها التصاوير أمر بثوب فبُل بالماء وجعل يضرب به تلك التصاوير ويمحوها ويقول { جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً }
.
وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82)

قوله عز وجل : { وننزل من القرآن ما هو شفاءٌ ورحمةٌ للمؤمنين } يحتمل ثلاثة أوجه :
أحدها : شفاء من الضلال ، لما فيه من الهدى .
الثاني : شفاء من السقم ، لما فيه من البركة .
الثالث : شفاء من الفرائض والأحكام ، لما فيه من البيان .
وتأويله الرحمة ها هنا على الوجوه الأُوَلِ الثلاثة :
أحدها : أنها الهدى .
الثاني : أنها البركة .
الثالث : أنها البيان .
{ ولا يزيد الظالمين إلا خساراً } يحتمل وجهين :
أحدهما : يزيدهم خساراً لزيادة تكذيبهم .
الثاني : يزيدهم خساراً لزيادة ما يرد فيه من عذابهم .
وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا (83) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا (84)

قوله عز وجل : { وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه } يحتمل وجهين :
أحدهما : إذا أنعمنا عليه بالصحة والغنى أعرض ونأى وبعد من الخير .
الثاني : إذا أنعمنا عليه بالهداية أعرض عن السماع وبعُد من القبول وفي قوله { ونأى بجانبه } وجهان :
أحدهما : أعجب بنفسه ، لأن المعجب نافر من الناس متباعد عنهم .
الثاني : تباعد من ربه .
{ وإذا مَسّهُ الشر كان يئوساً } يحتمل إياسه من الفرج إذا مسه الشر وجهين :
أحدهما : بجحوده وتكذيبه .
الثاني : بعلمه بمعصيته أنه معاقب على ذنبه .
وفي { الشر } ها هنا ثلاثة تأويلات :
أحدها : أنه الفقر ، قاله قتادة .
الثاني : أنه السقم ، قاله الكلبي .
الثالث : السيف ، وهو محتمل .
قوله عز وجل : { قُلْ كلٌّ يعمل على شاكلته } في ستة تأويلات :
أحدها : على حِدّته ، قاله مجاهد .
الثاني : على طبيعته ، قاله ابن عباس .
الثالث : على بيته ، قاله قتادة .
الرابع : على دينه ، قاله ابن زيد .
الخامس : على عادته .
السادس : على أخلاقه .
{ فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلاً } فيه وجهان :
أحدهما : أحسن ديناً .
الثاني : أسرع قبولاً .
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)

قوله عز وجل : { ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي } فيها خمسة أقاويل :
أحدها : أنه جبريل عليه السلام ، قاله ابن عباس . كما قال تعالى { نزل به الروح الأمين } [ الشعراء : 193 ] .
الثاني : ملك من الملائكة له سبعون ألف وجه ، لكل وجه سبعون ألف لسان يسبح الله تعالى بجميع ذلك ، قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه .
الثالث : أنه القرآن ، قاله الحسن ، كما قال تعالى { وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا } [ الشورى : 52 ] فيكون معناه أن القرآن من أمر الله تعالى ووحيه الذي أنزل عليّ وليس هو مني .
الرابع : أنه عيسى ابن مريم هو من أمر الله تعالى وليس كما ادعته النصارى أنه ابن الله ، ولا كما افترته اليهود أنه لغير رشدة .
الخامس : أنه روح الحيوان ، وهي مشتقة من الريح . قال قتادة سأله عنها قوم من اليهود وقيل في كتابهم أنه إن أجاب عن الروح فليس بنبيّ فقال الله تعالى { قل الروح من أمر ربي } فلم يجبهم عنها فاحتمل ذلك ستة أوجه :
أحدها : تحقيقاً لشيء إن كان في كتابهم .
الثاني : أنهم قصدوا بذلك الإعنات كما قصدوا اقتراح الآيات .
الثالث : لأنه قد يتوصل إلى معرفته بالعقل دون السمع .
الرابع : لئلا يكون ذلك ذريعة إلى سؤال ما لا يعني .
الخامس : قاله بعض المتكلمين ، أنه لو أجابهم عنها ووصفها؛ بأنها جسم رقيق تقوم معه الحياة ، لخرج من شكل كلام النبوة ، وحصل في شكل كلام الفلاسفة . فقال { من أمر ربي } أي هو القادر عليه .
السادس : أن المقصود من سؤالهم عن الروح أن يتبين لهم أنه محدث أو قديم ، فأجابهم بأنه محدث لأنه قال : { من أمر ربي } أي من فعله وخلقه ، كما قال تعالى { إنما أمرنا لشيء } .
فعلى هذا الوجه يكون جواباً لما سألوه ، ولا يكون على الوجوه المتقدمة جواباً .
{ وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً } فيه وجهان :
أحدهما : إلا قليلاً من معلومات الله .
الثاني : إلا قليلاً بحسب ما تدعو الحاجة إليه حالاً فحالاً .
وفيمن أريد بقوله تعالى : { وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً } قولان :
أحدهما : أنهم اليهود خاصة ، قاله قتادة .
الثاني : النبي صلى الله عليه وسلم وسائر الخلق .
وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (86) إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (87) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (89)

قوله عز وجل : { ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك } فيه وجهان :
أحدهما : لأذهبناه من الصدور والكتب حتى لا يقدر عليه .
الثاني : لأذهبناه بقبضك إلينا حتى لا ينزل عليك .
{ ثم لا تجدُ لك به علينا وكيلاً } فيه وجهان :
أحدهما : أي لا تجد من يتوكل في رده إليك ، وهو تأويل من قال بالوجه الأول .
الثاني : لا تجد من يمنعنا منك ، وهو تأويل من قال بالوجه الثاني .
{ إلاّ رحمة من ربك } أي لكن رحمة من ربك أبقاك له وأبقاه عليك .
{ إنّ فضله كان عليك كبيراً } فيه وجهان :
أحدهما : جزيلاً لكثرته .
الثاني : جليلاً لعظيم خطره .
وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93)

قوله عز وجل : { وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجُر لنا من الأرض ينبوعاً } التفجير تشقيق الأرض لينبع الماء منها ، ومنه سمي الفجر لأنه ينشق عن عمود الصبح ، ومنه سمي الفجور لأنه شق الحق بالخروج إلى الفساد .
الينبوع : العين التي ينبع منها الماء ، قال قتادة ومجاهد : طلبوا عيوناً ببلدهم .
{ أو تكون لك جنةٌ من نخيلٍ وعنب } سألوا ذلك في بلد ليس ذلك فيه .
{ أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً } أي قطعاً . قرىء بتسكين السين وفتحها ، فمن قرأ بالتسكين أراد السماء جميعها ، ومن فتح السين جعل المراد به بعض السماء ، وفي تأويل ذلك وجهان :
أحدهما : يعني حيزاً ، حكاه ابن الأنباري ، ولعلهم أرادوا به مشاهدة ما فوق السماء .
الثاني : يعني قطعاً ، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة . والعرب تقول . أعطني كسفة من هذا الثوب أي قطعة منه . ومن هذا الكسوف لانقطاع النور منه ، وعلى الوجه الثاني لتغطيته بما يمنع من رؤيته .
{ أو تأتي بالله والملائكة قبيلاً } فيه أربعة أوجه :
أحدها : يعني كل قبيلة على حدتها ، قاله الحسن .
الثاني : يعني مقابلة ، نعاينهم ونراهم ، قاله قتادة وابن جريج .
الثالث : كفيلاً ، والقبيل الكفيل ، من قولهم تقبلت كذا أي تكفلت به ، قاله ابن قتيبة .
الرابع : مجتمعين ، مأخوذ من قبائل الرأس لاجتماع بعضه إلى بعض ومنه سميت قبائل العرب لاجتماعها ، قاله ابن بحر .
قوله عز وجل : { أو يكون لك بيت من زخرف } فيه وجهان :
أحدهما : أن الزخرف النقوش ، وهذا قول الحسن .
الثاني : أنه الذهب ، وهذا قول ابن عباس وقتادة ، قال مجاهد : لم أكن أدري ما الزخرف حتى سمعنا في قراءة عبد الله : بيت من ذهب .
وأصله من الزخرفة وهو تحسين الصورة ، ومنه قوله تعالى { حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت } [ يونس : 24 ] .
والذين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك نفر من قريش قال ابن عباس : هم عتبة ابن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو سفيان والأسود بن عبد المطلب بن أسد وزمعة بن الأسود والوليد بن المغيرة وأبو جهل بن هشام وعبد الله بن أمية والعاص بن وائل وأمية بن خلف ونبيه ومنبه ابنا الحجاج .
وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94) قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (95)

قوله تعالى : { وما منع الناس أن يؤمنوا } يعني برسول الله صلى الله عليه وسلم .
{ إذ جاءَهم الهُدى } يحتمل وجهين :
أحدهما : القرآن .
الثاني : الرسول .
{ إلا أن قالوا أبعث الله بشراً رسولاً } وهذا قول كفار قريش أنكروا أن يكون البشر رُسُل الله تعالى ، وأن الملائكة برسالاته أخص كما كانوا رسلاً إلى أنبيائه ، فأبطل الله تعالى عليهم ذلك بقوله :
{ قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكاً رسولاً } يعني أن الرسول إلى كل جنس يأنس بجنسه ، وينفر من غير جنسه ، فلو جعل الله تعالى الرسول إلى البشر ملكاً لنفروا من مقاربته ولما أنسوا به ولداخلهم من الرهب منه والاتقاء له ما يكفهم عن كلامه ويمنعهم من سؤاله ، فلا تعمّ المصلحة . ولو نقله عن صورة الملائكة إلى مثل صورتهم ليأنسوا به ويسكنوا إليه لقالوا لست ملكاً وإنما أنت بشر فلا نؤمن بك ، وعادوا إلى مثل حالهم .
قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (96) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97)

قوله عز وجل : { ومن يهد الله فهو المهتدِ } معناه من يحكم الله تعالى بهدايته فهو المهتدي بإخلاصه وطاعته .
{ ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه } فيه وجهان :
أحدهما : ومن يحكم بضلاله فلن تجد له أولياء من دونه في هدايته .
الثاني : ومن يقض الله تعالى بعقوبته لم يوجد له ناصر يمنعه من عقابه .
{ ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم } فيه وجهان :
أحدهما : أن ذلك عبارة عن الإسراع بهم إلى جهنم ، من قول العرب : قدم القوم على وجوههم إذا أسرعوا .
الثاني : أنه يسحبون يوم القيامة على وجوههم إلى جهنم كمن يفعل في الدنيا بمن يبالغ في هوانه وتعذيبه .
{ عُمْياً وبكماً وصماً } فه وجهان :
أحدهما : أنهم حشروا في النار عُمي الأبصار بُكم الألسن صُمّ الأسماع ليكون ذلك يزادة في عذابهم ، ثم أبصروا لقوله تعالى { ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها } [ الكهف : 53 ] وتكلموا لقوله تعالى { دَعوا هنالك ثبوراً } [ الفرقان : 13 ] وسمعوا ، لقوله تعالى { سمعوا لها تغيظاً وزفيراً } [ الفرقان : 12 ] .
وقال مقاتل بن سليمان : بل إذا قال لهم { اخسئوا فيها ولا تكلمُون } [ المؤمنون : 18 ] صاروا عمياً لا يبصرون ، صُمّاً لا يسمعون ، بكماً لا يفقهون .
الثاني : أن حواسهم على ما كانت عليه ، ومعناه عمي عما يسرّهم ، بكم عن التكلم بما ينفعهم ، صم عما يمتعهم ، قاله ابن عباس والحسن .
{ مأواهم جهنم } يعني مستقرهم جهنم .
{ كلما خبت زدناهم سعيراً } فيه وجهان :
أحدهما : كلما طفئت أوقدت ، قاله مجاهد .
الثاني : كلما سكن التهابها زدناهم سعيراً والتهاباً ، قاله الضحاك ، قال الشاعر :
وكُنّا كَالحَرِيقِ أَصَابَ غَاباً ... فَيَخْبُو سَاعَةً ويَهُبُّ سَاعا
وسكون التهابها من غير نقصان في الآمهم ولا تخفيف من عذابهم .
ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (98) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا (99) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا (100)

قوله عز وجل : { قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي } فيه وجهان :
أحدهما : خزائن الأرض الأرزاق ، قاله الكلبي .
الثاني : خزائن النعم ، وهذا أعم .
{ إذاً لأمسكتم خشية الإنفاق } فيه وجهان :
أحدهما : لأمسكتم خشية الفقر ، والإنفاق الفقر ، قاله قتادة وابن جريج .
الثاني : يعني أنه لو ملك أحد المخلوقين خزائن الله تعالى لما جاد بها كجود الله تعالى لأمرين :
أحدهما : أنه لا بدّ أن يمسك منها لنفقته وما يعود بمنفعته .
الثاني : أنه يخاف الفقر ويخشى العدم ، والله عز وجل يتعالى في جوده عن هاتين الحالتين .
{ وكان الإنسان قتوراً } فيه تأويلان :
أحدهما : مقتراً ، قاله قطرب والأخفش .
الثاني : بخيلاً ، قاله ابن عباس وقتادة .
واختلف في هذا الآية على قولين :
أحدهما : أنها نزلت في المشركين خاصة ، قاله الحسن . الثاني : أنها عامة ، وهو قول الجمهور .
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101) قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102) فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (103) وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104)

قوله تعالى { ولقد آتينا موسى تسْع آيات بيناتٍ } فيها أربعة أقاويل :
أحدها : أنها يده وعصاه ولسانه والبحر والطوفان والجراد والقُمّل والضفادع والدم آيات مفصلات ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنها نحو من ذلك إلا آيتين منهن إحداهما الطمس ، والأخرى الحجر ، قاله محمد بن كعب القرظي .
الثالث : أنها نحو من ذلك ، وزيادة السنين ونقص من الثمرات ، وهو قول الحسن .
الرابع : ما روى صفوان بن عسال عن النبي صلى الله عليه وسلم أن قوماً من اليهود سألوه عنها فقال : « لا تشركوا بالله شيئاً ، ولا تسرقوا ، ولا تزنوا ، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ، ولا تسحروا ، ولا تأكلوا الربا ، ولا تمشوا ببرىء الى السلطان ليقتله ، ولا تقذفوا محصنة ، ولا تفرُّوا من الزحف ، وأنتم يا يهود خاصة لا تعدُوا في السبت » فقبلوا يده ورجله .
{ فاسأل بني إسرائيل . . } وفي أمره بسؤالهم وإن كان خبر الله أصدق من خبرهم ثلاثة أوجه :
أحدها : ليكون ألزم لهم وأبلغ في الحجة عليهم .
الثاني : فانظر ما في القرآن من أخبار بني إسرائيل فه سؤالهم ، قاله الحسن .
الثالث : إنه خطاب لموسى عليه أن يسأل فرعون في إطلاق بني إسرائيل قاله ابن عباس .
وفي قوله { إني لأظنك يا موسى مسحوراً } أربعة أوجه :
أحدها : قد سُحرت لما تحمل نفسك عليه من هذا القول والفعل المستعظمين .
الثاني : يعني ساحراً لغرائب أفعالك . الثالث : مخدوعاً .
الرابع : مغلوباً : قاله مقاتل .
{ . . . وإني لأظنك يا فرعون مثبوراً } فيه خمسة أوجه :
أحدها : مغلوباً ، قاله الكلبي ومقاتل . وقال الكميت :
وَرَأَت قُضَاعَةُ في الأَيَا ... مِنِ رَأْيَ مَثْبُورٍ وَثَابِر
الثاني : هالك ، وهو قول قتادة .
الثالث : مبتلى ، قاله عطية .
الرابع : مصروفاً عن الحق ، قاله الفراء .
الخامس : ملعوناً ، قاله أبان بن تغلب وأنشد :
يا قَوْمَنَا لاَ تَرُومُوا حَرْبَنَا سَفَهاً
إِنّ السَّفَاهَ وإِنَّ البَغْيَ مَثْبُورُ
قوله عز وجل : { فأراد أن يستفزهم من الأرض } وفيه وجهان :
أحدهما : يزعجهم منها بالنفي عنها ، قاله الكلبي .
الثاني : يهلكهم فيها بالقتل . ويعني بالأرض مصر وفلسطين والأردن .
قوله عز وجل : { . . . فإذا جاءَ وعد الآخرة } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : وعد الإقامة وهي الكرة الآخرة ، قاله مقاتل .
الثاني : وعد الكرة الآخرة في تحويلهم إلى أرض الشام .
الثالث : نزول عيسى عليه السلام من السماء ، قاله قتادة .
{ جئنا بكم لفيفاً } فيه تأويلان :
أحدهما : مختلطين لا تتعارفون ، قاله رزين .
الثاني : جئنا بكم جميعاًً من جهات شتى ، قاله ابن عباس وقتادة . مأخوذ من لفيف الناس .
وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (105) وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106)

قوله عز وجل : { وبالحق أنزلناه وبالحق نَزَل } يحتمل وجهين :
أحدهما : أن إنزاله حق .
الثاني : أن ما تضمنه من الأوامر والنواهي والوعد والوعيد حق .
{ وبالحق نزل } يحتمل وجهين :
أحدهما : وبوحينا نزل .
الثاني : على رسولنا نزل .
{ وما أرسلناك إلا مبشراً ونذيراً } يعني مبشراً بالجنة لمن أطاع الله تعالى ، ونذيراً بالنار لمن عصى الله تعالى .
قوله عز وجل : { وقرآناً فرقناه } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : فرقنا فيه بين الحق والباطل ، قاله الحسن .
الثاني : فرّقناه بالتشديد وهي قراءة ابن عباس أي نزل مفرّقاً آية آية وهي كذلك في مصحف ابن مسعود وأُبيِّ بن كعب : فرقناه عليك .
الثالث : فصّلناه سُورَاً وآيات متميزة ، قاله ابن بحر .
{ لتقرأه على الناس على مُكْثٍ } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : يعني على تثبت وترسّل ، وهو قول مجاهد .
الثاني : أنه كان ينزل منه شيء ، ثم يمكثون بعد ما شاء الله ، ثم ينزل شيء آخر .
الثالث : أن يمكث في قراءته عليهم مفرقاً شيئاً بعد شيء ، قاله أبو مسلم .
قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109)

قوله عز وجل : { قل آمنوا بِه أو لا تؤمنوا } يعني القرآن ، وهذا من الله تعالى على وجه التبكيت لهم والتهديد ، لا على وجه التخيير .
{ إن الذين أوتوا العلم من قَبله } فيهم وجهان :
أحدهما : أنهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، قاله الحسن .
الثاني : أنهم أناس من اليهود ، قاله مجاهد .
{ إذا يتلى عليهم يخرُّون للأذقان سُجّداً } فيه قولان :
أحدهما : كتابهم إيماناً بما فيه من تصديق محمد صلى الله عليه وسلم .
الثاني : القرآن كان أناس من أهل الكتاب إذا سمعوا ما أنزل منه قالوا : سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا ، وهذا قول مجاهد .
وفي قوله { يخرُّون للأذقان } ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن الأذقان مجتمع اللحيين .
الثاني : أنها ها هنا الوجوه ، قاله ابن عباس وقتادة .
الثالث : أنها اللحى ، قاله الحسن .
قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (110) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111)

قوله عز وجل : { قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيّا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى } في سبب نزولها قولان :
أحدهما : قاله الكلبي . أن ذكر الرحمن كان في القرآن قليلاً وهو في التوراة كثير ، فلما أسلم ناس من اليهود منهم ابن سلام وأصحابه ساءَهم قلة ذكر الرحمن في القرآن ، وأحبوا أن يكون كثيراً فنزلت .
الثاني : ما قاله ابن عباس أنه كان النبي صلى الله عليه وسلم ساجداً يدعو « يا رحمن يا رحيم » فقال المشركون هذا يزعم أن له إِلهاً واحداً وهو يدعو مثنى ، فنزلت الآية .
{ ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلاً } فيه قولان :
أحدهما : أنه عنى بالصلاة الدعاء ، ومعنى ذلك ولا تجهر بدعائك ولا تخافت به ، وهذا قول عائشة رضي الله عنها ومكحول . قال إبراهيم : لينتهين أقوام يشخصون بأبصارهم إلى السماء في الصلاة أو لا ترجع إليهم أبصارهم .
الثاني : أنه عنى بذلك الصلاة المشروعة ، واختلف قائلو ذلك فيما نهى عنه من الجهر بها والمخافتة فيها على خمسة أقاويل :
أحدها : أنه نهى عن الجهر بالقراءة فيها لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة كان يجهر بالقراءة جهراً شديداً ، فكان إذا سمعه المشركون سبّوه ، فنهاه الله تعالى عن شدة الجهر ، وأن لا يخافت بها حتى لا يسمعه أصحابه ، ويبتغي بين ذلك سبيلاً ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنه نهى عن الجهر بالقراءة في جميعها وعن الإسرار بها في جميعها وأن يجهر في صلاة الليل ويسر في صلاة النهار .
الثالث : أنه نهي عن الجهر بالتشهد في الصلاة ، قاله ابن سيرين .
الرابع : أنه نهي عن الجهر بفعل الصلاة لأنه كان يجهر بصلاته ، بمكة فتؤذيه قريش ، فخافت بها واستسر ، فأمره الله ألاّ يجهر بها كما كان ، ولا يخافت بها كما صار ، ويبتغي بين ذلك سبيلاً ، قاله عكرمة .
الخامس : يعني لا تجهر بصلاتك تحسنها مرائياً بها في العلانية ، ولا تخافت بها تسيئها في السريرة ، قال الحسن : تحسّن علانيتها وتسيء سريرتها .
وقيل : لا تصلّها رياءً ولا تتركها حياء . والأول أظهر .
روي أن أبا بكر الصديق كان إذا صلى خفض من صوته فقال له النبي صلى الله عليه وسلم « لم تفعل هذا » قال : أناجي ربي وقد علم حاجتي ، فقال صلى الله عليه وسلم « أحسنت » . وكان عمر بن الخطاب يرفع صوته فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : « لم تفعل هذا » فقال أُوقظ الوسنان وأطرد الشيطان فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « أحسنت » . فلما نزلت هذه الآية قال لأبي بكر : « ارفع شيئا » وقال لعمر : « أخفض شيئاً
» . قوله تعالى : { وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً } يحتمل وجهين :
أحدهما : أمره بالحمد لتنزيه الله تعالى عن الولد .
الثاني : لبطلان ما قرنه المشركون به من الولد .
{ ولم يكن له شريك في الملك } لأنه واحد لا شريك له في ملك ولا عبادة .
{ ولم يكن له وليٌّ من الذل } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : لم يحالف أحداً .
الثاني : لا يبتغي نصر أحد .
الثالث : لم يكن له وليٌّ من اليهود والنصارى لأنهم أذل الناس ، قاله الكلبي .
{ وكبره تكبيراً } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : صِفه بأنه أكبر من كل شيء .
الثاني : كبّره تكبيراً عن كل ما لا يجوز في صفته .
الثالث : عظِّمْه تعظيماً والله أعلم .
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4) مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5)

قوله عز وجل : { الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب } يعني على محمد القرآن ، فتمدح بإنزاله لأنه أنعم عليه خصوصاً ، وعلىلخلق عموماً . { ولم يجعل له عوجاً } في { عوجاً } ثلاثة تأويلات :
أحدها : يعني مختلفاً ، قاله مقاتل ، ومنه قول الشاعر :
أدوم بودي للصديق تكرُّماً ... ولا خير فيمن كان في الود أعوجا
الثاني : يعني مخلوقاً ، قاله ابن عباس .
الثالث : أنه العدول عن الحق الى الباطل ، وعن الاستقامة إلى الفساد ، وهو قول علي بن عيسى .
والفرق بين العوج بالكسر والعوج بالفتح أن العوج بكسر العين ما كان في الدين وفي الطريق وفيما ليس بقائم منتصب ، والعوج بفتح العين ما كان في القناة والخشبة وفيما كان قائماً منتصباً .
{ قيِّماً } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : أنه المستقيم المعتدل ، وهذ قول ابن عباس والضحاك .
الثاني : أنه قيم على سائر كتب الله تعالى يصدقها وينفي الباطل عنها .
الثالث : أنه المعتمد عليه والمرجوع إليه كقيم الدار الذي يرجع إليه في أمرها ، وفيه تقديم وتأخير في قول الجميع وتقديره : أنزل الكتاب على عبده قيماً ولم يجعل له عوجاً ولكن جعله قيماً .
{ لينذر بأساً شديداً من لدنه } يحتمل وجهين :
أحدهما : أنه عذاب الاستئصال في الدنيا .
الثاني : أنه عذاب جهنم في الآخرة .
فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6) إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8)

قوله عز وجل : { فلعلك باخعٌ نفسك على آثارهم } فيه وجهان :
أحدهما : قاتل نفسك ، ومنه قول ذي الرُّمَّةِ :
ألا أيهذا الباخع الوجد نفسه ... بشيء نحتَهُ عن يديك المقادِرُ
الثاني : أن الباخع المتحسر الأسِف ، قاله ابن بحر .
{ على آثارهم } فيه وجهان :
أحدهما : على آثار كفرهم .
الثاني : بعد موتهم .
{ إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً } يريد إن لم يؤمن كفار قريش بهذا الحديث يعني القرآن .
{ أسفاً } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : أي غضباً ، قاله قتادة .
الثاني : جزعاً ، قاله مجاهد .
الثالث : أنه غمّاً ، قاله السدي .
الرابع : حزناً ، قاله الحسن ، وقد قال الشاعر :
أرى رجلاً منهم أسيفاً كأنما ... تضُمُّ إلى كشحيه كفّاً مخضبَّا
قوله عز وجل : { إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها } فيه خمسة أوجه :
أحدها : أنها الأشجار والأنهار التي زين الله الأرض بها ، قاله مقاتل .
الثاني : أنهم الرجال لأنهم زينة الأرض ، قاله الكلبي .
الثالث : أنهم الأنبياء والعلماء ، قاله القاسم .
الرابع : أن كل ما على الأرض زينة لها ، قاله مجاهد .
الخامس : أن معنى { زينة لها } أي شهوات لأهلها تزين في أعينهم وأنفسهم .
{ لنبلوهم أيهم أحْسَنُ عملاً } فيه ثلاثة أوجه : أحدها : أيهم أحسن إعراضاً عنها وتركاً لها ، قاله ابن عطاء .
الثاني : أيهم أحسن توكلاً علينا فيها ، قاله سهل بن عبد الله .
الثالث : أيهم أصفى قلباً وأهدى سمتاً .
ويحتمل رابعاً : لنختبرهم أيهم أكثر اعتباراً بها .
ويحتمل خامساً : لنختبرهم في تجافي الحرام منها .
قوله عز وجل : { وإنّا لجاعلون ما عليها صعيداً جرزاً } في الصعيد ثلاثة أقاويل :
أحدها : الأرض المستوية ، قاله الأخفش ومقاتل .
الثاني : هو وجه الأرض لصعوده ، قاله ابن قتيبة .
الثالث : أنه التراب ، قاله أبان بن تغلب .
وفي الجُرُز أربعة أوجه :
أحدها : بلقعاً ، قاله مجاهد .
الثاني : ملساء ، وهو قول مقاتل .
الثالث : محصورة ، وهو قول ابن بحر .
الرابع : أنها اليابسة التي لا نبات بها ولا زرع قال الراجز :
قد جرفتهن السُّنون الأجراز ...
أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10) فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12)

قوله عز وجل : { أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجباً } أما الكهف فهو غار في الجبل الذي أوى إليه القوم . وأما الرقيم ففيه سبعة أقاويل :
أحدها : أنه اسم القرية التي كانوا منها ، قاله ابن عباس . الثاني : أنه اسم الجبل ، قاله الحسن .
الثالث : أنه اسم الوادي ، قاله الضحاك . قال عطية العوفي : هو واد بالشام نحو إبلة وقد روي أن اسم جبل الكهف بناجلوس ، واسم الكهف ميرم واسم المدينة أفسوس ، واسم الملك وفيانوس .
الرابع : أنه اسم كلبهم . قاله سعيد بن جبير ، وقيل هو اسم لكل كهف .
الخامس : أن الرقيم الكتاب الذي كتب فيه شأنهم ، قاله مجاهد . ماخوذ من الرقم في الثوب . وقيل كان الكتاب لوحاً من رصاص على باب الكهف ، وقيل في خزائن الملوك لعجيب أمرهم .
السادس : الرقيم الدواة بالرومية ، قاله أبو صالح .
السابع : أن الرقيم قوم من أهل الشراة كانت حالهم مثل حال أصحاب الكهف ، قاله سعيد بن جبير .
{ كانوا مِنْ آياتنا عجباً } فيه وجهان : أحدهما : معناه ما حسبت أنهم كانوا من آياتنا عجباً لولا أن أخبرناك وأوحينا إليك .
الثاني : معناه أحسبت أنهم أعجب آياتنا وليسوا بأعجب خلقنا ، قاله مجاهد . قوله عز وجل : { إذ أوى الفتية إلى الكهف } اختلف في سبب إيوائهم إليه على قولين :
أحدهما : أنهم قوم هربوا بدينهم إلى الكهف ، قاله الحسن . { فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيىء لنا من أمرِنا رشداً } .
الثاني : أنهم أبناء عظماء وأشراف خرجوا فاجتمعوا وراء المدينة على غير ميعاد ، فقال أسَنُّهم : إني أجد في نفسي شيئاً ما أظن أحداً يجده ، إن ربي رب السموات والأرض ، { فقالوا } جميعاً { ربُّنا ربُّ السموات والأرض لن ندعوا من دونه إلهاً لقد قلنا إذاً شَطَطَاً } ثم دخلوا الكهف فلبثوا فيه ثلاثمائةٍ سنين وازدادوا تسعاً ، قاله مجاهد .
قال ابن قتيبة : هم أبناء الروم دخلوا الكهف قبل عيسى ، وضرب الله تعالى على آذنهم فيه ، فلما بعث الله عيسى أخبر بخبرهم ، ثم بعثهم الله تعالى بعد عيسى في الفترة التي بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم . وفي { شططاً } ثلاثة أوجه :
أحدها : كذباً ، قاله قتادة .
الثاني : غلوّاً ، قاله الأخفش .
الثالث : جوراً ، قاله الضحاك .
قوله عز وجل : { فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عدداً } والضرب على الآذان هو المنع من الاستماع ، فدل بهذا على أنهم لم يموتوا وكانوا نياماً ، { سنين عدداً } فيه وجهان :
أحدهما : إحصاء .
الثاني : سنين كاملة ليس فيها شهور ولا أيام .
وإنما ضرب الله تعالى على آذانهم وإن لم يكن ذلك من أسباب النوم لئلا يسمعوا ما يوقظهم من نومهم .
قوله عز وجل : { ثم بعثناهم } الآية . يعني بالعبث إيقاظهم من رقدتهم . { لنِعلَم } أي لننظر { أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمداً } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : عدداً ، قاله مجاهد .
الثاني : أجلاً ، قاله مقاتل .
الثالث : الغاية ، قاله قطرب .
وفي الحزبين أربعة أقاويل :
أحدها : أن الحزبين هما المختلفان في أمرهم من قوم الفتية ، قاله مجاهد . الثاني : أن أحد الحزبين الفتية ،
والثاني : من حضرهم من أهل ذلك الزمان . الثالث : أن أحد الحزبين مؤمنون ، والآخر كفار .
الرابع : أن أحد الحزبين الله تعالى ، والآخر الخلق ، وتقديره : أنتم أعلم أم الله .
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14) هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا (16)

قوله عز وجل : { وربطنا على قلوبهم . . } فيه وجهان :
أحدهما : ثبتناها .
الثاني : ألهمناها صبراً ، قاله اليزيدي .
{ . . . ولقد قلنا إذاً شططاً } فيه وجهان :
أحدهما : غُلواً .
الثاني : تباعداً .
قوله تعالى : { . . . لولا يأتون عليهم بسلطان بيّنٍ } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : بحجة بينة ، قاله مقاتل .
الثاني : بعذر بيّن ، قاله قتادة .
الثالث : بكتاب بيّن ، قاله الكلبي .
قوله تعالى : { . . . ويهيىء لكم من أمركم مرفقاً } فيه وجهان : أحدهما : سعة .
الثاني : معاشاً .
ويحتمل ثالثاً : يعني خلاصاً ، ويقرأ { مِرْفقاً } بكسر الميم وفتح الفاء { ومَرفِقاً } بفتح الميم وكسر الفاء ، والفرق بينهما أنه بكسر الميم وفتح الفاء إذا وصل إليك من غيرك ، وبفتح الميم وكسر الفاء إذا وصل منك إلى غيرك .
وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17)

قوله عز وجل : { وترى الشمس إذا طَلَعَتْ تزوار عن كهفهم ذاتَ اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال } فيه وجهان
أحدهما : تعرض عنه فلا تصيبه .
الثاني : تميل عن كهفهم ذات اليمين .
{ وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : معنى تقرضهم تحاذيهم ، والقرض المحاذاة ، قاله الكسائي والفراء .
الثاني : معناه تقطعهم ذات الشمال أي أنها تجوزهم منحرفة عنهم ، من قولك قرضته بالمقراض أي قطعته .
الثالث : معناه تعطيهم اليسير من شعاعها ثم تأخذه بانصرافها ، مأخوذ من قرض الدراهم التي ترد لأنهم كانوا في مكان موحش ، وقيل لأنه لم يكن عليهم سقف يظلهم ولو طلعت عليهم لأحرقتهم .
وفي انحرافها عنهم في الطلوع والغروب قولان :
أحدهما : لأن كهفهم كان بإزاء بنات نعش فلذلك كانت الشمس لا تصيبه في وقت الشروق ولا في وقت الغروب ، قاله مقاتل .
الثاني : أن الله تعالى صرف الشمس عنهم لتبقى أجسامهم وتكون عبر لمن يشاهدهم أو يتصل به خبرهم .
{ وهم في فجوة منه } فيه أربعة أقاويل :
أحدها : يعني في فضاء منه ، قاله قتادة .
الثاني : داخل منه ، قاله سعيد بن جبير .
الثالث : أنه المكان الموحش .
الرابع : أنه ناحية متسعة ، قاله الأخفش ، ومنه قول الشاعر :
ونحن ملأنا كلَّ وادٍ وفجوةٍ ... رجالاً وخيلاً غير ميلٍ ولا عُزْلِ
وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18)

قوله عز وجل : { وتحسبهم أيقاظاً وهم رقودٌ } الأيقاظ : المنتبهون .
قال الراجز :
قد وجدوا إخوانهم أيقاظا ... والسيف غياظ لهم غياظا
والرقود : النيام . قيل إن أعينهم كانت مفتوحة ويتنفسون ولا يتكلمون .
{ ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال } يعني تقلب النيام لأنهم لو لم يقلبوا لأكلتهم الأرض لطول مكثهم . وقيل إنهم كانوا يقلبون في كل عام مرتين ، ستة أشهر على جنب . وستة أشهر على جنبٍ آخر ، قاله ابن عباس .
قال مجاهد : إنما قلبوا تسع سنين بعد ثلاثمائة سنة لم يقلبوا فيها .
وفيما تحسبهم من أجله أيقاظاً وهم رقود قولان :
أحدهما : لانفتاح أعينهم .
الثاني : لتقليبهم ذات اليمين وذات الشمال .
{ وكلبهم باسِطٌ ذِراعيه بالوصيد } في { كلبهم } قولان :
أحدهما : أنه كلب من الكلاب كان معهم ، وهو قول الجمهور . وقيل إن اسمه كان حمران .
الثاني : أنه إنسان من الناس كان طباخاً لهم تبعهم ، وقيل بل كان راعياً . وفي { الوصيد } خمسة تأويلات :
أحدها : أنه العتبة .
الثاني : أنه الفناء قاله ابن عباس .
الثالث : أنه الحظير ، حكاه اليزيدي .
الرابع : أن الوصيد والصعيد التراب ، قاله سعيد بن جبير .
الخامس : أنه الباب ، قاله عطية ، وقال الشاعر :
بأرض فضاءَ لا يُسَدُّ وَصيدها ... عليَّ ومعروفي بها غيرُ مُنْكَرِ
وحكى جرير بن عبيد أنه كان كلباً ربيباً صغيراً . قال محمد بن إسحاق كان اصفر اللون .
{ لو أطّلعت عليهم لوليت منهم فِراراً ولملِئت منهم رُعباً } فيه وجهان :
أحدهما : لطول أظفارهم وشعورهم يأخذه الرعب منهم فزعاً .
الثاني : لما ألبسهم الله تعالى من الهيبة التي ترد عنهم الأبصار لئلا يصل إليهم أحد حتى يبلغ الكتاب فيهم أجله .
حكى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : غزوت مع معاوية رضي الله عنه في بحر الروم فانتهينا إلى الكهف الذي فيه أصحاب الكهف ، فقال معاوية أريد أن أدخل عليهم فأنظر إليهم ، فقلت ليس هذا لك فقد منعه الله من هو خير منك ، قال تعالى { لو اطعلت عليهم لوليت منهم فراراً } الآية . فأرسل جماعة إليهم دخلوا الكهف أرسل الله عليهم ريحاً أخرجتهم .
وقيل إن هذه المعجزة من قومهم كانت لنبي قيل إنه كان أحدهم وهو الرئيس الذي اتبعوه وآمنوا به .
وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20)

قوله عز وجل : { وكذلك بعثناهم } يعني به إيقاظهم من نومهم . قال مقاتل : وأنام الله كلبهم معهم . { ليتساءلوا بينهم قال قائلٌ منهم كم لبثتم } ليعلموا قدر نومهم .
{ قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم } كان السائل منهم أحدهم ، والمجيب له غيره ، فقال لبثنا يوما لأنه أطول مدة النوم المعهود ، فلما رأى الشمس لم تغرب قال { أو بعض يوما } لأنهم أنيموا أول النهار ونبهوا آخره .
{ قالوا ربُّكم أعْلمُ بما لبثتم } وفي قائله قولان :
أحدهما : أنه حكاية عن الله تعالى أنه أعلم بمدة لبثهم .
الثاني : أنه قول كبيرهم مكسلمينا حين رأى الفتية مختلفين فيه فقال { ربكم أعلم بما لبثتم } فنطق بالصواب ورد الأمر إلى الله عالمه ، وهذا قول ابن عباس .
{ فابعثوا أحدكم بورقكم هذه الى المدينة } قرىء بكسر الراء وبتسكينها ، وهو في القراءتين جميعاً الدراهم ، وأما الورَق بفتح الراء فهي الإبل والغنم ، قال الشاعر :
إياك أدعو فتقبل مَلَقي ... كَفِّرْ خطاياي وثمِّرْ ورقي
يعني إبله وغنمه .
{ فلينظر أيها أزكي طعاماً } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : أيها أكثر طعاماً ، وهذا قول عكرمة .
الثاني : أيها أحل طعاماً ، وهذا قول قتادة .
الثالث : أطيب طعاماً ، قاله الكلبي .
الرابع : أرخص طعاماً .
{ فليأتكم برزق مِنْه } فيه وجهان :
أحدهما : بما ترزقون أكله .
الثاني : بما يحل لكم أكله .
{ وليتلطف . . . } يحتمل وجهين :
أحدهما : وليسترخص .
الثاني : وليتلطف في إخفاء أمركم . وهذا يدل على جواز اشتراك الجماعة في طعامهم وإن كان بعضهم أكثر أكلاً وهي المناهدة ، وكانت مستقبحة في الجاهلية فجاء الشرع بإباحتها .
قوله عز وجل : { إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : يرجموكم بأيديهم استنكاراً لكم ، قاله الحسن .
الثاني : بألسنتهم غيبة لكم وشتماً ، قاله ابن جريج .
الثالث : يقتلوكم . والرجم القتل لأنه أحد أسبابه . { أو يعيدوكم في ملتهم } يعني في كفرهم .
{ ولن تفلحوا إذاً أبداً } إن أعادوكم في ملتهم .
وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21)

قوله عز وجل : { وكذلك أعثرنا عليهم } فيه وجهان
أحدهما : أظهرنا أهل بلدهم عليهم .
الثاني : أطلعنا برحمتنا إليهم .
{ وليعلموا أن وعْدَ اللهِ حقٌّ . . . } يحتمل وجهين :
أحدهما : ليعلم أهل بلدهم أن وعد الله حق في قيام الساعة وإعادة الخلق أحياء ، لأن من أنامهم كالموتى هذه المدة الخارجة عن العادة ثم أيقظهم أحياء قادر على إحياء من أماته وأقبره .
الثاني : معناه ليرى أهل الكهف بعد علمهم أن وعد الله حق في إعادتهم . { إذ يتنازعون بينهم أمرهم } ذلك أنهم لما بعثوا أحدهم بورقهم إلى المدينة ليأتيهم برزق منها وطعام ، استنكروا شخصه واستنكرت ورقه لبعد العهد فحمل إلى الملك وكان صالحاً قد آمن ومن معه ، فلما نظر إليه قال : لعل هذا من الفتية الذين خرجوا على عهد دقيانوس الملك فقد كنت أدعو الله أن يريناهم ، وسأل الفتى فأخبره فانطلق والناس معه إليهم ، فلما دنوا من أهل الكهف وسمع الفتية كلامهم خافوهم ووصى بعضهم بعضاً بدينهم فلما دخلوا عليهم أماتهم الله ميتة الحق ، فحينئذ كان التنازع الذي ذكره الله تعالى فيهم .
وفي تنازعهم قولان :
أحدهما : أنهم تنازعوا هل هم أحياء أم موتى؛
الثاني : أنهم تنازعوا بعد العلم بموتهم هل يبنون عليهم بنياناً يعرفون به أم يتخذون عليهم مسجداً .
وقيل : إن الملك أراد أن يدفنهم في صندوق من ذهب ، فأتاه آت منهم في المنام فقال : أردت أن تجعلنا في صندوق من ذهب فلا تفعل فإنا من التراب خلقنا وإليه نعود فدعْنا .
سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (22)

قوله عز وجل : { سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجماً بالغيب ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم } فأدخل الواو على انقطاع القصة لأن الخبر قد تم .
{ قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل } في المختلفين في عددهم قولان :
أحدهما : أنهم أهل المدينة قبل الظهور عليهم .
الثاني : أنهم أهل الكتاب بعد طول العهد بهم . وقوله تعالى : { رجماً بالغيب } قال قتادة قذفاً بالظن ، قال زهير :
وما الحرب إلاَّ ما علمتم وذقتم ... وما هو عنها بالحديث المرجّم .
وقال ابن عباس : أنا من القليل الذي استثنى الله تعالى : كانوا سبعة وثامنهم كلبهم .
وقال ابن جريج ومحمد بن إسحاق : كانوا ثمانية ، وجعلا قوله تعالى :
{ وثامنهم كلبهم } أي صاحب كلبهم .
وكتب قومهم أسماءهم حين غابوا ، فلما بان أمرهم كتبت أسماؤهم على باب الكهف . قال ابن جريج : أسماؤهم مكسلمينا ويمليخا وهو الذي مضى بالورق يشتري به الطعام ، ومطرونس ، ومحسيميلنينا ، وكشوطوش ، وبطلنوس ويوطونس وبيرونس .
قال مقاتل : وكان الكلب لمكسلمينا وكان أسنهم وكان صاحب غنم . { فلا تمار فيهم إلاّ مراءً ظاهراً } فيه خمسة أوجه :
أحدها : إلا ما قد أظهرنا لك من أمرهم ، قاله مجاهد .
الثاني : حسبك ما قصصا عليك من شأنهم ، فلا تسألني عن إظهار غيره ، قاله قتادة .
الثالث : إلا مِراء ظاهراً يعني بحجة واضحة وخبر صادق ، قاله علي بن عيسى .
الرابع : لا تجادل فيهم أحداً ألا أن تحدثهم به حديثاً ، قاله ابن عباس .
الخامس : هو أن تشهد الناس عليهم . { ولا تستفت فيهم منهم أحداً } فيه وجهان : أحدهما : ولا تستفت يا محمد فيهم أحداً من أهل الكتاب ، قاله ابن عباس . ومجاهد وقتادة .
الثاني : أنه خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ونهي لأمته .
وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24)

قوله عز وجل : { ولا تقولن لشيءإني فاعلٌ ذلك غداً } { إلا إن يشاء الله } قال الأخفش : فيه إضمار وتقديره : إلا أن تقول إن شاء الله ، وهذا وإن كان أمراً فهو على وجه التأديب والإرشاد أن لا تعزم على أمر إلا أن تقرنه بمشيئة الله تعالى لأمرين :
أحدهما : أن العزم ربما صد عنه بمانع فيصير في وعده مخلفاً في قوله كاذباً ، قال موسى عليه السلام { ستجدني إن شاء الله صابراً } [ الكهف : 70 ] ولم يصبر ولم يكن كاذباً لوجود الاستثناء في كلامه .
الثاني : إذعاناً لقدرة الله تعالى ، وإنه مدبر في أفعاله بمعونة الله وقدرته .
الثالث : يختص بيمينه إن حلف وهو سقوط الكفارة عنه إذا حنث .
{ واذكر ربك إذا نسيت } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : أنك إذا نسيت الشيء فاذكرالله ليذكرك إياه ، فإن فعل فقد أراد منك ما ذكرك ، وإلا فسيدلك على ما هو أرشد لك مما نسيته ، قاله بعض المتكلمين .
الثاني : واذكر ربك إذا غضبت ، قاله عكرمة ، ليزول عنك الغضب عند ذكره .
الثالث : واذكر ربك إذا نسيت الاستثناء بمشيئة الله في يمينك . وفي الذكر المأمور به قولان :
أحدهما : أنه ما ذكره في بقية الآية { وقل عسى أن يهديني ربي لأقرب من هذا رشداً }
الثاني : أنه قول إن شاء الله الذي كان نسيه عند يمينه .
واختلفوا في ثبوت الاستثناء بعد اليمين على خمسة أقاويل :
أحدها : أنه يصح الاستثناء بها إلى سنة ، فيكون كالاستثناء بها مع اليمين في سقوط الكفارة ولا يصح بعد السنة ، قاله ابن عباس .
الثاني : يصح الاستثناء بها في مجلس يمينه ، ولا يصح بعد فراقه ، قاله الحسن وعطاء .
الثالث : يصح الاستثناء بها ما لم يأخذ في كلام غيره .
الرابع : يصح الاستثناء بها مع قرب الزمان ، ولا يصح مع بعده .
الخامس : أنه لا يصح الاستثناء بها إلا متصلاً بيمينه وهو الظاهر من مذهب مالك والشافعي رحمهما الله .
وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26)

قوله عز وجل : { ولبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعاً } في قراءة ابن مسعود قالوا لبثوا في كهفهم . وفيه قولان :
أحدهما : أن هذا قول اليهود ، وقيل بل نصارى نجران أنهم لبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعاً ، فرد الله تعالى عليهم قولهم وقال لنبيه { قل الله أعلم بما لبثوا }
واتلقول الثاني : أن هذا إخبار من الله تعالى بهذا العدد عن مدة بقائهم في الكهف من حين دخلوه إلى ما ماتوا فيه .
{ وازدادوا تسعاً } هو ما بين السنين الشمسية والسنين القمرية .
{ قل الله أعلم بما لبثوا } فيه وجهان :
أحدهما : بما لبثوا بعد مدتهم إلى نزول القرآن فيهم .
الثاني : الله أعلم بما لبثوا في الكهف وهي المدة التي ذكرها عن اليهود إذ ذكروا زيادة ونقصاناً .
قوله عز وجل : { . . . أبصر به وأسمع } فيه تأويلان :
أحدهما : أن الله أبصر وأسمع ، أي أبصر ، بما قال وأسمع لما قالوا . الثاني : معناه أبصرهم وأسمعهم ، ما قال الله فيهم .
{ ما لهم من دونه من وَليّ } فيه وجهان :
أحدهما : من ناصر .
الثاني : من مانع . { ولا يشرك في حكمه أحداً } فيه وجهان :
أحدهما : ولا يشرك في علم غيبه أحداً .
الثاني : أنه لم يجعل لأحد أن يحكم بغير حكمه فيصير شريكاً له في حكمه .
وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (27) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)

قوله تعالى : { . . . ولن تجد من دونه مُلتحداً } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : ملجأ ، قاله مجاهد ، قال الشاعر :
لا تحفيا يا أخانا من مودّتنا ... فما لنا عنك في الأقوام مُلتحد
الثاني : مهرباً ، قاله قطرب ، قال الشاعر :
يا لهف نفسي ولهفٌ غير مغنيةٍ ... عني وما مِنْ قضاء الله ملتحدُ
الثالث : معدلاً ، قاله الأخفش .
الرابع : ولياً ، قاله قتادة . ومعانيها متقاربة .
قوله عز وجل : { واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم } فيه وجهان :
أحدهما : يريدون تعظيمه . الثاني : يريدون طاعته . قال قتادة : نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة فلما نزلت عليه قال : « الحمد لله الذي جعل من أمتي من أمرت أن أصبر معهم
» . { يدعون ربهم بالغداة والعشي } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : يدعونه رغبة ورهبة .
الثاني : أنهم المحافظون على صلاة الجماعة ، قاله الحسن .
الثالث : أنها الصلاة المكتوبة ، قاله ابن عباس ومجاهد .
ويحتمل وجهاً رابعاً : أن يريد الدعاء في أول النهار وآخره ليستفتحوا يومهم بالدعاء رغبة في التوفيق ، ويختموه بالدعاء طلباً للمغفرة .
{ يريدون وجهه } يحتمل وجهين :
أحدهما : بدعائهم .
الثاني : بعمل نهارهم . وخص النهار بذلك دون الليل لأن عمل النهار إذا كان لله تعالى فعمل الليل أولى أن يكون له .
{ ولا تعد عيناك عنهم . . } فيه وجهان :
أحدهما : ولا تتجاوزهم بالنظر إلى غيرهم من أهل الدنيا طلباً لزينتها ، حكاه اليزيدي . الثاني : ما حكاه ابن جريج أن عيينة بن حصن قال للنبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يسلم : لقد آذاني ريح سلمان الفارسي وأصحابه فاجعل لنا مجلساً منك لا يجامعونا فيه ، واجعل لهم مجلساً لا نجامعهم فيه ، فنزلت .
{ ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذِكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطاً } .
قوله { أغفلنا } فيه وجهان :
أحدهما : جعلناه غافلاً عن ذكرنا .
الثاني : وجدناه غافلاً عن ذكرنا .
وفي هذه الغفله لأصحاب الخواطر ثلاثة أوجه : أحدها : أنها إبطال الوقت بالبطالة ، قاله سهل بن عبد الله .
الثاني : أنها طول الأمل .
الثالث : أنها ما يورث الغفلة .
{ واتبع هواه } فيه وجهان :
أحدهما : في شهواته وأفعاله .
الثاني : في سؤاله وطلبه التمييز عن غيره .
{ وكان أمرُه فُرُطاً } فيه خمسة تأويلات :
أحدها : ضيقاً ، وهو قول مجاهد .
الثاني : متروكاً ، قاله الفراء .
الثالث : ندماً قاله ابن قتيبة .
الرابع : سرفاً وإفراطاً ، قاله مقاتل .
الخامس : سريعاً . قاله ابن بحر . يقال أفرط إذا أسرف وفرط إذا قصر .
وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29)

قوله عز وجل : { وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر } هذا وإن كان خارجاً مخرج التخيير فهو على وجه التهديد والوعيد ، وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنهم لا ينفعون الله بإيمانهم ولا يضرونه بكفرهم .
الثاني : فمن شاء الجنة فليؤمن ، ومن شاء النار فليكفر ، قاله ابن عباس .
الثالث : فمن شاء فليعرِّض نفسه للجنة بالإيمان ، ومن شاء فليعرض نفسه للنار بالكفر .
{ إنا أعتدنا للظالمين ناراً أحاط بهم سرادقها } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : أن سرادقها حائط من النار يطيف بهم ، قاله ابن عباس .
الثاني : هو دخانها ولهيبها قبل وصولهم إليها ، وهو الذي قال الله تعالى فيه { إلى ظلٍّ ذي ثلاث شعب لا ظليل ولا يغني من اللهب } [ المرسلات : 30-31 ] . قاله قتادة .
الثالث : أنه البحر المحيط بالدنيا . روى يعلى بن أمية قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « البحر هو جهنم » ثم تلا { ناراً أحاط بهم سرادقها } ثم قال « والله لا أدخلها أبداً ما دمت حياً ولا يصيبني منها قطرة » والسرادق فارسي معرب ، واصله سرادر .
{ وإن يستغيثوا يُغَاثوا بماءٍ كالمهل . . . } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : أنه القيح والدم ، قاله مجاهد .
الثاني : دردي الزيت ، قاله ابن عباس .
الثالث : أنه كل شيء أذيب حتى انماع؛ قاله ابن مسعود .
الرابع : هو الذي قد انتهى حره ، قاله سعيد بن جبير ، قال الشاعر :
شاب بالماء منه مهلاً كريهاً ... ثم علّ المتون بعد النهال
وجعل ذلك إغاثة لاقترانه بذكر الاستغاثة .
{ . . . بئس الشراب وساءت مرتفقاً } في المرتفق أربعة تأويلات :
أحدها : معناه مجتمعاً ، قاله مجاهد ، كأنه ذهب إلى معنى المرافقة .
الثاني : منزلاً قاله الكلبي ، مأخوذ من الارتفاق .
الثالث : أنه من الرفق .
الرابع : أنه من المتكأ مضاف إلى المرفق ، ومنه قول أبي ذؤيب :
نامَ الخَلِيُّ وَبِتُّ الليْلَ مُرْتَفِقاً ... كَأَنَّ عَيْنِي فيها الصَّابُ مَذْبُوحُ
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30) أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (31)

قوله عز وجل : { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنّا لا نضيع أجْر من أحسن عملاً } روى البراء بن عازب أن أعرابياً قام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فقال : إني رجل متعلم فأخبرني عن هذه الآية { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات } الآية فقال رسول الله صلى عليه وسلم « يا أعرابي ما أنت منهم ببعيد ولا هم ببعيد منك ، هم هؤلاء الأربعة الذين هم وقوف ، أبو بكر وعمر وعثمان وعلي فأعلم قومك أن هذه الآية نزلت فيهم
» . قوله عز وجل : { . . . ويلبسون ثياباً خُضْراً مِن سندس وإستبرق } أما السندس : ففيه قولان :
أحدهما : أنه من ألطف من الديباج ، قاله الكلبي .
الثاني : ما رَقَّ من الديباج ، واحده سندسة ، قاله ابن قتيبة . وفي الاستبرق قولان :
أحدهما : أنه ما غلظ من الديباج ، قاله ابن قتيبة ، وهو فارسي معرب ، أصله استبره وهو الشديد ، وقد قال المرقش :
تراهُنَّ يَلبْسنَ المشاعِرَ مرة ... وإسْتَبْرَقَ الديباج طوراً لباسُها
الثاني : أنه الحرير المنسوج بالذهب ، قاله ابن بحر .
{ متكئين فيها على الأرائك } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها الحجال ، قاله الزجاج .
الثاني : أنها الفُرُش في الحجال .
الثالث : أنها السرر في الحجال ، وقد قال الشاعر :
خدوداً جفت في السير حتى كأنما ... يباشرْن بالمعزاء مَسَّ الأرائكِ
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36)

قوله تعالى : { واضرب لهم مثلاً رجلين جعلنا لأحدهما جنتين } الجنة : البستان ، فإذا جمع العنب والنخل وكان تحتها زرع فهي أجمل الجنان وأجداها نفعاً ، لثمر أعاليها وزرع أسافلها ، وهو معنى قوله { وجعلنا بينهما رزعاً } .
{ كلتا الجَنتين آتت أكلُها } أي ثمرها وزرعها ، وسماه أكُلاً لأنه مأكول .
{ ولم تظلم منه شيئاً } أي استكمل جميع ثمارها وزرعها .
{ وفجرنا خِلالهما نهراً } يعني أن فيهما أنهاراً من الماء ، فيكون ثمرها وزرعها بدوام الماء فيهما أو في وأروى ، وهذه غاية الصفات فيما يجدي ويغل .
وفي ضرب المثل في هاتين الجنتين قولان :
أحدهما : ما حكاه مقاتل بن سليمان أنه إخبار الله تعالى عن أخوين كانا في بني إسرائيل ورثا عن أبيهما مالاً جزيلاً ، قال ابن عباس ثمانية آلاف دينار . فأخذ أحدهما حقه وهو مؤمن فتقرب به إلى الله تعالى ، وأخذ الآخر حقه منه وهو كافر فتملك به ضياعاً منها هاتان الجنتان ، ولم يتقرب إلى الله تعالى بشيء منه ، فكان من حاله ما ذكره الله من بعد ، فجعله الله تعالى مثلاً لهذه الأمة .
والقول الثاني : أنه مثل ضربه الله تعالى لهذه الأمة ، وليس بخبر عن حال متقدمة ، ليزهد في الدنيا ويرغب في الآخرة ، وجعله زجراً وإنذاراً .
قوله عز وجل : { وكان له ثمرٌ } قرأ عاصم بفتح الثاء والميم ، وقرأ أبو عمرو بضم الثاء وإسكان الميم ، وقرأ الباقون ثُمُر بضم الثاء والميم . وفي اختلاف هاتين القراءتين بالضم والفتح قولان :
أحدهما : معناهما واحد ، فعلى هذا فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : أنه الذهب والفضة ، قاله قتادة ، لأنها أموال مثمرة .
الثاني : أنه المال الكثير من صنوف الأموال ، قاله ابن عباس لأن تثميره أكثر
الثالث : أنه الأصل الذي له نماء ، قاله ابن زيد ، لأن في النماء تثميراً .
والقول الثاني : أن معناهما بالضم وبالفتح مختلف ، فعلى هذا في الفرق . بينهما ، أربعة أوجه :
أحدها : أنه بالفتح جمع ثمرة ، وبالضم جمع ثمار .
الثاني : أنه بالفتح ثمار النخيل خاصة ، وبالضم جميع الأموال ، قاله ابن بحر .
الثالث : أنه بالفتح ما كان ثماره من أصله ، وبالضم ما كان ثماره من غيره .
الرابع : أن الثمر بالضم الأصل ، وبالفتح الفرع ، قاله ابن زيد .
وفي هذا الثمر المذكور قولان :
أحدهما : أنه ثمر الجنتين المتقدم ذكرهما ، وهو قول الجمهور .
الثاني : أنه ثمر ملكه من غير جنتيه ، وأصله كان لغيره كما يملك الناس ثماراً لا يملكون أصولها ، قاله ابن عباس ، ليجتمع في ملكه ثمار أمواله وثمار غير أمواله فيكون أعم مِلكا .
{ فقال لصاحبه } يعني لأخيه المسلم الذي صرف ماله في القُرب طلباً للثواب في الآخرة ، وصرف هذا الكافر ماله فيما استبقاه للدنيا والمكاثرة .
{ وهو يحاوره } أي يناظره ، وفيما يحاوره فيه وجهان :
أحدهما : في الإيمان والكفر .
الثاني : في طلب الدنيا وطلب الآخرة ، فجرى بينهما ما قصة الله تعالى من قولهما .
قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37) لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38) وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (39) فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41)

قوله تعالى : { فعسى ربّي أن يؤتين خيراً مِنْ جنتك } فيه وجهان :
أحدهما : خيراً من جنتك في الدنيا فأساويك فيها .
الثاني : وهو الأشهر خيراً من جنتك في الآخرة ، فأكون أفضل منك فيها .
{ ويرسل عليها حُسْباناً من السماء } فيه خمسة تأويلات :
أحدها : يعني عذاباً ، قاله ابن عباس وقتادة .
الثاني : ناراً .
الثالث : جراداً .
الرابع : عذاب حساب بما كسبت يداك ، قاله الزجاج ، لأنه جزاء الآخرة . والجزاء من الله تعالى بحساب .
الخامس : أنه المرامي الكثيرة ، قاله الأخفش وأصله الحساب وفي السهام التي يرمى بها في طلق واحد ، وكان من رَمي الأساورة .
{ فتصبح صعيداً زلقاً } يعني أرضاً بيضاء لا ينبت فيها نبات ولا يثبت عليها قدم ، وهي أضر أرض بعد أن كانت جنة أنفع أرض .
{ أو يصبح ماؤها غوراً } يعني ويصبح ماؤها غوراً ، فأقام أو مقام الواو ، و { غوراً } يعني غائراً ذاهباً فتكون أعدم أرض للماء بعد أن كان فيها .
{ فلن تستطيع له طلباً } ويحتمل وجهين :
أحدهما : فلن تستطيع رد الماء الغائر . الثاني : فلن تستطيع طلب غيره بدلاً منه وإلى هذا الحد انتهت مناظرة أخيه وإنذاره .
وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا (43) هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (44)

قوله عز وجل : { وأحيط بثمرِهِ } أي أهلك ماله ، وهذا أول ما حقق الله به إنذار أخيه . { فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها } يحتمل وجهين :
أحدهما : يقلب كفيه ندماً على ما أنفق فيها وأسفاً على ما تلف .
الثاني : يقلب ملكه فلا يرى فيه عوض ما أنفق وهلك ، لأن الملك قد يعبر عنه باليد ، من قولهم في يده مال ، أي في ملكه .
{ وهي خاويةٌ على عروشِها } أي منقلبة على عاليها فجمع عليه بين هلاك الأصل والثمر ، وهذا من أعظم الجوائح مقابلة على بغيه .
قوله عز وجل : { ولم تكُنْ له فِئة ينصرونه منْ دونِ الله } فيه وجهان :
أحدهما : أن الفئة الجند ، قاله الكلبي .
الثاني : العشيرة ، قاله مجاهد .
{ وما كان منتصراً } فيه وجهان :
أحدهما : وما كان ممتنعاً ، قاله قتادة .
الثاني : وما كان مسترداً بدل ما ذهب منه .
قال ابن عباس : هما الرجلان ذكرهما الله تعالى في سورة الصافات حيث يقول :
{ إني كان لي قرين } إلى قوله { في سواء الجحيم } وهذا مثل قيل إنه ضرب لسلمان وخباب وصهيب مع أشراف قريش من المشركين .
قوله تعالى : { هنالك الولاية لله الحق } يعني القيامة . وفيه أربعة أوجه :
أحدها : أنهم يتولون الله تعالى في القيامة فلا يبقى مؤمن لا كافر إلا تولاه ، قاله الكلبي .
الثاني : أن الله تعالى يتولى جزاءهم ، قاله مقاتل .
الثالث : أن الولاية مصدر الولاء فكأنهم جميعاً يعترفون بأن الله تعالى هو الوليّ قاله الأخفش .
الرابع : أن الولاية النصر ، قاله اليزيدي .
وفي الفرق بين الولاية بفتح الواو وبين الولاية بكسرها وجهان :
أحدهما : أنها بفتح الواو : للخالق ، وبكسرها : للمخلوقين ، قاله أبو عبيدة .
الثاني : أنها بالفتح في الدين ، وبكسرها في السلطان .
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45) الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46)

قوله عز وجل : { واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماءٍ أنزلناه من السماء فاختلط به نباتُ الأرض } يحتمل وجهين :
أحدهما : أن الماء اختلط بالنبات حين استوى .
الثاني : أن النبات اختلط بعضه ببعض حين نزل عليه الماء حتى نما .
{ فأصبح هشيماً تذروهُ الرياحُ } يعني بامتناع الماء عنه ، فحذف ذلك إيجازاً لدلالة الكلام عليه ، والهشيم ما تفتت بعد اليبس من أوراق الشجر والزرع ، قال الشاعر :
فأصبحت نيّماً أجسادهم ... يشبهها من رآها الهشيما
واختلف في المقصود بضرب هذا المثل على قولين :
أحدهما : أن الله تعالى ضربه مثلاً للدنيا ليدل به على زوالها بعد حسنها وابتهاجها :
الثاني : أن الله تعالى ضربه مثلاُ لأحوال أهل الدنيا أن مع كل نعمة نقمة ومع كل فرحة ترحة .
قوله عز وجل : { المال والبنون زينة الحياة الدنيا } لأن في المال جمالاً ونفعاً وفي { البنين } قوة ودفعاً فصارا زينة الحياة الدنيا .
{ والباقيات الصالحات خيرٌ عند ربك ثواباً وخيرٌ أملاً } فيها أربعة تأويلات :
أحدها : أنها الصلوات الخمس ، قاله ابن عباس وسعيد بن جبير .
الثاني : أنها الأعمال الصالحة ، قاله ابن زيد .
الثالث : هي الكلام الطيب . وهذا مروي عن ابن عباس أيضاً ، وقاله عطية العوفي .
الرابع : هو قول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، قاله عثمان بن عفان رضي الله عنه . وروى أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر هي الباقيات الصالحات
» . وفي { الصالحات } وجهان :
أحدهما : أنها بمعنى الصالحين لأن الصالح هو فاعل الصلاح .
الثاني : أنها بمعنى النافعات فعبر عن المنفعة بالصلاح لأن المنفعة مصلحة . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « لما عُرج بي إلى السماء أريت إبراهيم فقال : مر أمتك أن يكثروا من غراس الجنة فإن تربتها طيبة وأرضها واسعة ، فقلت وما غراس الجنة؟ قال : لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
» . { خير عند ربك ثواباً } يعني في الآخرة ، { وخير أملاً } يعني عند نفسك في الدنيا ، ويكون معنى قوله { وخيرٌ أملاً } يعني أصدق أملاً ، لأن من الأمل كواذب وهذا أمل لا يكذب .
وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47) وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48) وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)

قوله عز وجل : { ويوم نُسَيِّر الجبال } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : يسيرها من السير حتى تنتقل عن مكانها لما فيه من ظهور الآية وعظم الإعتبار .
الثاني : يسيرها أي يقللها حتى يصير كثيرها قليلاً يسيراً .
الثالث : بأن يجعلها هباء منثوراً .
{ وترى الأرض بارزة } فيه وجهان :
أحدهما : أنه بروز ما في بطنها من الأموات بخروجهم من قبورهم .
الثاني : أنها فضاء لا يسترها جبل ولا نبات .
{ وحشرناهم فلم نغادر منهم أحداً } فيه ثلاثة تأويلات .
أحدها : يعني فلم نخلف منهم أحداً ، قاله ابن قتيبة ، قال ومنه سمي الغدير لأنه ما تخلفه السيول .
الثاني : فلم نستخلف منهم أحداً ، قاله الكلبي .
الثالث : معناه فلم نترك منهم أحداً ، حكاه مقاتل .
قوله عز وجل : { وعُرِضوا على ربِّك صَفّاً } قيل إنهم يُعرضون صفاً بعد صف كالصفوف في الصلاة ، وقيل إنهم يحشرون عراة حفاة غرلاً ، فقالت عائشة رضي الله عنها فما يحتشمون يومئذ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم « { لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه } » [ عبس : 37 ] .
قوله عز وجل : { ووضع الكتابُ } فيه وجهان :
أحدهما : أنها كتب الأعمال في أيدي العباد ، قاله مقاتل .
الثاني : أنه وضع الحساب ، قاله الكلبي ، فعبر عن الحساب بالكتاب لأنهم يحاسبون على أعمالهم المكتوبة .
{ فترى المجرمين مشفقين مما فيه } لأنه أحصاه الله ونسوه .
{ ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يُغادِرُ صغيرةً ولا كبيرةً إلاّ أحصاها }
وفي الصغيرة تأويلان :
أحدهما : أنه الضحك ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنها صغائر الذنوب التي تغفر باجتناب كبائرها .
وأما الكبيرة ففيها قولان :
أحدهما : ما جاء النص بتحريمه .
الثاني : ما قرن بالوعيد والحَدِّ .
ويحتمل قولاً ثالثاً : أن الصغيرة الشهوة ، والكبيرة العمل .
قال قتادة : اشتكى القوم الإحْصاء وما اشتكى أحد ظلماً ، وإياكم المحقرات من الذنوب فإنها تجتمع على صاحبها حتى تهلكه .
{ ووجَدوا ما عَملوا حاضِراً } يحتمل تأويلين :
أحدهما : ووجدوا إحصاء ما عملوا حاضراً في الكتاب .
الثاني : ووجدوا جزاء ما عملوا عاجلاً في القيامة .
{ ولا يظلم ربك أحداً } يعني من طائع في نقصان ثوابه ، أو عاص في زيادة عقابه .
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50)

قوله عز وجل : { وإذ قلنا للملائكة اسجُدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجنِّ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه كان من الجن على ما ذكره الله تعالى . ومنع قائل هذا بعد ذلك أن يكون من الملائكة لأمرين :
أحدهما : أن له ذرية ، والملائكة لا ذرية لهم .
الثاني : أن الملائكة رسل الله سبحانه ولا يجوز عليهم الكفر ، وإبليس قد كفر ، قال الحسن : ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين قط ، وإنه لأصل الجن كما أن آدم أصل الإنس .
الثاني : أنه من الملائكة ، ومن قالوا بهذا اختلفوا في معنى قوله تعالى { كان من الجن } على ثلاثة أقاويل :
أحدها : ما قاله قتادة أنه كان من أفضل صنف من الملائكة يقال لهم الجن .
الثاني : ما قاله ابن عباس ، أنه كان من الملائكة من خزان الجنة ومدبر أمر السماء الدنيا فلذلك قيل من الجن لخزانة الجنة ، كما يقال مكي وبصري .
الثالث : أن الجن سبط من الملائكة خلقوا من نار وإبليس منهم ، وخلق سائر الملائكة من نور ، قاله سعيد من جبير ، قاله الحسن : خلق إبليس من نار وإلى النار يعود .
الثالث : أن إبليس لم يكن من الإنس ولا من الجن ، ولكن كان من الجان ، وقد مضى من ذكره واشتقاق اسمه ما أغنى .
{ ففسق عن أمر ربه . . . } فيه وجهان :
أحدهما : أن الفسق الاتساع ومعناه اتسع في محارم الله تعالى :
الثاني : أن الفسق الخروج أي خرج من طاعة ربه ، من قولهم فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرها ، وسميت الفأرة فويسقة لخروجها من حجرها قال رؤبة بن العجاج :
يهوين من نجدٍ وغورٍ غائرا ... فواسقاً عن قصدها جوائرا
وفي قوله تعالى : { . . . بئس للظالمين بدلاً } وجهان :
أحدهما : بئس ما استبدلوا بطاعة الله طاعة إبليس ، قاله قتادة .
الثاني : بئس ما استبدلوا بالجنة النار .
مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51)

قوله عز وجل : { ما أشهدتهم خلق السموات والأرض } فيه وجهان :
أحدهما : ما أشهدت إبليس وذريته .
الثاني : ما أشهدت جميع الخلق خلق السموات والأرض .
وفيه وجهان :
أحدهما : ما أشهدتهم إياها استعانة بهم في خلقها .
الثاني : ما أشهدتهم خلقها فيعلموا من قدرتي ما لا يكفرون معه .
ويحتمل ثالثاً : ما أشهدتهم خلقها فيحيطون علماً بغيبها لاختصاص الله بعلم الغيب دونه خلقه .
{ ولا خلق أنفسهم } فيه وجهان :
أحدهما : ما استعنت ببعضهم على خلق بعض .
الثاني : ما أشهدت بعضهم خلق بعض .
ويحتمل ثالثاً : ما أعلمتم خلق أنفسهم فكيف يعلمون خلق غيرهم .
{ وما كنت متخذ المضلين عضدا } يحتمل وجهين :
أحدهما : يعني أولياء .
الثاني : أعواناً ، ووجدته منقولاً عن الكلبي .
وفيما أراد أنه لم يتخذهم فيه أعواناً وجهان :
أحدهما : أعواناً في خلق السموات والأرض .
الثاني : أعواناً لعبدة الأوثان ، قاله الكلبي .
وفي هؤلاء المضلين قولان :
أحدهما : إبليس وذريته .
الثاني : كل مضل من الخلائق كلهم .
قال بعض السلف : إذا كان ذنب المرء من قبل الشهوة فارْجُه ، وإذا كان من قبل الكبر فلا ترْجه ، لأن إبليس كان ذنبه من قبل الكبر فلم تقبل توبته ، وكان ذنب آدم من قبل الشهوة فتاب الله عليه . وقد أشار بعض الشعراء إلى هذا المعنى فقال :
إذا ما الفتى طاح في غيّه ... فَرَجِّ الفتى للتُّقى رَجّه
فقد يغلط الركب نهج الط ... ريق ثم يعود إلى نهجه
وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (52) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (53)

قوله عز وجل : { . . . وجعلنا بينهم موبقاً } فيه ستة أقاويل :
أحدها : مجلساً ، قاله الربيع .
الثاني : مهلكاً ، قاله ابن عباس وقتادة والضحاك ، قال الشاعر :
استغفر الله أعمالي التي سلفت ... من عثرةٍ إن تؤاخذني بها أبق
أي أهلك ، ومثله قول زهير :
ومن يشتري حسن الثناء بماله ... يصن عرضَه من كل شنعاء موبق
قال الفراء : جعل تواصلهم في الدنيا مهلكاً في الآخرة .
الثالث : موعداً ، قاله أبو عبيدة .
الرابع : عداوة ، قاله الحسن .
الخامس : أنه واد في جهنم ، قاله أنس بن مالك .
السادس : أنه واد يفصل بين الجنة والنار ، حكاه بعض المتأخرين .
قوله عز وجل : { ورأى المجرمون النّار } يحتمل وجهين :
أحدهما : أنهم عاينوا في المحشر .
الثاني : أنهم علموا بها عند العرض .
{ فظنُّوا أنهم مُواقعوها } فيه وجهان :
أحدهما : أنهم أمّلوا العفو قبل دخولها فلذلك ظنوا أنهم مواقعوها
الثاني : علموا أنهم مواقعوها لأنهم قد حصلوا في دار اليقين وقد يعبر عن العلم بالظن لأن الظن مقدمة العلم .
{ ولم يجدوا عنها مصرفاً } فيه وجهان :
أحدهما : ملجأ ، قاله الكلبي .
الثاني : معدلاً ينصرفون إليه ، قاله ابن قتيبة ، ومنه قول أبي كبير الهذلي :
أزهير هل عن شيبةٍ من مصرِف ... أم لا خلود لباذل متكلفِ
وفي المراد وجهان :
أحدهما : ولم يجد المشركون عن النار مصرفاً .
الثاني : ولم تجد الأصنام مصرفاً للنار عن المشركين .
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54)

قوله تعالى : { ولقد صرَّفنا في هذا القرآن للناس من كلِّ مثَل } يحتمل وجهين :
أحدهما : ما ذكره لهم من العبر في القرون الخالية .
الثاني : ما أوضحه لهم من دلائل الربوبية ، فيكون على الوجه الأول جزاء ، وعلى الثاني بياناً .
{ وكان الإنسان أكثر شيءٍ جَدلاً } يحتمل وجهين :
أحدهما : عناداً ، وهو مقتضى الوجه الأول .
الثاني : حجاجاً وهو مقتضى القول الثاني . روي أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على عليّ وفاطمة رضي الله عنهما وهما نائمان فقال : « الصلاة ، ألا تصليان » فقال علي رضي الله عنه : إنما أنفسنا بيد الله فإذا شاء أن يبعثها بعثها ، فانصرف النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول { وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً } [ الكهف : 54 ] .
وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا (55) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا (56)

قوله عز وجل : { وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءَهم الهُدى } فيه وجهان :
أحدهما : وما منع الناس أنفسهم أن يؤمنوا .
الثاني : ما منع الشيطان الناس أن يؤمنوا .
وفي هذا الهدي وجهان :
أحدهما : حجج الله الدالة على وحدانيته ووجوب طاعته .
الثاني : رسول الله صلى الله عليه وسلم المبعوث لهداية الخلق .
{ إلاّ أن تأتيهم سنةُ الأولين } أي عادة الأولين في عذاب الإستئصال .
{ أو يأتيهم العذاب قبلاً } قرأ عاصم وحمزة والكسائي { قُبُلاً } بضم القاف والباء وفيه وجهان :
أحدهما : تجاه ، قاله مجاهد .
الثاني : أنه جمع قبيل معناه ضروب العذاب .
ويحتمل ثالثاً : أن يريد : من أمامهم مستقبلاً لهم فيشتد عليهم هول مشاهدته .
وقرأ الباقون قِبَلاً بكسر القاف ، وفيه وجهان :
أحدهما : مقابلة .
الثاني : معاينة .
ويحتمل ثالثاً : من قبل الله تعالى بعذاب من السماء ، لا من قبل المخلوقين ، لأنه يعم ولا يبقى فهو أشد وأعظم .
قوله عز وجل : { . . ليُدحضوا به الحقَّ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : ليذهبوا به الحق ، ويزيلوه ، قاله الأخفش .
الثاني : ليبطلوا به القرآن ويبدلوه ، قاله الكلبي .
الثالث : ليهلكوا به الحق .
والداحض الهالك ،
مأخوذ من الدحض وهو الموضع المزلق من الأرض الذي لا يثبت عليه خف ولا حافر ولا قدم ، قال الشاعر :
ردَيت ونجَى اليشكري حِذارُه ... وحادَ كما حادَ البعير عن الدحض
{ واتخدوا آياتي وما أنذروا هُزُواً } يحتمل وجهين :
أحدهما : أن الآية البرهان ، وما أنذروا القرآن .
الثاني : الآيات القرآن وما أنذروا الناس .
ويحتمل قوله : { هزواً } وجهين :
أحدهما : لعباً .
الثاني : باطلاً .
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58) وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59)

قوله عز وجل : { وربُّكَ الغفور } يعني للذنوب وهذا يختص به أهل الإيمان دون الكفرة .
{ ذو الرّحمة . . . } فيها أربعة أوجه :
أحدها : ذو العفو .
الثاني : ذو الثواب ، وهو على هذين الوجهين مختص بأهل الإيمان دون الكفرة .
الثالث : ذو النعمة .
الرابع : ذو الهدى ، وهو على هذين الوجهين يعم أهل الإيمان وأهل الكفر لأنه ينعم في الدنيا على الكافر كإنعامه على المؤمن ، وقد أوضح هذه للكافر كما أوضحه للمؤمن ، وإن اهتدى به المؤمن دون الكافر .
{ بل لهم موعدٌ } فيه وجهان :
أحدهما : أجل مقدر يؤخرون إليه .
الثاني : جزاء واجب يحاسبون عليه .
{ لن يجدوا مِن دونه مَوْئلاً } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : ملجأ ، قاله ابن عباس وابن زيد .
الثاني : محرزاً ، قاله مجاهد .
الثالث : ولياً ، قاله قتادة .
الرابع : منجى ، قاله أبو عبيدة . قال والعرب تقول : لا وألَت نفسه ، أي لا نجت ، ومنه قول الشاعر :
لا وألت نفسك خلّيْتها ... للعامريّين ولم تُكْلَمِ
أحدهما : أهلكناهم بالعذاب لما ظلموا بالكفر .
الثاني : أهلكناهم بأن وكلناهم إلى سوء تدبيرهم لما ظلموا بترك الشكر .
{ وجعلنا لمهلكهم مَوْعِداً } فيه وجهان :
أحدهما : أجلا يؤخرون إليه ، قاله مجاهد .
الثاني : وقتاً يهلكون فيه . وقرىء بضم الميم وفتحها ، فهي بالضم من أُهلك وبالفتح من هَلَك .
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60) فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61) فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63) قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا (64) فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65)

قوله عز وجل : { وإذا قال موسى لفتاه } يعني يوشع بن نون وهو ابن أخت موسى وسمي فتاهُ لملازمته إياه ، قيل في العلم ، وقيل في الخدمة ، وهو خليفة موسى على قومه من بعده .
وقال محمد بن إسحاق : إن موسى الذي طلب الخضر هو موسى بن منشى بن يوسف ، وكان نبياً في بني إسرائيل قبل موسى بن عمران .
والذي عليه جمهور المسلمين أنه موسى بن عمران .
{ لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : يعني بحر الروم وبحر فارس ، أحدهما قبل المشرق ، والآخر قبل المغرب وحكى الطبري أنه ليس في الأرض مكان أكثر ماء منه .
والقول الثاني : هو بحر أرمينية مما يلي الأبواب .
الثالث : الخضرُ وإلياس ، وهما بحران في العلم ، حكاه السدي .
{ أو أمضي حُقباً } فيه خمسة أوجه :
أحدها : أن الحقب ثمانون سنة ، قاله عبد الله بن عمر .
الثاني : سبعون سنة ، قاله مجاهد .
الثالث : أن الحقب الزمان ، قاله قتادة .
الرابع : أنه الدهر ، قاله ابن عباس ، ومنه قول امرىء القيس :
نحن الملوك وأبناء الملوك ، لنا ... مِلكٌ به عاش هذا الناس أحقابا
الخامس : أنه سنة بلغة قيس ، قاله الكلبي . وفي قوله { لا أبْرحُ } تأويلان :
أحدهما : لا أفارقك ، ومنه قول الشاعر :
إذا أنت لم تبرح تؤدي أمانةً ... وتحمل أُخرى أثقلتك الودائع
الثاني : لا أزال ، قاله الفراء ، ومنه قول الشاعر :
وأبرح ما أدام اللهُ قومي ... بحمد الله منتطقاً مجيداً
أي لا أزال . وقيل إنه قال { لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين } لأنه وعد أن يلقى عنده الخضر عليه السلام .
{ فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حُوتَهما } قيل إنهما تزودا حوتاً مملوحاً وتركاه حين جلسا ، وفيه وجهان :
أحدهما : أنه ضل عنهما حتى اتخذ سبيله في البحر سرباً ، فسمي ضلاله عنهما نسياناً منهما .
الثاني : أنه من النسيان له والسهو عنه .
ثم فيه وجهان :
أحدهما : أن الناسي له أحدهما وهو يوشع بن نون وحده وإن أضيف النسيان إليهما ، كما يقال نسي القوم زادهم إذا نسيه أحدهم .
الثاني : أن يوشع نسي أن يحمل الحوت ونسي موسى أن يأمره فيه بشيء ، فصار كل واحد منهما ناسياً لغير ما نسيه الآخر .
{ فاتّخذ سبيله في البحر سَرَباً } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : مسلكاً ، قاله مجاهد وابن زيد .
الثاني : يبساً ، قاله الكلبي .
الثالث : عجباً ، قاله مقاتل .
قوله عز وجل : { فلما جاوَزا } يعني مكان الحوت .
{ قال لفَتاهُ } يعني موسى قال لفتاه يوشع بن نون .
{ آتِنا غداءَنا } والغداء الطعام بالغداة كما أن العشاء طعام العشي والإنسان إلى الغداء أشد حاجة منه إلى العشاء .
{ لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً } فيه وجهان : أحدهما : أنه التعب .
الثاني : الوهن .
{ قال أرأيت إذ أوينا الى الصخرة } فيه قولان :
أحدهما : قاله مقاتل ، إن الصخرة بأرض تسمى شره ان على ساحل بحر أيلة ، وعندها عين تسمى عين الحياة .

الثاني : أنها الصخرة التي دون نهر الزيت على الطريق .
{ فإني نسيت الحُوت } فيه وجهان :
أحدهما : فإني نسيت حمل الحوت .
الثاني : فإني نسيت أن أخبرك بأمر الحوت .
{ وما أنسانيه إلاّ الشيطان أن اذكُره } أي أنسانية بوسوسته إليّ وشغله لقلبي .
{ واتخذ سبيله في البحر عجباً } فيه قولان :
أحدهما : انه كان لا يسلك طريقاً في البحر إلا صار ماؤه صخراً فلما رآه موسى عجب من مصير الماء صخراً .
الثاني : أن موسى لما أخبره يوشع بأمر الحوت رجع إلى مكانه فرأى أثر الحوت في البحر ودائرته التي يجري فيها فعجب من عود الحوت حياً .
{ قال ذلك ما كُنّا نبغِ } أي نطلب ، وذلك أنه قيل لموسى إنك تلقى الخضر في موضع تنسى فيه متاعك ، فعلم أن الخضر بموضع الحوت .
{ فارتدَّا على آثارهما قَصصاً } أي خرجا إلى آثارهما يقصان أثر الحوت ويتبعانه .
{ فَوَجداَ عبْداً من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : النبوة ، قاله مقاتل :
الثاني : النعمة .
الثالث : الطاعة .
الرابع : طول الحياة .
{ وعلّمناه من لدُنا عِلْماً } قال ابن عباس لما اقتفى موسى أثر الحوت انتهى إلى رجل راقد وقد سجي عليه ثوبه ، فسلم عليه موسى ، فكشف ثوبه عن وجهه وردّ عليه السلام وقال : من أنت؟ قال : موسى . قال صاحب بني إسرائيل؟ قال : نعم . قال : وما لك في بني إسرائيل شغل ، قال : أمرت أن آتيك وأصحبك .
واختلفوا في الخضر هل كان مَلَكاً أو بشراً على قولين :
أحدهما : أنه كان ملكاً أمر الله تعالى موسى أن يأخذ عنه مما حمّله إياه من علم الباطن .
الثاني : أنه كان بشراً من الإنس .
واختلف من قال هذا على قولين :
أحدهما : كان نبياً لأن الإنسان لا يتعلم ولا يتبع إلا من هو فوقه؛ ولا يجوز أن يكون فوق النبي من ليس بنبي ، قال مقاتل : هو ليسع لأنه وسع علمه ست سموات وست أرضين .
الثاني : أنه لم يكن نبياً وإنما كان عبداً صالحاً أودعه الله تعالى مِن علْم باطن الأمور ما لم يودع غيره ، لأن النبي هو الداعي ، والخضر كان مطلوباً ولم يكن داعياً طالباً ، وقد ذكرأن سبب تسميته بالخضر لأنه كانه إذا صلى في مكان اخضرّ ما حوله .
قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66) قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69) قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70)

قوله عز وجل : { قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمنِ مما علمت رُشْداً } في الرشد هنا ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه العلم ، قاله مقاتل ويكون تقديره على أن تعلمني مما علمت علماً .
الثاني : معناه على أن تعلمني مما علمت لإرشاد الله لك .
الثالث : ما يرى في علم الخضر رشداً يفعله وغياً يجتنبه ، فسأله موسى أن يعلمه من الرشد الذي يفعله ، ولم يسأله أن يعلمه الغيّ الذي يجتنبه لأنه عرف الغي الذي يجتنبه ولم يعرف ذلك الرشد .
{ قال إنك لن تستطيع معي صبراً } يحتمل وجهين :
أحدهما : صبراً عن السؤال .
الثاني : صبراً عن الإنكار .
{ وكيف تصبر على ما لم تُحِطْ به خُبراً } فيه وجهان :
أحدهما : لم تجد له سبباً .
الثاني : لم تعرف له علماً ، لأن الخضر علم أن موسى لا يصبر إذا رأى ما بنكر ظاهره .
{ قال ستجدني إن شاء الله صابراً ولا أعصي لك أمراً } فوعد بالصبر والطاعة ثم استثنى بمشيئة الله تعالى حذراً مما يلي فأطاع ولم يصبر . وفي قوله : { ولا أعصي لك أمراً } وجهان :
أحدهما : لا ابتدىء بالإنكار حتى تبدأ بالإخبار .
الثاني : لا أفشي لك سراً ولا أدل عليك بشراً . فعلى الوجه الأول يكون مخالفاً . على الوجه الثاني : يكون موافقاً .
فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72) قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74)

قوله عز وجل : { فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها } لأنه أراد أن يعبر في البحر إلى أرض أخرى فركب في السفينة وفيها ركاب ، فأخذ الخضر فأساً ومنقاراً فخرق السفينة حتى دخلها الماء وقيل إنه قلع منها لوحين فضج ركابها من الغرق .
ف { قال } له موسى { أخرقتها لتغرق أهلها } وإن كان في غرقها غرق جميعهم لكنه أشفق على القوم أكثر من إشفاقه على نفسه لأنها عادة الأنبياء .
ثم قال بعد تعجبه وإكباره { لقد جئت شيئاً إمْراً } فأكبر ثم أنكر ، وفي الإمر ثلاثة أوجه :
أحدها : يعني منكراً ، قاله مجاهد .
الثاني : عجباً ، قاله مقاتل .
الثالث : أن الإمر الداهية العظيمة ، قاله أبو عبيدة وأنشد :
قد لقي الأقران مِنّي نُكْرا ... داهيةً دهياء إدّاً إمْرا
وهو مأخوذ من الإمر وهو الفاسد الذي يحتاج إلى الصلاح ، ومنه رجل إمر إذا كان ضعيف الرأي لأنه يحتاج أن يؤمر حتى يقوى رأيه ، ومنه أمِر القومُ إذا أكثروا لأنهم يحتاجون إلى من يأمرهم وينهاهم .
قوله عز وجل : { قال لا تؤاخذني بما نسيتُ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : بما نسيته وغفلت عنه فلم أذكره ، وقد رفعه أبي بن كعب .
الثاني : بما كأني نسيته ، ولم أنسه في الحقيقة . حكى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال : لم ينس ولكنها معاريض الكلام .
الثالث : بما تركته من عهدك ، قاله ابن عباس ، مأخوذ من النسيان الذي هو الترك لا من النسيان الذي هو من السهو .
{ ولا تُرهقني مِنْ أمري عُسْراً } فيه أربعة أوجه :
أحدها : لا تعنفني على ما تركت من وصيتك ، قاله الضحاك .
الثاني : لا يغشني منك العسر ، من قولهم غلام مراهق إذا قارب أن يغشاه البلوغ ، ومنه حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « ارهقوا القبلة » أي اغشوها واقربوا منها .
الثالث : لا تكلفني ما لا أقدر عليه من التحفظ عن السهو والنسيان ، وهو معنى قول مقاتل :
الرابع : لا يلحقني منك طردي عنك .
قوله تعالى : { فانطلقا حتى إذا لقيا غلاماً فقتله } يعني انطلق موسى والخضر فاحتمل أن يكون يوشع تأخر عنهما ، لأن المذكور انطلاق اثنين وهو الأظهر لاختصاص موسى بالنبوة واجتماعه مع الخضر عن وحي ، واحتمل أن يكون معهما ولم يذكر لأنه تابع لموسى ، فاقتصر على ذكر المتبوع دون التابع لقول موسى : { ذلك ما كنا نبغي } فكان ذلك منه إشارة إلى فتاه يوشع .
واختلف في الغلام المقتول هل كان بالغاً ، فقال ابن عباس : كان رجلاً شاباً قد قبض على لحيته لأن غير البالغ لا يجري عليه القلم بما يستحق به القتل ، وقد يسمى الرجل غلاماً ، قالت ليلى الأخيلية في الحجّاج :
شفاها من الداء العُضال الذي بها ... غُلامٌ إذا هزَّ القَناةَ سقاها
وقال الأكثرون : كان صغيراً غير بالغ وكان يلعب مع الصبيان ، حتى مر به الخضر فقتله .

وفي سبب قتله قولان :
أحدهما : لأنه طبع على الكفر .
الثاني : لأنه أصلح بقتله حال أبويه . وفي صفة قتله قولان :
أحدهما : أنه أخذه من بين الصبيان فأضجعه وذبحه بالسكين ، قاله سعيد بن جبير .
الثاني : أنه أخذ حجراً فقتل به الغلام ، قاله مقاتل فاستعظم موسى ما فعله الخضر من قتل الغلام من غير سبب .
ف { قال أقتلت نَفْساً زَكيةً بغير نفْسٍ } فاختلف هل قاله استخباراً أو إنكاراً على قولين :
أحدهما : أنه قال ذلك استخباراً عنه لعلمه بأنه لا يتعدى في حقوق الله تعالى .
الثاني : أنه قاله إنكاراً عليه لأنه قال { لقد جئت شيئاً نُكراً }
قرأ أبو عمرو ونافع وابن كثير { زاكية } وقرأ حمزة وابن عامر وعاصم والكسائي زكيّة بغير ألف .
واختلف في زاكية - وزكية على قولين : أحدهما : وهو قول الأكثرين أن معناهما واحد ، فعلى هذا اختلف في تأويل ذلك على ستة أوجه :
أحدها : أن الزاكية التائبة ، قاله قتادة .
الثاني : أنها الطاهرة ، حكاه ابن عيسى .
الثالث : أنها النامية الزائدة ، قاله كثير من المفسرين ، قال نابغة بني ذبيان :
وما أخرتَ من دُنياك نقص ... وإن قدّمْتَ عادَ لَك الزّكاءُ
يعني الزيادة .
الرابع : الزاكية المسلمة ، قاله ابن عباس لأن عنده أن الغلام المقتول رجل .
الخامس : أن الزاكية التي لم يحل دمها ، قاله أبو عمرو بن العلاء .
السادس : أنها التي لم تعمل الخطايا ، قاله سعيد بن جبير . والقول الثاني : أن بين الزاكية والزكية فرقاً ، وفيه ثلاثة أوجه : أحدها : أن الزاكية في البدن ، والزكية في الدين ، وهذا قول أبي عبيدة .
الثاني : أن الزكية أشد مبالغة من الزاكية ، قاله ثعلب .
الثالث : أن الزاكية التي لم تذنب ، والزكية التي أذنبت ثم تابت فغفر لها ،
قاله أبو عمرو بن العلاء .
{ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً } فيه أربعة أوجه :
أحدها : شيئاً منكراً ، قاله الكلبي .
الثاني : أمراً فظيعاً قبيحاً ، وهذا معنى قول مقاتل .
الثالث : أنه الذي يجب أن ينكر ولا يفعل .
الرابع : أنه أشد من الإِمْر ، قاله قتادة .
قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75) قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (76)

قوله عز وجل : { قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِي } فيه أربعة أوجه :
أحدها : فلا تتابعني .
الثاني : فلا تتركني أصحبك ، قاله الكسائي .
الثالث : فلا تصحبني .
الرابع : فلا تساعدني على ما أريد .
{ قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذراً } قد اعتذرت حين أنذرت .
فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77) قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78)

{ فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَآ أَتَيآ أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَآ أَهْلَهَا } اختلف في هذه القرية على ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها أنطاكية ، قاله الكلبي .
الثاني : أنها الأبُلة ، قاله قتادة .
الثالث : أنها باجروان بإرمينية ، قاله مقاتل .
{ فَأَبَوْا إِن يُضَيِّفُوهُمَا } يقال أضفت الرجل إذا نزل عليك فأنت مضيف . وضفت الرجل إذا نزلت عليه فأنت ضيف . وكان الطلب منهما الفاقة عُذراً فيهما . والمنع من أهل القرية لشحٍ أثموا به .
{ فَوَجَدَا فِيها جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ } أي كاد أن ينقض؛ ذلك على التشبيه بحال من يريد أن يفعل في التالي ، كقول الشاعر :
يريد الرمح صدر أبي براءٍ . . ... . ويرغب عن دماءِ بني عقيل
ومعنى ينقض يسقط بسرعة ، ويناقض ينشق طولاً . وقرأ يحيى بن يعمر { يُرِيدُ أَن يَنقَصَّ } بالصاد غير المعجمة ، من النقصان .
{ فَأَقَامَهُ } قال سعيد بن جبير : أقام الجدار بيده فاستقام ، وأصل الجدر الظهور ومنه الجدري لظهوره .
وعجب موسى عليه السلام وقد { اسْتَطْعَمَآ أَهْلَهَا فَأَبَوْاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا } فأقام لهم الجدار ف { قَالَ لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً } قال قتادة : شر القرى لا تضيف الضيف ولا تعرف لابن السبيل حقه .
قوله عز وجل : { قَالَ هَذا فِرَاقٌ بَيْنِي وَبَيْنِكَ } فيه وجهان :
أحدهما : هذا الذي قلته { فِرَاقٌ بَيْنِي وَبَيْنِكَ }
الثاني : هذا الوقت { فِرَاقٌ بَيْنِي وَبَيْنِكَ }
{ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً } يحتمل وجهين :
أحدهما : لم تستطع على المشاهدة له صبراً .
الثاني : لم تستطع على الإِمساك عن السؤال عنه صبراً . فروى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « رَحِمَ اللَّهُ مُوسَى لَو صَبَرَ لاَقْتَبَسَ مِنْهُ أَلْفَ بَابٍ
» .
أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79)

قوله عز وجل : { أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ } وفي تسميتهم مساكين أربعة أوجه :
أحدها : لفقرهم وحاجتهم .
الثاني : لشدة ما يعانونه في البحر ، كما يقال لمن عانى شدة قد لقي هذا المسكين جهداً .
الثالث : لزمانة كانت بهم وعلل .
الرابع : لقلة حيلتهم وعجزهم عن الدفع عن أنفسهم ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم « مِسْكِينٌ رَجُلٌ لاَ امرأة له » فسماه مسكيناً لقلة حيلته وعجزه عن القيام بنفسه لا لفقره ومسكنته .
وقرأ بعض أئمة القراء « لِمَسَّاكِينَ » بتشديد السين ، والمساكون هم الممسكون ، وفي تأويل ذلك وجهان :
أَحدهما : لممسكون لسفينتهم للعمل فيها بأنفسهم .
الثاني : الممسكون لأموالهم شحاً فلا ينفقونها .
{ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا } أي أن أُحْدِثَ فيها عيباً .
{ وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٌ } في قوله { وَرَآءَهُم مَّلِكٌ } وجهان :
أحدهما : أنه خلفهم ، وكان رجوعهم عليه ولم يعلموا به ، قاله الزجاج .
الثاني : أنه كان أمامهم . وكان ابن عباس يقرأ : { وَكَانَ أَمَامَمُم مَّلِكٌ }
واختلف أهل العربية في استعمال وراء موضع أمام على ثلاثة أقاويل :
أحدها : يجوز استعماله بكل حال وفي كل مكان وهو من الأضداد ، قال الله تعالى { مِن وَرَائِهِم جَهَنَّمُ } أي من أمامهم وقدامهم جهنم قال الشاعر :
أيرجو بنو مروان سمعي وطاعتي ... وقومي تميم والفلاة ورائيا
يعني أمامي .
الثاني : أن وراء يجوز أن يستعمل في موضع أمام في المواقيت والأزمان لأن الإنسان قد يجوزها فتصير وراءه ولا يجوز في غيرها .
الثالث : أنه يجوز في الأجسام التي لا وجه لها كحجرين متقابلين كل واحد منهما وراء الآخر ، ولا يجوز في غيره قاله ابن عيسى .
{ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً } قرأ ابن مسعود : يأخذ كل سفينة صالحة غصباً . وهكذا كان الملك يأخذ كل سفينة جيدة غصباً ، فلذلك عباها الخضر لتسلم من الملك . وقيل إن اسم الملك هُدَد بن بُدَد ، وقال مقاتل : كان اسمه مندلة بن جلندى بن سعد الأزدي .
وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81)

قوله عز وجل : { وَأَمَّا الْغُلاَمُ فَكَانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنَ فَخَشِينآ أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً } قال سعيد بن جبير : وجد الخضر غلماناً يلعبون فأخذ غلاماً ظريفاً فأضجعه وذبحه ، وقيل كان الغلام سداسياً وقيل أنه أراد بالسداسي ابن ست عشرة سنة ، وقيل بل أراد أن طوله ستة أشبار ، قاله الكلبي : وكان الغلام لصاً يقطع الطريق بين قرية أبيه وقرية أمه فينصره أهل القريتين ويمنعون منه .
قال قتادة : فرح به أبواه حين ولد ، وحزنا عليه حين قتل ، ولو بقي كان فيه هلاكهما . قيل كان اسم الغلام جيسور . قال مقاتل وكان اسم أبيه كازير ، واسم أمه سهوى .
{ فَخَشِينآ أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْياناً وَكُفْراً } فيه ثلاة أوجه :
أحدهما : علم الخضر أن الغلام يرهق أبويه طغياناً وكفراً لأن الغلام كان كافراً قال قتادة : وفي قراءة أُبي { وَأَمَّا الغُلامُ فَكَانَ كَافِراً وَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ } فعبر عن العلم بالخشية .
الثاني : معناه فخاف ربك أن يرهق الغلام أبويه طغياناً وكفراً ، فعبر عن الخوف بالخشية قال مقاتل : في قراءة أبي { فَخَافَ رَبُّكَ } والخوف ها هنا استعارة لانتفائه عن الله تعالى .
الثالث : وكره الخضر أن يرهق الغلام أبويه بطغيانه وكفره إثماً وظلماً فصار في الخشية ها هنا ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها العلم .
الثاني : أنها الخوف .
الثالث : الكراهة .
وفي { يُرْهِقَهُمَا } وجهان :
أحدهما : يكفلهما ، قاله ابن زيد .
الثاني : يحملهما على الرهق وهو الجهد . { فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا ربهما خَيْراً مِنْهُ زَكَاةً } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : خيراً منه إسلاماً ، قاله ابن جريج .
الثاني : خيراً منه علماً ، قاله مقاتل .
الثالث : خيراً منه ولداً .
وكانت أمه حبلى فولدت ، وفي الذي ولدته قولان :
أحدهما : ولدت غلاماً صالحاً مسلماً ، قاله ابن جريج .
الثاني : ولدت جارية تزوجها نبي فولدت نبياً هدى الله على يديه أمة من الأمم .
{ وَأَقْرَبَ رُحْماً } فيه ثلاثة أوجه : أحدها : يعني أكثر براً بوالديه من المقتول ، قاله قتادة ، وجعل الرحم البر ، ومنه قول الشاعر :
طريدٌ تلافاه يزيد برحمةٍ ... فلم يُلْف من نعمائه يتعذَّرُ
الثاني : أعجل نفعاً وتعطفاً ، قال أبو يونس النحوي وجعل الرحم المنفعة والتعطف ، ومنه قول الشاعر :
وكيف بظلم جارية . . . ... ومنها اللين والرحم
الثالث : أقرب أن يرحما به ، والرُّحم الرحمة ، قاله أبو عَمْرو بن العلاء ، ومنه قول الشاعر :
أحنى وأرحمُ مِن أمٍّ بواحدِها ... رُحْماً وأشجع من ذي لبدةٍ ضاري
وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82)

قوله تعالى : { وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الَْمَدِينَةِ } زعم مقاتل أن اسم الغلامين صرم وصريم ، واسم أبيهما كاشخ ، واسم أمهما رهنا ، وأن المدينة قرية تسمى عيدشى .
وحقيقة الجدار ما أحاط بالدار حتى يمنع منها ويحفظ بنيانها ، ويستعمل في غيرها من حيطانها مجازاً .
{ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا } وفي هذا الكنز ثلاثة أقاويل : أحدها : صحف علم ، قاله ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد .
الثاني : لوح من ذهب مكتوب فيه حِكَم ، قاله الحسن ، وروى ابن الكلبي عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « { وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا } ، كَانَ الكَنزُ لَوحاً مِن ذَهَبٍ مَكْتُوباً فِيهِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحمنِ الرَّحِيمِ عَجَبٌ لِّمِنَ يُؤِمِنُ بِالمَوتِ كَيْفَ يَفْرَحُ ، عَجَبٌ لِّمَن يُوقِنُ بِالْقَدَرِ كَيْفَ يَحْزَنُ ، عَجَبٌ لِّمَن يُوقِنُ بِزَوالِ الدُّنيَا وَتَقَلُّبِهَا بِأَهْلِهَا كَيفَ يَطْمَئِنُّ إِلَيْهَا ، لاَ إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ
» . الثالث : كنز : مال مذخور من ذهب وفضة ، قاله عكرمة وقتادة .
{ وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا } قيل إنهما حفظا لصلاح أبيهما السابع ، قال محمد بن المنكدر : إن الله تعالى يحفظ عبده المؤمن في ولده وولد ولده وفي ذريته وفي الدويرات حوله . وروى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله .
واختلف أهل العلم في بقاء الخضر عليه السلام إلى يوم ، فذهب قوم إلى بقائه لأنه شرب من عين الحياة . وذهب آخرون إلى أنه غير باقٍ لأنه لو كان باقياً لعرف ، ولأنه لا يجوز أن يكون بعد نبينا صلى الله عليه وسلم نبي وهذا قول من زعم أن الخضر نبي .
وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84)

قوله عز وجل : { وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ } اختلف فيه هل كان نبياً؟ فذهب قوم إلى أنه نبي مبعوث فتح الله على يده الأرض وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه لم يكن نبياً ولا ملكاً ، ولكنه كان عبداً صالحاً أحب الله وأحبه الله ، وناصح لله فناصحه الله ، وضربوه على قرنه فمكث ما شاء الله ثم دعاهم إلى الهدى فضربوه على قرنه الآخر ، ولم يكن له قرنان كقرني الثور .
واختلف في تسميته بذي القرنين على أربعة أقاويل :
أحدها : لقرنين في جانبي رأسه على ما حكى علي بن أبي طالب رضي الله عنه .
الثاني : لأنه كانت له ضفيرتان فَسُمِّيَ بهما ذو القرنين ، قاله الحسن .
الثالث : لأنه بلغ طرفي الأرض من المشرق والمغرب ، فَسُمِّيَ لاستيلائه . على قرني الأرض ذو القرنين ، قاله الزهري .
الرابع : لأنه رأى في منامه أنه دنا من الشمس حتى أخذ بقرنيها في شرقها وغربها ، فقص رؤياه على قومه فَسُمِّيَ ذو القرنين ، قال وهب بن منبه .
وحكى بن عباس أن ذا القرنين هو عبد الله بن الضحاك بن معد ، وحكى محمد بن إسحاق أنه رجل من إهل مصر اسمه مرزبان بن مردبة اليوناني ولد يونان بن يافث بن نوح . وقال معاذ بن جبل : كان رومياً اسمه الاسكندروس . قال ابن هشام : هو الإِسكندر وهو الذي بنى الإسكندرية .
قوله عز وجل : { إِنَّا مَكَنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ } يحتمل وجهين :
أحدهما : باستيلائه على ملكها .
الثاني : بقيامه بمصالحها .
{ وَأَتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً } فيه وجهان :
أحدهما : من كل شيء علماً ينتسب به إلى إرادته ، قاله ابن عباس وقتادة .
الثاني : ما يستعين به على لقاء الملوك وقتل الأعداء وفتح البلاد .
ويحتمل وجهاً ثالثاً : وجعلنا له من كل أرض وليها سلطاناً وهيبة .
فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86) قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88)

قوله عز وجل : { فَأَتْبَعَ سَبَاً } فيه أربعة أوجه :
أحدها : منازل الأرض ومعالمها .
الثاني : يعني طرقاً بين المشرق والمغرب ، قاله مجاهد ، وقتادة .
الثالث : طريقاً إلى ما أريد منه .
الرابع : قفا الأثر ، حكاه ابن الأنباري .
{ حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ } قرأ نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، وحفص { حَمِئَةٍ } وفيها وجهان :
أحدهما : عين ماء ذات حمأة ، قاله مجاهد ، وقتادة .
الثاني : يعني طينة سوداء ، قاله كعب .
وقرأ بن الزبير ، والحسن : { فِي عَيْنٍ حَامِيَةٍ } وهي قراءة الباقين يعني حارة .
فصار قولاً ثالثاً : وليس بممتنع أن يكون ذلك صفة للعين أن تكون حمئة سوداء حامية ، وقد نقل مأثوراً في شعر تُبَّع وقد وصف ذا القرنين بما يوافق هذا فقال :
قد كان ذو القرنين قبلي مسلماً . . ... ملكاً تدين له الملوك وتسجد
بلغ المشارق والمغارب يبتغي ... أسباب أمرٍ من حكيم مرشد
فرأى مغيب الشمس عند غروبها ... في عين ذي خُلُبٍ وثاطٍ حرمد
الخُلُب : الطين . والثأط : الحمأة . والحرمد : الأسود .
ثم فيها وجهان : أحدهما : أنها تغرب في نفس العين .
الثاني : أنه وجدها تغرب وراء العين حتى كأنها تغيب في نفس العين .
{ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً } فيه وجهان :
أحدهما : أنه خيره في عقابهم أو العفو عنهم .
الثاني : إما أن تعذب بالقتل لمقامهم على الشرك وإما أن تتخذ فيهم حُسناً بأن تمسكهم بعد الأسر لتعلمهم الهدى وتستنقذهم من العَمَى ، فحكى مقاتل أنه لم يؤمن منهم إلا رجل واحد .
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90) كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91)

قوله عز وجل : { ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً } قرىء بقطع الألف ، وقرىء بوصلها وفيها وجهان :
أحدهما : معناهما واحد .
الثاني : مختلف . قال الأصمعي : بالقطع إذا لحق ، وبالوصل إذا كان على الأثر ، وإن لم يلحق .
{ حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ } قرىء بكسر اللام ، وقرىء بفتح اللام ، وفي اختلافهما وجهان :
أحدهما : معناهما واحد .
الثاني : معناهما مختلف . وهي بفتح اللام الطلوع ، وبكسرها الموضع الذي تطلع منه . والمراد بمطلع الشمس ومغربها ابتداء العمارة وانتهاؤها .
{ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتْراً } يعني من دون الشمس ما يسترهم منها من بناء أو شجر أو لباس . وكانوا يأوون إذا طلعت عليهم إلى أسراب لهم ، فإذا زالت عنهم خرجوا لصيد ما يقتاتونه من وحش وسمك .
قال ابن الكلبي : وهم تاريس وتأويل ومنسك .
وهذه الأسماء والنعوت التي نذكرها ونحكيها عمن سلف إن لم تؤخذ من صحف النبوة السليمة لم يوثق بها ، ولكن ذكرت فذكرتها . وقال قتادة . هم الزنج .
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96)

قوله عز وجل : { حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ } بالفتح قرأ ابن كثير وابو عمرو وعاصم في رواية حفص . وقرأ الباقون بين السُّدين وبالضم ، واختلف فيهما على قولين .
أحدهما : أنهما لغتان معناهما واحد .
الثاني : أن معناهما مختلف .
وفي الفرق بينهما ثلاثة أوجه :
أحدها : أن السد بالضم من فعل الله عز وجل وبالفتح من فعل الآدميين .
الثاني : أنه بالضم الاسم ، وبالفتح المصدر ، قاله ابن عباس وقتادة والضحاك . والسدان جبلان ، قيل إنه جعل الروم بينهما ، وفي موضعهما قولان :
أحدهما : فيما بين إرمينية وأذربيجان .
الثاني : في منقطع الترك مما يلي المشرق .
{ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْماً لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً } أي من دون السدين ، وفي { يَفْقَهُونَ } قراءتان :
إحداهما : بفتح الياء والقاف يعني أنهم لا يفهمون كلام غيرهم .
والقراءة الثانية : بضم الياء وكسر القاف ، أي لا يفهم كلامهم غيرهم .
قوله عز وجل : { قَالُواْ يَاذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ } وهما من ولد يافث بن نوح ، واسمهما مأخوذ من أجت النار إذا تأججت ، ومنه قول جرير :
وأيام أتين على المطايا ... كأن سمومهن أجيج نارٍ
واسمها في الصحف الأولى ياطغ وماطغ . وكان أبو سعيد الخدري يقول أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لاَ يَمُوتُ الرَّجُلُ منهُمْ حتى يُولَدُ لِصُلْبِهِ أَلْفُ رَجُلٍ
» . واختلف في تكليفهم على قولين :
أحدهما : أنهم مكلفون لتمييزهم .
الثاني : أنهم غير مكلفين لأنهم لو كلفوا لما جاز ألاَّ تبلغهم دعوة الإسلام .
{ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً } قرأ حمزة والكسائي : { خَرَاجاً } وقرأ الباقون { خَرْجاً } وفي اختلاف القراءتين ثلاثة أوجه :
أحدها : أن الخراج الغلة ، والخرج الأجرة .
الثاني : أن الخراج اسم لما يخرج من الأرض ، والخرج ما يؤخذ عن الرقاب ، قاله أبو عمرو بن العلاء .
الثالث : أن الخرج ما يؤخذ دفعة ، والخراج ثابت مأخوذ في كل سنة ، قاله ثعلب .
قوله عز وجل : { قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ } يعني خير من الأجر الذي تبذلونه لي .
{ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ } فيه وجهان :
أحدهما : بآلة ، قاله الكلبي .
الثاني : برجال ، قاله مقاتل .
{ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً } فيه وجهان :
أحدهما : أنه الحجاب الشديد .
الثاني : أنه السد المتراكب بعضه على بعض فهو أكبر من السد .
{ ءاتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها قطع الحديد ، قاله ابن عباس ومجاهد .
الثاني : أنه فلق الحديد ، قاله قتادة .
الثالث : أنه الحديد المجتمع ، ومنه الزَّبور لاجتماع حروفه في الكتابة ، قال تبع اليماني :
ولقد صبرت ليعلموه وحولهم ... زبر الحديد عشيةً ونهاراً
{ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ } قال ابن عباس ومجاهد والضحاك : الصدفان : جبلان ، قال عمرو بن شاش :
كلا الصدفين ينفذه سناها ... توقد مثل مصباح الظلام
وفيهما وجهان :
أحدهما : أن كل واحد منهما محاذ لصاحبه ، مأخوذ من المصادفة في اللقاء ، قاله الأزهري .
الثاني : قاله ابن عيسى ، هما جبلان كل واحد منهما منعزل عن الآخر كأنه قد صدف عنه .

ثم فيه وجهان :
أحدهما : : أن الصدفين اسم لرأسي الجبلين
الثاني : اسم لما بين الجبلين .
ومعنى قوله : { سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ } أي بما جعل بينهما حتى وارى رؤوسهما وسوّى بينهما .
{ قَالَ انفُخُوا } يعني أي في نار الحديد .
{ حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً } يعني ليناً كالنار في الحر واللهب .
{ قَالَ ءَاتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً } فيه أربعة أوجه :
أحدها : أن القطر النحاس ، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك .
الثاني : أنه الرصاص حكاه ابن الأنباري .
الثالث : أنه الصفر المذاب ، قاله مقاتل ، ومنه قول الحطيئة :
وألقى في مراجل من حديد ... قدور الصُّفر ليس من البُرام
الرابع : أنه الحديد المذاب ، قاله أبو عبيدة وأنشد :
حُساماً كلون الملح صار حديده ... حراراً من أقطار الحديد المثقب
وكان حجارته الحديد وطينه النحاس .
فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97) قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98) وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99)

قوله عز وجل : { فَمَا اسْطَاعُواْ أَن يَظْهَرُوهُ } أي يعلوه . { وَمَا اسْتَطَاعُواْ لَهُ نَقْباً } يعني من أسفله ، قاله قتادة ، وقيل إن السد وراء بحر الروم بين جبلين هناك يلي مؤخرهما البحر المحيط . وقيل : ارتفاع السد مقدار مائتي ذراع ، وعرضه نحو خمسين ذراعاً وأنه من حديد شبه المصمت . ورُوي أن رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إِنِّي رَأَيتُ السَّدَّ : « قَالَ : انعَتهُ » قَالَ : هُوَ كَالبَرَدِ المُحَبَّر ، طَريقُه سَودَاءُ وَطَريقُه حَمْرَاءُ ، « قَالَ قَدْ رَأَيتَهُ
» . قوله عز وجل : { قَالَ هَذا رَحْمَةٌ مِن رَّبِّي } يحتمل وجهين :
أحدهما : أن عمله رحمة من الله تعالى لعباده .
الثاني : أن قدرته على عمله رحمة من الله تعالى له .
{ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ } قال ابن مسعود : وذلك يكون بعد قتل عيسى عليه السلام الدجال في حديث مرفوع . وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إِنَّهُم يَدْأَبُونَ فِي حَفْرِهِم نَهَارُهُم حَتَّى إِذَا أَمْسَوْا وَكَادُواْ يُبْصِرُونَ شُعَاعَ الشَّمْسِ قَالُوا نَرْجِعُ غَداً فَنَحْفُرُ بَقِيَّتَهُ ، فَيَعُودُونَ مِنَ الغَدِ وَقَدِ اسْتَوَى كَمَا كَانَ ، حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قَالُواْ : غَداً إِنْ شَاءَ اللَّهُ نَنْقُبُ بَقيَّتَهُ ، فَيَرْجِعُونَ إِلَيهِ فَيَنْقُبُونَهُ فِإِذِنِ اللَّهِ ، فَيَخْرُجُونَ مِنهُ عَلَى النَّاسِ مِن حُصُونِهِم ، ثُمَّ يَرْمُونَ نبلاً إِلَى السَّمَاءِ فِيَرْجِعُ إِلَيهِم فِيهَا أَمْثَالُ الدِّمَاءِ ، فَيَقُولُونَ قَدْ ظَفَرْنَا عَلَى أَهْلِ ألأَرْضِ وَقَهَرْنَا أَهْلَ السَّمَاءِ ، فَيُرْسِلُ اللَّهُ تَعالَى عَلَيهِم مَّا يَهْلِكُهُم
» . { فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ رَبِّي } فيه قولان :
أحدهما : يوم القيامة ، قاله ابن بحر .
الثاني : هو الأجل الذي يخرجون فيه .
{ جَعَلَهُ دَكَّآءَ } يعني السد ، وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أرضاً ، قاله قطرب .
الثاني : قطعاً ، قاله الكلبي .
الثالث : هدماً حتى اندك بالأرض فاستوى معها ، قاله الأخفشس ، ومنه قول الأغلب :
هل غيرغادٍ غاراً فانهدم ... قوله عز وجل : { وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنهم القوم الذين ذكرهم ذو القرنين يوم فتح السد يموج بعضهم في بعض .
الثاني : الكفار في يوم القيامة يموج بعضهم في بعض .
الثالث : أنهم الإِنس والجن عند فتح السد .
وفيه وجهان :
أحدهما : يختلط بعضهم ببعض .
الثاني : يدفع بعضهم بعضاً ، مأخوذ من موج البحر .
وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100) الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (101) أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا (102)

قوله عز وجل : { الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَآءٍ عَن ذِكْرِي } يحتمل وجهين :
أحدهما : أن الضلال كالمغطي لأعينهم عن تَذَكُّر الانتقام .
الثاني : أنهم غفلوا عن الاعتبار بقدرته الموجبة لذكره .
{ وَكَانُوا لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً } فيه وجهان :
أحدهما : أن المراد بالسمع ها هنا العقل ، ومعناه لا يعقلون الثاني : أنه معمول على ظاهره في سمع الآذان . وفيه وجهان :
أحدهما : لا يستطيعونه استثقالاً .
الثاني : مقتاً .
قوله عز وجل : { إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً } فيه تأويلان :
أحدهما : أن النزل الطعام ، فجعل جهنم طعاماً لهم ، قاله قتادة .
الثاني : أنه المنزل ، قاله الزجاج .
قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (106)

قوله عز وجل : { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً } فيهم خسمة أقاويل :
أحدها : أنهم القسيسون والرهبان ، قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه .
الثاني : أنهم الكتابيون اليهود والنصارى ، قاله سعد بن أبي وقاص .
الثالث : هم أهل حروراء من الخوارج ، وهذا مروي عن علي رضي الله عنه .
الرابع : هم أهل الأهواء .
الخامس : أنهم من يصطنع المعروف ويمن عليه .
ويحتمل سادساً : أنهم المنافقون بأعمالهم المخالفون باعتقادهم .
ويحتمل سابعاً : أنهم طالبو الدنيا وتاركو الآخرة .
قوله تعالى : { . . . فَلاَ نُقِيمُ لهُمْ يَوْمَ الْقيَامَةِ وَزْناً } فيه أربعة أوجه :
أحدها : لهوانهم على الله تعالى بمعاصيهم التي ارتكبوها يصيرون محقورين لا وزن لهم .
الثاني : أنهم لخفتهم بالجهل وطيشهم بالسفه صاروا كمن لا وزن لهم . الثالث : أن المعاصي تذهب بوزنهم حتى لا يوازنوا من خفتهم شيئاً . روي عن كعب أنه قال : يجاء بالرجل يوم القيامة . فيوزن بالحبة فلا يزنها ، يوزن بجناح البعوضة فلا يزنها ، ثم قرأ : { فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً }
الرابع : أن حسناتهم تُحبَط بالكفر فتبقى سيئاتهم . فيكون الوزن عليهم لا لهم .
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108)

قوله عز وجل : { إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُم جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً } في { الْفِرْدَوْسِ } خمسة أقاويل :
أحدها : أن الفردوس وسط الجنة وأطيب موضع فيها ، قاله قتادة .
الثاني : أنه أعلى الجنة وأحسنها ، رواه ضمرة مرفوعاً .
الثالث : أنه البستان بالرومية ، قاله مجاهد .
الرابع : أنه البستان الذي جمع محاسن كل بستان ، قاله الزجاج .
الخامس : أنه البستان الذي فيه الأعناب ، قاله كعب .
واختلف في لفظه على أربعة أقاويل :
أحدها : أنه عربي وقد ذكرته العرب في شعرها ، قاله ثعلب .
الثاني : أنه بالرومية ، قاله مجاهد .
الثالث : انه بالنبطية ، فرداساً ، قاله السدي .
الرابع : بالسريانية ، قاله أبو صالح .
قوله عز وجل : { خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً } أي متحولاً وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها : بدلاً ، قاله الضحاك .
الثاني : تحويلاً ، قاله مقاتل .
الثالث : حيلة ، أي لا يحتالون منزلاً غيرها .
وقيل إنه يقول أولهم دخولاً إنما أدخلني الله أولهم لأنه ليس أحد أفضل مني ، ويقول آخرهم دخولاً إنما أخرني الله لأنه ليس أحد أعطاه الله مثل ما أعطاني .
قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109)

قوله عز وجل : { قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه وعد بالثواب لمن أطاعه ، ووعيد بالعقاب لمن عصاه ، قاله ابن بحر ومثله { لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي }
الثاني : أنه العلم بالقرآن ، قاله مجاهد .
الثالث : وهذا إنما قاله الله تعالى تبعيداً على خلقه أن يُحصواْ أفعاله ومعلوماته ، وإن كانت عنده ثابتة محصية .
قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)

قوله عز وجل : { . . . فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلُ عَمَلاً صَالِحاً } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : يعني فمن كان يخاف لقاء ربه ، قاله مقاتل ، وقطرب .
الثاني : من كان يأمل لقاء ربه .
الثالث : من كان يصدّق بلقاء ربه ، قاله الكلبي .
وفي لقاء ربه وجهان :
أحدهما : معناه ثواب ربه ، قاله سعيد بن جبير .
الثاني : من كان يرجو لقاء ربه إقراراً منه بالعبث إليه والوقوف بين يديه .
{ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه الخالص من الرياء ، قاله ذو النون المصري .
الثاني : أن يلقى الله به فلا يستحي منه ، قاله يحيى بن معاذ .
الثالث : أن يجتنب المعاصي ويعمل بالطاعات .
{ وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً } فيه وجهان :
أحدهما : أن الشرك بعباته الكفر ، ومعناه لا يُعْبَد معه غيرُه ، قاله الحسن .
الثاني : أنه الرياء ، ومعناه ولا يرائي بعمله أحداً ، قاله سعيد بن جبير ، ومجاهد .
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « أَخْوَفُ مَا أَتَخَوَّفُ عَلَى أُمَّتِي الشِّرْكَ وَالشَّهْوَةَ الخَفِيَّةَ » قيل : أتشرك أمتك بعدك؟ قال : « لاَ ، أَمَّا أَنَّهُم لاَ يَعْبُدونَ شَمْساً وَلاَ قَمَراً وَلاَ حَجراً وَلاَ وَثَناً وَلكِنّهُم يُرَاءُونَ بِعَمَلِهِم » فقيل : يا رسول الله وذلك شرك؟ فقال : « نَعَم » . قيل : وما الشهوة الخفية ، قال : « يُصْبِحُ أَحَدُهُم صَائِماً فَتَعْرِضُ لَهُ الشَّهْوَةُ مِن شَهَواتِ الدُّنْيَا فَيُفْطِرَ لَهَا وَيَتْرُكَ صَوْمَهُ
» . وحكى الكلبي ومقاتل : أن هذه الآية نزلت في جندب بن زهير العامري أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له : إنا لنعمل العمل نريد به وجه الله فيثنى به علينا فيعجبنا ، وأني لأصلي الصلاة فأطولها رجاء أن يثنى بها عليّ ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ أَنَا خَيرُ شَرِيكٍ فَمَنْ أَشَرَكَنِي فِي عَمَلٍ يَعْمَلُهُ لِي أَحَداً مِن خَلْقِي تَرَكْتُهُ وذلِكَ الشَّرِيكَ » ونزلت فيه هذه الآية : { فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً } فتلاها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقيل إنها آخر آية نزلت من القرآن .
كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6)

قوله تعالى : { كهيعص } فيه ستة أقاويل :
أحدها : أنه اسم من أسماء القرآن ، قاله قتادة .
الثاني : أنه اسم من أسماء الله ، قاله علي كرم الله وجهه .
الثالث : أنه استفتاح السورة ، قاله زيد بن أسلم .
الرابع : أن اسم السورة ، قاله لحسن .
الخامس : أنه من حروف الجُمل تفسيرلا إله إلا الله ، لأن الكاف عشرون والهاء خمسة والياء عشرة والعين سبعون والصاد تسعون . كذلك عدد حروف لا إله إلا الله ، حكه أبان بن تغلب .
السادس : أنها حروف أسماء الله .
فأما الكاف فقد اختلفوا فيها من أي اسم هي على ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها من كبير ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنها من كاف ، قاله الضحاك .
الثالث : أنها من كريم ، قاله ابن جبير .
وأما الهاء فإنها من هادٍ عند جميعهم .
وأما الياء ففيها أربعة أقاويل :
أحدها : أنها من يمن ، قاله ابن عباس .
الثاني : من حكيم قاله ابن جبير .
الثالث : أنها من ياسين حكاه سالم .
الرابع : أنها من يا للنداء وفيه على هذا وجهان :
أحدهما : يا من يجيب من دعاه ولا يخيب من رجاه لما تعقبه من دعاء زكريا .
الثاني : يا من يجير ولا يجار عليه ، قاله الربيع بن أنس . وأما العين ففيها ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها من عزيز ، قاله ابن جبير . الثاني : أنها من عالم ، قاله ابن عباس .
الثالث : من عدل ، قاله الضحاك . وأما الصاد فإنها من صادق في قول جميعهم فهذا بيان للقول السادس .
ويحتمل سابعاً : أنها حروف من كلام أغمضت معانيه ونبه على مراده فيه يحتمل أن يكون : كفى وهدى من لا يعص فتكون الكاف من كفى والهاء من هدى والباقي حروف يعصى لأن ترك المعاصي يبعث على امتثال الأوامر واجتناب النواهي ، فصار تركها كافياً من العقاب وهادياً إلى الثواب وهذا أوجز وأعجز من كل كلام موجز لأنه قد جمع في حروف كلمة معاني كلام مبسوط وتعليل أحكام وشروط .
ثم ذكر حال من كفاه وهداه فقال : { ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيّآ } فذكر رحمته حين أجابه إلى ما سألِه فاحتمل وجهين :
أحدهما : أنه رحمه بإجابته له .
الثاني : أنه إجابة لرحمته له .
قوله تعالى : { . . . . نِدآءً خَفِيّاً } [ فيه قولان ] .
أحدهما : قاله ابن جريج ، سراً لا رياء فيه . قال قتادة إن الله يعلم القلب النقي ويسمع الصوت الخفي فأخفى زكريا نداءه لئلا ينسب إلى الرياء فيه .
الثاني : قاله مقاتل ، إنما أخفى لئلا يهزأ الناس به ، فيقولون انظروا إلى هذا الشيخ يسأل الولد .
ويحتمل ثالثاً : أن إخفاء الدعاء أخلص للدعاء وأرجى للإِجابة للسنة الواردة فيه : إن الذي تدعونه ليس بأصم .
قوله تعالى : { . . . إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي } أي ضعف وفي ذكره وهن العظم دون اللحم وجهان :

====================

ج8. كتاب : النكت والعيون أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي


أحدهما : أنه لما وهن العظم الذي هو أقوى كان وهن اللحم والجلد أولى .
الثاني : أنه اشتكى ضعف البطش ، والبطش إنما يكون بالعظم دون اللحم .
{ وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً } هذا من أحسن الاستعارة لأنه قد ينشر فيه الشيب كما ينشر في الحطب شعاع النار .
{ وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً } أي خائباً ، أي كنت لا تخيبني إذا دعوتك ولا تحرمني إذا سألتك .
قوله تعالى : { وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ . . . } فيهم أربعة أقاويل :
أحدها : العصبة ، قاله مجاهد وأبو صالح .
الثاني : الكلالة ، قاله ابن عباس .
الثالث : الأولياء أن يرثوا علمي دون من كان من نسلي قال لبيد :
ومولى قد دفعت الضيم عنه ... وقد أمسى بمنزلةِ المُضيمِ
الرابع : بنو العلم لأنهم كانواْ شرار بني إسرائيل .
وسموا موالي لأنهم يلونه في النسب لعدم الصلب .
وفيما خافهم عليه قولان :
أحدهما : أنه خافهم على الفساد في الأرض .
الثاني : أنه خافهم على نفسه في حياته وعلى أشيائه بعد موته .
ويجوز أن يكون خافهم على تبديل الدين وتغييره . روى كثير ابن كلثمة أنه سمع علي بن الحسين عليهما السلام يقرأ : { وَإِنِّي خِفْتُ } بالتشديد بمعنى قلّت .
وفي قوله : { مِن وَرَآءِي } وجهان :
أحدهما : من قدامي وهو قول الأخفش .
الثاني : بعد موتي ، قاله مقاتل .
قوله تعالى : { . . فَهَبْ لِي مِن لَّدنكَ وَلِيّاً يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ ءَالِ يَعْقُوبَ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : يرثني مالي ويرث من آل يعقوب النبوة ، قاله أبو صالح .
الثاني : يرثني ويرث من آل يعقوب العلم والنبوة ، قاله الحسن .
الثالث : يرثني النبوة ويرث من آل يعقوب الأخلاق ، قاله عطاء .
الرابع : يرثني العلم ويرث من آل يعقوب الملك ، قاله ابن عباس ، فأجابه الله إلى وراثة العلم ويرث من آل يعقوب الملك ، قاله ابن عباس . فأجابه الله إلى وراثة العلم ولم يجبه إلى وارثة الملك . قال الكلبي : وكان آل يعقوب أخواله وهو يعقوب بن ماثان وكان فيهم الملك ، وكان زكريا من ولد هارون بن عمران أخي موسى . قال مقاتل ويعقوب بن ماثان هو أخو عمران أبي مريم لأن يعقوب وعمران إِبنا ماثان ، فروى قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « يَرْحَمُ اللَّهُ زَكَرِيَّآ مَا كَانَ عَلَيهِ مِن وَرثَتِهِ
» . { وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً } فيه وجهان :
أحدهما : مرضياً في أخلاقه وأفعاله .
الثاني : راضياً بقضائك وقدرك .
ويحتمل ثالثاً : أن يريد نبياً .


يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7)

قوله تعالى : { يَا زَكَرِيَّآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ اسْمُهُ يَحْيَى } فتضمنت هذه البشرى ثلاثة أشياء :
أحدها : إجابة دعائه وهي كرامة .
الثاني : إعطاؤه الولد وهو قوة .
الثالث : أن يفرد بتسميته . فدل ذلك على أمرين :
أحدهما : اختصاصه به . الثاني : على اصطفائه له . قال مقاتل سماه يحيى لأنه صبي بين أب شيخ وأم عجوز
{ لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيَّاً } فيه ثلاثة اقاويل :
أحدها : أي لم تلد مثله العواقر ، قاله ابن عباس . فيكون المعنى لم نجعل له مثلاً ولا نظيراً .
الثاني : أنه لم نجعل لزكريا من قبل يحيى ولداً ، قاله مجاهد .
الثالث : أي لم يسم قبله باسمه أحد ، قاله قتادة .


قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9)

قوله تعالى : { . . . أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ } أي ولد .
{ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً } أي لا تلد وفي تسميتها عاقراً وجهان :
أحدهما : لأنها تصير إذا لم تلد كأنها تعقر النسل أي تقطعه .
الثاني : لأن في رحمها عقراً يفسد المني ، ولم يقل ذلك عن شك بعد الوحي ولكن على وجه الاستخبار : أتعيدنا شابين؟ أو ترزقنا الولد شيخين؟
{ وقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتيّاً } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : يعني سناً ، قاله قتادة . الثاني : أنه نحول العظم ، قاله ابن جريج .
الثالث : أنه الذي غيره طول الزمان إلى اليبس والجفاف ، قاله ابن عيسى قال الشاعر :
إنما يعذر الوليد ولا يعذر ... من كان في الزمان عتياً
قال قتادة : كان له بضع وسبعون سنة وقال مقاتل خمس وتسعون سنة . وقرأ ابن عباس : { عِسِيّاً } وهي كذلك في مصحف أبي من قولهم للشيخ إذا كبر : قد عسا وعتا ومعناهما واحد .


قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11)

قوله تعالى : { . . . اجْعَل لِّي ءَايَةً } أي علامة وفيها وجهان :
أحدهما : أنه سأل الله آية تدله على البشرى بيحيى منه لا من الشيطان لأن إبليس أوهمه ذلك ، قاله الضحاك .
الثاني : سأله آية تدله على أن امرأته قد حملت .
{ قَالَ ءَايَتُكَ أَلاَّ تُكلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيّاً } فيه وجهان :
أحدهما : أنه اعتقل لسانه ثلاثاً من غير مرض وكان إذا أراد أن يذكر الله انطلق لسانه وإذا أراد أن يكلم الناس اعتقل ، وكانت هذه الآية ، قاله ابن عباس
الثاني : اعتقل من غير خرس ، قاله قتادة والسدي .
{ سَوِيّاً } فيه تأويلان :
أحدهما : صحيحاً من غير خرس ، قاله قتادة .
الثاني : ثلاث ليال متتابعات ، قاله عطية ، فيكون السوي على الوجه الأول راجعاً إلى لسانه ، وعلى الثاني إلى الليالي .
قوله تعالى : { فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ المِحْرَابِ } قال ابن جريج أشرف على قومه من المحراب . وفي { الْمِحْرَابِ } وجهان :
أحدهما : أنه مصلاة ، قاله ابن زيد .
الثاني : أنه الشخص المنصوب للتوجه إليه في الصلاة .
وفي تسميته محراباً وجهان :
أحدهما : أنه للتوجه إليه في صلاته كالمُحَارِب للشيطان صلاته .
الثاني : أنه مأخوذ من منزل الأشراف الذي يحارب دونه ذباً عن أهله فكأن الملائكة تحارب عن المصلي ذباً عنه ومنعاً منه .
{ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُواْ بُكْرَةً وَعَشيّاً } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أوصى إليهم ، قاله ابن قتيبة .
الثاني : أشار إليهم بيده ، قاله الكلبي .
الثالث : كتب على الأرض . والوحي في كلام العرب الكتابة ومنه قول جرير :
كأن أخا اليهود يخط وحياً ... بكافٍ من منازلها ولام
{ أَنَ سَبِّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِيّاً } أي صلواْ بكرة وعشياً ، قاله الحسن وقتادة ، وقيل للصلاة تسبيح لما فيها من التسبيح .


يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14) وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)

قوله تعالى : { يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ } وفي قائله قولان :
أحدهما : أنه قول زكريا ليحيى حين نشأ .
الثاني : قول الله ليحيى حين بلغ .
وفي هذا { الْكِتَابَ } قولان :
أحدهما : صحف إبراهيم .
الثاني : التوراة .
{ بِقُوَّةٍ } فيه وجهان :
أحدهما : بجد واجتهاد ، قاله مجاهد .
الثاني : العمل بما فيه من أمر والكف عما فيه من نهي ، قاله زيد بن أسلم .
{ وَءَاتَينَاهُ الْحُكُمَ صَبِيّاً } فيه أربعة أوجه :
أحدها : اللب ، قاله الحسن .
الثاني : الفهم ، قاله مقاتل .
الثالث : الأحكام والمعرفة بها .
الرابع : الحكمة . قال معمر : إن الصبيان قالوا ليحيى إذهب بنا نلعب فقال ما للعب خلقت ، فأنزل الله { وَءَاتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً } . قاله مقاتل وكان ابن ثلاث سنين .
قوله تعالى : { وَحَنَاناً مِّن لَّدُنَّا } فيه ستة تأويلات :
أحدها : رحمة من عندنا ، قاله ابن عباس وقتادة ، ومنه قول الشاعر :
أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا ... حنانيكَ بعض الشر أهون من بعض
أي رحمتك وإحسانك .
الثاني : تعطفاً ، قاله مجاهد .
الثالث : محبة ، قاله عكرمة .
الرابع : بركة ، قاله ابن جبير .
الخامس : تعظيماً .
السادس : يعني آتينا تحنناً على العباد .
ويحتمل سابعاً : أن يكون معناه رفقاً ليستعطف به القلوب وتسرع إليه الإِجابة { وَزَكَاةً } فيها هنا ثلاثة تأويلات :
أحدها : أنها العمل الصالح الزاكي ، قاله ابن جريج .
الثاني : زكيناه بحسن الثناء كما يزكي الشهود إنساناً .
الثالث : يعني صدقة به على والديه ، قاله ابن قتيبة . { وَكَانَ تَقِيّاً } فيه وجهان :
أحدهما مطيعاً لله ، قاله الكلبي . الثاني : باراً بوالديه ، قاله مقاتل .


وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21)

قوله تعالى : { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ } يعني في القرآن { إِذ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا } فيه وجهان :
أحدهما : انفردت ، قاله قتادة .
الثاني : اتخذت .
{ مَكَاناً شَرْقِيّاً } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : ناحية المشرق ، قاله الأخفش ولذلك اتخذت النصارى المشرق قبلة .
الثاني : مشرقة داره التي تظلها الشمس ، قاله عطية .
الثالث : مكاناً شاسعاً بعيداً ، قاله قتادة .
قوله تعالى : { فاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَاباً } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : حجاباً من الجدران ، قاله السدي .
الثاني : حجاباً من الشمس جعله الله ساتراً ، قاله ابن عباس
الثالث : حجاباً من الناس ، وهو محتمل ، وفيه وجهان :
أحدهما : أنها اتخذت مكاناً تنفرد فيه للعبادة .
الثاني : أنها اتخذت مكاناً تعتزل فيه أيام حيضها .
{ فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا } الآية : فيه قولان :
أحدهما : يعني الروح التي خلق منها المسيح حتى تمثل لها بشراً سوياً .
الثاني : أنه جبريل ، قاله الحسن وقتادة ، والسدي ، وابن جريج ، وابن منبه .
وفي تسميته له روحاً وجهان :
أحدهما : لأنه روحاني لا يشوبه شيء غير الروح ، وأضافه إليه بهذه الصفة تشريفاً له .
الثاني : لأنه تحيا به الأرواح .
واختلفوا في سبب حملها على قولين :
أحدهما : أن جبريل نفخ في جيب درعها وكُمِّهَا فَحَمَلَتْ ، قاله ابن جريج ، منه قول أميه بن أبي الصلت :
فأهوى لها بالنفخ في جيب درعها ... فألقت سويّ الخلق ليس بتوأم
الثاني : أنه ما كان إلا أن حملت فولدته ، قاله ابن عباس .
واختلفوا في مدة حملها على أربعة أقاويل : أحدها : تسعة أشهر ، قاله الكلبي . الثاني : تسعة أشهر . حكى لي ذلك أبو القاسم الصيمري .
الثالث : يوماً واحداً .
الرابع : ثمانية أشهر ، وكان هذا آية عيسى فإنه لم يعش مولوداً لثمانية أشهر سواه .
قوله تعالى : { قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً } لأن مريم خافت جبريل على نفسها حين دنا فقالت { إِنِّي أَعُوذُ } أي أمتنع { بِالرَّحْمَنِ مِنكَ } فاستغاثت بالله في امتناعها منه .
فإن قيل : فلم قالت { إن كُنتَ تَقِيّاً } والتقي مأمون وإنما يستعاذ من غير التقي؟
ففيه وجهان : أحدهما : أن معنى كلامها إن كنت تقياً لله فستمتنع من استعاذتي وتنزجر عني من خوفه ، قاله أبو وائل .
الثاني : أنه كان اسماً لرجل فاجر من بني إسرائيل مشهور بالعهر يُسَمَّى تقياً فخافت أن يكون الذي جاءها هو ذلك الرجل المسمى تقياً الذي لا يأتي إلا للفاحشة فقالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقياً ، قاله بن عباس .


فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23)

قوله تعالى : { فَأجَآءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ } فيه وجهان :
أحدهما : معناه ألجأها ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، ومنه قول الشاعر :
إذ شددنا شدة صادقة ... فأجأناكم إلى سفح الجبل
الثاني : معناه فجأها المخاض كقول زهير :
وجارٍ سارَ معتمداً إلينا ... أجاءته المخافة والرجاء .
وفي قراءة ابن مسعود { فَأَوَاهَا }
{ قَالَتْ يَالَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها خافت من الناس أن يظنوا بها سوءاً قاله السدي .
الثاني : لئلا يأثم الناس بالمعصية في قذفها .
الثالث : لأنها لم تَرَ في قومها رشيداً ذا فراسة ينزهها من السوء ، قاله جعفر بن محمد رحمهما الله .
{ وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً } فيه خمسة تأويلات :
أحدها : لم أخلق ولم أكن شيئاً ، قاله ابن عباس .
الثاني : لا أعرف ولا يدرى من أنا ، قاله قتادة .
الثالث : النسي المنسي هو السقط ، قاله الربيع ، وأبو العالية .
الرابع : هو الحيضة الملقاة ، قاله عكرمة ، بمعنى خرق الحيض .
الخامس : معناه وكنت إذا ذكرت لم أطلب حكاه اليزيدي . والنسي عندهم في كلامهم ما أعقل من شيء حقير قال الراجز :
كالنسي ملقى بالجهاد البسبس . ...


فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26)

قوله تعالى : { فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهآ أَلاَّ تَحْزَنِي } فيه قولان :
أحدهما : أن المنادي لها من تحتها جبريل ، قاله ابن عباس ، وقتادة ، والضحاك ، والسدي .
الثاني : أنه عيسى ابنها ، قاله الحسن ، ومجاهد .
وفي قوله من تحتها وجهان :
أحدهما : من أسفل منها في الأرض وهي فوقه على رأسه ، قاله الكلبي .
الثاني : من بطنها : قاله بعض المتكلمين ، بالقبطية .
{ قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً } فيه قولان :
أحدهما : أن السريّ هو ابنها عيسى ، لأن السري هو الرفيع الشريف مأخوذ من قولهم فلان من سروات قومه أي من أشرافهم ، قاله الحسن ، فعلى هذا يكون عيسى هو المنادي من تحتها { قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً }
الثاني : أن السريّ هو النهر ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وابن جبير ، وقتادة ، والضحاك ، لتكون النخلة لها طعاماً ، والنهر لها شراباً ، وعلى هذا يكون جبريل هو المنادي لها { قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً } .
الثاني : أنه عربي مشتق من السراية فَسُمِّيَ السريّ لأنه يجري فيه ومنه قول الشاعر :
سهل الخليقة ماجد ذو نائلٍ ... مثل السريّ تمده الأنهار
وقيل : إن اسم السري يطلق على ما يعبره الناس من الأنهار وثباً . وروى أبان بن تغلب في تفسيره القرآن خبراً عن عدد لم يسمهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث شداد بن ثمامة مصدقاً لبني كعب بن مذحج وكتب له كتاباً : « عَلَى مَا سَقَتْهُ المَرَاسِمُ وَالجَدَاوِلُ وَالنَّوَاهِرُ وَالدَّوَافِعُ العُشْرُ وَنِصْفُ العشر بقيمة عَدْلٍ إِلاَّ الضَّوَامَرَ وَاللَّوَاقِحَ وَمَا َأطل الصور من الجفن . وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ إِلاَّ العَقِيلَ وَالأَكِيلَ وَالربِيَّ . ومن كل ثلاثين بقرةً جِذْعٌ أَوْ جِذْعَةٌ إِلاَّ العَاقِرَ وَالنَّاشِطَ وَالرَّاشِحَ . وَمِن كُلِّ خَمْسٍ مِنَ الإِبِلِ المُوَّبلَةِ مُسِنَّةٌ مِنَ الغَنَمِ . وَلاَ صَدَقَةَ فِي الخَيلِ وَلاَ فِي الإِبِلِ العَامِلةِ . شَهِدَ جِرِيرٌ بِن عَبدِ اللَّهِ بن جَابرٍ البَجْلِي وَشَدَّادُ بن ثُمَامَةَ وَكَتَبَ المُغِيرَةُ بن شُعْبةِ » فالمراسل العيون ، والجداول الأنهار الصغار ، والنواهر الدوالي ، والدوافع الأودية ، والضوامر ما لم تحمل من النخل ، واللواقح الفحول ، والجفن الكرم ، وما أطلاه من الزرع عفو ، والعقيل فحل الغنم والأَيل الذي يُرَبَّى للأكل . والربي التي تربي ولدها والعاقر من البقر التي لا تحمل ، والناشط الفحل الذي ينشط من أرض إلى أرض والراشح الذي يحرث الأرض .
قوله تعالى : { وَهُزِّي إِلَيكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ . . . . } الآية . اختلف في النخلة . على أربعة أقاويل :
أحدها : كانت برنية .
الثاني : صرفاتة ، قاله أبو داود .
الثالث : قريناً .
الرابع : عجوة ، قاله مجاهد .
وفي { الجَنِي } ثلاثة أقاويل :
أحدها : المترطب البسر ، قاله مقاتل .
الثاني : البلح لم يتغير ، قاله أبو عمرو بن العلاء .
الثالث : أنه الطري بغباره . وقيل لم يكن للنخلة رأس وكان في الشتاء فجعله الله آية . قال مقاتل فاخضرت وهي تنظر ثم حملت وهي تنظر ثم نضجت وهي تنظر .

قوله تعالى : { فَكُلِي } يعني من الرطب الجني .
{ وَاشْرَبِي } يعني من السريّ .
{ وَقَرِّي عَيْناً } يعني بالولد ، وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها : جاء يقر عينك سروراً ، قاله الأصمعي ، لأن دمعة السرور باردة ودمعة الحزن حارة .
الثاني : طيبي نفساً ، قاله الكلبي .
الثالث : تسكن عينك ولذلك قيل ما شيء خير للنفساء من الرطب والتمر .
{ فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً } يعني إما للإِنكار عليك وإما للسؤال لك .
{ فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً } فيه تأويلان :
أحدهما : يعني صمتاً ، وقد قرىء في بعض الحروف : { لِلرَّحَمْنِ صَمْتاً } وهذا تأويل ابن عباس وأنس بن مالك والضحاك .
الثاني : صوماً عن الطعام والشراب والكلام ، قاله قتادة . { فَلَنْ أُكَلَّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً } فيه وجهان :
أحدهما : أنها امتنعت من الكلام ليتكلم عنها ولدها فيكون فيه براءة ساحتها ، قاله ابن مسعود ووهب بن منبه وابن زيد .
الثاني : أنه كان من صام في ذلك الزمان لم يكلم الناس ، فأذن لها في المقدار من الكلام قاله السدي .


فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33)

قوله تعالى : { . . . شَيْئاً فَرِيّاً } فيه خمسة تأويلات :
أحدها : أنه القبيح من الإفتراء ، قاله الكلبي .
الثاني : أنه العمل العجيب ، قاله الأخفش .
الثالث : العظيم من الأمر ، قاله مجاهد ، وقتادة ، والسدي .
الرابع : أنه المتصنع مأخوذ من الفرية وهو الكذب ، قاله اليزيدي .
الخامس : أنه الباطل .
قوله تعالى : { يَآ أُخْتَ هَارُونَ . . . } وفي هذا الذي نسبت إليه أربعة أقاويل :
أحدها : أنه كان رجلاً صالحاً من بني إسرائيل ينسب إليه من يعرف بالصلاح ، قاله مجاهد وكعب ، والمغيرة بن شعبة يرفعه للنبي صلى الله عليه وسلم
الثاني : أنه هارون أخو موسى فنسبت إليه لأنها من ولده كما يقال يا أخا بني فلان ، قاله السدي .
الثالث : أنه كان أخاها لأبيها وأمها ، قاله الضحاك .
الرابع : أنه كان رجلاً فاسقاً معلناً بالفسق ونسبت إليه ، قاله ابن جبير .
{ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً } أي زانية . وسميت الزانية بغياً لأنها تبغي الزنا أي تطلبه .
قوله تعالى : { فَأشَارَتْ إِلَيْهِ } فيه قولان :
أحدهما : أشارت إلى الله فلم يفهموا إشارتها ، قاله عطاء .
الثاني : أنها أشارت إلى عيسى وهو الأظهر ، إما عن وحي الله إليها ، وإما لثقتها بنفسها في أن الله تعالى سيظهر براءتها ، فأشارت إلى الله إليها ، فأشارت إلى عيسى أن كلموه فاحتمل وجهين :
أحدهما : أنها أحالت الجواب عليه استكفاء .
الثاني : أنها عدلت إليه ليكون كلامه لها برهاناً ببراءتها .
{ قَالُواْ كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ } وفي { كَانَ } في هذا الموضع وجهان :
أحدهما : أنها بمعنى يكون تقديره من يكون في المهد صبياً قاله ابن الأنباري .
الثاني : أنها صلة زائدة وتقديره من هو في المهد ، قاله ابن قتيبة .
وفي { الْمَهْدِ } وجهان :
أحدهما : أنه سرير الصبي المعهود لمنامه .
الثاني : إنه حجرها الذي تربيه فيه ، قاله قتادة . وقيل إنهم غضبوا وقالوا : لسخريتها بنا أعظم من زناها ، قاله السدي . فلما تكلم قالوا : إن هذا لأمر عظيم .
{ قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ } وإنما قدم إقراره بالعبودية ليبطل به قول من ادعى فيه الربوبية وكان الله هو الذي أنطقه بذلك لعلمه بما يتقوله الغالون فيه .
{ ءَآتَانِيَ الْكِتَابَ } أي سيؤتيني الكتاب .
{ وَجَعَلَنِي نَبِيَّاً } فيه وجهان :
أحدهما : وسيجعلني نبياً ، والكلام في المهد من مقدمات نبوته .
الثاني : أنه كان في حال كلامه لهم في المهد نبياً كامل العقل ولذلك كانت له هذه المعجزة ، قاله الحسن . وقال الضحاك : تكلم وهو ابن أربعين . [ يوماً ] .
قوله تعالى : { وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : نبياً ، قاله مجاهد .
الثاني : آمراً بالمعروف وناهياً عن المنكر .
الثالث : معلماً للخير ، قاله سفيان .
الرابع : عارفاً بالله وداعياً إليه .
{ وأَوْصَانِي بِالصَّلاَةِ } فيها وجهان :
أحدهما : الدعاء والإِخلاص . الثاني : الصلوات ذات الركوع والسجود .
ويحتمل ثالثاً : أن الصلاة الإِستقامة مأخوذ من صلاة العود إذا قوّم اعوجاجه بالنار .
{ وَالزَّكَاة . . } فيها وجهان :
أحدهما : زكاة المال .
الثاني : التطهير من الذنوب .
ويحتمل ثالثاً : أن الزكاة الاستكثار من الطاعة ، لأن الزكاة في اللغة النماء والزيادة .

قوله تعالى : { وَبَرَّاً بِوَالِدَتِي } يحتمل وجهين : أحدهما : بما برأها به من الفاحشة .
الثاني : بما تكفل لها من الخدمة .
{ وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً } فيه وجهان :
أحدهما : أن الجبار الجاهل بأحكامه ، الشقي المتكبر عن عبادته .
الثاني : أن الجبار الذي لا ينصح ، والشقي الذي لا يقبل النصيحة .
ويحتمل ثالثاً : أن الجبار الظالم للعباد ، والشقي الراغب في الدنيا .
قوله تعالى : { وَالْسَّلاَمُ عَلَيَّ . . . } الآية . فيه وجهان :
أحدهما : يعني بالاسلام السلامة ، يعني في الدنيا ، { وَيَوْمَ أَمُوتُ } يعني في القبر ، { وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيَّاً } يعني في الآخرة ، لأن له أحوالاً ثلاثاً : في الدنيا حياً ، وفي القبر ميتاً ، وفي الآخرة مبعوثاً ، فسلم في أحواله كلها ، وهو معنى قول الكلبي .
الثاني : يعني بالسلام { يَوْمَ وُلِدتُّ } سلامته من همزة الشيطان فإنه ليس مولود يولد إلا همزه الشيطان وذلك حين يستهل ، غير عيسى فإن الله عصمه منها . وهو معنى قوله تعالى : { وَإِنِّي أُعِذُهَا وَذُرّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ } { وَيَوْْمَ أَمُوتُ } يعني سلامته من ضغطة القبر لأنه غير مدفون في الأرض { وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً } لم أر فيه على هذا الوجه ما يُرضي .
ويحتمل أن تأويله على هذه الطريقة سلامته من العرض والحساب لأن الله ما رفعه إلى السماء إلا بعد خلاصه من الذنوب والمعاصي .
قال ابن عباس ثم انقطع كلامه حتى بلغ مبلغ الغلمان .


ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (36) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37)

قوله تعالى : { ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن الحق هو الله تعالى .
الثاني : عيسى وسماه حقاً لأنه جاء بالحق .
الثالث : هو القول الذي قاله عيسى من قبل .
{ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ } فيه وجهان :
أحدهما : يشكّون ، قاله الكلبي .
الثاني : يختلفون لأنهم اختلفوا في الله وفي عيسى ، فقال قوم هو الله ، وقال آخرون هو ابن الله ، وقال آخرون هو ثالث ثلاثة . وهذه الأقاويل الثلاثة للنصارى .
وقال المسلمون : هو عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم .
ونسبته اليهود إلى غير رشدة فهذا معنى قوله : { الَّذِي فِيهِ تَفْتَرُونَ } بالفاء معجمة من فوق .
قال ابن عباس ففرّ بمريم ابن عمها معها ابنها إلى مصر فكانواْ فيها اثنتي عشرة سنة حتى مات الملك الذي كانوا يخافونه .


أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (38) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45)

قوله تعالى : { أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ } فيه وجهان :
أحدهما : يعني لئن كانوا في لدنيا صماً عمياً عن الحق فما أسمعهم له وأبصرهم به في الآخرة يوم القيامة ، قاله الحسن ، وقتادة .
الثاني : أسمع بهم اليوم وأبصر كيف يصنع بهم يوم القيامة يوم يأتوننا ، قاله أبو العالية .
ويحتمل ثالثا : أسمع أمَّتَك بما أخبرناك من حالهم فستبصر يوم القيامة ما يصنع بهم .
قوله تعالى : { وَأَنذرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ } فيه وجهان :
أحدهما : يوم القيامة إذا قضي العذاب عليهم ، قاله الكلبي .
الثاني : يوم الموت إذ قضى الموت انقطاع التوبة واستحقاق الوعيد ، قاله مقاتل .


قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48)

قال تعالى : { . . . لأَرْجُمَنَّكَ } فيه وجهان :
أحدهما : بالحجارة حتى تباعد عني ، قاله الحسن .
الثاني : لأرجمنك بالذم باللسان والعيب بالقول ، قاله الضحاك ، والسدي ، وابن جريج .
{ وَاهْجُرنِي مَلِيّاً } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : دهراً طويلاً ، قاله الحسن ، ومجاهد ، وابن جبير ، والسدي ، ومنه قول مهلهل .
فتصدعت صم الجبال لموته ... وبكت عليه المرملات ملياً
الثاني : سوياً سليماً من عقوبتي ، قاله ابن عباس ، وقتادة ، والضحاك ، وعطاء .
الثالث : حيناً ، قاله عكرمة .
قوله تعالى : { قَالَ سَلاَمٌ عَلَيكَ } هذا سلام إبراهيم على أبيه ، وفيه وجهان :
أحدهما : أنه سلام توديع وهجر لمقامه على الكفر ، قاله ابن بحر .
الثاني : وهو أظهر أنه سلام بر وإكرام ، فقابل جفوة أبيه بالبر تأدية لحق الأبوة وشكراً لسالف التربية .
ثم قال : { سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي } وفيه وجهان :
أحدهما : سأستغفر لك إن تركت عبادة الأوثان .
الثاني : معناه سأدعوه لك بالهداية التي تقتضي الغفران . { إنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً } فيه خمسة أوجه :
أحدها : مُقَرِّباً .
الثاني : مُكْرِماً .
الثالث : رحيماً ، قاله مقاتل .
الرابع : عليماً ، قاله الكلبي .
الخامس : متعهداً .


فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50)

قوله تعالى : { . . . وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً } فيه وجهان :
أحدهما : جعلنا لهم ذكراً جميلاً وثناءً حسناً ، قاله ابن عباس ، وذلك أن جمع الملك بحسن الثناء عليه .
الثاني : جعلناهم رسلاً لله كراماً على الله ، ويكون اللسان بمعنى الرسالة : قال الشاعر :
أتتني لسان بني عامر ... أحاديثهما بعد قول ونكر .
ويحتمل قولاً [ ثالثاً ] أن يكون الوفاء بالمواعيد والعهود .


وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (51) وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52) وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (53)

قوله تعالى : { وَنَادَينَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ } والطور جبل بالشام ناداه الله من ناحيته اليمنى . وفيه وجهان :
أحدهما : من يمين موسى . الثاني : من يمين الجبل ، قاله مقاتل .
{ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه قربه من الموضع الذي شرفه وعظمه بسماع كلامه .
الثاني : أنه قربه من أعلى الحجب حتى سمع صريف القلم ، قاله ابن عباس ، وقال غيره : حتى سمع صرير القلم الذي كتب به التوراة .
الثالث : أنه قربه تقريب كرامة واصطفاء لا تقريب اجتذاب وإدناء لأنه لا يوصف بالحلول في مكان دون مكان فيقرب من بعد أو يبعد من قرب ، قاله ابن بحر .
وفي قوله : { نَجِيّاً } ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه مأخوذ من النجوى ، والنجوى لا تكون إلا في الخلوة ، قاله قطرب .
الثاني : نجاه لصدقه مأخوذ من النجاة .
الثالث : رفعه بعد التقريب مأخوذ من النجوة وهو الإِرتفاع ، قال الحسن لم يبلغ موسى من الكلام الذي ناجاه به شيئاً .


وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55)

قوله تعالى : { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ } وصفه بصدق الوعد لأنه وعد رجلاً أن ينتظره ، قال ابن عباس : حولاً حتى أتاه . وقال يزيد الرقاشي : انتظره اثنين وعشرين يوماً . وقال مقاتل : انتظره ثلاثة أيام .
{ وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ } فيه وجهان :
أحدهما : يأمر قومه فسماهم أهله .
الثاني : أنه بدأ بأهله قبل قومه . وفي الصلاة والزكاة ما قدمناه . وهو على قوله الجمهور : إسماعيل بن إبراهيم . وزعم بعض المفسرين أنه ليس بإسماعيل بن إبراهيم لأن إسماعيل مات قبل إبراهيم ، وإن هذا هو إسماعيل بن حزقيل بعثه الله إل قومه فسلخوا جلدة رأسه ، فخيره الله تعالى فيما شاء من عذابهم فاستعفاه ورضي بثوابه وفوض أمرهم إليه في عفوه أو عقوبته .


وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56) وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57)

قوله تعالى : { . . . . وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً } فيه قولان :
أحدهما : أن إدريس رفع إلى السماء الرابعة ، وهذا قول أنس بن مالك في حديث مرفوع ، وأبي سعيد الخدري ، وكعب ، ومجاهد .
الثاني : رفعه إلى السماء السادسة ، قاله ابن عباس ، والضحاك ، وهو مرفوع في السماء .
واختلفوا في موته فيها على قولين :
أحدهما : أنه ميت فيها ، قاله مقاتل وقيل أنه مات بين السماء الرابعة والخامسة .
الثاني : أنه حيّ فيها لم يمت مثل عيسى . روى ابن إسحاق أن إدريس أول من أُعْطِي النبوة من ولد آدم وأول من خط بالقلم ، وهو أخنوخ بن يرد بن مهلائيل بن قينان بن آنوش بن شيث بن آدم . وحكى ابن الأزهر عن وهب بن منبه أن إدريس أول من اتخذ السلاح وجاهد في سبيل الله وسبى ، ولبس الثياب وإنما كانوا يلبسون الجلود ، وأول من وضع الأوزان والكيول ، وأقام علم النجوم ، والله أعلم .


أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58)

قوله تعالى : { . . . خَرّواْ سُجَّداً وَبُكِيّاً } أي سُجّداً لله ، وبكياً جمع باك ، ليكون السجود رغبة والبكاء رهبة . وقد روي في الحديث : « فَهذَا السُّجُودُ فَأَينَ البُكَاءُ؟ » يعني هذه الرغبة فأين الرهبة؟ لأن الطاعة لا تخلص إلا بالرغبة والرهبة .


فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60)

قوله تعالى : { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ } الآية . في الفرق بين الخلْف بتسكين اللام والخلف بتحريكها وجهان :
أحدهما : أنه بالفتح إذا خلفه من كان من أهله ، وبالتسكين إذا خلفه من ليس من أهله .
الثاني : أن الخلْف بالتسكين مستعمل في الذم ، وبالفتح مستعمل في المدح قال لبيد :
ذهب الذين يعاش في أكنافهم ... وبقيت في خلفٍ كجلد الأجْرب
وفي هذا الخلف قولان :
أحدهما : أنهم اليهود من بعد ما تقدم من الأنبياء ، قاله مقاتل . الثاني : أنهم من المسلمين .
فعلى هذا في قوله { من بَعْدِهِم } قولان :
أحدهما : من بعد النبي صلى الله عليه وسلم ، من عصر الصحابة وإلى قيام الساعة كما روى الوليد بن قيس حكاه إبراهيم عن عبيدة .
الثاني : إنهم من بعد عصر الصحابة . روى الوليد بن قيس عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يَكُونُ بَعْدَ سِتِّينَ سَنَةً { خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ } » . الآية .
وفي إضاعتهم الصلاة قولان :
أحدهما : تأخيرها عن أوقاتها ، قال ابن مسعود وعمر بن عبد العزيز .
الثاني : تركها ، قاله القرظي .
ويحتمل ثالثاً : أن تكون إضاعتها الإِخلال باستيفاء شروطها .
{ فَسَوْفَ يَلْقَونَ غَيّاً } فيه خمسة أقاويل :
أحدها : أنه واد في جهنم ، قالته عائشة وابن مسعود .
الثاني : أنه الخسران ، قاله ابن عباس .
الثالث : أنه الشر ، قاله ابن زيد .
الرابع : الضلال عن الجنة . الخامس : الخيبة ، ومنه قول الشاعر :
فمن يلق خيراً يحمد الناس أمره ... ومن يغو لا يعدم على الغي لائماً
من يغو : أي من يخب .


جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (63)

قوله تعالى : { لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً } فيه وجهان :
أحدهما : الكلام الفاسد .
الثاني : الخلف ، قاله مقاتل .
{ إلاَّ سَلاَماً } فيه وجهان :
أحدهما : إلا السلامة .
الثاني : تسليم الملائكة عليهم ، قاله مقاتل .
{ وَلَهُمْ رَزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشيًّاً } فيه وجهان :
أحدهما : أن العرب إذا أصابت الغداء والعشاء نعمت ، فأخبرهم الله أن لهم في الجنة غداء وعشاء ، وإن لم يكن في الجنة ليل ولا نهار .
الثاني : معناه مقدار البكرة ومقدار العشي من أيام الدنيا ، قاله ابن جريج . وقيل إنهم يعرفون مقدار الليل بإرخاء الحجب وغلق الأبواب ، ومقدار النهار . برفع الحجب وفتح الأبواب .
ويحتمل أن تكون البكرة قبل تشاغلهم بلذاتهم ، والعشي بعد فراغهم من لذاتهم ، لأنه يتخللها فترات انتقال من حال إلى حال .


وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)

قوله تعالى : { وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ } فيه قولان :
أحدهما : أنه قول أهل الجنة : إننا لا ننزل موضعاً من الجنة إلا بأمر الله ، قاله ابن بحر .
الثاني : أنه قول جبريل عليه السلام ، لما ذكر أن جبريل أبطأ على النبي صلى الله عليه وسلم باثنتي عشرة ليلة ، فلما جاءه قال : « غِبْتَ عَنِّي حَتَّى ظَنَّ المُشْرِكُونَ كلَّ ظَنٍ » . فنزلت { وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ ربِّكَ }
ويحتمل وجهين :
أحدهما : إذا أُمِرْنَا نزلنا عليك .
الثاني : إذا أَمَرَكَ ربك نَزَّلَنا عليك الأمر على الوجه الأول متوجهاً إلى النزول ، وعلى الثاني متوجهاً إلى التنزيل .
{ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا } فيه قولان :
أحدهما : { مَا بَيْنَ أَيْدِينَا } من الآخرة ، { وَمَا خَلْفَنَا } من الدنيا .
{ وَمَا بَيْنَ ذلِكَ } يعني ما بين النفختين ، قاله قتادة .
والثاني : { مَا بَيْنَ أَيْدِينَا } أي ما مضى أمامنا من الدنيا ، { وَمَا خَلْفَنَا } ما يكون بعدنا من الدنيا والآخرة . { وَمَا بَيْن ذلِكَ } ما مضى من قبل وما يكون من بعد ، قاله ابن جرير .
ويحتمل ثالثاً : { مَا بَيْنَ أَيْدِينَا } : السماء ، { وَمَا خلْفَنَا } : الأرض . { وَمَا بَيْنَ ذلِكَ } ما بين السماء والأرض .
{ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً } فيه وجهان :
أحدهما : أي ما نسيك ربك .
الثاني : وما كان ربك ذا نسيان .
قوله عز وجل : { . . . . هَل تعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً } فيه أربعة أوجه :
أحدها : يعني مِثْلاً وشبيهاً ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، مأخوذ من المساماة .
الثاني : أنه لا أحد يسَمى بالله غيره ، قاله قتادة ، والكلبي .
الثالث : أنه لا يستحق أحد أن يسمى إلهاً غيره .
الرابع : هل تعلم له من ولد ، قاله الضحاك ، قال أبو طالب :
أمّا المسمى فأنت منه مكثر ... لكنه ما للخلود سبيلُ


وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67) فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70)

قوله عز وجل : { . . . حَوْلَ جَهَنَّمَ } فيها قولان :
أحدهما : أن جهنم اسم من أسماء النار .
الثاني : أنه إسم لأعمق موضع في النار ، كالفردوس الذي هو اسم لأعلى موضع في الجنة .
{ جِثِيّاً } فيه قولان :
أحدهما : [ جماعات ] ، قاله الكلبي والأخفش .
الثاني : بُروكاً على الرُّكَب ، قاله عطية .
قوله عز وجل : { ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ } الشيعة الجماعة المتعاونون . قال مجاهد : والمراد بالشيعة الأمة لاجتماعهم وتعاونهم .
وفي { ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ } وجهان :
أحدهما : لننادين ، قاله ابن جريج .
الثاني : لنستخرجن ، قاله مقاتل .
{ عِتِيّاً } فيه خمسة أوجه :
أحدها : أهل الإِفتراء بلغة بني تميم ، قاله بعض أهل اللغة .
الثاني : جرأة ، قاله الكلبي .
الثالث : كفراً ، قاله عطية .
الرابع : تمرداً .
الخامس : معصية .
قوله عز وجل : { . . . أَوْلَى بِهَا صليّاً } فيه وجهان :
أحدها : دخولاً ، قاله الكلبي .
الثاني : لزوماً .


وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72)

قوله عز وجل : { وَإِنّ مِنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا } فيه قولان :
أحدهما : يعني الحمى والمرض ، قاله مجاهد . روى أبو هريرة قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يعود رجلاً من أصحْابه فيه وعك وأنا معه ، فقال رسول الله : « أَبْشِرْ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ : هِي نَارِي أُسَلِّطُهَا عَلَى عَبْدِي المُؤْمِنِ لِتَكُونَ حَظَّهُ مِنَ النَّارِ » أي في الآخرة .
الثاني : يعني جهنم . ثم فيه قولان :
أحدهما : يعني بذلك الكافرين يردونها دون المؤمن؛ قاله عكرمة ويكون قوله : { وَإِن مِّنْكُمْ } أي منهم كقوله تعالى : { وَسَقَاهُم رَبُّهُم شَرَاباً طَهُوراً } ثم قال : { إِنَّ هذَا كَانَ لَكُم جَزَاءً } أي لهم .
الثاني : أنه أراد المؤمن والكافر . روى ابن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال « الزَّالُّونَ وَالزَّالاَّت يَومَئذٍ كَثِيرٌ » وفي كيفية ورودها قولان :
أحدهما : الدخول فيها . قال ابن عباس : ليردنها كل بر وفاجر . لكنها تمس الفاجر دون البر . قال وكان دعاء من مضى : اللهم أخرجني من النار سالماً ، وأدخلني الجنة عالماً .
والقول الثاني : أن ورود المسلم عليها الوصول إليها ناظراً لها ومسروراً بالنجاة منها ، قاله ابن مسعود ، وذلك مثل قوله تعالى : { وَلَمَّا وَرَدَ مَآء مَدْيَنَ } [ القصص : 23 ] أي وصل . وكقول زهير بن أبي سلمى :
ولما وردن الماء زُرْقاً جِمامُه ... وضعن عِصيَّ الحاضر المتخيمِ
ويحتمل قولاً ثالثاً : أن يكون المراد بذلك ورود عرضة القيامة التي تجمع كل بر وفاجر :
{ كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً } فيه تأويلان :
أحدهما : قضاء مقتضياً ، قاله مجاهد . الثاني : قسماً واجباً ، قاله ابن مسعود .


وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا (74)

قوله عز وجل : { . . . أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَاماً } فيه وجهان :
أحدهما : منزل إقامة في الجنة أو النار .
والثاني : يعني كلام قائم بجدل واحتجاج أي : أمّن فلجت حجته بالطاعة خير أم من دحضت حجته بالمعصية ، وشاهده قول لبيد :
ومقام ضيق فرجتهْ ... بلساني وحسامي وجدل
{ وَأحْسَنُ نَدِيّاً } فيه وجهان :
أحدهما : أفضل مجلساً .
الثاني : أوسع عيشاً .
ويحتمل ثالثاً : أيهما خير مقاماً في موقف العرض ، من قضى له بالثواب أو العقاب؟
{ وَأَحْسَنُ نَدِيّاً } منزل إقامة في الجنة أو في النار ، وقال ثعلب : المقام بضم الميم : الإِقامة ، وبفتحها المجلس .
قوله تعالى : { أَثَاثاً وَرِءْيَاً } فيه أربعة أوجه :
أحدها : أن الأثاث : المتاع ، والرئي : المنظر ، قاله ابن عباس . قال الشاعر :
أشاقت الظعائن يوم ولوا ... بذي الرئي الجميل من الأثاث .
الثاني : أن الأثاث ما كان جديداً من ثياب البيت ، والرئي الارتواء من النعمة .
الثالث : الأثاث ما لا يراه الناس . والرئي ما يراه الناس .
الرابع : معناه أكثر أموالاً وأحسن صوراً .
ويحتمل خامساً : أن الأثاث ما يعد للاستعمال ، والرئي ما يعد للجمال .


قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا (75) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76)

قوله تعالى : { وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوُاْ هُدىً } فيه وجهان :
أحدهما : يزيدهم هدى بالمعونة في طاعته والتوفيق لمرضاته .
الثاني : الإِيمان بالناسخ والمنسوخ ، قاله الكلبي ومقاتل ، فيكون معناه : ويزيد الله الذين اهتدوا بالمنسوخ هدى بالناسخ .
ويحتمل ثالثاً : ويزيد الله الذين اهتدوا إلى طاعته هدى إلى الجنة .


أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78) كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا (80)

قوله عز وجل : { أَفَرَءَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بَئَآياتِنَا . . . } اختلف فيمن نزلت هذه الآية فيه على قولين :
أحدهما : في العاص بن وائل السهمي ، قاله جبار وابن عباس ومجاهد .
الثاني : في الوليد بن المغيرة ، قاله الحسن .
{ . . . مَالاً وَوَلَداً } قرأ حمزة والكسائي { ووُلْداً } بضم الواو ، وقرأ الباقون بفتحها ، فاختلف في ضمها وفتحها على وجهين :
أحدهما : أنهما لغتان معناهما واحد ، يقال ولَدَ ووُلْد ، وعَدَم وعُدْم ، وقال الحارث ابن حلزة .
ولقد رأيت معاشراً ... قد ثمَّروا مالاً ووُلْدا
والثاني : أن قيساً الوُلْد بالضم جميعاً ، والولد بالفتح واحداً .
وفي قوله تعالى : { لأُتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً } وجهان :
أحدهما : أنه أراد في الجنة استهزاء بما وعد الله على طاعته وعبادته ، قاله الكلبي .
الثاني : أنه أراد في الدنيا ، وهو قول الجمهور . وفيه وجهان محتملان :
أحدهما : إن أقمت على دين آبائي وعبادة ألهتي لأوتين مالاً وولداً .
الثاني : معناه لو كنت أقمت على باطل لما أوتيت مالاً وولداً .
{ أطَّلَعَ الْغَيْبَ } يحتمل وجهين :
أحدهما : معناه أعلم الغيب أنه سيؤتيه على كفره مالاً وولداً .
الثاني : أعلم الغيب لما آتاه الله على كفره .
{ أمِ أتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَن عَهْداً } فيه وجهان :
أحدهما : يعني عملاً صالحاً قدمه ، قاله قتادة .
الثاني : قولاً عهد به الله إليه ، حكاه ابن عيسى .
قوله عز وجل : { وَنَرِثُه مَا يَقُولُ } فيه وجهان :
أحدهما : أن الله يسلبه ما أعطاه في الدنيا من مال وولد .
الثاني : يحرمه ما تمناه في الآخرة من من مال وولد .
{ وَيَأْتِينَا فَرْداً } فيه وجهان :
أحدهما : بلا مال ولا ولد .
الثاني : بلا ولي ولا ناصر .


وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84)

قوله عز وجل : { . . . سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ } فيه وجهان :
أحدهما : سيجحدون أن يكونوا عبدوها لما شاهدوا من سوء عاقبتها .
الثاني : سيكفرون بمعبوداتهم ويكذبونهم .
{ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً } فيه خمسة أوجه :
أحدها : أعواناً في خصومتهم ، قاله مجاهد .
الثاني : قرناء في النار يلعنونهم ، قاله قتادة .
الثالث : يكونون لهم أعداء ، قاله الضحاك .
الرابع : بلاء عليهم ، قاله ابن زيد .
الخامس : أنهم يكذبون على ضد ما قدروه فيهم وأمّلوه منهم ، قاله ابن بحر .
قوله عز وجل : { تَؤُزُّهُمْ أَزّاً } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : تزعجهم إزعاجاً حتى توقعهم في المعاصي ، قاله قتادة .
الثاني : تغويهم إغواء ، قاله الضحاك .
الثالث : تغريهم إغراء بالشر : إمض إمض في هذا الأمر حتى توقعهم في النار ، قاله ابن عباس .
قوله عز وجل : { . . . إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : نعد أعمالهم عداً ، قاله قطرب .
الثاني : نعد أيام حياتهم ، قاله الكلبي .
الثالث : نعد مدة إنظارهم إلى وقت الإِنتقام منهم بالسيف والجهاد ، قاله مقاتل .


يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86) لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (87)

{ . . . وَفْداً } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : ركباناً ، قاله الفراء .
الثاني : جماعة ، قاله الأخفش .
الثالث : زوّاراً ، قاله ابن بحر .
قوله عز وجل : { وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : مشاة ، قاله الفراء .
الثاني : عطاشاً .
الثالث : أفراداً .
{ إلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحَمنِ عَهْداً } فيه وجهان :
أحدهما : . . .


وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95)

{ شَيْئاً إِدّاً } فيه وجهان :
أحدهما : منكراً ، قاله ابن عباس .
الثاني : عظيماً ، قاله مجاهد . قال الراجز :
في لهث منه وحبك إدّ ...


إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (98)

قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمْ الرَّحْمنُ وُدّاً } فيه وجهان :
أحدهما : حباً في الدنيا مع الأبرار ، وهيبة عند الفجار .
الثاني : يحبهم الله ويحبهم الناس ، قال الربيع بن أنس : إذا أحب الله عبداً ألقى له المحبة في قلوب أهل السماء ، ثم ألقاها في قلوب أهل الأرض .
ويحتمل ثالثاً : أن يجعل لهم ثناء حسناً . قال كعب : ما يستقر لعبد ثناء في الدنيا حتى يستقر من أهل السماء . وحكى الضحاك عن ابن عباس : أن هذه الآية نزلت في علي بن أبي طالب رضي الله عنه جعل له ودّاً في قلوب المؤمنين .
قوله عز وجل : { قَوْماً لُّدّاً } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : فجّاراً ، قاله مجاهد .
الثاني : أهل إلحاح في الخصومة ، مأخوذ من اللدود في الأفواه ، فلزومهم الخصومة بأفواههم كحصول اللدود في الأفواه ، قاله ابن بحر .
قال الشاعر :
بغوا لَدَدَي حَنقاً عليَّ كأنما ... تغلي عداوة صدرهم في مِرجل
الثالث : جدالاً بالباطل ، قاله قتادة ، مأخوذ من اللدود وهو شديد الخصومة . قال الله تعالى : { وَهُوَ الْخِصَامِ } وقال الشاعر :
أبيت نجياً للهموم كأنني ... أخاصم أقواماً ذوي جدلٍ لُدّا
قوله عز وجل : { وِكْزَاً } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : صوتاً ، قاله ابن عباس وقتادة والضحاك .
الثاني : حِسّاً ، قاله ابن زيد .
الثالث : أنه ما لا يفهم من صوت أو حركة ، قاله اليزيدي .


طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3) تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (4) الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (8)

قوله عز وجل : { طه } فيه سبعة أقاويل :
أحدها : أنه بالسريانية يا رجل؛ قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وحكى الطبري : أنه بالنبطية يا رجل؛ وقاله ابن جبير ، والسدي كذلك .
وقال الكلبي : هو لغة عكل ، وقال قطرب : هو بلغة طيىء وأنشد ليزيد بن مهلهل :
إن السفاهة ( طه ) من خليقتكم ... لا قدس الله أرواح الملاعين
الثاني : أنه اسم من أسماء الله تعالى وَقَسَمٌ أَقْسَمَ بِِهِ ، وهذا مروي عن ابن عباس أيضاً .
الثالث : أنه اسم السورة ومفتاح لها .
الرابع : أنه اختصار من كلام خص الله رسوله بعلمه .
الخامس : أن حروف مقطعه يدل كل حرف منها على معنى .
السادس : معناه : طوبى لمن اهتدى ، وهذا قول محمد الباقر بن علي زين العابدين رحمهما الله .
السابع : معناه طَإِ الأَرْضَ بقدمك ، ولا تقم على إحدى رجليك يعني في الصلاة ، حكاه ابن الأنباري .
ويحتمل ثامناً : أن يكون معناه طهّر ، ويحتمل ما أمره بتطهيره وجهين :
أحدهما : طهر قلبك من الخوف .
والثاني : طهر أُمَّتَك من الشرك .
قوله تعالى : { مَآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْْءَانَ لِتَشْقَى } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : بالتعب والسهر في قيام الليل ، قاله مجاهد .
الثاني : أنه جواب للمشركين لما قالواْ : إنه بالقرآن شقى ، قاله الحسن .
الثالث : معناه لا تشْقِ بالحزن والأسف على كفر قومك ، قاله ابن بحر .
قوله تعالى : { إِلاَّ تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى } فيه وجهان :
أحدهما : إلا إنذاراً لمن يخشى الله .
والثاني : إلا زجراً لمن يتقي الذنوب .
والفرق بين الخشية والخوف : أن الخوف فيما ظهرت أسبابه والخشية فيما لم تظهر أسبابه .
قوله عز وجل : { لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : له ملك السموات والأرض .
الثاني : له تدبيرها .
الثالث : له علم ما فيها .
وفي { . . . الثَّرَى } وجهان :
أحدها : كل شيء مُبْتلّّ ، قاله قتادة .
الثاني : أنه التراب في بطن الأرض ، قاله الضحاك .
الثاني : أنها الصخرة التي تحت الأرض السابعة ، وهي صخرة خضراء وهي سجِّين التي فيها كتاب الفجار ، قاله السدي .
قوله عز وجل : { وَإِن تَجْهَرْ بَالْقَوْلِ } فم حاجتك إلى الجهر؟ لأن الله يعلم بالجهر وبالسر .
{ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأخْفَى } فيه ستة تأويلات :
أحدها : أن « السِّرَّ » ما حدَّث به العبد غيره في السر . « وأَخْفَى » ما أضمره في نفسه ، ولم يحدّث به غيره ، قاله ابن عباس .
الثاني : أن السر ما أَضمره العبد في نفسه . وأخفى منه ما لم يكن ولا أضمره أحد في نفسه قاله قتادة وسعيد بن جبير .
الثالث : يعلم أسرار عباده ، وأخفى سر نفسه عن خلقه ، قاله ابن زيد .
الرابع : أن السر ما أسره الناس ، وأخفى : الوسوسة ، قاله مجاهد .
الخامس : أن السر ما أسره من علمه وعمله السالف ، وأخفى : وما يعلمه من عمله المستأنف ، وهذا معنى قول الكلبي .
السادس : السر : العزيمة ، وما هو أخفى : هو الهم الذي دون العزيمة .


وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9) إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10)

قوله تعالى : { وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى } أي قد أتاك حال موسى فيما اجتباه ربه لنبوته وحمله من رسالته . واحتمل ذلك أن يكون ذلك بما قصه عليه في هذا الموضع ، واحتمل أن يكون بما عرفه في غيره .
{ إِذْ رَءَا نَاراً } وكانت عند موسى ناراً ، وعند الله نوراً ، قال مقاتل : وكانت ليلة الجمعة في الشتاء .
{ فَقَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُواْ } أي أقيموا . والفرق بين المكث والإقامة أن الإقامة تدوم والمكث لا يدوم .
{ إِنِّي أَنَسْتُ نَاراً } فيه وجهان :
أحدهما : رأيت ناراً .
والثاني : إني آنست بنار .
{ لَّعَلِّي ءَآتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ } أي بنار تصطلون بها .
{ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً } فيه وجهان :
أحدهما : هادياً يهديني الطريق ، قاله قتادة .
والثاني : علامة أستدل بها على الطريق . وكانوا قد ضلوا عنه فمكثوا بمكانهم بعد ذهاب موسى ثلاثة أيام حتى مر بهم راعي القرية فأخبره بمسير موسى ، فعادوا مع الراعي إلى قريتهم وأقامواْ بها أربعين سنةً حتى أنجز موسى أمر ربه .


فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15) فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16)

قوله تعالى : { فلمَّآ أتَاهَا } يعني النار ، التي هو نور { نُودِيَ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَاْ رَبُّكَ } وفي هذا النداء قولان :
أحدهما : أنه تفرد بندائه .
الثاني : أن الله أنطق النور بهذا النداء فكان من نوره الذي لا ينفصل عنه ، فصار نداء منه أعلمه به ربه لتسكن نفسه ويحمل عنه أمره فقدم تأديبه بقوله : { فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ } الآية . وفي أمرْه بخلعهما قولان :
أحدهما : ليباشر بقدميه بركة الوادي المقدس ، قاله علي بن أبي طالب ، والحسن ، وابن جريج .
والثاني : لأن نعليه كانتا من جلد حمار ميت ، قاله كعب ، وعكرمة ، وقتادة .
{ إِنَكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ } فيه وجهان :
أحدهما : أن المقدس هو المبارك ، قاله ابن عباس ، ومجاهد .
والثاني : أنه المطهر ، قاله قطرب ، وقال الشاعر :
وأنت وصول للأقارب مدره ... برىء من الآفات من مقدس
وفي { طُوىً } خسمة تأويلات :
أحدها : أنه اسم من طوى لأنه مر بواديها ليلاً فطواه ، قاله ابن عباس .
الثاني : سمي طوى لأن الله تعالى ناداه مرتين . وطوى في كلامهم بمعنى مرتين ، لأن الثانية إذا أعقبتها الأولى صارت كالمطوية عليها .
الثالث : بل سمي بذلك لأن الوادي قدس مرتين ، قاله الحسن .
الرابع : أن معنى طوى : طَإِ الوادي بقدمك ، قاله مجاهد .
الخامس : أنه الاسم للوادي قديماً ، قاله ابن زيد :
فخلع موسى نعليه ورمى بهما وراء الوادي .
قوله تعالى : { وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : وأقم الصلاة لتذكرني فيها ، قاله مجاهد .
والثاني : وأقم الصلاة بذكري ، لأنه لا يُدْخَلُ في الصلاة إلا بذكره .
الثالث : وأقم الصلاة حين تذكرها ، قاله إبراهيم . وروى سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « مَنْ نَسِيَ صَلاَةَ فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا » قال تعالى : { وَأَقِمِ الصَلاَةَ لِذَكرِي } .
قوله تعالى : { أكَادُ أُخْفِيهَا } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : أي لا أظهر عليها أحداً ، قاله الحسن ، ويكون أكاد بمعنى أريد .
الثاني : أكاد أخفيها من نفسي ، قاله ابن عباس ومجاهد ، وهي كذلك في قراة أُبَيّ « أَكَادُ أُخْفِيهَا مِنْ نَفْسِي » ويكون المقصود من ذلك تبعيد الوصول إلى علمها . وتقديره : إذا كنت أخفيها من نفسي فكيف أظهرها لك؟
الثالث : معناه أن الساعة آتية أكاد . انقطع الكلام عند أكاد وبعده مضمر أكاد آتي بها تقريباً لورودها ، ثم استأنف : أخفيها لتجزى كل نفسٍ بما تسعى . قاله الأنباري ، ومثله قول ضابىء البرجمي :
هممت ولم أفعل وكدت وليتني ... تكرت على عثمان تبكي حلائله
أي كدت أن أقتله ، فأضمره لبيان معناه .
الرابع : أن معنى -أخفيها : أظهرها ، قاله أبو عبيدة وأنشد :
فإن تدفنوا الداءَ لا نخفيه ... وأن تبعثوا الحرب لا نقعد
يقال أخفيت الشيء أي أظهرته وأخفيته إذا كتمته ، كما يقال أسررت الشيء إذا كتمته ، وأسررته إذا أظهرته .
وفي قوله : { وَأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ } وجهان :
أحدهما : أسر الرؤساء الندامة عن الأتباع الذي أضلوهم . والثاني : أسر الرؤساء الندامة . قال الشاعر :
ولما رأى الحجاج أظهر سيفه ... أسر الحروري الذي كان أضمرا
{ لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى } فيه وجهان :
أحدهما : أنه على وجه القسم من الله ، إن كل نفس تجزى بما تسعى .
الثاني : أنه إخبار من الله أن كل نفس تجزى بما تسعى .
قوله عز وجل : { فَتَرْدَى } فيه وجهان : أحدهما : فتشقى .
الثاني : فتنزل .


وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18) قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20) قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (21)

{ وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى } ليس هذا سؤال استفهام ، وإنما هو سؤال تقرير لئلاّ يدخل عليه ارتياب بعد انقلابها حيةٌ تسعى .
{ قَالَ هِيَ عَصَايَ } فتضمن جوابه أمرين :
أحدهما : الإِخبار بأنها عصا وهذا جواب كافٍ .
الثاني : إضافتها إلى ملكه ، وهذه زيادة ذكرها ليكفي الجواب بما سئل عنه .
ثم أخبر عن حالها بما لم يُسأل عنه ليوضح شدة حاجته إليها واستعانته بها لئلا يكون عابئاً بحملها ، فقال : { أَتَوكَّؤُاْ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَ عَلَى غَنَمِي } أي أخبط بها ورق الشجر لترعاه غنمي . قال الراجز :
أهش بالعصا على أغنامي ... من ناعم الأراك والبشام .
وقرأ عكرمة « وأهس » بسين غير معجمة . وفي الهش والهس وجهان :
أحدهما : أنهما لغتان معناهما واحد .
والثاني : أن معناهما مختلف ، فالهش بالمعجمة : خبط الشجر ، والهس بغير إعجام زجر الغنم .
{ وَلِيَ فِيهَا مَئَارِبُ أُخْرَى } أي حاجات أخرى ، فنص على اللازم وكنّى عن العارض ، وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه كان يطرد بها السباع ، قاله مقاتل :
الثاني : أنه كان يَقْدَحُ بها النار ، ويستخرج الماء بها .
الثالث : أنها كانت تضيء له بالليل ، قاله الضحاك .


وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (23) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24) قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا (35)

قوله عز وجل : { وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : إلى عضدك ، قاله مجاهد .
الثاني : إلى جيبك .
الثالث : إلى جنبك فعبر عن الجنب بالجناح لأنه مائل في محل الجناح .
قوله عز وجل : { رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي } يحتمل وجهين :
أحدهما : لحفظ مناجاته .
الثاني : لتبليغ رسالته .
{ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي } يحتمل وجهين :
أحدهما : ما لا يطيق .
الثاني : في معونتي بالقيام على ما حملتني .
{ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها عقدة كانت بلسانه من الجمرة التي ألقاها بفيه في صغر عند فرعون .
الثاني : عقدة كانت بلسانه عند مناجاته لربه ، حتى لا يكلم غيره إلا بإذنه .
الثالث : استحيائه من الله من كلام غيره بعد مناجاته .
{ يَفْقَهُواْ قَوْلِي } يحتمل وجهين :
أحدهما : ببيان كلامه .
الثاني : بتصديقه على قوله .
{ وَاجْعَل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي } وإنما سأل الله أن يجعل له وزيراً إلا أنه لم يرد أن يكون مقصوراً على الوزارة حتى يكون شريكاً في النبوة ، ولولا ذلك لجاز أن يستوزره من غير مسألة .
{ هَارُونَ أَخِي اشدُدْ بِهِ أَزْرِي } فيه وجهان :
أحدهما : أن الأزر : الظهر في موضع الحقوين ومعناه فقوّ به نفسي . قال أبو طالب :
أليس أبونا هاشمٌ شد أزره ... وأوصى بنيه بالطعان وبالضرب
الثاني : أن يكون عوناً يستقيم به أمري . قال الشاعر :
شددت به أزري وأيقنت أنه ... أخ الفقر من ضاقت عليه مذاهبه
فيكون السؤال على الوجه الأول لأجل نفسه وعلى الثاني لأجل النبوة . وكان هارون أكبر من موسى بثلاث سنين ، وكان في جبهة هارون شامة ، وكان على أنف موسى شامة ، وعلى طرف لسانه [ شامه ] .


قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37) إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40)

قوله عز وجل : { وَأَلْقَيتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي } فيه أربعة أوجه :
أحدها : حببتك إلى عبادي ، قاله سلمى بن كميل .
الثاني : يعني حسناً وملاحة ، قاله عكرمة .
الثالث : رحمتي ، قاله أبو جعفر ( الطبري ) . الرابع : جعلت من رآك أحبك ، حتى أحبك فرعون فسلمت من شره وأحبتك آسية بنت مزاحم فتبنتك ، قاله ابن زيد .
ويحتمل خامساً : أن يكون معناه : وأظهرت عليك محبتي لك وهي نعمة عليك لأن من أحبه الله أوقع في القلوب محبته .
{ وَلِتُصْنَعَ عَلَى عيْنِي } فيه وجهان :
أحدهما : لتغذي على إرادتي ، قاله قتادة .
الثاني : لتصنع على عيني أمك بك ما صنعت من إلقائك في اليم ومشاهدتي .
ويحتمل ثالثاً : لتكفل وتربى على اختياري ، ويحتمل قوله : { عَلَى عَيْنِي } وجهين :
أحدهما : على اختياري وإرادتي .
الثاني : بحفظي ورعايتي .
{ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلاَ تَحزَنَ } يحتمل وجهين :
أحدهما : تقر عينها بسلامتك ولا تحزن بفراقك .
الثاني : تقر بكفالتك ولا تحزن بنفقتك .
{ وَقَتَلْتَ نَفْساً } يعني القبطي .
{ فَنَجَّينَاكَ مِنَ الْغَمِّ } يحتمل وجهين :
أحدهما : سلمناك من القَوَد .
الثاني : أمناك من الخوف .
{ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً } فيه أربعة أقاويل :
أحدها : أخبرناك حتى صلحت للرسالة .
الثاني : بلوناك بلاء بعد بلاء ، قاله قتادة .
الثالث : خلصناك تخليصاً محنة بعد محنة ، أولها أنها حملته في السنة التي كان يذبح فرعون فيها الأطفال ثم إلقاؤه في اليم ، ومنعه الرضاع إلا من ثدي أمه ، ثم جره بلحية فرعون حتى همّ بقتله ، ثم تناوله الجمرة بدل التمرة ، فدرأ ذلك عنه قتل فرعون ، ثم مجيىء رجل من شيعته يسعى بما عزموا عليه من قتله قاله ابن عباس .
وقال مجاهد : أخلصناك إخلاصاً .
{ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى } فيه وجهان :
أحدهما : على قدر الرسالة والنبوة ، قاله قاله قتادة .
الثاني : على موعدة ، قاله قتادة ، ومجاهد .
ويحتمل ثالثاً : جئت على مقدار في الشدة وتقدير المدة ، قال الشاعر :
نال الخلافة أو كانت له قدراً ... كما أتى ربه موسى على قدر


وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44)

{ وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي } يحتمل وجهان :
أحدهما : خلقتك ، مأخوذ من الصنعة .
الثاني : اخترتك ، مأخوذ من الصنيعة . { لِنَفْسِي } فيه وجهان :
أحدهما : لمحبتي .
الثاني : لرسالتي .
قوله تعالى : { وَلاَ تَنِيَا فِي ذِكرِي } فيه أربعة أقاويل :
أحدها : لا تفترا في ذكري ، قال الشاعر :
فما ونى محمد مذ أن غفر ... له الإله ما مضى وما غبر
الثاني : لا تضعفا في رسالتي ، قاله قتادة .
الثالث : لا تبطنا ، قاله ابن عباس .
الرابع : لا تزالا ، حكاه أبان واستشهد بقول طرفة :
كأن القدور الراسيات أمامهم ... قباب بنوها لا تني أبداً تغلي
قوله تعالى : { فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً } فيه وجهان :
أحدهما : لطيفاً رقيقاً .
الثاني : كنّياه ، قاله السدي وقيل إن كنية فرعون أبو مرة ، وقيل أبو الوليد .
ويحتمل ثالثاً : أن يبدأه بالرغبة قبل الرهبة ، ليلين بها فيتوطأ بعدها من رهبة ووعيد قال بعض المتصوفة : يا رب هذا رفقك لمن عاداك ، فكيف رفقك بمن والاك؟
وقيل إن فرعون كان يحسن لموسى حين رباه ، فأراد أن يجعل رفقه به مكافأة له حين عجز موسى عن مكافأته .


قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48)

قوله تعالى : { أَن يَفْرُطَ عَلَيْنآ } فيه وجهان :
أحدهما : أن يعجل علينا ، قال الراجز : قد أفرط العلج علينا وعجل .
الثاني : يعذبنا عذاب الفارط في الذنب ، وهو المتقدم فيه ، قاله المبرد ويقال لمن أكثر في الشيء أفرط ، ولمن نقص منه فرّط .
{ أَوْ أَن يَطْغَى } أي يقتلنا .


قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50) قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51) قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52)

قوله تعالى : { رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : أعطى كل شيء زوجه من جنسه ، ثم هداه لنكاحه ، قاله ابن عباس والسدي .
الثاني : أعطى كل شيء صورته ، ثم هداه إلى معيشته ومطعمه ومشربه ، قاله مجاهد قال الشاعر :
وله في كل شيء خلقهُ ... وكذلك الله ما شاء فعل
يعني بالخلقة الصورة .
الثالث : أعطى كلاً ما يصلحه ، ثم هداه له ، قاله قتادة .
ويحتمل رابعاً : أعطى كل شيءٍ ما ألهمه من علم أو صناعة وهداه إلى معرفته .
قوله تعالى : { فَمَا بَالُ الْقُرونِ الأَُولَى } وهي جمع قرن ، والقرن أهل كل عصر مأخوذ من قرانهم فيه .
وقال الزجاج : القرن أهل كل عصر وفيه نبي أو طبقة عالية في العلم ، فجعله من اقتران أهل العصر بأهل العلم ، فإذا كان زمان فيه فترة وغلبة جهل لم يكن قرناً .
واختلف في سؤال فرعون عن القرون على أربعة أوجه :
أحدها : أنه سأله عنها فيما دعاه إليه من الإيمان ، هل كانوا على مثل ما يدعو إليه أو بخلافه .
الثاني : أنه قال ذلك له قطعاً للاستدعاء ودفعاً عن الجواب .
الثالث : أنه سأله عن ذنبهم ومجازاتهم .
الرابع : أنه لما دعاه إلى الإِقرار بالبعث قال : ما بال القرون الأولى لم تبعث .
{ قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي } فرد موسى علم ذلك إلى ربه .
{ فِي كِتَابٍ } { لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى } أي لم يجعل علم ذلك في كتاب لأنه يضل أو ينسى .
ويحتمل إثباته في الكتاب وجهين :
أحدهما : أن يكون له فضلاً له وحكماً به .
الثاني : ليعلم به ملائكته في وقته .
وفي قوله : { لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى } وجهان :
أحدهما : لا يخطىء فيه ولا يتركه .
الثاني : لا يضل الكتاب عن ربي ، ولا ينسى ربي ما في الكتاب ، قاله ابن عباس .
قال مقاتل : ولم يكن في ذلك [ الوقت ] عند موسى علم القرون الأولى ، لأنه علمها من التوراة ، ولم تنزل عليه إلا بعد هلاك فرعون وغرقه .


الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (54) مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55) وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56)

قوله تعالى : { لأُوْلِي النُّهَى } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أولي الحكم .
الثاني : أولي العقل ، قاله السدي .
الثالث : أولي الورع .
وفي تسميتهم بذلك وجهان :
أحدهما : لأنهم ينهون النفس عن القبيح .
الثاني : لأنه ينتهي إلى آرائهم .
{ وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ ءَايَاتِنَا كُلَّهَا } فيه وجهان :
أحدهما : حجج الله الدالة على توحيده .
الثاني : المعجزات الدالة على نبوة موسى ، يعني التي أتاها موسى ، وإلا فجميع الآيات لم يرها .
{ فَكَذَّبَ وَأَبَى } يعني فكذب الخبر وأبى الطاعة .
ويحتمل وجهاً آخر : يعني فجحد الدليل وأبى القبول .


قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى (58) قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59)

قوله تعالى : { مَكَاناً سُوىً } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : منصفاً بينهم .
الثاني : عدلاً بيننا وبينك ، قاله قتادة والسدي .
الثالث : عدلاً وسطاً ، قاله أبو عبيدة وأنشد :
وإن أبانا كان حَلّ ببلدة ... سوى بين قيس قيس عيلان والغزر
الرابع : مكاناً مستوياً يتبين للناس ما بيناه فيه ، قاله ابن زيد .
ويقرأ سُوى بضم السين وكسرها ، وفيهما وجهان :
أحدهما : أن : معناهما واحد وإن اختلف لفظهما .
والثاني : أن معناهما ، فهو بالضم المنصف ، وبالكسر العدل .
قوله تعالى : { يَوْمُ الزِّينَةِ } فيه أربعة أقاويل :
أحدها : أنه يوم عيد كان لهم ، قاله مجاهد وابن جريج والسدي وابن زيد وابن إسحاق .
الثاني : يوم السبت ، قاله الضحاك .
الثالث : عاشوراء ، قاله ابن عباس .
الرابع : أنه يوم سوق كانوا يتزينون فيها ، قاله قتادة .


فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (60) قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (61) فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (62) قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى (64)

قوله تعالى : { لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى اللَّهِ كَذِباً } فيه وجهان :
أحدهما : لا تفترواْ على الله كذباً بسحركم .
الثاني : بتكذيبي وقولكم م جئت به سحر .
{ فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ } فيهلككم ويستأصلكم ، قال الفرزدق :
وعض زمان يا ابن مروان لم يدع ... من المال إلا مسحتاً أو مُجَلَّف
فالمسحت : المستأصل ،
والمجلف : المهلك .
{ فَتَنَازَعُوآ أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ } فيه وجهان :
أحدهما : فيما هيؤوه من الحبال والعصي ، قاله الضحاك .
والثاني : فيمن يبتدىء بالإِلقاء .
{ وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى } فيه أربعة أقاويل :
أحدها : أن النجوى التي أسروها أن قالوا : إن كان هذا سحراً فسنغلبه ، وإن كان السماء فله أمره ، قاله قتادة .
الثاني : أنه لما قال لهم { وَيْلَكُمْ } الآية . قالوا : ما هذا بقول ساحر ، قاله ابن منبه .
الثالث : أنه أسروا النجوى دون موسى وهارون بقولهم ، { إنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ . . . } الآيات ، قاله مقاتل والسدي .
الرابع : أنهم أسرواْ النجوى . إن غَلَبَنَا موسى اتبعناه ، قاله الكلبي .
قوله تعالى : { قَالُواْ إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ } هذه قراءة أبي عمرو وهي موافقة للإِعراب مخالفة للمصحف . وقرأ الأكثرون : إن هذان الساحران ، فوافقوا المصحف فيها ، ثم اختلفوا في تشديد إنّ فخففها ابن كثير وحفص فسلما بتخفيف إن من مخالفة المصحف ومن فساد الإِعراب ، ويكون معناها : ما هذان إلا ساحران . وقرأ أُبَيّ : إن ذان إلا ساحران ، وقرأ باقي القراء بالتشديد : إنَّ هذان لساحران . فوافقوا المصحف وخالفوا ظاهر الإِعراب . واختلف من قرأ بذلك في إعرابه على أربعة أقاويل :
أحدها : أن هذا على لغة بلحارث بن كعب وكنانة بن زيد يجعلون رفع الإِثنين ونصبه وخفضه بالألف ، وينشدون :
فأطرق إطراق الشجاع ولو رأى ... مساغاً لِناباهُ الشجاع لصمّما
والوجه الثاني : لا يجوز أن يحمل القرآن على ما اعتل من اللغات ويعدل به عن أفصحها وأصحها ، ولكن في « إن » هاء مضمرة تقديرها إنّه هذان لساحران ، وهو قول متقدمي النحويين .
الثالث : أنه بَنَى « هذان » على بناء لا يتغير في الإِعراب كما بَنَى الذين على هذه الصيغة في النصب والرفع .
الرابع : أن « إن » المشددة في هذا الموضع بمعنى نعم ، كما قال رجل لابن الزبير : لعن الله ناقة حملتني إليك ، فقال ابن الزبير : إنّ وصاحبها . وقال عبد الله بن قيس الرقيات :
بكى العواذل في الصبا ... ح يلمنني وألومُهُنّة
ويقلن شيب قد علا ... ك وقد كبرت فقلت إنْه
أي نعم
{ وَيَذْهَبَا بِطَرِيقتِكُمْ الْمُثْلَى } في قائل هذه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه قول السحرة .
الثاني : أنه قول قوم فرعون .
الثالث : قول فرعون من بين قومه ، وإن أشير به إلى جماعتهم .
وفي تأويله خمسة أوجه :
أحدها : ويذهبا بأهل العقل والشرف . قاله مجاهد .
الثاني : ببني إسرائيل ، وكانوا أولي عدد ويسار ، قاله قتادة .
الثالث : ويذهبا بالطريقة التي أنتم عليها في السيرة قاله ابن زيد .
الرابع : ويذهبا بدينكم وعبادتكم لفرعون ، قاله الضحاك .
الخامس : ويذهبا بأهل طريقتكم المثلى ، [ والمثلى مؤنث ] الأمثل والمراد بالأمثل الأفضل ، قال أبو طالب :
وإنا لعمرو الله إن جدّ ما أرى ... لتلتبسن أسيافنا بالأماثل
قوله تعالى : { فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ } فيه وجهان :
أحدهما : جماعتكم على أمرهم في كيد موسى وهارون .
الثاني : معناه أحكموا أمركم ، قال الراجز :
يا ليت شعري والمنى لا تنفع ... هل أغدوا يوماً وأمري مجمع
أي محكم .
{ ثُمَّ ائْتُواْ صَفّاً } أي اصطفواْ ولا تختلطواْ .
{ . . . مَنِ اسْتَعْلَى } أي غلب .


قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70)

قوله تعالى : { قَالَ بَلْ أَلْقُواْ . . . } الآية . في أمر موسى للسحرة بالإِلقاء- وإن كان ذلك كفراً لا يجوز أن يأمر به - وجهان :
أحدهما : إن اللفظ على صفة الأمر ، ومعناه معنى الخبر ، وتقديره : إن كان إلقاؤكم عندكم حجة فألقواْ .
الثاني : إن ذلك منه على وجه الاعتبار ليظهر لهم صحة نبوته ووضوح محبته ، وأن ما أبطل السحر لم يكن سحراً .
وختلفوا في عدد السحرة فحكي عن القاسم بن أبي بزة أنهم كانواْ سبعين ألف ساحر ، وحكي عن ابن جريج أنهم كانواْ تسعمائة ساحر ، ثلاثمائة من العريش ، وثلاثمائة من الفيوم ، ويشكون في الثلاثمائة من الإسكندرية ، وحكى أبو صالح عن ابن عباس أنهم كانواْ اثنين وسبعين ساحراً ، منهم اثنان من القبط وسبعون من بني إسرائيل ، كانواْ في أول النهار سحرة وفي آخرة شهداء .
{ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى } يحتمل وجهين :
أحدهما : أنه يخيل ذلك لفرعون .
الثاني : لموسى كذلك .
{ فَأَوْجسَ فِي نَفْسِهِ خِيِفَةً مُّوسَى } وفي خوف وجهان :
أحدهما : أنه خاف أن يلتبس على الناس أمرهم فيتوهمواْ أنهم فعلواْ مثل فعله وأنه من جنسه .
الثاني : لما هو مركوز في الطباع من الحذر . وأوجس : بمعنى أسر .
{ قُلْنَا لاَ تَخَفْ . . . } الآية . تثبيتاً لنفسه ، وإزالة لخوفه .
قوله تعالى : { وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُواْ } أي تأخذه بفيها ابتلاعاً بسرعة ، فقيل إنها ابتلعت حمل ثلاثمائة بعير من الحبال والعصي ، ثم أخذها موسى ورجعت عصا كما كانت .
وفيها قولان :
أحدهما : أنها كانت من عوسج ، قاله وهب .
الثاني : من الجنة ، قاله ابن عباس ، قال : وبها قتل موسى عوج بن عناق .
{ فَأَلْقِيَ السَّحْرةُ سُجَّداً } طاعة لله وتصديقاً لموسى .
{ قَالُواْ ءَامَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى } أي بالرب الذي دعا إليه هارون وموسى ، لأنه رب لنا ولجميع الخلق ، فقيل إنهم ، ما رفعوا رؤوسهم حتى رأواْ الجنة وثواب أهلها ، فعند ذلك .


قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71) قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73)

{ قَالُواْ لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَآءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ } وقيل إن امرأة فرعون كانت تسأل : من غلب؟ فقيل لها : موسى وهارون . فقالت : آمنت برب موسى وهارون فأرسل إليها فرعون فقال : فخذواْ أعظم صخرة فحذَّرُوها ، فإن أقامت على قولها [ فألقوها عليها ] ، فنزع [ الله ] روحها ، فألقيت الصخرة على جسدها وليس فيه روح .
{ وَالَّذِي فَطَرَنَا } فيه وجهان :
أحدهما : أنه قسم .
الثاني : بمعنى [ ولا ] على الذي فطرنا .
{ فَاقْضِ مَآ أَنتَ قَاضٍ } فيه وجهان :
أحدهما : فاصنع ما أنت صانع .
الثاني : فاحكم ما أنت حاكم .
{ إِنَّمَا تَقْضِي هذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَآ } يحتمل وجهين :
أحدهما : إن التي تنقضي وتذهب هذه الحياة الدنيا ، وتبقى الآخرة .
قوله تعالى : { وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى } فيه وجهان :
أحدهما : والله خير منك وأبقى ثواباً إن أُطيع ، وعقاباً إن عُصِي .
الثاني : خير منك ثواباً إن أطيع وأبقى منك عقاباً إن عُصِي .


إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76)

قوله عز وجل : { لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَى } يحتمل وجهين :
أحدهما : لا ينتفع بحياته ولا يستريح بموته ، كما قال الشاعر :
ألا من لنفسٍ لا تموت فينقضي ... شقاها ولا تحيا حياة لها طعم
الثاني : أن نفس الكافر معلقة بحنجرته كما أخبر الله عنه فلا يموت بفراقها . ولا يحيا باستقرارها .


وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (79)

قوله تعالى : { لاَ تَخَافُ دَرَكاً وَلاَ تَخْشَى } قال ابن جريج : قال أصحاب . موسى له : هذا فرعون قد أدركنا ، وهذا البحر وقد غشينا ، فأنزل الله هذه الآية . أي لا تخاف دركاً من فرعون ولا تخشى من البحر غرقاً إن غشيك .


يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى (80) كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (81) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82)

قوله تعالى : { وَلاَ تَطْغَوْاْ فِيهِ } وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها : لا تكفروا به .
الثاني : لا تدّخرواْ منه لأكثر من يوم وليلة ، قال ابن عباس : فدُوّد عليهم ما ادخروه ، ولولا ذلك ما دَوّد طعام أبداً .
الثالث : لا تستعينوا برزقي على معصيتي .
{ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي } قرىء بضم الحاء وبكسرها ومعناه بالضم ينزل ، وبالكسر يجب .
{ فَقَدْ هَوَى } فيه وجهان :
أحدهما : فقد هوى في النار .
الثاني : فقد هلك في الدنيا .
قوله عز وجل : { وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً } أي غفار لمن تاب من الشرك { وآمن } يعني بالله ورسوله و { عمل صالحاً } يريد العمل بأوامره والوقوف عند نواهيه .
{ ثُمَّ اهْتَدَى } فيه ستة تأويلات :
أحدها : ثم لم يشك في إيمانه ، قاله ابن عباس .
الثاني : لزم الإِيمان حتى يموت ، قاله قتادة .
الثالث : ثم أخذ بسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، قاله الربيع بن أنس .
الرابع : ثم أصاب العمل ، قاله ابن زيد .
الخامس : ثم عرف جزاء عمله من خير بثواب ، أو شر بعقاب ، قاله الكلبي .
السادس : ثم اهتدى في ولاية أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ، قاله ثابت .


وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى (83) قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84) قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86) قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88) أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (89)

قوله تعالى : { غَضْبَانَ أَسِفاً } فيه خمسة أوجه :
أحدها : أن الأسف أشد الغضب .
الثاني : الحزين ، قاله ابن عباس ، وقتادة ، والسدي .
الثالث : أنه الجزع ، قاله مجاهد .
الرابع : أنه المتندم .
الخامس : أنه المتحسِّر .
قوله تعالى : { أَلَمْ يَعِدُكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حسناً } فيه أربعة أقاويل :
أحدها : أنه وعدكم النصر والظفر .
الثاني : أنه قوله : { وِإِنِّي لَغَفَّارٌ } الآية .
الثالث : التوراة فيها هدى ونور ليعملواْ بما فيها فيستحقواْ ثواب عملهم .
الرابع : أنه ما وعدهم به في الآخرة على التمسك بدينه في الدنيا ، قاله الحسن .
وفي قوله تعالى : { فَأَخَلَفْتُم مَّوْعِدِي } وجهان :
أحدهما : أنه وعدهم على أثره للميقات فتوقفوا .
{ قَالُواْ مَآ أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : بطاقتنا ، قاله قتادة والسدي .
الثاني : لم نملك أنفسنا عند ذلك للبلية التي وقعت بنا ، قاله ابن زيد .
الثالث : لم يملك المؤمنون منع السفهاء من ذلك والموعد الذي أخلفوه أن وعدهم أربعين فعدّوا الأربعين عشرين يوماً ليلة وظنوا أنهم قد استكملوا الميعاد ، وأسعدهم السامري أنهم قد استكملوه .
{ وَلْكِنَّا حُمِّلْنآ أَوْزَاراً مِّن زِينَةِ الْقَوْمِ } أي حملنا من حلي آل فرعون ، لأن موسى أمرهم أن يستعيروا من حليهم ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، والسدي . وقيل : جعِلت حملاً .
والأوزار : الأثقال ، فاحتمل ذلك على وجهين :
أحدهما : أن يراد بها أثقال الذنوب لأنهم قد كان عندهم غلول .
الثاني : أن يراد أثقال الحمل لأنه أثقلهم وأثقل أرجلهم .
قوله تعالى : { فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ } الآية . قال قتادة . أن السامري قال لهم حين استبطأ القومُ موسى : إنما احتبس عليكم من أجل ما عندكم من الحلي ، فجمعوه ورفعوه للسامري ، فصاغ منه عجلاً ، ثم ألقى عليه قبضة قبضها من أثر الرسول وهو جبريل ، وقال معمر : الفرس الذي كان عليه جبريل هو الحياة فلما ألقى القبضة عيه صار عجلاً جَسَداً له خوار .
والخوار صوت الثور ، وفيه قولان :
أحدهما : أنه صوت حياة خلقه ، لأن العجل المُصَاغُ انقلب بالقبضة التي من أثر الرسول فصار حيواناً حياً ، قاله الحسن ، وقتادة ، والسدي ، وقال ابن عباس : خار العجل خورة واحدة لم يتبعها مثلها .
الثاني : أن خواره وصوته كان بالريح ، لأنه عمل فيه خروقاً فإذا دخلت الريح فيه خار ولم يكن فيه حياة ، قاله مجاهد .
{ فقالوا هذا إلهكم وإله موسى } يعني أن السامري قال لقوم موسى بعد فراغه من العجل : هذا إلهكم وإله موسى ، يعني ليسرعوا إلى عبادته .
{ فَنَسِيَ } فيه أربعة أقاويل :
أحدها : فنسي السامري إسلامه وإيمانه ، قاله ابن عباس .
الثاني : فنسي السامري قال لهم : قد نسي موسى إلهه عندكم ، قاله قتادة ، والضحاك .
الثالث : فنسي أن قومه لا يصدقونه في عبادة عجل لا يضر ولا ينفع ، قاله ابن بحر .
الرابع : أن موسى نسي أن قومه قد عبدوه العجل بعده ، قاله مجاهد .
{ أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً } يعني أفلا يرى بنو إسرائيل أن العجل الذي عبدوه لا يرد عليهم جواباً .
{ وَلاَ يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً } ؟ فكيف يكون إِلهاً .
قال مقاتل : لما مضى من موعد موسى خمسة وثلاثون يوماً أمر السامري بني إسرائيل أن يجمعواْ ما استعاروه من حلي آل فرعون ، وصاغه عجلاً في السادس والثلاثين والسابع والثامن ودعاهم إلى عبادة العجل في التاسع فأجابوه ، وجاءهم موسى بعد استكمال الأربعين .


وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (91) قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94)

قوله تعالى : { قَالَ يَا هارُونَ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّواْ } يعني بعبادة العجل .
{ أَلاَّ تَتَّبِعَنِ } فيه وجهان :
أحدهما : ألا تتبعني في الخروج ولا تقم مع من ضل .
الثاني : ألا تتبع عادتي في منعهم والإِنكار عليهم ، قاله مقاتل .
{ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي } وقال موسى لأخيه هارون : أخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين فلمّا أقام معهم ولم يبالغ في منعهم والإِنكار عليهم نسبه إلى العصيان ومخالفة أمره .
{ قَالَ يَا بْنَ أُمَّ } فيه قولان :
أحدهما : لأنه كان أخاه لأبيه وأمه .
الثاني : أنه كان أخاه لأبيه دون أمه ، وإنما قال يا ابن أم ترفيقاً له واستعطافاً .
{ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي } فيه قولان :
أحدهما : أنه أخذ شعره بيمينه ، ولحيته بيسراه ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنه أخذ بأذنه ولحيته ، فعبر عن الأذن بالرأس ، وهو قول من جعل الأذن من الرأس .
واختلف في سبب أخذه بلحيته ورأسه على ثلاثة أقوال :
أحدها : ليسر إليه نزول الألواح عليه ، لأنها نزلت عليه في هذه المناجاة . وأراد أن يخفيها عن بني إسرائيل قبل التوبة ، فقال له هارون : لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي ليشتبه سراره على بني إسرائيل .
الثاني : فعل ذلك لأنه وقع في نفسه أن هارون مائل إلى بني إسرئيل فيما فعلوه من أمر العجل ، ومثل هذا لا يجوز على الأنبياء .
الثالث : وهو الأشبه - أنه فعل ذلك لإِمساكه عن الإِنكار على بني إسرئيل الذين عبدوا العجل ومقامه بينهم على معاصيهم .
{ إِنِّي خَشيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرآئِيلَ } وهذا جواب هارون عن قوله : { أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي } وفيه وجهان :
أحدهما : فرقت بينهم بما وقع من اختلاف معتقدهم .
الثاني : [ فرقت ] بينهم بقتال مَنْ عَبَدَ العجل منهم .
وقيل : إنهم عبدوه جميعاً إلا اثني عشر ألفاً بقوا مع هارون لم يعبدوه .
{ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي } فيه وجهان :
أحدهما : لم تعمل بوصيتي ، قاله مقاتل .
الثاني : لم تنتظر عهدي ، قاله أبو عبيدة .


قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (97) إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (98) كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100) خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا (101)

قوله عز وجل : { قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ } الخطب ما يحدث من الأمور الجليلة التي يخاطب عليها ، قال الشاعر :
آذنت جارتي بوشك رحيل ... بكرا جاهرت بخطب جليل
وفي السامري قولان :
أحدهما أنه كان رجلاً من أهل كرمان ، تبع موسى من بني إسرائيل ، قاله الطبري ، وكان اسمه موسى بن ظفر .
أحدهما : أنه كان رجلاً من أهل كرمان ، تبع موسى من بني إسرئيل ، قاله الطبري ، وكان اسمه موسى بن ظفر . وفي تسميته بالسامري قولان :
أحدهما : أنه كان من قبيلة يقال لها سامرة ، قاله قتادة .
الثاني : لأنه كان من قرية تسمى سامرة .
{ قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ } فيه وجهان :
أحدهما : نظرت ما لم ينظروه ، قاله أبو عبيدة .
الثاني : بما لم يفطنواْ له ، قاله مقاتل .
وفي بصرت وأبصرت وجهان :
أحدهما : أنَّ معناهما واحد .
الثاني : أن معناها مختلف ، بأبصرت بمعنى نظرت ، وبَصُرت بمعنى فطنت .
{ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً } قرأه الجماعة بالضاد المعجمة ، وقرأ الحسن بصاد غير معجمة ، والفرق بينهما أن القبضة بالضاد المعجمة ، بجميع الكف ، وبصاد غير معجمة : بأطراف الأصابع { مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ } فيه قولان :
أحدهما : أن الرسول جبريل .
وفي معرفته قولان :
أحدهما : لأنه رآه يوم فلق البحر فعرفه .
الثاني : أن حين ولدته أمه [ جعلته في غار ] - حذراً عليه من فرعون حين كان يقتل بني إسرائيل وكان جبريل يغذوه صغيراً لأجل البلوى ، فعرفه حين كبر ، فأخذ قبضة تراب من حافر فرسه وشدها في ثوبه { فَنَبَذْتُهَا } يعني فألقيتها ، وفيه وجهان :
أحدهما : أنه ألقاها فيما سبكه من الحلي بصياغة العجل حتى خار بعد صياغته .
الثاني : أنه ألقاها في جوف العجل بعد صياغته حتى ظهر خواره ، فهذا تفسيره على قول من جعل الرسول جبريل .
والقول الثاني : أن الرسول موسى ، وأن أثره شريعته التي شرعها وسنته التي سنها ، وأن قوله : { فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَأ } أي طرحت شريعة موسى ونبذت سنته ، ثم اتخذت العجل جسداً له خوار .
{ وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي } فيه وجهان :
أحدهما : حدثتني نفسي . قاله ابن زيد .
الثاني : زينت لي نفسي ، قاله الأخفش .
قوله عز وجل : { قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَن تَقُولَ لاَ مِسَاسَ } فيه قولان :
أحدهما : أن قوله : { فَاذْهَبْ } وعيد من موسى ، ولذا [ فإن ] السامري خاف فهرب فجعل يهيم في البرية مع الوحوش والسباع ، لا يجد أحداً من الناس يمسه ، حتى صار كالقائل لا مساس ، لبعده عن الناس وبعد الناس منه . قالت الشاعرة :
حمال رايات بها قنعاسا ... حتى يقول الأزد لا مساسا
القول الثاني : أن هذا القول من موسى [ كان ] تحريماً للسامري ، وأن موسى أمر بني إسرائيل ألا يؤاكلوه ولا يخالطوه ، فكان لا يَمَسُّ وَلاَ يُمَسُّ ، قال الشاعر :
تميم كرهط السامري وقوله ... ألا لا يريد السامري مساسا
أي لا يُخَالِطُونَ وَلاَ يُخَالَطُون .
{ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَّن تُخْلَفَهُ } يحتمل وجهين :
أحدهما : في الإِمهال لن يقدم .
الثاني : في العذاب لن يؤخر .
قوله عز وجل : { وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً } فيه وجهان :
أحدهما : أحاط بكل شيء حتى لم يخرج شيء من علمه .
الثاني : وسع كل شيء علماً حتى لم يخل شيء عن علمه به .


يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا (104)

قوله عز وجل : { وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئَذٍ زُرْقاً } فيه ستة أقاويل :
أحدها : عُمياً ، قاله الفراء .
الثاني : عطاشاً قد أزرقت عيونهم من شدة العطش ، قاله الأزهري .
الثالث : تشويه خَلْقِهم بزرقة عيونهم وسواد وجوههم .
الرابع : أنه الطمع الكاذب إذ تعقبته الخيبة ، وهو نوع من العذاب .
الخامس : أن المراد بالزرقة شخوص البصر من شدة الخوف ، قال الشاعر :
لقد زرقت عيناك يا بن مكعبر ... كما كل ضبي مِن اللؤم أزرق
قوله عز وجل : { يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ } أي يتسارُّون بينهم ، من قوله تعالى : { وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا } [ الإسراء : 110 ] أي لا تُسرّ بها .
{ إن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً } العشر على طريق التقليل دون التحديد وفيه وجهان :
أحدهما : إن لبثتم في الدنيا إلا عشراً ، لما شاهدوا من سرعة القيامة ، قاله الحسن .
الثاني : إن لبثتم في قبوركم إلاّ عشراً لما ساواه من سرعة الجزاء .
قوله تعالى : { نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ } يحتمل وجهين :
أحدهما : نحن أعلم بما يقولونه مما يتخافتون به بينهم .
الثاني : نحن أعلم بما يجري بينهم من القول في مدد ما لبثوا .
{ إذ يقول أمثلهم طريقةً } فيه وجهان :
أحدهما : أوفرهم عقلاً .
الثاني : أكبرهم سداداً .
{ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً } لأنه كان عنده أقصر زماناً وأقل لبثاً ، ثم فيه وجهان :
أحدهما : لبثهم في الدنيا .
الثاني : لبثهم في القبور .


وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (108)

قوله عز وجل { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً } فيه قولان :
أحدهما : أنه يجعلها كالرمل ثم يرسل عليها الرياح فتفرقها كما يذري الطعام .
الثاني : تصير كالهباء .
{ فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً } في القاع ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه الموضع المستوي الذي لا نبات فيه ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وابن زيد .
الثاني : الأرض الملساء .
الثالث : مستنقع الماء ، قاله الفراء .
وفي الصفصف وجهان : أحدهما : أنه ما لا نبات فيه ، قاله الكلبي .
الثاني : أنه المكان المستوي ، كأنه قال على صف واحد في استوائه ، قاله مجاهد .
{ لاَّ تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلآَ أَمْتاً } فيه خمسة أقاويل :
أحدها : عوجاً يعني وادياً ، ولا أمتاً يعني ربابية ، قاله ابن عباس .
الثاني : عوجاً يعني صدعاً ، ولا أمتاً يعني أكمة ، قاله الحسن .
الثالث : عوجاً يعني ميلاً . ولا أمتاً يعني أثراً ، وهو مروي عن ابن عباس .
الرابع : الأمت الجذب والانثناء ، ومنه قول الشاعر :
ما في انطلاق سيره من أمت ... قاله قتادة .
الخامس : الأمت أن يغلظ مكان في الفضاء أو الجبل ، ويدق في مكان ، حكاه الصولي ، فيكون الأمت من الصعود والارتفاع .
قوله تعالى : { وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمنِ } قال ابن عباس : أي خضعت بالسكون ، قال الشاعر :
لما آتى خبر الزبير تصدعت ... سور المدينة والجبال الخشع
{ إلاَّ هَمْساً } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه الصوت الخفي ، قاله مجاهد .
الثاني : تحريك الشفة واللسان ، وقرأ أُبيّ : فلا ينطقون إلا همساً .
الثالث : نقل الأقدام ، قال ابن زيد ، قال الراجز :
وهن يمشين بنا هَمِيسا ... يعني أصوات أخفاف الإِبل في سيرها .


يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (109) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (111) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (112)

قوله عز وجل : { وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ } فيه خسمة أوجه :
أحدها : أي ذلت ، قاله ابن عباس .
الثاني : خشعت ، قاله مجاهد ، والفرق بين الذل والخشوع- وإن تقارب معناهما- هو أنّ الذل أن يكون ذليل النفس ، والخشوع : أن يتذلل لذي طاعة . قال أمية بن الصلت :
وعنا له وجهي وخلقي كله ... في الساجدين لوجهه مشكورا
الثالث : عملت ، قاله الكلبي .
الرابع : استسلمت ، قاله عطية العوفي .
الخامس : أنه وضع الجبهة والأنف على الأرض في السجود ، قاله طلق بن حبيب .
{ الْقَيُّومِ } فيها ثلاثة تأويلات :
أحدها : أنه القائم على كل نفس بما كسبت ، قاله الحسن .
الثاني : القائم بتدبير الخلق .
الثالث : الدائم الذي لا يزول ولا يبيد .
{ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً } يعني شركاً .
قوله تعالى : { فَلاَ يَخَافُ ظُلْماً وَلاَ هَضْماً } فيه وجهان :
أحدهما : فلا يخاف الظلم بالزيادة في سيئاته ، ولا هضماً بالنقصان من حسناته ، قاله ابن عباس ، والحسن ، وقتادة .
الثاني : لا يخاف ظلماً بأن لا يجزى بعمله ، ولا هضماً بالانتقاص من حقه ، قاله ابن زيد ، والفرق بين الظلم والهضم أن الظلم المنع من الحق كله ، [ والهضم ] المنع من بعضه ، والهضم ظلم وإن افترقا من وجه ، قال المتوكل الليثي :
إن الأذلة واللئام لمعشر ... مولاهم المتهضم المظلوم


وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (113) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114)

قوله تعالى : { أوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : حذراً ، قاله قتادة .
الثاني : شرفاً لإِيمانهم ، قاله الضحاك .
الثالث : ذِكراً يعتبرون به .
قوله تعالى : { . . . . وَلاَ تَعْجَل بِالْقُرءَانِ } الآية . فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : لا تسأل إنزاله قبل أن يقضى ، أي يأتيك وحيه .
الثاني : لا تلقه إلى الناس قبل أن يأتيك بيان تأويله ، قاله عطية .
الثالث : لا تعجل بتلاوته قبل أن يفرغ جبريل من إبلاغه ، لأنه كان يعجل بتلاوته قبل أن يفرغ جبريل من إبلاغه خوف نسيانه ، قاله الكلبي .
{ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً } يحتمل أربعة أوجه :
أحدها : زدني أدباً في دينك ، لأن ما يحتاج إليه من علم دينه لنفسه أو لأمته لا يجوز أن يؤخره الله عنده حتى يلتمسه منه .
الثاني : زدني صبراً على طاعتك وجهاد أعدائك ، لأن الصبر يسهل بوجود العلم .
الثالث : زدني علماً بقصص أنبيائك ومنازل أوليائك .
الرابع : زدني علماً بحال أمتي وما تكون عليه من بعدي .
ووجدت للكلبي جواباً .
الخامس : معناه : { وَقُل رَّبِّ زَدِنِي عِلْماً } لأنه كلما ازداد من نزول القرآن عليه ازداد علماً به .


وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (116) فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117) إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120) فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122)

قوله تعالى : { وَلَقَدْ عَهِدْنآ إِلَى ءَادَمَ . . . } فيه تأويلان :
أحدهما : يعني فترك أمر ربه ، قاله مجاهد .
الثاني : أنه نسي من النسيان والسهو ، قال ابن عباس : إنما أخذ الإِنسان من أنه عهد إليه فنسي .
{ . . . وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : صبراً ، قاله قتادة .
الثاني : حفظاً قاله عطية .
الثالث : ثباتاً . قال ابن أمامة : لو قرنت أعمال بني آدم بحلم آدم لرجح حلمه على حلمهم ، وقد قال الله : { وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً } .
الرابع : عزماً في العودة إلى الذنب ثانياً .
قوله عز وجل : { فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى } يعني أنت وزوجك لأنهما في استواء العلة واحد . ولم يقل : فتشقيا لأمرين :
أحدهما : لأنه المخاطب دونها .
الثاني : لأنه الكادّ والكاسب لها ، فكان بالشقاء أخص .


قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126)

قوله تعالى : { فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ } وعمل بما فيه { فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى } لا يضل في الدنيا ولا يشقى .
قال ابن عباس : ضمن الله لمن يقرأ القرآن ويعمل بما فيه ألاّ يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة .
{ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : كسباً حراماً ، قاله عكرمة .
الثاني : أن يكون عيشه منغَّصاً بأن ينفق من لا يوقن بالخلف ، قاله ابن عباس .
الثالث : أنه عذاب القبر ، قاله ابو سعيد الخدري وابن مسعود وقد رفعه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم .
الرابع : أنه الطعام الضريع والزقوم في جهنم ، قاله الحسن ، وقتادة ، وابن زيد . والضنك في كلامهم الضيق قال ، عنترة :
إن المنية لو تمثل مثلت ... مثلي إذا نزلوا بضنك المنزل
ويحتمل خامساً : أن يكسب دون كفايته .
{ وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : أعمى في حال ، وبصير في حال .
الثاني : أعمى عن الحجة ، قاله مجاهد .
الثالث : أعمى عن وجهات الخير لا يهتدي لشيء منها .


وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127) أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (128) وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130)

قوله عز وجل : { وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ } فيه وجهان :
أحدهما : بأن جعل الجزاء يوم القيامة ، قاله ابن قتيبة .
الثاني : بتأخيرهم إلى يوم بدر . { لَكَاَن لِزَاماً } فيه وجهان :
أحدهما : لكان عذاباً لازماً .
الثاني : لكان قضاء ، قاله الأخفش .
{ وَأَجَلٌ مُسَمّىً } فيه وجهان :
أحدهما : يوم بدر .
والثاني : يوم القيامة ، قاله قتادة . وقال في الكلام تقديم وتأخير ، وتقديره : ولولا كلمة وأجل مسمى لكان لزاماً .
قوله تعالى : { فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ } يعني من الإِيذاء والافتراء .
{ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا } قبل طلوع الشمس صلاة الفجر ، وقبل غروبها صلاة العصر .
{ وَمِنْ ءَانآءِ اللَّيْلِ . . . } ساعاته ، وأحدها إنىً ، وفيه وجهان :
أحدهما : هي صلاة الليل كله ، قاله ابن عباس .
الثاني : هي صلاة المغرب والعشاء والآخرة .
{ . . . أَطْرَافِ النَّهَارِ } فيه وجهان :
أحدهما : صلاة الفجر لأنها آخر النصف الأول ، وأول النصف الثاني : قاله قتادة .
الثاني : أنها صلاة التطوع ، قاله الحسن .
{ لَعَلّكَ تَرْضَى } أي تعطى ، وقرأ عاصم والكسائي { تُرضى } بضم التاء يعني لعل الله يرضيك بكرامته ، وقيل بالشفاعة .


وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132)

قوله عز وجل : { وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ . . . } فيه وجهان :
أحدهما : أنه أراد بمد العين النظر .
الثاني : أراد به الأسف .
{ أَزْوَاجاً } أي أشكالاً ، مأخوذ من المزاوجة .
{ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } قال قتادة : زينة الحياة الدنيا .
{ لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ } يعني فيما متعاناهم به من هذه الزهرة ، وفيه وجهان :
أحدهما : لنفتنهم أي لنعذبهم به ، قاله ابن بحر .
الثاني : لنميلهم عن مصالحهم وهو محتمل .
{ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى } فيه وجهان :
أحدهما : أنه القناعة بما يملكه والزهد فيما لا يملكه .
الثاني : وثواب ربك في الآخرة خير وأبقى مما متعنا به هؤلاء في الدنيا .
ويحتمل ثالثاً : أن يكون الحلال المُبْقِي خيراً من الكثير المُطْغِي .
وسبب نزولها ما رواه أبو رافع أن النبي صلى الله عليه وسلم استلف من يهودي طعاماً فأبى أن يسلفه إلا برهن ، فحزن وقال : « إني لأمين في السماء وأمين في الأرض ، أحمل درعي إليه » فنزلت هذه الآية .
وروى أنه لما نزلت هذه الآية أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مناديه فنادى : من لم يتأدب بأدب الله تعالى تقطعت نفسه على الدنيا حسرات .
قوله عز وجل : { وَأْمُرْ أَهْلََكَ بِالصَّلاَةِ } فيه وجهان :
أحدهما : أنه أراد أهله المناسبين له .
والثاني : أنه أراد جميع من اتبعه وآمن به ، لأنهم يحلون بالطاعة له محل أهله .
{ وَاصْطَبِرْ عَلَيهَا } أي اصبر على فعلها وعلى أمرهم بها .
{ وَلاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ } هذا وإن كان خطاباً للنبي صلى الله عليه وسلم فالمراد به جميع الخلق أنه تعالى يرزقهم ولا يسترزقهم ، وينفعهم ولا ينتفع بهم ، فكان ذلك أبلغ في الامتنان عليهم .
{ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى } أي وحسن العاقبة لأهل التقوى .


وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى (133) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (134) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى (135)

{ قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ } أي منتظر ، ويحتمل وجهين :
أحدهما : منتظر النصر على صاحبه .
الثاني : ظهور الحق في عمله .
{ فَتَرَبَّصُواْ } وهذا تهديد .
{ فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى } يحتمل وجهين :
أحدهما : فستعلمون بالنصر من أهدى إلى دين الحق .
الثاني : فستعلمون يوم القيامة من أهدى إلى طريق الجنة ، والله أعلم . .


اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3) قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4) بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5) مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6)

قوله عز وجل : { اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ } أي اقترب منهم ، وفيه قولان :
أحدهما : قرب وقت عذابهم ، يعني أهل مكة ، لأنهم استبطؤواْ ما وُعِدواْ به من العذاب تكذيباً ، فكان قتلهم يوم بدر ، قاله الضحاك .
الثاني : قرب وقت حسابهم وهو قيام الساعة .
وفي قربه وجهان :
أحدهما : لا بُد آت ، وكل آت قريب .
الثاني : لأن الزمان لكثرة ما مضى وقلة ما بقي قريب .
{ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ } يحتمل وجهين :
أحدهما : في غفلة بالدنيا معرضون عن الآخرة .
الثاني : في غفلة بالضلال ، معرضون عن الهدى .
قوله تعالى : { مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ } التنزيل مبتدأ التلاوة لنزوله سورة بعد سورة . وآية بعد آية ، كما كان ينزله الله عليه في وقت بعد وقت .
{ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ } أي استمعوا تنزيله فتركوا قبوله .
{ وَهُمْ يَلْعَبُونَ } فيه وجهان :
أحدهما : أي يلهون .
الثاني : يشتغلون . فإن حمل تأويله على اللهو احتمل ما يلهون به وجهين : أحدهما : بلذاتهم .
الثاني : بسماع ما يتلى عليهم .
وإن حمل تأويله على الشغل احتمل ما يشتغلون به وجهين : أحدهما : بالدنيا ، لأنها لعب كما قال تعالى : { إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ } [ الحديد : 20 ] .
الثاني : يتشاغلون بالقَدْحِ فيه والاعتراض عليه .
قال الحسن : كلما جدد لهم الذكر استمروا على الجهل .
قوله عز وجل : { لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ } فيه وجهان :
أحدهما : يعني غافله باللهو عن الذكر ، قاله قتادة .
الثاني : مشغلة بالباطل عن الحق ، قاله ابن شجرة ، ومنه قول امرىء القيس :
فمثلك حبلى قد طرقت ومرضع ... فألهيتها عن ذي تمائم محوِلِ
أي شغلتها عن ولدها .
ولبعض أصحاب الخواطر وجه ثالث : أنها غافلة عما يراد بها ومنها .
{ وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ } فيه وجهان :
أحدهما : ذكره ابن كامل أنهم أخفوا كلامهم الذي يتناجون به ، قاله الكلبي .
الثاني : يعني أنهم أظهروه وأعلنوه ، وأسروا من الأضداد المستعملة وإن كان الأظهر في حقيقتها أن تستعمل في الإِخفاء دون الإِظهار إلا بدليل .
{ هَلْ هَذَآ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ } إنكاراً منهم لتميزه عنهم بالنبوة .
{ أَفَتأتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ } ويحتمل وجهين :
أحدهما : أفتقبلون السحر وأنتم تعلمون أنه سحر .
الثاني : أفتعدلون إلى الباطل وأنتم تعرفون الحق .
قوله تعالى : { بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أهاويل أحلام رآها في المنام ، قاله مجاهد .
الثاني : تخاليط أحلام رآها في المنام ، قاله قتادة ، ومنه قول الشاعر :
كضعث حلمٍ غُرَّ منه حالمه . ... الثالث : أنه ما لم يكن له تأويل ، قاله اليزيدي .
وفي الأحلام تأويلان :
أحدهما : ما لم يكن له تأويل ولا تفسير ، قاله الأخفش .
الثاني : إنها الرؤيا الكاذبة ، قاله ابن قتيبة ، ومنه قول الشاعر :
أحاديث طسم أو سراب بفدفَدٍ ... ترقوق للساري وأضغاث حالم


وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7) وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (8) ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9)

قوله عز وجل : { فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ } الآية . فيهم ثلاثة أوجه :
أحدها : أهل التوراة والإِنجيل ، قاله الحسن ، وقتادة .
الثاني : أنهم علماء المسلمين ، قاله علي رضي الله عنه .
الثالث : مؤمنو أهل الكتاب ، قاله ابن شجرة .
قوله تعالى : { وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً . . . } الآية . فيه وجهان :
أحدهما : معناه وما جعلنا الأنبياء قبلك أجساداً لا يأكلون الطعام ولا يموتون فنجعلك كذلك ، وذلك لقولهم : { مَا هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ } [ المؤمنون : 24 ] قاله ابن قتيبة .
الثاني : إنما جعلناهم جسداً يأكلون الطعام وما كانواْ خالدين ، فلذلك جعلناك جسداً مثلهم ، قاله قتادة .
قال الكلبي : أو الجسد هو الجسد الذي فيه الروح ويأكل ويشرب ، فعلى مقتضى هذا القول يكون ما لا يأكل ولا يشرب جسماً . وقال مجاهد : الجسد ما لا يأكل ولا يشرب ، فعلى مقتضى هذا القول يكون ما يأكل ويشرب نفساً .


لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (10) وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (12) لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14) فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ (15)

قوله تعالى : { لَقَدْ أَنزَلنا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ } الآية . فيه خمسة تأويلات :
أحدها : فيه حديثكم ، قاله مجاهد .
الثاني : مكارم أخلاقكم ومحاسن أعمالكم ، قاله سفيان .
الثالث : شرفكم إن تمسكتم به وعملتم بما فيه ، قاله ابن عيسى .
الرابع : ذكر ما تحتاجون إليه من أمر دينكم .
الخامس : العمل بما فيه حياتكم ، قاله سهل بن عبدالله .
قوله تعالى : { فَلَمَّآ أَحَسُّواْ بَأْسَنآ } أي عيانواْ عذابنا .
{ إِذَا هُم مِّنْهَا يَرْكُضُونَ } فيه وجهان :
أحدهما : من القرية .
الثاني : من العذاب ، والركض : الإِسراع .
قوله تعالى : { لاَ تَرْكُضُواْ وَارْجِعُواْ إِلى مَآ أُتْرِفْتُمْ فِيهِ } أي نعمكم ، والمترف المنعم .
{ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : لعلكم تسألون عن دنياكم شيئاً ، استهزاء بهم ، قاله قتادة .
الثاني : لعلكم تقنعون بالمسألة ، قاله مجاهد .
الثالث : لتسألوا عما كنتم تعملون ، قاله ابن بحر .
قوله تعالى : { فَمَا زَالَت تِّلْكَ دَعْوَاهُمْ } يعني ما تقدم ذكره من قولهم { يا ويلنا إنا كنا ظالمين } .
{ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ } فيه قولان : أحدهما : بالعذاب ، قاله الحسن .
الثاني : بالسيف ، قال مجاهد : حتى قتلهم بختنصر .
والحصيد قطع الاستئصال كحصاد الزرع . والخمود : الهمود كخمود النار إذا أطفئت ، فشبه خمود الحياة بخمود النار ، كما يقال لمن مات قد طفىء تشبيهاً بانطفاء النار .


وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18) وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20)

قوله تعالى : { لَوْ أَرَدْنَا أَن نَتَّخِذَ لَهْواً } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : ولداً ، قاله الحسن .
الثاني : أن اللهو النساء ، قاله مجاهد . وقال قتادة : اللهو بلغة اهل اليمن المرأة . قال ابن جريج : لأنهم قالواْ : مريم صاحبته وعيسى ولده .
الثالث : أنه اللهو الذي هو داعي الهوى ونازع الشهوة ، كما قال الشاعر :
ويلعينني في اللهو أن لا أحبه ... وللهو داعٍ لبيب غير غافلِ
{ لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّآ } أي من عندنا إن كنا فاعلين . قال ابن جريج : لاتخذنا نساء وولداً من أهل السماء وما اتخذنا من أهل الأرض .
{ إِن كُنََّا فَاعِلِينَ } فيه وجهان :
أحدهما : وما كنا فاعلين ، قاله ابن جريج .
الثاني : أنه جاء بمعنى الشرط ، وتقدير الكلام لو كنا لاتخذناه بحيث لا يصل علمه إليكم .
قوله تعالى : { بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن الحق الكلام المتبوع ، والباطل المدفوع . ومعنى يدمغه أي يذهبه ويهلكه كالمشجوج تكون دامغة في أم رأسه تؤدي لهلاكه .
الثاني : أن الحق القرآن ، والباطل إبليس .
الثالث : أن الحق المواعظ والباطل المعاصي ، قاله بعض أهل الخواطر .
ويحتمل رابعاً : أن الحق الإِسلام ، والباطل الشرك .
{ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ } فيه وجهان :
أحدهما : هالك ، قاله قتادة .
الثاني : ذاهب ، قاله ابن شجرة .
قوله عز وجل : { وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : لا يملون ، قاله ابن زيد .
الثاني : لا يعيون ، قاله قتادة .
الثالث : لا يستنكفون ، قاله الكلبي .
الرابع : لا ينقطعون ، مأخوذ من الحسير وهو البعير المنقطع بالإِعياء ، قال الشاعر :
بها جيف الحسرى فأما عظامها ... فبيض وأما جلدها فصليب


أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)

قوله تعالى : { أَمِ اتَّخَذُواْ ءَالِهَةً مِّنَ الأَرْضِ } أي مما خلق في الأرض .
{ هُمُ يُنشِرُونَ } فيه قولان :
أحدهما : يخلقون ، قاله قطرب .
الثاني : قاله مجاهد ، يحيون ، يعني الموتى ، يقال : أنشر الله الموتى فنشروا أي أحياهم فحيوا ، مأخوذ من النشر بعد الطي ، قال الشاعر :
حتى يقول الناس مما رأوا ... يا عجباً للميت الناشِر
قوله تبارك وتعالى : { لَوْ كَانَ فِيهِمآ } يعني في السماء والأرض .
{ ءَالهِةٌ إِلاَّ اللَّهُ } فيه وجهان :
أحدهما : معناه سوى الله ، قاله الفراء .
الثاني : أن « إلا » الواو ، وتقديره : لو كان فيهما آلهة والله لفسدتا ، أي لهلكتا بالفساد فعلى الوجه الأول يكون المقصود به إبطال عباد غيره لعجزه عن أن يكون إلهاً لعجزه عن قدرة الله ، وعلى الوجه الآخر يكون المقصود به إثبات وحدانية الله عن أن يكون له شريك يعارضه في ملكه .
قوله عز وجل : { لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : لا يسأل الخلق الخالق عن قضائه في خلقه ، وهو يسأل الخلق عن عملهم ، قاله ابن جريج .
الثاني : لا يسأل عن فعله ، لأن كل فعله صواب وهولا يريد عليه الثواب ، وهم يسألون عن أفعالهم ، لأنه قد يجوز أن تكون في غير صواب ، وقد لا يريدون بها الثواب إن كانت صواباً فلا تكون عبادة ، كما قال تعالى : { ليسأل الصادقين عن صدقهم } [ الأحزاب : 8 ] .
الثالث : لا يُحْاسَب على أفعاله وهم يُحْسَبُونَ على أفعالهم ، قاله ابن بحر .
ويحتمل رابعاً : لا يؤاخذعلى أفعاله وهم يؤاخذون على أفعالهم .


أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29)

قوله تعالى : { هذا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي } فيه وجهان :
أحدهما : هذا ذكر من معي بما يلزمهم من الحلال والحرام ، وذكر من قبلي ممن يخاطب من الأمم بالإِيمان ، وهلك بالشرك ، قاله قتادة .
الثاني : ذكر من معي بإخلاص التوحيد في القرآن ، وذكر من قبلي في التوراة والإِنجيل ، حكاه ابن عيسى .
قوله تعالى : { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ } فيه وجهان :
أحدهما ما بين أيديهم من أمر الآخرة ، وما خلفهم من أمر الدنيا ، قاله الكلبي .
الثاني : ما قدموا وما أخروا من عملهم ، قاله ابن عباس .
وفيه الثالث : ما قدموا : ما عملوا ، وما أخروا : يعني ما لم يعملوا ، قاله عطية .
{ وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى } فيه وجهان :
أحدهما : لا يستغفرون في الدنيا إلا لمن ارتضى .
الثاني : لا يشفعون يوم القيامة إلا لمن ارتضى .
وفيه وجهان :
أحدهما : لمن ارتضى عمله ، قاله ابن عيسى .
الثاني : لمن رضي الله عنه ، قاله مجاهد .


أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30) وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33)

قوله عز جل : { أَنَّ السَّموَاتِ وَألأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : أن السموات والأرض كانتا ملتصقتين ففتق الله بينهما بالهواء ، قاله ابن عباس .
الثاني : أن السموات كانت مرتتقة مطبقة ففتقها الله سبع سموات وكانت الأرض كذلك ففتقها سبع أرضين ، قاله مجاهد .
الثالث : أن السموات كانت رتقاً لا تمطر ، والأرض كانت رتقاً لا تنبت ، ففتق السماء بالمطر ، والأرض بالنبات ، قاله عكرمة ، وعطية ، وابن زيد .
والرتق سدُّ ، والفتق شق ، وهما ضدان ، قال عبد الرحمن بن حسان :
يهون عليهم إذا يغضبو ... ن سخط العداة وإرغامُها
ورتق الفتوق وفتق الرتو ... ق ونقض الأمور وإبرامها
{ وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن خلق كل شيء من الماء ، قاله قتادة .
الثاني : حفظ حياة كل شيء حي بالماء ، قاله قتادة .
الثالث : وجعلنا من ماء الصلب كل شيء حي ، قاله قطرب .
{ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ } يعني أفلا يصدقون بما يشاهدون .
قوله تعالى : { وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ } والرواسي الجبال ، وفي تسميتها بذلك وجهان :
أحدهما : لأنها رست في الأرض وثبتت ، قال الشاعر :
رسا أصله تحت الثرى وسما به ... إلى النجم فرعٌ لا يزال طويل
الثاني : لأن الأرض بها رست وثبتت . وفي الرواسي من الجبال قولان :
أحدهما : أنها الثوابت : قاله قطرب .
الثاني : أنها الثقال قاله الكلبي .
{ أَن تَمِيدَ بِهِم } فيه وجهان :
أحدهما : لئلا تزول بهم .
الثاني : لئلا تضطرب بهم . الميد الاضطراب .
{ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً } في الفجاج وجهان : أحدهما : أنها الأعلام التي يهتدى بها .
الثاني : الفجاج جمع فج وهو الطريق الواسع بين جبلين . قال الكميت :
تضيق بنا النجاح وهنّ فج ... ونجهل ماءها السلم الدفينا
{ لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ } فيه وجهان :
أحدهما : سبل الاعتبار ليهتدوا بالاعتبار بها إلى دينهم .
الثاني : مسالك ليهتدوا بها إلى طرق بلادهم .
قوله تعالى : { وَجَعَلْنَا السَّمَآءَ سَقْفاً مَّحْفُوظاً } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : محفوظاً من أن تسقط على الأرض .
الثاني : محفوظاً من الشياطين ، قاله الفراء .
الثالث : بمعنى مرفوعاً ، قاله مجاهد .
ويحتمل رابعاً : محفوظاً من الشرك والمعاصي .
قوله عز وجل : { وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ والْقَمَرَ كُلٌّ في فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } فيه قولان :
أحدهما : أن الفلك السماء ، قاله السدي .
الثاني : أن القطب المستدير الدائر بما فيه من الشمس والقمر والنجوم ومنه سميت فلكة المغزل لاستدارتها ، قال الشاعر :
باتت تقاسي الفلك الدّوار ... حتى الصباح تعمل الأقتار
وفي استدارة الفلك قولان :
أحدهما : أنه كدوران الأكرة .
الثاني : كدوران الرحى قاله الحسن ، وابن جريج .
واختلف في الفلك على ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه السماء تدور بالشمس والقمر والنجوم .
الثاني : أنه استدارة في السماء تدور فيها النجوم مع ثبوت السماء ، قاله قتادة .
الثالث : أنها استدارة بين السماء والأرض تدور فيها النجوم ، قاله زيد بن أسلم .
{ يَسْبَحُونَ } وجهان :
أحدهما : يجرون ، قاله مجاهد .
الثاني : يدورون قاله ابن عباس ، فعلى الوجه الأول يكون الفلك مديرها ، وعلى الثاني تكون هي الدائرة في الفلك .


وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35)

قوله عز وجل : { وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً } فيها أربعة أوجه :
أحدها : بالشدة والرخاء ، قاله ابن عباس .
الثاني : أن الشر : الفقر والمرض ، والخير الغنى والصحة ، قاله الضحاك .
الثالث : أن الشر : غلبة الهوى على النفس ، والخير : العصمة من المعاصي ، قاله التستري .
الرابع : ما تحبون وما تكرهون . لنعلم شكركم لما تحبون ، وصبركم على ما تكرهون ، قاله ابن زيد .
{ فِتْنَةً } فيه وجهان : أحدهما : اختباراً . الثاني : ابتلاء .


وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (36) خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (40)

قوله عز وجل : { خُلِقَ الإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ } فيه قولان :
أحدهما : أن المعنيّ بالإِنسان آدم ، فعلى هذا في قوله : { مِنْ عَجَلٍ } ثلاثة تأويلات :
أحدها : أي معجل قبل غروب الشمس من يوم الجمعة وهو آخر الأيام الستة ، قاله مجاهد والسدي .
الثاني : أنه سأل ربه بعد إكمال صورته ونفخ الروح في عينيه ولسانه أن يعجل إتمام خلقه وإجراء الروح في جميع جسده ، قاله الكلبي .
الثالث : أن معنى { من عجل } أي من طين ، ومنه قول الشاعر :
والنبع في الصخرة الصماء منبته ... والنخل ينبت بين الماء والعجل
والقول الثاني : أن المعنى بالإِنسان الناس كلهم ، فعلى هذا في قوله : { من عجل } ثلاثة تأويلات :
أحدها : يعني خلق الإِنسان عجولاً ، قاله قتادة .
الثاني : خلقت العجلة في الإِنسان قاله ابن قتيبة .
الثالث : يعني أنه خلق على حُب العجلة .
والعجلة تقديم الشيء قبل وقته ، والسرعة تقديمه في أول أوقاته .


وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (41) قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43)

قوله عز وجل : { قُلْ مَن يَكْلُؤُكُم . . . } الآية . أي يحفظكم ، قال ابن هرمة :
إن سليمى والله يكلؤها ... ضنت بشيء ما كان يرزؤها
ومخرج اللفظ مخرج الاستفهام ، والمراد به النفي ، تقديره : قل لا حافظ لكم بالليل والنهار من الرحمن . قوله تعالى : { . . وَلاَ هُم مِّنَّا يُصْحَبُونَ } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : يجارون ، قاله ابن عباس ، من قولهم : إن لك من فلان صاحباً ، أي مجيراً ، قال الشاعر :
ينادي بأعلى صوته متعوذاً ... ليصحب منها والرماح دواني
الثاني : يحفظون ، قاله مجاهد .
الثالث : ينصرون ، وهو مأثور .
الرابع : ولا يصحبون من الله بخير ، قاله قتادة .


بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (44) قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ (45) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (46) وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47)

قوله تعالى : { نأَتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا } فيه أربعة أوجه :
أحدها : ننقصها من أطرافها عند الظهور عليها أرضاً بعد أرض وفتحها بلداً بعد بلد ، قاله الحسن .
الثاني : بنقصان أهلها وقلة بركتها ، قاله ابن أبي طلحة .
الثالث : بالقتل والسبي ، حكاه الكلبي .
الرابع : بموت فقهائها وعلمائها ، قاله عطاء ، والضحاك .
ويحتمل خامساً : بجور ولاتها وأمرائها .


وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50)

قوله تعالى : { وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : التوراة التي فرق فيها بين الحق والباطل ، قاله مجاهد ، وقتادة .
الثاني : هو البرهان الذي فرق بين حق موسى وباطل فرعون ، قاله ابن زيد .
الثالث : هو النصر والنجاة فنصر موسى وأشياعه ، وأهلك فرعون وأتباعه قال الكلبي .


وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56)

قوله عز وجل : { وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ } فيه وجهان :
أحدهما : رشْده : النبوة ، حكاه ابن عيسى .
الثاني : هو أن هداه صغيراً ، قاله مجاهد ، وقتادة .
{ مِن قَبْلُ } فيه وجهان :
أحدهما : من قبل أن يرسل نبياً .
الثاني : من قبل موسى وهارون .
{ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ } فيه وجهان :
أحدهما : عالمين أنه أهل لإِيتاء الرشد .
الثاني : أنه يصلح للنبوة .


وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63)

قوله تعالى : { فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً } قراءة الجمهور بضم الجيم ، وقرأ الكسائي وحده بكسرها ، وفيه وجهان :
أحدهما : حُطاماً ، قاله ابن عباس ، وهو تأويل من قرأ بالضم .
الثاني : قِطعاً مقطوعة ، قال الضحاك : هو أن يأخذ من كل عضوين عضواً ويترك عضواً وهذا تأويل من قرأ بالكسر ، مأخوذ من الجذ وهو القطع ، قال الشاعر :
جَّذذ الأصنام في محرابها ... ذاك في الله العلي المقتدر
{ قَالُواْ فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ } أي بمرأى من الناس .
{ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : يشهدون عقابه ، قاله ابن عباس .
الثاني : يشهدون عليه بما فعل ، لأنهم كرهواْ أن يعاقبوه بغير بينة ، قاله الحسن ، وقتادة ، والسدي .
الثالث : يشهدون بما يقول من حجة ، وما يقال له من جواب ، قاله ابن كامل .
قوله تعالى : { قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ } الآية . فيه وجهان :
أحدهما : بل فعله كبيرهم إن كانوا ينطقون فاسألوهم ، فجعل إضافة الفعل إليهم مشروطاً بنطقهم تنبيهاً لهم على فساد اعتقادهم .
الثاني : أن هذا القول من إبراهيم سؤال إلزام خرج مخرج الخبر وليس بخبر ، ومعناه : أن من اعتقد أن هذه آلهة لزمه سؤالها ، فلعله فعله [ كبيرهم ] فيجيبه إن كان إلهاً ناطقاً .
{ إِن كَانُواْ يَنطِقُونَ } أي يخبرون ، كما قال الأحوص :
ما الشعر إلا خطبةٌ من مؤلفٍ ... لمنطق حق أو لمنطق باطل


فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65) قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67)

قوله تعالى : { فَرَجَعُواْ إِلَى أَنفُسِهِمْ } فيه وجهان :
أحدهما : أن رجع بعضهم إلى بعض .
الثاني : أن رجع كل واحد منهم إلى نفسه متفكراً فيما قاله إبراهيم ، فحاروا عما أراده من الجواب فأنطقهم الله تعالى الحق { فَقَالُواْ : إِنَّكم أَنتُمُ الظَّالِمُونَ } يعني في سؤاله ، لأنها لو كانت آلهة لم يصل إبراهيم إلى كسرها ، ولو صحبهم التوفيق لآمنوا هذا الجواب لظهور الحق فيه على ألسنتهم .
{ ثُمَّ نُكِسُواْ عَلَى رُءوسِهِمْ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : معناه أنها رجعوا إلى شِركهم بعد اعترافهم بالحق .
الثاني : يعني أنهم رجعواْ إلى احتجاجهم على إبراهيم بقولهم : { لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هؤلآءِ يَنطِقُونَ } .
الثالث : أنهم نكسواْ على رؤوسهم واحتمل ذلك منهم واحداً من أمرين : إما انكساراً بانقطاع حجتهم ، وإما فكراً في جوابهم فأنطقهم الله بعد ذلك بالحجة إذعاناً لها وإقراراً بها ، بقولهم : { لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هؤُلآءِ يَنطِقُونَ } فأجابهم إبراهيم بعد اعترافهم بالحجة .


قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70)

{ قَالُواْ حَرِّقُوهُ وَانْصُرُواْ ءَالِهَتَكُمْ إِن كُنْتُمْ فَاعِلِينَ } وفي الذي أشارعليهم بذلك قولان :
أحدهما : أنه رجل من أعراب فارس يعني أكراد فارس ، قاله ابن عمر ، ومجاهد . وابن جريج .
الثاني : أنه هيزون فخسف الله به الأرض وهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة . وقيل إن إبراهيم حين أوثق ليلقى في النار فقال : لا إله إلا أنت سبحانك رب العالمين ، لك الحمد ولك الملك لا شريك لك .
وقال عبد الله بن عمر : كانت كلمة إبراهيم حين أُلقي في النار : حسبي الله ونعم الوكيل .
قال قتادة : فما أحرقت النار منه إلا وثاقه .
قال ابن جريج : ألقي إبراهيم في النار وهو ابن ست وعشرين سنة .
وقال كعب : لم يبق في الأرض يومئذ إلا من يطفىء عن إبراهيم النار ، إلا الوزغ فإنها كانت تنفخ عليه ، فلذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلها .
قال الكلبي : بنواْ له أتوناً ألقوه فيه ، وأوقدوا عليه النار سبعة أيام ، ثم أطبقوه عليه وفتحوه من الغد ، فإذا هو عرق أبيض لم يحترق ، وبردت نار الأرض فما أنضجت يومئذ كراعاً .
قوله تعالى : { قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاَماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ } جعل الله فيها برداً يدفع حرها ، وحراً يدفع بردها ، فصارت سلاماً عليه .
قال أبو العالية : ولو لم يقل « سلاماً » لكان بردها أشد عليه من حرها ، ولو لم يقل « على إبراهيم » لكان بردها باقيا على الأبد .


وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73) وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74) وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75)

قوله تعالى : { وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً } قيل إن لوط كان ابن أخي إبراهيم فآمن به ، قال تعالى : { فَأَمَنَ لَهُ لُوطُ } [ العنكبوت : 26 ] فلذلك نجاهما الله .
{ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ } [ فيه ] ثلاثة أقاويل :
أحدها : من أرض العراق إلى أرض الشام قاله قتادة ، وابن جريج .
الثاني : إلى أرض بيت المقدس ، قاله أبو العوام .
الثالث : إلى مكة ، قاله ابن عباس .
وفي بركتها ثلاثة أقاويل : أحدها : أن منها بعث الله أكثر الأنبياء .
الثاني : لكثرة خصبها ونمو نباتها .
الثالث : عذوبة مائها وتفرقه في الأرض منها . قال أبو العالية : ليس ماء عذب إلا يهبط من السماء إلى الصخرة التي ببيت المقدس ، ثم يتفرق في الأرض .
قال كعب الأحبار ، والذي نفسي بيده إن العين التي بدارين لتخرج من تحت هذه الصخرة ، يعني عيناً في البحر .
قوله تعالى : { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً } فيها ثلاثة أوجه :
أحدها : أن النافلة الغنيمة ، قال لبيد :
لله نافلة الأفضل . ... الثاني : أن النافلة الابن ، حكاه السدي .
الثالث : أنها الزيادة في العطاء . وفيما هو زيادة قولان :
أحدهما : أن يعقوب هو النافلة ، لأنه دعا بالولد فزاده الله ولد الولد ، قاله ابن عباس وقتادة .
الثاني : أن إسحاق ويعقوب هما جميعاً نافلة ، لأنهما زيادة على ما تقدم من النعمة عليه ، قاله مجاهد ، وعطاء .
قوله وجل : { وَلُوطاً آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً } فيه تأويلان :
أحدهما : أنه القضاء بالحق بين الخصوم قاله ابن عيسى .
الثاني : النبوة ، قاله . . . . . . . .
{ عِلْمَاً } يعني فهماً .
{ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيةِ الَّتي كَانَت تَّعْمَلُ الْخَبَآئِثَ } وهي قرية سدوم .
وفي الخبائث التي كانوا يعملونها قولان :
أحدهما : اللواط .
الثاني : الضراط { ونجيناه } قيل من قلب المدائن ورمي الحجارة .


وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (77)

قوله تعالى : { وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِن قَبْلُ } يعني إذ دعانا على قومه من قبل إبراهيم .
{ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ } ويحتمل وجهاً آخر إذ نجيناه من أذية قومه حين أغرقهم الله .
ويحتمل ثالثاً : نجاته من مشاهدة المعاصي في الأرض بعد أن طهرها الله بالعذاب .
{ وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِأَيَاتِنَا } فيه وجهان :
أحدهما : نصرناه عليهم بإجابة دعائه فيهم . الثاني : معناه خلصناه منهم بسلامته دونهم .


وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79) وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81) وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82)

قوله عز وجل : { وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكَمَانِ فِي الْحَرْثِ } فيه قولان :
أحدها : أنه كان زرعاً وقعت فيه الغنم ليلاً ، قاله قتادة .
الثاني : كان كرماً نبتت عناقيده ، قاله ابن مسعود ، وشريح .
{ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ } قال قتادة : النفش رعي الليل ، والهمل : رعي النهار ، قال الشاعر :
متعلقة بأفناء البيوت ... ناقشاً في عشا التراب
{ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ } وفي حكمهما قولان :
أحدهما : أنه كان متفقاً لم يختلفا فيه ، لأن الله حين أثنى عليهم دل على اتقافهما في الصواب ويحتمل قوله تبارك وتعالى : { فَفَهَّمْنَاهَا } على أنه فضيلة له على داود لأنه أوتي الحكم في صغره ، وأوتي داود الحكم في كبره ، وإن اتفقا عليه ولم يختلفا فيه لأن الأنبياء معصومون من الغلط والخطأ لئلا يقع الشك في أمورهم وأحكامهم ، وهذا قول شاذ من المتكلمين .
والقول الثاني : وهو قول الجمهور من العلماء والمفسرين أن حكمهما كان مختلفاً أصاب فيه سليمان ، واخطأ داود ، فأما حكم سليمان فإنه قضى لصاحب الحرث ، وأما حكم سليمان فإنه رأى أن يدفع الغنم إلى صاحب الحرث لينتفع بدرّها ونسلها ، ويدفع الحرث إلى صاحب الغنم ليأخذ بعمارته ، فإذا عاد في السنة ابن مسعود ، ومجاهد . فرجع داود إلى قضاء سليمان فحكم به ، فقال الله تعالى : { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ } فجعل الحق معه وفي حكمه ، ولا يمتنع وجود الغلط والخطأ من الأنبياء كوجوده من غيرهم . لكن لا يقرون عليه وإن أقر عليه غيرهم ، ليعود الله بالحقائق لهم دون خلقه ، ولذلك تسمى بالحق وتميز به عن الخلق . واختلف القائلون بهذا في حمله على العموم في جميع الأنبياء على قولين :
أحدهما : أن نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم مخصوص منهم بجواز الخطأ عليهم دونه قاله أبو علي بن أبي هريرة رضي الله عنه ، وفرق بينه وبين غيره من جميع الأنبياء ، لأنه خاتم الأنبياء فلم يكن بعده من يستدرك غلطه ، ولذلك عصمه الله منه ، وقد بعث بعد غيره من الأنبياء مَنْ يستدرك غلطه .
والقول الثاني : أنه على العموم في جميع الأنبياء ، وأن نبينا وغيره من الأنبياء في تجويز الخطأ على سواء ، إلا أنهم لا يقرون على إمضائه ، فلم يعتبر فيه استدراك مَنْ بعدهم من الأنبياء ، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد سألته امرأة عن العدة ، فقال لها : « اعْتَدِّي حَيْثُ شِئْتِ » ثم قال : « يَا سُبْحَانَ اللَّهِ ، امْكُثِي فِي بَيتِكِ حَتَّى يَبْلُغَ الكِتَابُ أَجَلَهُ » وقال رجل : أرأيتَ إن قُتِلتُ صابراً محتسباً أيحجزني عن الجنة شيء؟ فقال : ( لاَ ) ، ثم دعاه فقال : « إِلاَّ الدَّينُ كَمَا أَخْبَرَنِي بِهِ جِبْرِيلُ » . ولا يوجد منه إلاّ ما جاز عليه .
ثم قال تعال : { وَكُلاًّ ءَاتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً } قال الحسن : لولا هذه الآية لرأيت أن القضاة قد هلكوا ، ولكنه أثنى على سليمان على صوابه وعذر داود باجتهاده .

فإن قيل : فكيف نقض داود حكمه باجتهاد سليمان؟ فالجواب عنه من وجهين :
أحدهما : يجوز أن يكون داود ذكر حكمه على الإِطلاق وكان ذلك منه على طريق الفتيا فذكره لهم ليلزمهم إياه ، فلما ظهر له ما هو أقوى في الاجتهاد منه عاد إليه .
الثاني : أنه يجوز أن يكون الله أوحى بهذا الحكم إلى سليمان فلزمه ذلك ، ولأجل النص الوارد بالوحي رأى أن ينقض اجتهاده ، لأن على الحاكم أن ينقض حكمه بالاجتهاد إذا خالف نصاً .
على أن العلماء قد اختلفوا في الأنبياء ، هل يجوز لهم الاجتهاد في الأحكام؟ فقالت طائفة يجوز لهم الاجتهاد لأمرين :
أحدهما : أن الاجتهاد في الاجتهاد فضيلة ، فلم يجز أن يحرمها الأنبياء .
الثاني : أن الاجتهاد أقوى فكان أحبها ، وهم [ في ] التزام الحكم به أولى ، وهذا قول من جوز من الأنبياء وجود الغلط .
وقال الآخرون : لا يجوز للأنبياء أن يجتهدوا في الأحكام ، لأن الاجتهاد إنما يلجأ إليه الحاكم لعدم النص ، والأنبياء لا يعدمون النص لنزول الوحي عليهم ، فلم يكن لهم الإجتهاد وهذا قول من قال بعصمة الأنبياء من الغلط والخطأ
فأما ما استقر عليه شرعنا فيما أفسدته البهائم من الزرع فقد روى سعيد بن المسيب أن ناقة البراء بن عازب دخلت حائطاً وأفسدته ، فقضى النبي صلى الله عليه وسلم على أهل المواشي بحفظ مواشيهم ليلاً ، وعلى أهل الحوائط بحفظ حوائطهم نهاراً ، فصار ما أفسدته البهائم بالليل مضموناً ، وما أفسدته نهاراً غير مضمون لأن حفظها شاق على أربابها ، ولا يشق عليهم حفظها نهاراً ، فصار الحفظ في الليل واجباً على أرباب المواشي فضمنوا ما أفسدته مواشيهم ، والحفظ في النهار واجباً على أرباب الزروع ، فلم يحكم لهم - مع تقصيرهم - بضمان زرعهم ، وهذا من أصح قضاء وأعدل حكم ، رفقاً بالفريقين ، وتسهيلاً على الطائفتين ، فليس ينافي هذا ما حكم داود [ به ] وسليمان عليهما السلام من أصل الضمان ، لأنهما حكما به في رعي الليل ، وإنما يخالف من صفته ، فإن الزرع في شرعنا مضمون لأنهما حكما بنقصانه من زائد وناقص ، ولا تعرض للبهائم المفسدة إذا وصل الضمان إلى المستحق .
ثم قال تعالى : { وَكُلاًّ ءَاتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً } يحتمل وجهين :
أحدهما : أنه أتى كل واحد منهما من الحكم والعلم مثل ما آتى الآخر وفي المراد بالحكم والعلم وجهان محتملان :
أحدهما : أن الحكم القضاء ، والعلم الفتيا .
الثاني : أن الحكم الاجتهاد ، والعلم النص .
قوله عز وجل : { وَسَخَّرْنَا مََعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ } يحتمل وجهين :
أحدهما : ذللنا .
الثاني : ألهمنا .
{ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ } وفي تسبيحها ثلاثة أوجه :
أحدها : أن سيرها معه هو تسبيحها ، قاله ابن عيسى ، والتسبيح مأخوذ من السباحة .
الثاني : أنها صلواتها معه ، قاله قتادة .
الثالث : أنه تسبيح مسموع كان يفهمه ، وهذا قول يحيى بن سلام .
قوله عز وجل : { وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ . . . } فيه وجهان :

أحدهما : اللبوس الدرع الملبوس ، قاله قتادة .
الثاني : أن جيمع السلاح لبوس عند العرب .
{ لِتُحْصِنَكُم مِّنْ بَأسِكُمْ } فيه وجهان :
أحدهما : من سلاحكم ، قاله ابن عباس .
الثاني : حرب أعدائكم ، قاله الضحاك . قوله عز وجل : { وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً } معناه وسخرنا لسليمان الريح ، والعصوف شدة حركتها والعصف التبن ، فسمي به شدة الريح لأنها تعصفه لشدة تكسيرها له .
{ تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا } هي أرض الشام ، وفي بركتها ثلاثة أقاويل :
أحدها : بمن بعث فيها من الأنبياء .
الثاني : أن مياه أنهار الأرض تجري منها .
الثالث : بما أودعها الله من الخيرات ، قاله قتادة : ما نقص من الأرض زيد في أرض الشام ، وما نقص من الشام زيد في فلسطين ، وكان يقال هي أرض المحشر والمنشر .
وكانت الريح تجري بسليمان وأصحابه إلى حيث شاء . قال مقاتل : وسليمان أول من استخرج اللؤلؤ بغوص الشياطين .


وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84)

قوله تعالى : { وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي } الآية . حكى الحسن البصري : أن أيوب آتاه الله مالاً وولداً فهلك ماله ، ومات أولاده ، فقال : ربِّ قد أَحْسَنْتَ إِليَّ الإِحسانَ كُلَّه ، كنتُ قبل اليوم شَغَلَنِي حُبُّ المالِ بالنهارِ ، وشَغَلَنِي حُبُّ الولدِ بالليلِ ، فالآن أُفَرِغُ لك سمعي وبصري وليلي ونهاري بالحمد والذكر فلم ينفذ لإِبليس فيه مكر ، ولا قدر له على فتنة ، فَبُلِي في بَدَنِهِ حتى قرح وسعى فيه الدود ، واشتد به البلاء حتى طرح على مزبلة بني إسرائيل ، ولم يبق أحد يدنو منه غير زوجته صبرت معه ، تتصدق وتطعمه ، وقد كان آمن به ثلاثة من قومه ، رفضوا عند بلائه ، وأيوب يزداد حمداً لله وذكراً ، وإبليس يجتهد في افتتانه فلا يصل إليه حتى شاور أصحابه ، فقالوا : أرأيت آدم حين أخرجته من الجنة من أين أتيته؟ قال : من قبل امرأته ، فقالوا شأنك أيوب من قبل امرأته قال : أصبتم فأتاها فذكر لها ضر أيوب بعد جماله وماله وولده ، فصرخت ، فطمع عدو الله فيها ، فأتاها بسخلة ، فقال ليذبح أيوب هذه السخلة لي ويبرأ ، فجاءت إلى أيوب فصرخت وقالت يا أيوب حتى متى يعذبك ربك ولا يرحمك؟ أين المال؟ أين الولد؟ أين لونك الحسن؟ قد بلى ، وقد تردد الدواب ، اذبح هذه السخلة واسترح . قال لها أيوب أتاك عدو الله فنفخ فيك فوجد فيك رفقاً فأجبتيه؟ أرأيت ما تبكين عليه من المال والولد والشباب والصحة من أعطانيه؟ فقالت الله ، قال : فكم متعنا به؟ قالت : ثمانين سنة ، قال : منذ كم ابتلانا الله بهذا البلاء؟ فقالت : منذ سبع سنين وأشهر قال : ويلك والله ما أنصفت ربك ، ألا صبرت حتى نكون في هذا البلاء ثمانين سنة والله لئن شفاني الله لأجلدنك مائة جلدة ، ثم طردها وقال : ما تأتيني به عليَّ حرام إن أكلته ، فيئس إبليس من فتنته .
ثم بقي أيوب وحيداً فخر ساجداً وقال : ربِّ ،
{ مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأنتَ أرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } وفيه خمسة أوجه :
أحدها : أن الضر المرض ، قاله قتادة .
الثاني : أنه البلاء الذي في جسده ، قاله السدّي ، حتى قيل إن الدودة كانت تقع من جسده فيردها في مكانها ويقول : كلي مما رزقك الله .
الثالث : أنه الشيطان كما قال في موضع آخر { أنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بنُصُبٍ وَعَذَابٍ } [ ص : 41 ] قاله الحسن .
الرابع : أنه وثب ليصلي فلم يقدر على النهوض ، فقال : مسني الضر ، إخباراً عن حاله ، لا شكوى لبلائه ، رواه أنس مرفوعاً .
الخامس : أنه انقطع الوحي عنه أربعين يوماً فخاف هجران ربه ، فقال : مسني الضر ، وهذا قول جعفر الصادق رحمه الله .
وفي مخرج قوله : { مَسَّنِيَ الضُّرُّ } أربعة أوجه :
أحدها : أنه خارج مخرج الاستفهام ، وتقديره أيمسني الضر وأنت أرحم الراحمين .
الثاني : أنت أرحم بي أن يمسني الضر .

الثالث : أنه قال [ ذلك ] استقالة من ذنبه ورغبة إلى ربه .
الرابع : أنه شكا ضعفه وضره استعطافاً لرحمته ، فكشف بلاءه فقيل له : { ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ } [ ص : 42 ] فركض برجله فنبعت عين ، فاغتسل منها وشرب فذهب باطن دائه وعاد إليه شبابه وجماله ، وقام صحيحاً ، وضاعف الله له ما كان من أهل ومال وولده .
ثم إن امرأته قالت : إن طردني فإلى من أكلِه؟ فَرَجَعَتْ فلم تَرَهُ ، فجعلت تطوف وتبكي ، وأيوب يراها وتراه فلا تعرفه فلما سألته عنه وكلمته فعرفته ، ثم إن الله رحمها لصبرها معه على البلاء ، فأمره أن يضربها بضِغث ليبّر في يمينه ، قاله ابن عباس . وكانت امرأته ماخيرا بنت ميشا بن يوسف بن يعقوب .
{ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وءَاتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ } .
قال ابن مسعود : رد الله إليه أهله الذين أهلكهم بأعيانهم ، وأعطاه مثلهم معهم . قال الفراء كان لأيوب سبع بنين وسبع بنات فماتواْ في بلائه ، فلما كشف الله ضره رَدّ عليه بنيه وبناته وولد له بعد ذلك مثلهم ، قال الحسن : وكانوا ماتوا قبل آجالهم فأحياهم الله فوفاهم آجالهم ، وأن الله أبقاه حتى أعطاهم من نسلهم مثلهم .


وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86)

قوله تعالى : { وَذَا الْكِفْلِ } فيه قولان :
أحدهما : أنه لم يكن نبياً وكان عبداً صالحاً كُفِلَ لنبي قيل إنه اليسع بصيام النهار وقيام الليل ، وألا يغضب ، ويقضي بالحق ، فوفى به فأثنى الله عليه ، قاله أبو موسى ، ومجاهد ، وقتادة .
الثاني : أنه كان نبياً كفل بأمر فوفى به ، قاله الحسن .
وفي تسميته بذي الكفل ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه كان . . . .
الثاني : لأنه كفل بأمر فوفى به .
الثالث : لأن ثوابه ضعف ثواب غيره ممن كان في زمانه .


وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)

قوله تعالى : { وَذَا النُّونِ } وهو يونس بن متى ، سمي بذلك لأنه صاحب الحوت ، كما قال تعالى : { فَلاَ تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ } [ القلم : 48 ] والحوت النون ، نسب إليه لأنه ابتلعه ، ومنه قول الشاعر :
يا جيد القصر نِعم القصر والوادي ... وجيداً أهله من حاضر بادي
توفي قراقره والوحش راتعه ... والضب والنون والملاح والحادي
يعني أنه يجتمع فيه صيد البر والبحر ، وأهل المال والظهر ، وأهل البدو والحضر .
{ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : يعني مراغماً للملك وكان اسمه حزقيا ولم يكن به بأس ، حكاه النقاش .
الثاني : مغاضباً لقومه ، قاله الحسن .
الثالث : مغاضباً لربه ، قاله الشعبي ، ومغاضبته ليست مراغمة ، لأن مراغمة الله كفر لا تجوز على الأنبياء ، وإنما هي خروجه بغير إذن ، فكانت هي معصيته .
وفي سبب ذهابه لقومه وجهان :
أحدهما : أنه كان في خُلُقِه ضيق ، فلما حملت عليه أثقال النبوة ضاق ذرعه بها ولم يصبر لها ، وكذلك قال الله : { فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُل } [ الأحقاف : 35 ] قاله وهب .
الثاني : أنه كان من عادة قومه أن من كذب قتلوه ، ولم يجربواْ عليه كذباً ، فلما أخبرهم أن العذاب يحل بهم ورفعه الله عنهم ، قال لا أرجع إليهم كذّاباً ، وخاف أن يقتلوه فخرج هارباً .
{ فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : فظن أن لن نضيق طرقه ، ومنه قوله : { وَمَن قَدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ } [ الطلاق : 7 ] أي ضيق عليه ، قاله ابن عباس .
الثاني : فظن أن لن نعاقبه بما صنع ، قاله قتادة ، ومجاهد .
الثالث : فظن أن لن نحكم عليه بما حكمنا ، حكاه ابن شجرة ، قال الفراء : معناه لن نُقِدرَ عليه من العقوبة ما قَدَّرْنَا ، مأخوذ من القدر ، وهو الحكم دون القدرة ، وقرأ ابن عباس : نقدّر بالتشديد ، وهو معنى ما ذكره الفراء ، ولا يجوز أن يكون محمولاً على العجز عن القدرة عليه لأنه كفر .
الرابع : أنه على معنى استفهام ، تقديره : أفظن أن لن نقدر عليه ، فحذف ألف الاستفهام إيجازاً ، قاله سليمان بن المعتمر .
{ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ } فيه قولان :
أحدهما : أنها ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة جوف الحوت ، قاله ابن عباس ، وقتادة . الثاني : وقتادة .
الثاني : أنها ظلمة الحوت في بطن الحوت ، قاله سالم بن أبي الجعد .
ويحتمل ثالثاً : أنها ظلمة الخطيئة ، وظلمة الشدة ، وظلمة الوحدة .
{ أَن لاَّ إِلهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ } يعني لنفسي في الخروج من غير أن تأذن لي ، ولم يكن ذلك عقوبة من الله ، لأن الأنبياء لا يجوز أن يعاقبوا ، وإنما كان تأديباً ، وقد يؤدب من لا يستحق العقاب كالصبيان .
قوله تعالى : { فَاسْتَجَبْنَا لَهُ } وفي استجابة الدعاء قولان :
أحدهما : أنه ثواب من الله للداعي ولا يجوز أن يكون غير ثواب .
والثاني : أنه استصلاح فربما كان ثواباً وربما كان غير ثواب .
{ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ } يحتمل وجهين :
أحدهما : من الغم بخطيئته .
الثاني : من بطن الحوت لأن الغم التغطية . وقيل : إن الله أوحى إلى الحوت ألاّ تكسر له عظماً ، ولا تخدش له جلداً .
وحينما صار في بطنه : قال يا رب اتخذتَ لي مسجداً في مواضع ما اتخذها أحد .
وفي مدة لبثه في بطن الحوت ثلاثة أقاويل :
أحدها : أربعون يوماً .
الثاني : ثلاثة أيام .
الثالث : من ارتفاع النهار إلى آخره . قال الشعبي : أربع ساعات ، ثم فتح الحوت فاه فرأى يونس ضوء الشمس ، فقال : سبحانك إني كنت من الظالمين ، فلفظه الحوت .


وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90)

{ رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْداً } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : خلياًمن عصمتك ، قاله ابن عطاء .
الثاني : عادلاً عن طاعتك .
الثالث : وهو قول الجمهور يعني وحيداً بغير ولد .
{ وَأَنتَ خَيْرُ الَْوَارِثينَ } أي خير من يرث العباد من الأهل والأولاد ، ليجعل رغبته إلى الله في الولد والأهل لا بالمال ، ولكن ليكون صالحاً ، وفي النبوة تالياً .
قوله تعالى : { فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهْبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ } فيه وجهان :
أحدهما : أنها كانت عاقراً فَجُعَِلَتْ ولوداً . قال الكلبي : وَلَدَتْ له وهو ابن بضع وسبعين سنة .
والثاني : أنها كانت في لسانها طول فرزقها حُسْنَ الخَلْقِ ، وهذا قول عطاء ، وابن كامل .
{ . . . يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ } أي يبادرون في الأعمال الصالحة ، يعني زكريا ، وامرأته ، ويحيى .
{ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً } فيه أربعة أوجه :
أحدها : رغباً في ثوابنا ورهباً من عذابنا .
الثاني : رغباً في الطاعات ورهباً من المعاصي .
والثالث : رغباً ببطون الأكف ورهباً بظهور الأكف .
والرابع : يعني طمعاً وخوفاً .
ويحتمل وجهاً خامساً : رغباً فيما يسعون من خير ، ورهباً مما يستدفعون من شر .
{ وَكَانُواْ لَنَا خَاشِعِينَ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : يعني متواضعين ، وهذا قول ابن عباس .
والثاني : راغبين راهبين ، وهو قول الضحاك .
والثالث : أنه وضع اليمنى على اليسرى ، والنظر إلى موضع السجود في الصلاة .


وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (91)

قوله عز وجل : { الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا } فيه وجهان :
أحدها : عفّت فامتنعت عن الفاحشة .
والثاني : أن المراد بالفَرْج فَرْجُ درعها منعت منه جبريل قبل أن تعلم أنه رسول .
{ فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا } أي أجرينا فيها روح المسيح كما يجري الهواء بالنفخ ، فأضاف الروح إليه تشريفاً له ، وقيل بل أمر جبريل فحلّ جيب ردعها بأصابعه ثم نفخ فيه فحملت من وقتها .
{ وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا ءَايَةً لِّلْعَالَمِينَ } لأنها حملت من غير مسيس ، ووُلد عيسى من غير ذَكَرٍ ، مع كلامه في المهد ، ثم شهادته ببراءتها من الفاحشة ، فكانت هذه هي الآية ، قال الضحاك : ولدته في يوم عاشوراء .


إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (93) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ (94)

قوله عز وجل : { إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَةً وَاحِدَةً } معناه أن دينكم دين واحد ، وهذا قول ابن عباس ، وقتادة .
ويحتمل عندي وجهين آخرين :
أحدهما : أنكم خلق واحد ، فلا تكونوا إلا على دين واحد .
والثاني : أنكم أهل عصر واحد ، فلا تكونوا إلا على دين واحد .
{ وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ } فأوصى ألا يعبد سواه .
{ وَتَقَطَّعُواْ أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ } فيه وجهان :
أحدهما : اختلفوا في الدين ، قاله الأخفش .
الثاني : تفرقوا ، قاله الكلبي .


وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (95) حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97)

قوله عز وجل : { وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } فيه تأويلان :
أحدهما : معناه حرام على قرية وجدناها هالكة بالذنوب أنهم لا يرجعون إلى التوبة ، وهو قول عكرمة .
الثاني : وحرام على قرية أهلكناها بالعذاب أنهم لا يرجعون إلى الدنيا ، وهذا قول الحسن ، وقرأ أبن عباس : وحَرُم على قرية ، وتأويلها ما قاله سفيان : وجب على قرية أهلكناها . [ أنهم لا يرجعون قال : لا يتوبون ] .
قوله عز وجل : { حَتَّى إِذَا فُتِحتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ } أي فتح السد ، وهو من أشراط الساعة ، وروى أبو هريرة عن زينب بنت جحش قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم نائماً في بيته ، فاستيقظ محمرة عيناه ، فقال : « لاَ إِله إِلاَّ اللَّهَ ثَلاَثاً ، وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِن شَرٍ قَدِ اقْتَرَبَ ، فُتِحَ اليَومَ مِن رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجُ مِثْلَ هذَا » وأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى عِقْدِ التِّسْعِينَ .
ويأجوج ومأجوج قيل إنهما أخوان ، وهما ولدا يافث بن نوح ، وفي اشتقاق اسميهما قولان :
أحدهما : أنه مشتق من أَجّت النار .
والثاني : من الماء الأُجاج . وقيل إنهم يزيدون على الإِنس الضعف .
{ وَهُم مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ } وفي حدب الأرض ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه فجاجها وأطرافها ، قاله ابن عباس .
والثاني : حولها .
الثالث : تلاعها وآكامها ، مأخوذ من حدبة الظهر ، قال عنترة :
فما رعشت يداي ولا ازْدَهاني ... تواترهم إليَّ من الحِداب
وفي قوله : { يَنسِلُونَ } وجهان :
أحدها : معناه يخرجون ، ومنه قول امرىء القيس :
فسلي ثيابي من ثيابك تنسلِ ... والثاني : معناه يسرعون ، ومنه قول الشاعر :
عسلان الذئب أمسى قارباً ... برد الليل عليه فنسل
وفي الذي هم من كل حدب ينسلون قولان :
أحدهما : هم يأجوج ومأجوج ، وهذا قول ابن مسعود .
الثاني : أنهم الناس يحشرون إلى الموقف .


إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98) لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ (100) إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102) لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103)

قوله تعالى : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : وقود جهنم ، وهو قول بن عباس .
الثاني : معناه حطب جهنم ، وقرأ علي بن أبي طالب وعائشة : حطب جهنم .
الثالث : أنهم يُرمَون فيها كما يُرْمَى بالحصباء ، حتى كأن جهنم تحصب بهم ، وهذا قول الضحاك ، ومنه قول الفرزدق :
مستقبلين شمال الشام يضربنا ... بحاصب كنديف القطن منثور
يعني الثلج ، وقرأ ابن عباس : حضب جهنم ، بالضاد معجمة . قال الكسائي : حضبت النار بالضاد المعجمة إذا أججتها فألقيت فيها ما يشعلها من الحطب .
قوله عز وجل : { إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الْحُسْنَى } فيها ثلاثة تأويلات :
أحدها : أنها الطاعة لله تعالى : حكاه ابن عيسى .
والثاني : السعادة من الله ، وهذا قول ابن زيد .
والثالث : الجنة ، وهو قول السدي .
ويحتمل تأويلاً رابعاً : أنها التوبة .
{ أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ } يعني عن جهنم . وفيهم ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنهم عيسى والعزير والملائكة الذين عُبِدوا من دون الله وهم كارهون وهذا قول مجاهد .
الثاني : أنهم عثمان وطلحة والزبير ، رواه النعمان بن بشيرعن علي بن أبي طالب .
الثالث : أنها عامة في كل من سبقت له من الله الحسنى .
وسبب نزول هذه الآية ما حكي أنه لما نزل قوله تعالى : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دَونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ } قال المشركون : فالمسيح والعزير والملائكة قد عُبِدُوا ، فأنزل الله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مَّنَّا الْحُسْنَى أُولئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ } يعني عن جهنم ، ويكون قوله : { مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ } محمولاً على من عذبه ربه .
قوله عز وجل : { لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن الفزع الأكبر النفخة الأخيرة ، وهذا قول الحسن .
والثاني : أنه ذبْحُ الموتِ ، حكاه ابن عباس .
والثالث : حين تطبق جهنم على أهلها ، وهذا قول ابن جريج .
ويحتمل تأويلاً رابعاً : أنه العرض في المحشر .


يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104)

قوله عز وجل : { يَومَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن السجل الصحيفة تطوى على ما فيها من الكتابة ، وهذا قول مجاهد ، وقتادة .
الثاني : أنه الملك .
الثالث : أنه كاتب يكتب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا قول ابن عباس .


وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)

قوله عز وجل : { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن الزبور الكتب التي أنزلها الله تعالى على أنبيائه ، والذكر أُمّ الكتاب الذي عنده في السماء ، وهذا قول مجاهد .
والثاني : أن الزبور من الكتب التي أنزلها الله تعالى على مَنْ بعد موسى من أنبيائه ، وهذا قول الشعبي .
{ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ } فيها ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها أرض الجنة يرثها أهل الطاعة ، وهذا قول سعيد بن جبير ، وابن زيد .
والثاني : أنها الأرض المقدسة يرثها بنو إسرائيل ، وهذا قول الكلبي .
والثالث : أنها أرض الدنيا ، والذي يرثها أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وهذا قول ابن عباس .
قوله عز وجل : { إِنَّ فِي هذَا لَبَلاَغاً لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ } أما قوله { إِنَّ فِي هذَا } ففيه قولان :
أحدهما : يعني في القرآن .
والثاني : في هذه السورة .
وفي قوله : { لَبَلاَغاً لَّقُوْمٍ عَابِدِينَ } وجهان :
أحدهما : أنه بلاغ إليهم يَكُفُّهُم عن المعصية ويبعثهم على الطاعة .
الثاني : أنه بلاغ لهم يبلغهم إلى رضوان الله وجزيل ثوابه .
وفي قوله : { عَابِدِينَ } وجهان :
أحدهما : مطيعين .
والثاني : عالمين .
قوله عز وجل : { وَمَا أرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } فيما أريد بهذه الرحمة وجهان :
أحدهما : الهداية إلى طاعة الله واستحقاق ثوابه .
الثاني : أنه ما رفع عنهم من عذاب الاستئصال .
وفي قوله : { لِلْعَالَمِينَ } وجهان :
أحدهما : من آمن منهم ، فيكون على الخصوص في المؤمنين إذا قيل إن الرحمة الهداية .
الثاني : الجميع ، فيكون على العموم في المؤمنين والكافرين إذا قيل إن الرحمة ما رفع عنهم من عذاب الاستئصال .


قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (110) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (111) قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112)

قوله عز وجل : { فَإِن تَوَلَّواْ } يعني أعرضوا ، وفيه وجهان :
أحدهما : عنك .
والثاني : عن القرآن .
{ فَقُلْ ءَاذَنْتَكُمْ عَلَى سَوآءٍ } فيه سبعة تأويلات :
أحدها : على امر بَيِّنٍ سَوِي ، وهذا قول السدي .
والثاني : على مَهْل ، وهذا قول قتادة .
والثالث : على عدل ، وهذا قول الفراء .
والرابع : على بيان علانية غير سر ، وهذا قول الكلبي .
والخامس : على سَواءٍ في الإِعلام يظهر لبعضهم ميلاً عن بعض ، وهذا قول علي بن عيسى .
والسادس : استواء في الإِيمان به .
والسابع : معناه أن من كفر به فهم سواء في قتالهم وجهادهم ، وهذا قول الحسن .
قوله عز وجل : { وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ } فيه وجهان :
أحدهما : لعل تأخير العذاب فتنة لكم .
والثاني : لعل رفع عذاب الاستئصال فتنة لكم .
وفي هذه الفتنة ثلاثة أوجه :
أحدها : هلاك لكم .
والثاني : محنة لكم .
والثالث : إحسان لكم .
{ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : إلى يوم القيامة ، وهذا قول الحسن .
والثاني : إلى الموت ، وهذا قول قتادة .
والثالث : إلى أن يأتي قضاء الله تعالى فيهم .
قوله عز وجل : { قَالَ رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ } فيه وجهان :
أحدهما : عجّل الحكم بالحق .
الثاني : معناه افصل بيننا وبين المشركين بما يظهر به الحق للجميع ، وهذا معنى قول قتادة .
{ وَرَبُّنَا الرَّحَمنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ } فيه وجهان :
أحدهما : على ما تكذبون ، قاله قتادة .
والثاني : على ما تكتمون ، قاله الكلبي .
وقيل إن النبي صلى الله عليه وسلم إذا شهد قتالاً قرأ هذه الآية . والله أعلم .


يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)

قوله عز وجل : { يأيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ } في زلزلتها قولان :
أحدهما : أنها في الدنيا ، وهي أشراط ظهورها ، وآيات مجيئها .
والثاني : أنها في القيامة .
وفيها قولان :
أحدهما : أنها نفخ الصور للبعث .
والثاني : أنها عند القضاء بين الخلق .
{ يَوْمَ تَرَوْنَهَا } يعني زلزلة الساعة
. { تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ } وفيه أربعة أوجه
: أحدها : تسلو كل مرضعة عن ولدها ، قاله الأخفش .
والثاني : تشتغل عنه ، قاله قطرب ، ومنه قول عبد الله بن رواحة :
ضرباً يزيل الهام عن مقيله ... ويذهل الخليل عن خليله
والثالث : تلهو عنه ، قاله الكلبي ، ومنه قول امرىء القيس
:
أذاهِلٌ أنت عن سَلْماك لا برحت ... أم لست ناسيها ما حنّت النيبُ
والرابع : تنساه ، قاله اليزيدي ، قال الشاعر :
تطاولت الأيام حتى نسيتها ... كأنك عن يوم القيامة ذاهل
{ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا } قال الحسن : تذهل الأم عن ولدها لغير فطام ، وتلقي الحامل ما في بطنها لغير تمام .
{ وَتَرَى النَّاس سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى } قال ابن جريج : هم سكارى من الخوف ، وما هم بسكارى من الشراب .


وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4)

قوله عز وجل : { وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ } فيه قولان
: أحدهما : أن يخاصم في الدين بالهوى ، قاله سهل بن عبد الله .
والثاني : أن يرد النص بالقياس ، قال ابن عباس : نزلت هذه الآية في النضر بن الحارث .


يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7)

قوله عز وجل : { يَأَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنْتُم فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ } يعني آدم .
{ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ } يعني ولده
. { ثُمَّ مِن عَلَقَةٍ } يعني أن النطفة تصير في الرحم علقة
. { ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ } يعني أن العلقة تصير مضغة ، وذلك مقدار ما يمضع من اللحم .
{ مُّخَلَّقَةٍ وَغِيْرِ مُخَلَّقَةٍ } فيه أربعه تأويلات
: أحدها : أن المخلقة ما صار خلقاً ، وغير مخلقة ما دفعته الأرحام من النطف فلم يصير خلقاً ، وهو قول ابن مسعود .
والثاني : معناه تامة الخلق وغير تامة الخلق ، وهذا قول قتادة .
والثالث : معناه مصورة وغير مصورة كالسقط ، وهذا قول مجاهد .
والرابع : يعني التام في شهوره ، وغير التام ، قاله الضحاك ، قال الشاعر :
أفي غير المخلقة البكاءُ ... فأين العزم ويحك والحَياءُ
{ لِّنُبيِّنَ لَكُمْ } يعني في القرآن بدء خلقكم وتنقل أحوالكم
. { وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَآءُ إِلّى أَجَلٍ مُّسَمًّى } قال مجاهد : إلى التمام
. { ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُواْ أَشُدَّكُمْ } وقد ذكرنا عدد الأشُدّ
. { وَمِنْكُم مَّن يُتَوَفّى } فيه وجهان
: أحدهما : يعني قبل أن تبلغ إلى أرذل العمر .
والثاني : قبل بلوغ الأَشُدّ .
{ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : الهرم ، وهو قول يحيى بن سلام .
والثاني : إلى مثل حاله عند خروجه من بطن أمّه ، حكاه النقاش .
والثالث : ذهاب العقل ، قاله اليزيدي .
{ لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً } فيه وجهان
: أحدهما : لا يستفيد علماً ما كان به عالماً .
الثاني : لا يعقل بعد عقله الأول شيئاً .
ويحتمل عندي وجهاً ثالثاً : أنه لا يعمل بعد علمه شيئاً ، فعبر عن العمل بالعلم [ لافتقاره إليه لأن تأثير الكبر في العمل أبلغ من تأثيره في العلم ] .
{ وتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً } فيه ثلاثة تأويلات
: أحدها : غبراء ، وهذا قول قتادة .
والثاني : يابسة لا تنبت شيئاً ، وهذا قول ابن جريج .
والثالث : أنها الدراسة ، والهمود : الدروس ، ومنه قول الأعشى :
قالت قتيلة ما لجسمك شاحباً ... وأرى ثيابك باليات همَّدا
{ فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَآءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ } وفي { اهْتَزَّتْ } وجهان
: أحدهما : معناه أنبتت ، وهو قول الكلبي .
والثاني : معناه اهتز نباتها واهتزازه شدة حركته ، كما قال الشاعر :
تثني إذا قامت وتهتز إن مشت ... كما اهتز غُصْن البان في ورق خضرِ
{ وَرَبَتْ } وجهان
: أحدهما : معناه أضعف نباتها .
والثاني : معناه انتفخت لظهور نباتها ، فعلى هذا الوجه يكون مقدماً ومؤخراً وتقديره : فإذا أنزلنا عليها الماء رَبتْ واهتزت ، وهذا قول الحسن وأبي عبيدة ، وعلى الوجه الأول لا يكون فيه تقديم ولا تأخير .
{ وَأَنْبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } فيه وجهان
: أحدهما : يعني من كل نوع ، وهو قول ابن شجرة .
والثاني : من كل لون لاختلاف ألوان النبات بالخضرة والحمرة والصفرة .
{ بَهِيجٍ } يعني حسن الصورة .


وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (10)

قوله عز وجل : { . . . ثَانِيَ عِطْفِهِ } فيه وجهان
: أحدهما : لاَوِي عنقه إعراضاً عن الله ورسوله ، وهذا قول مجاهد ، وقتادة .
الثاني : معناه لاَوِي عنقه كِبْرا عن الإِجابة ، وهذا قول ابن عباس .
قال المفضل : والعِطف الجانب ، ومنه قولهم فلان ينظر في أعطافه أي في جوانبه . قال الكلبي : نزلت في النضر بن الحارث .
{ لِيضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ } فيه وجهان
: أحدهما : تكذيبه للرسول وإعراضه عن أقواله .
والثاني : فإذا أراد أحد من قومه الدخول في الإسلام أحضره وأقامه وشرط له وعاتبه وقال : هذا خير لك مما يدعوك إليه محمد ، حكاه الضحاك .


وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11) يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13)

قوله عز وجل : { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : يعني على وشك وهو قول مجاهد ، لكونه منحرفاً بين الإِيمان والكفر .
والثاني : على شرط ، وهو قول ابن كامل .
والثالث : على ضعف في العبادة كالقيام على حرف ، وهو قول علي بن عيسى .
ويحتمل عندي تأويلاً رابعاً : أن حرف الشي بعضه ، فكأنه يعبد الله بلسانه ويعصيه بقلبه .
{ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ } وهذا قول الحسن .
الثاني : أن ذلك نزل في بعض قبائل العرب وفيمن حول المدينة من أهل القرى ، كانوا يقولون : نأتي محمداً فإن صادفنا خيراً اتبعناه ، وإلا لحقنا بأهلنا ، وهذا قول ابن جريج ، فأنزل الله تعالى : { فإِنْ أَصَابَهُ خَيرٌ اطْمَأنَّ بِهِ } .
ويحتمل وجهين آخرين :
أحدهما : اطمأن بالخير إلى إيمانه .
الثاني : اطمأنت نفسه إلى مقامه .
{ وَإِن أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ } أي محنة في نفسه أو ولده أو ماله
. { انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ } يحتمل عندي وجهين
: أحدهما : رجع عن دينه مرتداً .
الثاني : رجع إلى قومه فزعاً .
{ خَسِرَ الدُّنْيَا والآخرة } خسر الدنيا بفراقه ، وخسر الآخرة بنفاقه
. { ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانِ الْمُبِينُ } أي البيِّن لفساد عاجله وذَهَاب آجله
. قوله عز وجل : { لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئسْ الْعَشِيرُ } يعني الصنم ، وفيه وجهان :
أحدهما : أن المولى الناصر ، والعشير الصاحب ، وهذا قول ابن زيد .
والثاني : المولى المعبود ، والعشير الخليط ، ومنه قيل للزوج عشير لخلطته مأخوذ من المعاشرة .


إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (14) مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17)

قوله عز وجل : { مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ } فيه ثلاثة تأويلات
: أحدها : أن يرزقه الله ، وهو قول مجاهد ، والنصر الرزق ، ومنه قول الأعشى .
أبوك الذي أجرى عليّ بنصره ... فأنصب عني بعده كل قابل
والثالث : معناه أن لن يمطر أرضه ، ومنه قول رؤبة :
إني وأسطار سطران سطرا ... لقائل يا نصرَ نصرٍ نصرا
إني عبيدة : يقال للأرض الممطرة أرض منصورة .
{ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ } والنصر في الدنيا بالغلبة ، وفي الآخرة بظهور الحجة .
ويحتمل وجهاً آخر أن يكون النصر في الدنيا علو الكلمة ، وفي الآخرة علو المنزلة .
{ فَلْيَمْدُدْ بِسبَبٍ إِلَى السَّمَآءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ } فيه تأويلان :
أحدهما : فليمدد بحبل إلى سماء الدنيا ليقطع الوحي عن محمد ثم لينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ أي يذهب الكيد منه ما يغيظه من نزول الوحي عليه ، وهذا قول ابن زيد .
والثاني : فليمدد بحبل إلى سماء بيته وهو سقفه ، ثم لِيخْنقَ به نفسه فلينظر هل يذهب ذلك بغيظه من ألا يرزقه الله تعالى ، وهذا قول السدي .


أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18)

قوله عز وجل : { وَمَن يُهِن اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكرمٍ } فيه وجهان
: أحدهما : ومن يهن الله فيدخله النار فما له من مكرم فيدخله الجنة .
{ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ } من ثواب وعقاب ، وهذا قول يحيى بن سلام
. والثاني : ومن يهن الله بالشقوة فما له من مكرم بالسعادة .
{ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَآءَ } من شقوة ، وهذا قول الفراء وعلي بن عيسى
. ويحتمل عندي وجهاً ثالثاً : ومن يهن الله بالإِنتقام فما له من مكرم بالإنعام ، إن الله يفعل ما يشاء من إنعام وانتقام .


هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22)

قوله عز وجل : { هذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُواْ فِي رَبِّهِمْ } والخصمان ها هنا فريقان ، وفيهما أربعة أقاويل :
أحدها : أنهما المسلمون والمشركون حين اقتتلوا في بدر ، وهذا قول أبي ذر ، وقال محمد بن سيرين : نزلت في الثلاثة الذين بارزوا يوم بدر ثلاثة من المشركين فقتلوهم .
والثاني : أنهم أهل الكتاب قالوا : نبينا قبل نبيكم ، وكتابنا قبل كتابكم .
ونحن خير منكم ، فقال المسلمون كتابنا يقضي على كتابكم ، ونبينا خاتم الأنبياء .
ونحن أولى بالله منكم ، وهذا قول قتادة .
والثالث : أنهم أهل الإِيمان والشرك في اختلافهم في البعث والجزاء ، وهذا قول مجاهد ، والحسن ، وعطاء .
والرابع : هما الجنة والنار اختصمتا ، فقالت النار : خلقني الله لنقمته ، وقالت الجنة : خلقني الله لرحمته ، وهذا قول عكرمة .
{ فَالَّذِينَ كَفَرُواْ قُطِّعْتَ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ } معناه أن النار قد أحاطت بها كإحاطة الثياب المقطوعة إذا لبسوها عليهم ، فصارت من هذا الوجه ثياباً ، لأنها بالإِحاطة كالثياب .
{ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمْ الْحَمِيمُ } ها هنا هو الماء الحار ، قال الشاعر :
كأن الحميم على متنها ... إذا اغترفته بأطساسها
جُمان يحل على وجنةٍ ... علته حدائد دوّاسها
وضم الحميم إلى النار وإن كانت أشد منه لأنه ينضج لحومهم ، والنار بانفرادها تحرقها ، فيختلف به العذاب فيتنوع ، فيكون أبلغ في النكال .
وقيل إنها نزلت في ثلاثة من المسلمين قتلوا ثلاثة من المشركين يوم بدر حمزة بن عبد المطلب قتل عتبة بن ربيعة ، وعليّ بن أبي طالب قتل الوليد بن عتبة ، وعبيدة بن الحارث قتل شيبة بن ربيعة .
قوله تعالى : { يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : يحرق به وهو قول يحيى بن سلام .
والثاني : يقطع به ، وهو قول الحسن .
والثالث : ينضج به ، وهو قول الكلبي ومنه قول العجاج :
شك السفافيد الشواء المصطهرْ ... والرابع : يذاب به ، وهو قول مجاهد ، مأخوذ من قولهم : صهرت الألية إذا أذبتها ، ومنه قول ابن أحمر :
تروي لقى ألقى في صفصفٍ ... تصهره الشمس فما ينْصهِر
{ وَلَهُمْ مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ } والمقامع : جمع مقمعة ، والمقمعة ما يضرب به الرأس لا يعي فينكب أو ينحط .


إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (24)

قوله عز وجل : { وَهُدُواْ إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ } فيه أربعة تأويلات
: أحدها : أنه قول لا إله إلا الله ، وهو قول الكلبي .
والثاني : أنه الإِيمان ، وهو قول الحسن .
والثالث : القرآن ، وهو قول قطرب .
والرابع : هو الأمر بالمعروف .
ويحتمل عندي تأويلاً خامساً : أنه ما شكره عليه المخلوقون وأثاب عليه الخالق .
{ وَهُدُواْ إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ } فيه تأويلان
: أحدهما : الإِسلام ، وهو قول قطرب .
والثاني : الجنة .
ويحتمل عندي تأويلاً ثالثاً : أنه ما حمدت عواقبه وأمنت مغبته .


إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25)

قوله عز وجل : { . . . وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ } فيه قولان :
أحدهما : أنه أراد المسجد نفسه ، ومعنى قوله : { الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ } أي قبلة لصلاتهم ومنسكاً لحجهم .
{ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ } وهو المقيم ، { وَالْبَادِ } وهو الطارىء إليه ، وهذا قول ابن عباس .
والقول الثاني : أن المراد بالمسجد الحرام جميع الحرم ، وعلى هذا في قوله :
{ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَآءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ } وجهان
: أحدهما : أنهم سواء في دوره ومنازله ، وليس العاكف المقيم أولى بها من البادي المسافر ، وهذا قول مجاهد ومَنْ منع بيع دور مكة كأبي حنيفة .
والثاني : أنهما سواء في أن من دخله كان آمناً ، وأنه لا يقتل بها صيداً ولا يعضد بها شجراً .
{ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } والإِلحاد : الميل عن الحق والباء في قوله : { بِإِلْحَادٍ } زائدة كزيادتها في قوله تعالى : { تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ } [ المؤمنون : 20 ] ومثلها في قول الشاعر :
نحن بنو جعدة أصحاب الفلج ... نضرب بالسيف ونرجو بالفَرَجِ
أي نرجو الفرج ، فيكون تقدير الكلام : ومن يرد فيه إلحاداً بظلم
. وفي الإِلحاد بالظلم أربعة تأويلات :
أحدها : أنه الشرك بالله بأن يعبد فيه غير الله ، وهذا قول مجاهد ، وقتادة .
والثاني : أنه استحلال الحرام فيه ، وهذا قول ابن مسعود .
والثالث : استحلال الحرام متعمداً ، وهذا قول ابن عباس .
والرابع : أنه احتكار الطعام بمكة ، وهذا قول حسان بن ثابت .
قال ابن عباس : نزلت هذه الآية في أبي سفيان بن حرب وأصحابه حين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عمرته عام الحديبية .


وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27)

قوله عز وجل : { وَإِذْ بَوَّأنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ } فيه وجهان
: أحدهما : معناه وطأنا له مكان البيت ، حكاه ابن عيسى .
والثاني : معناه عرفناه مكان البيت بعلامة يستدل بها .
وفي العلامة قولان :
أحدهما : قاله قطرب ، بعثت سحابة فتطوقت حيال الكعبة فبنى على ظلها .
الثاني : قاله السدي ، كانت العلامة ريحاً هبت وكنست حول البيت يقال لها الخجوج .
{ أَن لاَّ تُشْرِكَ بِي شَيْئاً } أي لا تعبد معي إلهاً غيري
. { وَطَهِّرْ بَيْتِيَ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : من الشرك وعبادة الأوثان ، وهذا قول قتادة .
الثاني : من الأنجاس والفرث والدم الذي كان طرح حول البيت ، ذكره ابن عيسى .
والثالث : من قول الزور ، وهو قول يحيى بن سلام .
{ لِلطَّآئِفِينَ وَالْقَآئِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } أما الطائفون فيعني بالبيت وفي { الْقَائِمِينَ } قولان
: أحدهما : يعني القائمين في الصلاة ، وهو قول عطاء .
والثاني : المقيمين بمكة ، وهو قول قتادة .
{ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } يعني في الصلاة ، وفي هذا دليل على ثواب الصلاة في البيت . وحكى الضحاك أن إبراهيم لما حضر أساس البيت وحد لَوْحاً ، عليه مكتوب : أنا الله ذو بكّة ، خلقت الخير والشر ، فطوبى لمن قَدَّرْتُ على يديه الخير ، وويلٌ لمن قدرت على يديه الشر .
وتأول بعض أصحاب الخواطر قوله : { وَطَهِّرْ بَيْتِيَ } يعني القلوب .
{ لِلطَّآئِفِينَ } يعني حجاج الله ، { وَالْقَآئِمِينَ } يعني الإِيمان ، { وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } يعني الخوف والرجاء .
قوله عز وجل : { وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ } يعني أَعْلِمْهُم ونَادِ فيهم بالحق ، وفيه قولان :
أحدهما : أن هذا القول حكاية عن أمر الله سبحانه لنبيه إبراهيم ، فروي أن إبراهيم صعد جبل أبي قبيس فقال : عباد الله إن الله سبحانه وتعالى قد ابتنى بيتاً وأمَرَكُمْ بحجه فَحُجُّوا ، فأجابه من في أصلاب الرجال وأرحام النساء : لبيك داعي ربنا لبيك . ولا يحجه إلى يوم القيامة إلا من أجاب دعوة إبراهيم ، وقيل إن أول من أجابه أهل اليمن ، فهم أكثر الناس حجاً له .
والثاني : أن هذا أمر من الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم أن يأمر الناس بحج البيت .
{ يَأْتُوكَ رِجَالاً } يعني مشاة على أقدامهم ، والرجال جمع راجل
. { وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ } أي جملٍ ضامر ، وهو المهزول ، وإنما قال { ضَامِرٍ } لأنه ليس يصل إليه إلا وقد صار ضامراً .
{ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ } أي بعيد ، ومنه قول الشاعر :
تلعب لديهن بالحريق ... مدى نياط بارح عميق


لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)

قوله عز وجل : { لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ } فيه ثلاثة تأويلات
: أحدها : أنه شهود المواقف وقضاء المناسك .
والثاني : أنها المغفرة لذنوبهم ، قاله الضحاك .
والثالث : أنها التجارة في الدنيا والأجر في الآخرة ، وهذا قول مجاهد .
{ وَيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامِ مَّعْلُومَاتٍ } فيها ثلاثة أقاويل
: أحدها : أنها عشر ذي الحجة آخرها يوم النحر ، وهذا قول ابن عباس ، والحسن ، وهو مذهب الشافعي .
والثاني : أنها أيام التشريق الثلاثة ، وهذا قول عطية العوفي .
والثالث : أنها يوم التروية ويوم عرفة ويوم النحر ، وهذا قول الضحاك .
{ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ } يعني على نحر ما رزقهم نحره من بهيمة الأنعام ، وهي الأزواج الثمانية من الضحايا والهدايا .
{ فَكَلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ الْبَائِسَ الْفَقِيرَ } في الأكل والإِطعام ثلاثة أوجه
: أحدها : أن الأكل والإِطعام واجبان لا يجوز أن يخل بأحدهما ، وهذا قول أبي الطيب بن سلمة .
والثاني : أن الأكل والإطعام مستحبان ، وله الاقتصار على أيهما شاء وهذا قول أبي العباس بن سريج .
والثالث : أن الأكل مستحب والإطعام واجب ، وهذا قول الشافعي ، فإن أطعم جميعها أجزأه ، وإن أكل جميعها لم يُجْزه ، وهذا فيما كان تطوعاً ، وأما واجبات الدماء فلا يجوز أن نأكل منها .
وفي { الْبآئِسَ الْفَقِيرَ } خمسة أوجه :
أحدها : أن الفقير الذي به زمَانةٌ ، وهو قول مجاهد .
والثاني : الفقير الذي به ضر الجوع .
والثالث : أن الفقير الذي ظهر عليه أثر البؤس .
والرابع : أنه الذي يمد يده بالسؤال ويتكفف بالطلب .
والخامس : أنه الذي يؤنف عن مجالسته .
قوله عز وجل : { ثُمَّ لْيَقْضَواْ تَفَثَهُمْ } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : مناسك الحج ، وهو قول ابن عباس ، وابن عمر .
والثاني : حلق الرأس ، وهو قول قتادة ، قال أمية بن أبي الصلت .
حفوا رؤوسهم لم يحلقوا تفثاً ... . . . . . . . . . . . . . .
والثالث : رمي الجمار ، وهو قول مجاهد
. والرابع : إزالة قشف الإِحرام من تقليم ظفر وأخذ شعر وغسل واستعمال الطيب ، وهو قول الحسن .
وقيل لبعض الصلحاء : ما المعنى في شعث المحرم؟ قال : ليشهد الله تعالى منك الإِعراض عن العناية بنفسك فيعلم صدقك في بذلها لطاعته .
وسئل الحسن عن التجرد في الحج فقال : جرّد قلبك من السهو ، ونفسك من اللهو ولسانك من اللغو ، ثم يجوز كيف شئت .
وقال الشاعر :
قضوا تفثاً ونحباً ثم سارواْ ... إلى نجدٍ وما انتظروا علياً
{ وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ } وهو تأدية ما نذروه في حجهم من نحر أو غيره
. { وَلْيَطَّوَّفُواْ بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } يعني طواف الإِفاضة ، وهو الواجب في الحج والعمرة ، ولا يجوز في الحج إلا بعد عرفة ، وإن جاز السعي .
وفي تسمية البيت عتيقاً أربعة أوجه :
أحدها : أن الله أعتقه من الجبابرة ، وهو قول ابن عباس .
الثاني : لأنه عتيق لم يملكه أحد من الناس ، وهو قول مجاهد .
والثالث : لأنه أعتق من الغرق في الطوفان ، وهذا قول ابن زيد .


ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31)

قوله عز وجل : { ذلِكَ وَمَن يَعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ } فيه قولان : أحدهما : أنه فعل ما أمر به من مناسكه ، قاله الكلبي .
والثاني : أنه اجتناب ما نهى عنه في إحرامه . ويحتمل عندي قولاً ثالثاً : أن يكون تعظيم حرماته أن يفعل الطاعة ويأمر بها ، وينتهي عن المعصية وينهى عنها .
{ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأَنْعَامُ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ } فيه قولان
: أحدهما : إلا ما يتلى عليكم من المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذُبحَ على النصب .
والثاني : إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم .
{ فَاجْتَنِبُواْ الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ } فيه وجهان
: أحدهما : أي اجتنبواْ من الأوثان الرجس ، ورجس الأوثان عبادتها ، فصار معناه : فاجتنبوا عبادة الأوثان .
الثاني : معناه : فاجتنبواْ الأوثان فإنها من الرجس .
{ وَاجْتَنِبُواْ قَوْلَ الزُّورِ } فيه أربعة أقاويل
: أحدها : الشرك ، وهوقول يحيى بن سلام .
والثاني : الكذب ، وهو قول مجاهد .
والثالث : شهادة الزور . روى أيمن بن محمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قام خطيباً فقال : « أَيُّهَا النَّاسُ عَدَلَتْ شَهَادَةُ الزُّورِ الشِّرْكَ بِاللَّهِ مَرَّتِينَ » ثم قرأ : { فَاجْتَنِبُواْ الرّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُواْ قَوْلَ الزُّورِ } .
والرابع : أنها عبادة المشركين ، حكاه النقاش .
ويحتمل عندي قولاً خامساً : أنه النفاق لأنه إسلام في الظاهر زور في الباطن .
قوله عز وجل : { حُنَفَآءَ لِلَّهِ } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : يعني مسلمين لله ، وهو قول الضحاك ، قال ذو الرمة :
إذا حول الظل العشي رأيته ... حنيفاً وفي قرن الضحى يتنصر
والثاني : مخلصين لله ، وهو قول يحيى بن سلام .
والثالث : مستقيمين لله ، وهو قول عليّ بن عيسى .
والرابع : حجاجاً إلى الله ، وهو قول قطرب .
{ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ } فيه وجهان
: أحدهما : غير مرائين بعبادته أحداً من خلقه .
والثاني : غير مشركين في تلبية الحج به أحداً لأنهم كانواْ يقولون في تلبيتهم : لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك ، قاله الكلبي .


ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33)

قوله عز وجل : { ذلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَآئِرَ اللَّهِ } فيه وجهان
: أحدهما : فروض الله .
والثاني : معالم دينه ، ومنه قول الكميت :
نقتلهم جيلاً فجيلاً نراهم ... شعائر قربان بهم يتقرب
وفيها ثلاثة أقاويل
: أحدها : أنها مناسك الحج ، وتعظيمها إشعارها ، وهو مأثور عن جماعة .
والثاني : أنها البُدن المشعرة ، وتعظيمها استسمانها واستحسانها ، وهو قول مجاهد .
والثالث : أنها دين الله كله ، وتعظيمها التزامها ، وهو قول الحسن .
{ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ } قال الكلبي والسدي : من إخلاص القلوب
. ويحتمل عندي وجهاً آخر أنه قصد الثواب .
ويحتمل وجهاً آخر أيضاً : أنه ما أرضى الله تعالى :
قوله عز وجل : { لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن المنافع التجارة ، وهذا قول من تأول الشعائر بأنها مناسك الحج ، والأجل المسمى العود .
والثاني : أن المنافع الأجر ، والأجل المسمى القيامة ، وهذا تأويل من تأولها بأنها الدين .
والثالث : أن المنافع الركوب والدر والنسل ، وهذا قول من تأولها بأنها الهَدْى فعلى هذا في الأجل المسمى وجهان :
أحدهما : أن المنافع قبل الإِيجاب وبعده ، والأجل المسمى هو النحر ، وهذا قول عطاء .
{ ثُمَّ مَحِلُّهَآ إِلَى الْبَيْتِ الْعتِيقِ } إن قيل إن الشعائر هي مناسك الحج ففي تأويل قوله : { ثُمَّ مَحِلُّهَآ إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ } وجهان :
أحدهما : مكة ، وهو قول عطاء .
والثاني : الحرم كله محل لها ، وهو قول الشافعي .
وإن قيل إن الشعائر هي الدين كله فيحتمل تأويل قوله : { ثم محلها إلى البيت العتيق } أن محل ما اختص منها بالأجر له ، هو البيت العتيق .


وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35)

قوله عز وجل : { وَلِكُلِّ أَمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً } فيه ثلاثة تأويلات
: أحدها : يعني حجاً ، وهو قول قتادة .
والثاني : ذبحاً ، وهو قول مجاهد .
والثالث : عيداً ، وهو قول الكلبي والفراء ، والمنسك في كلام العرب هو الموضع المعتاد ، ومنه تسمية مناسك الحج ، لاعتياد مواضعها .
{ لِّيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ } فيها وجهان
: أحدهما : أنها الهدي ، إذا قيل إن المنسك الحج .
والثاني : الأضاحي ، إذا قيل إن المنسك العيد .
قوله عز وجل : { . . . وَبَشِّر الْمُخْبِتينَ } فيه تسعة تأويلات :
أحدها : المطمئنين إلى ذكر إلههم ، وهو قول مجاهد ، ومنه قوله تعالى : { فَتُخْبتْ لَهُ قُلُوبُهُم } [ الحج : 54 ] .
والثاني : معناه المتواضعين ، وهو قول قتادة .
والثالث : الخاشعين ، وهو قول الحسن . والفرق بين التواضع والخشوع أن التواضع في الأخلاق والخشوع في الأبدان .
والرابع : الخائفين ، وهو معنى قول يحيى بن سلام .
والخامس : المخلصين ، وهو قول إبراهيم النخعي .
والسادس : الرقيقة قلوبهم ، وهو قول الكلبي .
والسابع : أنهم المجتهدون في العبادة ، وهو قول الكلبي ومجاهد .
والثامن : أنهم الصالحون المطمئنون ، وهو مروي عن مجاهد أيضاً .
والتاسع : هم الذين لا يظلمون ، وإذا ظلمواْ لم ينتصرواْ ، وهو قول الخليل بن أحمد .


وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36)

قوله عز وجل : { وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ } في البدن ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها الإِبل ، وهو قول الجمهور .
والثاني : أنها الإِبل ، والبقر ، والغنم ، وهو قول جابر ، وعطاء .
والثالث : كل ذات خُفٍّ وحافر من الإِبل ، والبقر ، والغنم ، وهو شاذ حكاه ابن الشجرة ، وسميت بُدْناً لأنها مبدنة في السمن ، وشعائر الله تعالى دينه في أحد الوجهين ، وفروضه في الوجه الآخر .
وتعمق بعض أصحاب الخواطر فتأول البُدْن أن تطهر بدنك من البدع ، والشعائر أن تستشعر بتقوى الله وطاعته ، وهو بعيد .
{ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ } فيه تأويلان
: أحدهما : أي أجر ، وهو قول السدي .
والثاني : منفعة فإن احْتِيجَ إلى ظهرها رُكبَ ، وإن حُلِبَ لَبَنُها شُرِبَ ، وهو قول إبراهيم النخعي .
{ فَاذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوآفَّ } وهي قراءة الجمهور ، وقرأ الحسن : صوافي ، وقرأ ابن مسعود : صوافن .
فتأول صواف على قراءة الجمهور فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : مصطفة ، ذكره ابن عيسى .
والثاني : قائمة لتصفّد يديها بالقيود ، وهو قول ابن عمر .
والثالث : معقولة ، وهو قول مجاهد .
وتأويل صوافي ، وهي قراءة الحسن : أي خالصة لله تعالى ، مأخوذ من الصفوة .
وتأويل صوافن وهي قراءة ابن مسعود : أنها مصفوفة ، وهو أن تَعقِل إحدى يديها حتى تقف على ثلاث ، مأخوذ من صفن الفرس إذا ثنى إحدى يديه حتى يقف على ثلاث ، ومنه قوله تعالى : { الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ } وقال الشاعر :
الف الصفون مما يزال كأنه ... مما يقوم على الثلاث كسيراً
{ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبهُا } أي سقطت جنوبها على الأرض ، ومنه وجب الحائط إذا سقط ، ووجبت الشمس إذا سقطت للغروب ، وقال أوس بن حجر :
ألم تكسف الشمس ضوء النهار ... والبدر للجبل الواجب
{ فَكُلُواْ مِنْهَا } فيه وجهان
: أحدهما : أن أكله منها واجب إذا تطوع بها ، وهو قول أبي الطيب بن سلمة .
والثاني : وهو قول الجمهور أنه استحباب وليس بواجب ، وإنما ورد الأمر به لأنه بعد حظر ، لأنهم كانواْ في الجاهلية يحرمون أكلها على نفوسهم .
{ وَأَطْعِمُواْ الْقَانِعَ والْمُعْتَرَّ } فيهم أربعة تأويلات
: أحدها : أن القانع السائل ، والمعتر الذي يتعرض ولا يسأل ، وهذا قول الحسن ، وسعيد بن جبير ، ومنه قول الشماخ :
لمالُ المرء يصلحه فيغني ... مفاقِرَه أعف من القُنُوع
أي من السؤال
. والثاني : أن القانع الذي يقنع ولا يسأل ، والمعتر الذي يسأل ، وهذا قول قتادة ، ومنه قول زهير :
على مكثريهم رزق من يعتريهم ... وعند المقلين السماحةُ والبذلُ
والثالث : أن القانع المسكين الطوّاف ، والمعتر : الصديق الزائر ، وهذا قول زيد بن أسلم ، ومنه قول الكميت :
إما اعتياداً وإما اعتراراً ... والرابع : أن القانع الطامع ، والمعتر الذي يعتري البُدْنَ ويتعرض للحم لأنه ليس عنده لحم ، وهذا قول عكرمة ، ومنه قول الشاعر :
على الطارق المعتر يا أم مالك ... إذا ما اعتراني بين قدري وصخرتي


لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37)

قوله عز وجل : { لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا } فيه وجهان
: أحدهما : لن يقبل الله الدماء وإنما يقبل التقوى ، وهذا قول علي بن عيسى .
والثاني : معناه لن يصعد إلى الله لحومها ولا دماؤها ، لأنهم كانوا في الجاهلية إذا ذبحوا بُدنهم استقبلوا الكعبة بدمائها فيضجعونها نحو البيت ، فأراد المسلمون فعل ذلك ، فأنزل الله تعالى : { لَنَ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُم } أي يصعد إليه التقوى والعمل الصالح ، وهذا قول ابن عباس .
{ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ } أي ذللها لكم يعني الأنعام
. { لِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ } يحتمل وجهين
: أحدهما : يعني التسمية عند الذبح .
والثاني : لتكبروا عند الإِحلال بدلاً من التلبية في الإِحرام .
{ عَلَى مَا هَداكُمْ } أي ما أرشدكم إليه من حجكم
. { وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ } يحتمل وجهين
: أحدهما : بالقبول .
والثاني : بالجنة .


إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)

{ إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ ءَامَنُواْ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : بالكفار عن المؤمنين ، وبالعصاة عن المطيعين ، وبالجهال عن العلماء .
والثاني : يدفع بنور السنة ظلمات البدعة ، قاله سهل بن عبد الله .
قوله عز وجل : { وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ } فيه ستة تأويلات :
أحدها : ولولا دفع الله المشركين بالمسلمين ، وهذا قول ابن جريج .
الثاني : ولولا دفع الله عن الدين بالمجاهدين ، وهذا قول ابن زيد .
والثالث : ولولا دفع الله بالنبيين عن المؤمنين ، وهذا قول الكلبي .
والرابع : ولولا دفع الله بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عمن بعدهم من التابعين ، وهذا قول علي بن أبي طالب كرم الله وجهه .
والخامس : ولولا دفع الله بشهادة الشهود على الحقوق ، وهذا قول مجاهد .
والسادس : ولولا دفع الله على النفوس بالفضائل ، وهذا قول قطرب .
ويحتمل عندي تأويلاً سابعاً : ولولا دفع الله عن المنكر بالمعروف .
{ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ } فيه قولان
: أحدها : أنها صوامع الرهبان ، وهذا قول مجاهد .
والثاني : أنها مصلى الصابئين ، وهو قول قتادة .
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « صَوْمَعَةُ المُؤْمِنِ بَيْتُه » وسميت صومعة لانضمام طرفيها ، والمنصمع : المنضم ، ومنه أذنٌ صمعاء .
{ وَبِيَعٌ } فيها قولان
: أحدهما : أنها بيع النصارى ، وهو قول قتادة .
والثاني : أنها كنائس اليهود ، وهو قول مجاهد ، والبيعة اسم أعجمي مُعَرَّب .
{ وَصَلَوَاتٌ } فيها قولان
: أحدهما : أنها كنائس اليهود يسمونها : صلوتا ، فعرب جمعها ، فقيل صلوات ، وهذا قول الضحاك .
والثاني : معناه : وتركت صلوات ، ذكره ابن عيسى .
{ وَمَسَاجِدُ } المسلمين ، ثم فيه قولان
: أحدهما : لهدمها الآن المشركون لولا دفع الله بالمسلمين ، وهو معنى قول الضحاك .
والثاني : لهدمت صوامع في أيام شريعة موسى ، وبيع في أيام شريعة عيسى ومساجد في أيام شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ، وهذا قول الزجاج ، فكان المراد بهدم كل شريعة ، الموضع الذي يعبد الله فيه .


وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)

قوله عز وجل : { وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ } فيها ثلاثة أوجه
: أحدها : يعني خالية من أهلها لهلاكها .
والثاني : غائرة الماء .
والثالث : معطلة من دلالتها وأرشيتها .
{ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : أن المشيد الحصين وهو قول الكلبي ، ومنه قول امرىء القيس :
وتيماء لم يترك بها جذع نخلةٍ ... ولا أطماً إلا مشيراً بجندل
والثاني : أن المشيد الرفيع ، وهو قول قتادة ، ومنه قول عدي بن زيد :
شاده مرمراً وجلله كل ... ساً فللطير في ذراه وُكورُ
والثالث : أن المشيد المجصص ، والشيد الجص ، وهو قول عكرمة ومجاهد ومنه قول الطرماح :
كحية الماء بين الطين والشيد ... وفي الكلام مضمر محذوف وتقديره : وقصر مشيد مثلها معطل ، وقيل إن القصر والبئر بحضرموت من أرض اليمن معروفان ، وقصرِ مشرف على قلة جبل ولا يرتقى إليه بحال ، والبئر في سفحه لا تقر الريح شيئاً سقط فيها إلا أخرجته ، وأصحاب القصور ملوك الحضر ، وأصحاب الآبار ملوك البوادي ، أي فأهلكنا هؤلاء وهؤلاء .
قوله عز وجل : { أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا } هذا يدل على أمرين : على أن العقل علم ، ويدل على أن محله القلب .
وفي قوله : { يَعْقِلُونَ بِهَا } وجهان :
أحدهما : يعملون بها ، لأن الأعين تبصر والقلوب تصير .
{ أَوْ ءَاذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا } أي يفقهون بها ما سمعوه من أخبار القرون السالفة .
{ فَإنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي في الصُّدورِ } يحتمل عندي وجهين :
أحدهما : أنها لا تعمى الأبصار عن الهدى ولكن تعمى القلوب عن الاهتداء .
والثاني : فإنها لا تعمى الأبصار عن الاعتبار ولكن تعمى القلوب عن الادّكار .
قال مجاهد : لكل إنسان أربع أعين : عينان في رأسه لدنياه ، وعينان في قلبه لآخرته ، فإن عميت عينا رأسه وأبصرت عينا قلبه لم يضره عماه شيئاً ، وإن أبصرت عينا رأسه وعميت عينا قلبه لم ينفعه نظره شيئاً .
قال قتادة : نزلت هذه الآية في ابن أم مكتوم الأعمى وهو عبد الله بن زائدة .


وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48)

قوله تعالى : { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ } يستبطئون نزوله بهم استهزاء منهم .
{ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ } ولن يؤخر عذابه عن وقته
. { وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفْ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : أن يوماً من الأيام التي خلق الله فيها السموات والأرض كألف سنة ، قاله مجاهد .
الثاني : أن طول يوم من أيام الآخرة كطول ألف سنة من أيام الدنيا في المدة .
الثالث : أن ألم العذاب في يوم من أيام الآخرة كألف سنة من أيام الدنيا في الشدة وكذلك يوم النعيم .


قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51)

قوله تعالى : { وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي ءَآيِاتِنَا } فيه وجهان
: أحدهما : أنه تكذيبهم بالقرآن ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : أنه عنادهم في الدين ، قاله الحسن .
{ مُعَجِزِينَ } قراءة ابن كثير وأبي عمرو ، وقرأ الباقون { مُعَاجِزِينَ } فمن قرأ معجزين ففي تأويله أربعة أوجه :
أحدها : مثبطين لمن أراد اتباع النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو قول السدي .
الثاني : مثبطين في اتباع النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو قول مجاهد .
والثالث : مكذبين ، حكاه ابن شجرة .
الرابع : مَعَجِزِينَ لمن آمن بإظهار تعجيزة في إيمانه .
ومن قرأ { مُعَاجِزِينَ } ففي تأويله أربعة أوجه :
أحدها : مشاققين ، قاله ابن عباس .
والثاني : متسارعين ، حكاه ابن شجرة .
والثالث : معاندين ، قاله قطرب .
والرابع : مُعَاجِزِينَ يظنون أنهم يُعْجِزُونَ الله هرباً ، قاله السدي .


وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54)

قوله تعالى : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلآَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِه } فيه تأويلان :
أحدهما : يعني أنه إذا حدّث نفسه ألقى الشيطان في نفسه ، قاله الكلبي .
الثاني : إذا قرأ ألقى الشيطان في قراءته ، قاله قتادة ومجاهد ، قال الشاعر :
تمنى كتاب الله أول ليله ... وآخره لاقى حمام المقادِرِ
{ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ . . . } فيه قولان
: أحدهما : أن الرسول والنبي واحد ، ولا فرق بين الرسول والنبي ، وإنما جمع بينهما لأن الأنبياء تخص البشر ، والرسل تعم الملائكة والبشر .
والقول الثاني : أنهما مختلفان ، وأن الرسول أعلى منزلة من النبي .
واختلف قائل هذا في الفرق بين الرسول والنبي على ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن الرسول هو الذي تتنزل عليه الملائكة بالوحي ، والنبي يوحى إليه في نومه .
والثاني : أن الرسول هو المبعوث إلى أُمَّةٍ ، والنبي هو المحدث الذي لا يبعث إلى أمة ، قاله قطرب .
والثالث : أن الرسول هو المبتدىء بوضع الشرائع والأحكام ، والنبي هو الذي يحفظ شريعة الله ، قاله الجاحظ .
{ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ } أي يرفعه
. { ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ ءَآيَاتِهِ } أي يثبتها ، واختلف أهل التأويل فيما قرأه النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك على أربعة أقاويل :
أحدها : أنه ألقاه الشيطان على لسانه فقرأه ساهياً .
الثاني : أنه كان ناعساً فألقاه الشيطان على لسانه فقرأه في نعاسه قاله قتادة .
الثالث : أن بعض المنافقين تلاه عن إغواء الشيطان فخيل للناس أنه من تلاوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حكاه ابن عيسى .
الرابع : إنما قال : هي كالغرانيق العلا - يعني الملائكة - وأن شفاعتهم لترتجى ، أي في قولكم ، قاله الحسن .
سبب نزول هذه الآية ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت عليه سورة النجم . قرأها في المسجد الحرام حتى بلغ { أَفَرَأَيْتُمْ اللاَّتَ وَالْعُزَّى ، وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى } [ النجم : 19-20 ] ألقى الشيطان على لسانه « أولئك الغرانيق العلا . وأن شفاعتهن لترتجى » ثم ختم السورة وسجد . وسجد معه المسلمون والمشركون ورفع الوليد بن المغيرة تراباً إلى جبهته فسجد عليه ، وكان شيخاً كبيراً لا يقدر على السجود ، ورضي بذلك كفار قريش ، وسمع بذلك من هاجر لأرض الحبشة . فأنكر جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم ما قرأه ، وشق ذلك عليه فأنزل الله تعالى :
{ وَمَا أرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِه } .
قوله تعالى : { لِّيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً } فيه وجهان :
أولهما : محنة .
الثاني : اختباراً . { لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } أي نفاق
. { وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ } يعني المشركين
. { وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ } فيه وجهان
: أحدهما : لفي ضلال طويل ، قاله السدي .
الثاني : لفي فراق للحق بعيد إلى يوم القيامة ، قاله يحيى بن سلام .


وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (57)

{ وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ } يعني في شك { مِّنْهُ } من القرآن { حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً } فيه وجهان
: أحدهما : ساعة القيامة على من يقوم عليه من المشركين ، قاله الحسن .
الثاني : ساعة موتهم .
{ أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ } فيه قولان
: أحدهما : يوم القيامة ، قاله عكرمة ، والضحاك .
الثاني : يوم بدر ، قاله مجاهد ، وقتادة .
وفي العقيم وجهان :
أحدهما : أنه الشديد ، قاله الحسن .
الثاني : أنه الذي ليس له مثيل ولا عديل ، قال يحيى بن سلام : لقتال الملائكة فيه .
ويحتمل ثالثاً : أن يكون العقيم هو الذي يجدب الأرض ويقطع النسل .


وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59) ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60)

قوله تعالى : { ذلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ } الآية ، فيها قولان
: أحدهما : أنها نزلت في قوم من مشركي قريش لقوا قوماً من المسلمين لليلتين بقيتا من المحرم فحملوا عليهم فناشدهم المسلمون ألا يقاتلوهم في الشهر الحرام فأبوا فأظفر الله المسلمين فنزل ذلك فيهم ، حكاه النقاش .
الثاني : أنها في قوم من المشركين مثلوا بقوم من المسلمين قتلوهم يوم أحد فعاقبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثله فنزل ذلك فيهم ، حكاه ابن عيسى . ونصر الله في الدنيا بالغلبة والقهر ، وفي الآخرة بالحجبة والبرهان .


ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65) وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ (66)

قوله تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : أن الحق اسم من أسمائه تعالى ، قاله يحيى ابن سلام .
الثاني : أنه ذو الحق ، قاله ابن عيسى .
الثالث : معناه أن عبادته حق وهو معنى قول السدي .
{ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ } فيه قولان
: أحدهما : الأوثان ، قاله الحسن .
الثاني : إبليس ، قاله قتادة .


لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (67) وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72)

قوله تعالى : { مَنسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ } فيه أربعة أوجه
: أحدها : أنه العيد ، قاله ابن قتيبة .
الثاني : أنها المواضع المعتادة لمناسك الحج والعمرة ، قاله الفراء .
الثالث : المذبح ، قاله الضحاك .
الرابع : المنسك الْمُتَعَبد والنسك العِبَادَة ومنه سمي العَابِدُ ناسكاً ، قاله الحسن .


يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74)

قوله تعالى : { يَأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ } لأن حجج الله عليهم بضرب الأمثال لهم أقرب لأفهامهم : فإن قيل فأين المثل المضروب؟ ففيه وجهان :
أحدهما : أنه ليس هنا مثل ومعنى الكلام أنهم ضربوا لله مثلاُ في عبادته غيره ، قاله الأخفش .
الثاني : أنه ضرب مثلهم كمن عبد من لا يخلق ذباباً ، قاله ابن قتيبة .
{ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ } يحتمل ثلاثة أوجه
: أحدها : أنهم الأوثان الذين عبدوهم من دون الله .
الثاني : أنهم السادة الذين صَرَفُوهُم عن طاعة الله .
الثالث : أنهم الشياطين الذين حملوهم على معصية الله .
{ لَن يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُواْ لَهُ } ليعلمهم أن العبادة إنما تكون للخالق المنشىء دون المخلوق المنشأ ، وخص الذباب لأربعة أمور تخصه : لمهانته وضعفه واستقذاره وكثرته ، وسُمِّي ذباباً لأنه يُذَبُّ احتقاراً واستقذاراً .
{ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ } يحتمل وجهين
: أحدهما : إفساده لثمارهم وطعامهم حتى يسلبهم إياها .
والثاني : أَلَمُهُ في قرض أبدانهم ، فإذا كان هذا الذي هو أضعف الحيوان وأحقره لا يقدر من عبدوه من دون الله على خلق مثله ودفع أذيته فكيف يكونون آلهة معبودين وأرباباً مُطَاعين وهذا من أقوى حجة وأوضح برهان .
ثم قال : { ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالمَطْلُوبِ } يحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون عائداً إلى العَابِد والمَعْبُود ، فيكون في معناه وجهان :
أحدهما : أن يكون عائداً إلى العابد والمعبود .
الثاني : قهر العابد والمعبود .
والاحتمال الثاني : أن يكون عائداً للسالب فيكون في معناه وجهان :
أحدهما : ضعف للسالب عن القدرة والمسلوب عن النُصْرَة .
الثاني : ضعف السالب بالمهانة والمسلوب بالاستكانة .
{ وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } فيه ثلاثة تأويلات
: أحدها : ما عظموه حق عظمته ، قاله الفراء .
الثاني : ما عرفوه حق معرفته ، قاله الأخفش .
الثالث : ما وصفوه حق صفته ، قاله قطرب . قال ابن عباس : نزلت في يهود المدينة حين قالواْ استراح الله في يوم السبت .


اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76)

قوله تعالى : { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمُ } فيه ثلاثة أقاويل
: أحدها : ما بين أيديهم : ما كان قبل خلق الملائكة والأنبياء ، وما خلفهم : ما يكون بعد خلقهم ، حكاه ابن عيسى .
الثاني : ما بين أيديهم : أول أعمالهم ، وما خلفهم آخر أعمالهم ، قاله الحسن .
الثالث : ما بين أيديهم من أمر الآخرة وما خلفهم من أمر الدنيا ، قاله يحيى بن سلام .
ويحتمل رابعاً : ما بين أيديهم : من أمور السماء ، وما خلفهم : من أمور الأرض .


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)

قوله تعالى : { وَجَاهِدُواْ فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِِهِ } قال السدي : اعملوا لله حق عمله ، وقال الضحاك أن يطاع فلا يعصى ويُذْكر فلا يُنْسَى ويُشْكر فلا يُكْفَر . وهو مثل قوله تعالى : { اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ } [ آل عمران : 102 ] .
واختلف في نسخها على قولين :
أحدهما : أنها منسوخة بقوله تعالى : { فَاتَقُواْ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } [ التغابن : 16 ] .
والثاني : أنها ثابتة الحكم لأن حق جهاده ما ارتفع معه الحرج ، روى سعيد بن المسيب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « خَيْرُ دِيْنِكُمْ أَيْسَرَهُ
» . { هُوَ اجْتَبَاكُمْ } أي اختاركم لدينه
. { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ في الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } يعني من ضيق ، وفيه خمسة أوجه :
أحدها : أنه الخلاص من المعاصي بالتوبة .
الثاني : المخرج من الأيمان بالكفارة .
الثالث : أنه تقديم الأهلة وتأخيرها في الصوم والفطر والأضحى ، قاله ابن عباس .
الرابع : أنه رخص السفر من القصر والفطر .
الخامس : أنه عام لأنه ليس في دين الإٍسلام ما لا سبيل إلى الخلاص من المأثم فيه .
{ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمُ } فيه أربعة أوجه
: أحدها : أنه وسع عليكم في الدين كما وسع ملة أبيكم إبراهيم .
الثاني : وافعلوا الخير كفعل أبيكم إبراهيم .
الثالث : أن ملة إبراهيم وهي دينه لازمة لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وداخلة في دينه . الرابع : أن علينا ولاية إبراهيم وليس يلزمنا أحكام دينه .
{ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هذَا } فيه وجهان
: أحدهما : أن الله سماكم المسلمين من قبل هذا القرآن وفي هذا القرآن ، قاله ابن عباس ومجاهد .
الثاني : أن إبراهيم سماكم المسلمين ، قاله ابن زيد احتجاجاً بقوله تعالى : { ومن ذريتنا أمة مسلمة لك } [ البقرة : 128 ] .
{ لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ } فيه وجهان
: أحدهما : ليكون الرسول شهيداً عليكم في إبلاغ رسالة ربه إليكم ، وتكونوا شهداء على الناس تُبَلِغُونَهُم رسالة ربهم كما بلغتم إليهم ما بلغه الرسول إليكم .
الثاني : ليكون الرسول شهيداً عليكم بأعمالكم وتكونوا شهداء على الناس بأن رُسُلَهُم قد بَلَّغُوهم .
{ فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ } يعني المفروضة
. { وَءَآتُواْ الزَّكَاةِ } يعنى الواجبة
. { وَاعْتَصَمُواْ بِاللَّهِ } فيه وجهان
: أحدهما : امتنعوا بالله ، وهو قول ابن شجرة .
والثاني : معناه تمسّكوا بدين الله ، وهو قول الحسن .
{ هُوَ مَوْلاَكُمْ } فيه وجهان
: أحدهما : مَالِكُكُم .
الثاني : وليكم المتولي لأموركم .
{ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصَيرُ } أي فنعم المولى حين لم يمنعكم الرزق لما عصيتموه ، ونعم النصير حين أعانكم لما أطعتموه .


قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)

{ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : معناه قد سعد المؤمنون ومنه قول لبيد :
فاعقلي إن كنت لم تعقلي ... إنما أفلح من كان عقل
الثاني : أن الفلاح البقاء ومعناه قد بقيت لهم أعمالهم ، وقيل : إنه بقاؤهم في الجنة ، ومنه قولهم في الأذان : حي على الفلاح أي حي على بقاء الخير قال طرفة بن العبد :
أفبعدنا أو بعدهم . . ... . يرجى لغابرنا الفلاح
الثالث : أنه إدْراك المطالب قال الشاعر :
لو كان حي مدرك الفلاح ... أدركه ملاعب الرماح
قال ابن عباس : المفلحون الذين أدركوا ما طلبوا ونجوا من شر ما منه هربوا . روى عمر بن الخطاب قال كان النبي صل الله عليه وسلم إذا نزل عليه القرآن يسمع عند وجهه دويٌ كدوي النحل ، فنزل عليه يوماً فلما سرى عنه استقبل القبلة ورفع يديه ثم قال : « اللَّهُمَّ زِدْنَا وَلاَ تُنْقِصْنَا ، وَأَكْرِمْنَا وَلاَ تُهِنَّا ، وَأَعْطِنَا وَلاَ تَحْرِمْنَا ، وَآثِرْنَا وَلاَ تُؤْثِرْ عَلَينَا ، وَأَرْضِنَا وَارْضَ عَنَّا » ثم قال : « لَقَدْ أَنْزَلَ عَلَيَّ عَشْرَ أَيَاتٍ مَنْ أَقَامَهُنَّ دَخَلَ الْجَنَّةَ » ثم قرأ علينا { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ } حتى ختم العشر . روى أبو عمران الجوني قال قيل لعائشة ما كان خُلُق رسول الله صل الله عليه وسلم؟ ، قالت أتقرأُون سورة المؤمنون؟ قيل : نعم ، قالت اقرأُوا فقرىء عليها { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ } حتى بَلَغَ { يَحَافِظُونَ } .
فقالت : هكذا كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قوله تعالى : { الَّذِيِنَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ } فيه خمسة أوجه :
أحدها : خائفون ، وهوقول الحسن ، وقتادة .
والثاني : خاضعون ، وهو قول ابن عيسى .
والثالث : تائبون ، وهو قول إبراهيم .
والرابع : أنه غض البصر ، وخفض الجناح ، قاله مجاهد .
الخامس : هو أن ينظر إلى موضع سجوده من الأرض ، ولا يجوز بصره مُصَلاَّهُ ، فقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع بصره إلى السماء فنزلت : { الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ } فصار لا يجوِّز بصره مُصَلاَّهُ .
فصار في محل الخشوع على هذه الأوجه قولان :
أحدهما : في القلب خاصة ، وهو قول الحسن وقتادة .
والثاني : في القلب والبصر ، وهو قول الحسن وقتادة .
قوله : { وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ } فيه خمسة أوجه :
أحدها : أن اللغو الباطل ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنه الكذب ، قاله ابن عباس .
الثالث : أنه الحلف ، قاله الكلبي .
الرابع : أنه الشتم لأن كفار مكة كانوا يشتمون المسلمين فهو عن الإِجابة ، حكاه النقاش .
الخامس : أنها المعاصي كلها ، قاله الحسن .
قوله : { أُوْلئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ } روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « مَا مِنْكُم إِلاَّ لَهُ مَنزِلاَنِ : مَنزِلٌ فِي الجَنَّةِ وَمَنزِلٌ فِي النَّارِ ، فَإِن مَاتَ وَدَخَلَ النَّارَ ، وَرِثَ أَهْلُ الجَنَّةِ مَنْزِلَهُ ، وإِنْ مَاتَ وََدَخَلَ الجَنَّةَ ، وَرِثَ أَهْلُ النَّارِ مَنزِلَهُ ، فَذلِكَ قولَه { أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ } » ثم بيَّن ما يرثون فقال :
{ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ } فيه خمسة أوجه
: أحدها : أنه اسم من أسماء الجنة ، قاله الحسن .
الثاني : أنه أعلى الجنان قاله قطرب .
الثالث : أنه جبل الجنة الذي تتفجر منه أنهار الجنة ، قاله أبو هريرة .
الرابع : أنه البستان وهو رومي معرب ، قاله الزجاج .
الخامس : أنه عربي وهو الكرم ، قاله الضحاك .


وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16)

قوله : { وَلَقَدْ خَلَقنَا الإِنْسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ } فيه قولان
: أحدهما : آدم استل من طين ، وهذا قول قتادة ، وقيل : لانه اسْتُلَ من قِبَل ربه .
والثاني : أن المعني به كل إنسان ، لأنه يرجع إلى آدم الذي خلق من سلالة من طين ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وقيل : لأنه استل من نطفة أبيه ، والسلالة من كل شيء صفوته التي تستل منه ، قال الشاعر :
وما هند إلا مهرة عربية ... سليلة أفراسٍ تجلّلها بغل
وقال الزجاج : السلالة القليل مما ينسل ، وقد تُسَمَّى ، المضغة سلالة والولد سلالة إما لأنهما صفوتان على الوجه الأول ، وإما لأنهما ينسلان على الوجه الثاني ، وحكى الكلبي : أن السلالة الطين الذي إذا اعتصرته بين أصابعك خرج منه شيء ، ومنه قول الشاعر :
طوت أحشاء مرتجةٍ لوقت ... على مشج سلالته مهينُ
وحكى أبان بن تغلب أن السلالة هي التراب واستشهد بقول أمية بن أبي الصلت .
خلق البرية من سلالة منتن ... وإلى السلالة كلها ستعود
{ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطّْفَةً } النطفة هي ماء الذكر الذي يعلق منه الولد ، وقد ينطلق اسم النطفة على كل ماء ، قال بعض شعراء هذيل :
وأنهما لحرّابا حروب ... وشرّابان بالنطف الظوامي
قوله تعالى : { فِي قَرَارٍ مَّكينٍ } يعني بالقرار الرحم ، ومكين : أي متمكن قد هيىء لاستقراره فيه .
{ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً } العلقة الدم الطري الذي خلق من النطفة سُمّيَ علقة لأنه أول أحوال العلوق .
{ فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً } وهي قدر ما يمضغ من اللحم
. { فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمَاً } وإنما بين الله أن الإِنسان تنتقل أحوال خلقه ليعلم نعمته عليه وحكمته فيه ، وإن بعثه بعد الموت حياً أهون من إنشائه ولم يكن شيئاً .
{ ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ } فيه أربعة أوجه
: أحدها : يعني بنفخ الروح فيه ، وهذا قول ابن عباس والكلبي .
والثاني : بنبات الشعر ، وهذا قول قتادة .
والثالث : أنه ذكر و أنثى ، وهذا قول الحسن .
والرابع : حين استوى به شبابه ، وهذا قول مجاهد .
ويحتمل وجهاً خامساً : أنه بالعقل والتمييز .
روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه لما نزلت هذه الآية إلى قوله : { ثَمَّ أَنشَأنَاهُ خَلْقَاً آخَرَ } . قال عمر بن الخطاب : فتبارك الله أحسن الخالقين فنزلت : { فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ } .


وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17)

قوله : { سَبْعَ طَرآئِقَ } أي سبع سموات ، وفي تسميتها طرائق ثلاثة أوجه
: أحدها : لأن كل طبقة على طريقة من الصنعة والهيئة .
الثاني : لأن كل طبقة منها طريق الملائكة ، قاله ابن عيسى .
الثالث : لأنها طباق بعضها فوق بعض ، ومنه أخذ طراق الفحل إذا أطبق عليها ما يمسكها ، قاله ابن شجرة ، فيكون على الوجه الأول مأخوذاً من التطرق ، وعلى الوجه الثاني مأخوذاً من التطارق .
{ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلقِ غَافِلِينَ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : غافلين عن حفظهم من سقوط السماء عليهم ، قاله ابن عيسى .
الثاني : غافلين عن نزول المطر من السماء عليهم ، قاله الحسن .
الثالث : غافلين ، أي عاجزين عن رزقهم ، قاله سفيان بن عيينة .
وتأول بعض المتعمقة في غوامض المعاني سبع طرائق : أنها سبع حجب بينه وبين ربه ، الحجاب الأول قلبه ، الثاني جسمه ، الثالث نفسه ، الرابع عقله ، الخامس علمه ، السادس إرادته ، السابع مشيئته توصله إن صلحت وتحجبه إن فسدت ، وهذا تكلف بعيد .


وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18) فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (19) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (21) وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22)

قوله تعالى : { وَشَجَرةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنآءَ } هي شجر الزيتون ، وخصت بالذكر لكثرة منفعتها وقلة تعاهدها .
وفي طور سيناء خمسة تأويلات :
أحدها : أن سيناء البركة فكأنه قال جبل البركة ، قاله ابن عباس ، ومجاهد .
الثاني : أنه الحسن المنظر ، قاله قتادة .
الثالث : أنه الكثير الشجر ، قاله ابن عيسى .
الرابع : أنه اسم الجبل الذي كلم الله عليه موسى ، قاله أبو عبيدة .
الخامس : أنه المرتفع مأخوذ من النساء ، وهو الارتفاع فعلى هذا التأويل يكون اسماً عربياً وعلى ما تقدم من التأويلات يكون اسماً أعجمياً واختلف القائلون بأعجميته على ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه سرياني ، قاله ابن عباس .
الثاني : نبطي .
الثالث : حبشي .
{ تَنْبُتْ بِالدُّهْنِ } اختلف في الدهن هنا على قولين
: أحدهما : أن الدهن هنا المطر اللين ، قاله محمد بن درستويه ، ويكون دخول الباء تصحيحاً للكلام .
الثاني : أنه الدهن المعروف أي بثمر الدهن .
وعلى هذا اختلفوا في دخول الباء على وجهين :
أحدهما : أنها زائدة وأنها تنبت الدهن ، قاله أبو عبيدة وأنشد :
نضرب بالسيف ونرجو بالفرج ... فكانت الباء في بالفرج زائدة كذلك في الدهن وهي قراءة ابن مسعود
. الثاني : أن الباء أصل وليست بزائدة ، وقد قرىء تنبت بالدهن بفتح التاء الأولى إذا كانت التاء أصلاً ثابتاً . فإن كانت القراءة بضم التاء الأولى فمعناه تنبت وينبت بها الدهن ومعناهما إذا حقق متقارب وإن كان بينهما أدنى فرق . وقال الزجاج : معناه ينبت فيها الدهن ، وهذه عبرة : أن تشرب الماء وتخرج الدهن .
{ وَصِبْغٍ لِّلآكِلِينَ } أي إدام يصطبغ به الآكلون ، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « الزَّيتُ مِنْ شَجَرةٍ مُبَارَكَةٍ فَائْتَدِمُواْ بِهِ وَادَّهِنُوا » وقيل إن الصبغ ما يؤتدم به سوى اللحم .


وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (23) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25)

قوله عز وجل : { مَا سَمِعْنَا بِهذَا فِي ءَابَائِنَا الأَوَّلِينَ } فيه وجهان
: أحدهما : ما سمعنا بمثل دعوته .
والثاني : ما سمعنا بمثله بشراً أتى برسالة من ربه .
وفي أبائهم الأولين وجهان :
أحدهما : أنه الأب الأدنى ، لأنه أقرب ، فصار هو الأول .
والثاني : أنه الأب الأبعد لأنه أوّل أبٍ وَلدَك .
{ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ } فيه وجهان
: أحدهما : حتى يموت .
الثاني : حتى يستبين جنونه .


قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30)

قوله : { وَفَارَ التَّنُّورَ } فيه أربعة أقاويل
: أحدها : تنور الخابزة ، قاله الكلبي .
الثاني : أنه آخر مكان في دارك ، قاله أبو الحجاج .
الثالث : أنه طلوع الفجر ، قاله علي رضي الله عنه .
الرابع : أنه مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لاشتداد الأمر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : « الآن حَمِيَ الوَطِيسُ » قاله ابن بحر .
قوله تعالى : { وَقُل رَّبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلاً مُّبَارَكاً } قراءة الجمهور بضم الميم وفتح الزاي ، وقرأ عاصم في رواية بكر بفتح الميم وكسر الزاي والفرق بينهما أن المُنزَلَ بالضم فعل النزول وبالفتح موضع النزول .
{ وَأَنتَ خَيْرٌ الْمُنزِلِينَ } في ذلك قولان
: أحدهما : أن نوحاً قال ذلك عند نزوله في السفينة فعلى هذا يكون قوله مباركاً يعني بالسلامة والنجاة .
الثاني : أنه قاله عند نزوله من السفينة ، قاله مجاهد . فعلى هذا يكون قوله مباركاً يعني بالماء والشجر .


ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (32) وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (34) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (39) قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (40) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41)

قوله تعالى : { إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : يموت منا قوم ويحيا منا قوم ، قاله ابن عيسى .
الثاني : يموت قوم ويولد قوم ، قاله يحيى بن سلام ، قال الكلبي ، يموت الآباء ويحيا الأبناء .
الثالث : أنه مقدم ومؤخر معناه نحيا ونموت وما نحن بمبعوثين ، قاله ابن شجرة .
قوله : { فَجَعَلْنَاهُمْ غُثآءً } أي هلكى كالغثاء ، وفي الغثاء ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه البالي من الشجر ، وهذا قول ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة .
والثاني : ورق الشجر إذا وقع في الماء ثم جف ، وهذا قول قطرب .
والثالث : هو ما احتمله الماء من الزبد والقذى ، ذكره ابن شجرة وقاله الأخفش .
{ فَبُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } فيه وجهان
: أحدهما : فبعداً لهم من الرحمة كاللعنة ، قاله ابن عيسى .
الثاني : فبعداً لهم في العذاب زيادة في الهلاك ، ذكره أبو بكر النقاش .


ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ (42) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (44)

قوله : { ثَمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى } فيه قولان
: أحدهما : متواترين يتبع بعضهم بعضاً ، قاله ابن عباس ، ومجاهد .
الثاني : منقطعين بين كل اثنين دهر طويل وهذا تأويل من قرأ بالتنوين .
وفي اشتقاق تترى ثلاثة أقاويل .
أحدها : أنه مشتق من وتر القوس لاتصاله بمكانه منه ، قاله ابن عيسى . وهو اشتقاقه على القول الأول .
الثاني : أنه مشتق من الوتر وهو الفرد لأن كل واحد بعد صاحبه فرد ، قاله الزجاج ، وهو اشتقاقه على التأويل الثاني .
الثالث : أنه مشتق من التواتر ، قاله ابن قتيبة ويحتمل اشتقاقه التأويلين معاً .


ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (45) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (46) فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49)

قوله : { قَوْماً عَالِينَ } فيه أربعة أوجه
: أحدها : متكبرين ، قاله المفضل .
الثاني : مشركين ، قاله يحيى بن سلام .
الثالث : قاهرين ، قاله ابن عيسى .
الرابع : ظالمين ، قاله الضحاك .
قوله : { . . . وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : مطيعون ، قاله ابن عيسى .
الثاني : خاضعون ، قاله ابن شجرة .
الثالث : مستبعدون ، قاله يحيى بن سلام .
الرابع : ما قاله الحسن كان بنو إسرائيل يعبدون فرعون وكان فرعون يعبد الأصنام .


وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50)

قوله : { وَجَعَلْنَا ابْنَ مرْيَمَ وَأُمَّهُ ءَايَةً } فآيته أن خلق من غير ذكر وآيتها أن حملت من غير بعل ، ثم تكلم في المهد فكان كلامه آية له ، وبراءة لها .
{ وَءَاوَيْنَا هُمَآ إِلَى رَبْوَةٍ } الآية . الربوة ما ارتفع من الأرض وفيه قولان :
أحدهما : أنها لا تسمى ربوة إلا إذا اخضرت بالنبات وربت ، وإلاّ قيل نشز اشتقاقاً من هذا المعنى واستشهاداً بقول الله تعالى : { كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ } [ البقرة : 65 ] ويقول الشاعر :
طوى نفسه طيّ الحرير كأنه ... حوى جنة في ربوة وهو خاشع
الثاني : تسمى ربوة وإن لم تكن ذات نبات قال امرؤ القيس :
فكنت هميداً تحت رمس بربوة ... تعاورني ريحٌ جنوب وشمألُ
وفي المراد بها هنا أربعة أقاويل
: أحدها : الرملة ، قاله أبو هريرة .
الثاني : دمشق ، قاله ابن جبير .
الثالث : مصر ، قاله ابن زيد .
الرابع : بيت المقدس . قاله قتادة ، قال كعب الأحبار ، هي أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلاً .
وفي : { ذَاتِ قَرَارٍ } أربعة أوجه :
أحدها : ذات استواء ، قاله ابن جبير .
الثاني : ذات ثمار ، قاله قتادة .
الثالث : ذات معيشة تقرهم ، قاله الحسن .
الرابع : ذات منازل تستقرون فيها ، قاله يحيى بن سلام .
وفي { مَعَينٍ } وجهان :
أحدهما : أنه الجاري ، قاله قتادة .
الثاني : أنه الماء الطاهر ، قاله عكرمة ومنه قول جرير :
إن الذين غروا بلبك غادروا ... وشلاً بعينك ما يزال معينا
أي ظاهراً ، في اشتقاق المعين ثلاثة أوجه
: أحدها : لأنه جار من العيون ، قاله ابن قتيبة فهو مفعول من العيون .
الثاني : أنه مشتق من المعونة .
الثالث : من الماعون .


يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56)

قوله : { وإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدةً } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : دينكم دين واحد ، قاله الحسن ، ومنه قول الشاعر :
حلفت فلم أترك لنفسك ريبةً ... وهل يأتَمن ذو أمة وهو طائع
الثاني : جماعتكم جماعة واحدة ، حكاه ابن عيسى
. الثالث : خلقكم خلق واحد .
قوله : { فَتَقَطَّعُواْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ } فيه وجهان :
أحدهما : ففرقوا دينهم بينهم قاله الكلبي .
الثاني : انقطع تواصلهم بينهم . وهو محتمل .
{ زُبُراً } فيه تأويلان
: أحدهما يعني قطعاً وجماعات ، قاله مجاهد ، والسدي ، وتأويل من قرأ بفتح الباء .
الثاني : يعني ، كتباً ، قاله قتادة ، وتأويل من قرأ بضم الباء ومعناه ، أنهم تفرقوا الكتب ، فأخذ كل فريق منهم كتاباً ، آمن به وكفر بما سواه .
{ كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } فيه وجهان
: أحدهما : كل حزب بما تفردوا به من دين وكتاب فرحون .
والثاني : كل حزب بما لهم من أموال وأولاد فرحون .
وفي فرحهم وجهان :
أحدهما : أنه سرورهم .
والثاني : أنها أعمالهم .
قوله عز وجل : { فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ } فيها أربعة تأويلات :
أحدها : في ضلالتهم ، وهو قول قتادة .
والثاني : في عملهم ، وهو قول يحيى بن سلام .
والثالث : في حيرتهم ، وهو قول ابن شجرة .
والرابع : في جهلهم ، وهو قول الكلبي .
{ حَتَّى حِينٍ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : حتى الموت .
والثاني : حتى يأتيهم ما وعدوا به ، وهو يوم بدر .
والثالث : أنه خارج مخرج الوعيد كما تقول للتوعد : لك يوم ، وهذا قول الكلبي .
قوله عز وجل : { أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ } أي نعطيهم ونزيدهم من أموال وأولاد .
{ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ } فيه وجهان
: أحدهما : نجعله في العامل خيراً .
والثاني : أنما نريد لهم بذلك خيراً .
{ بَل لاَّ يَشْعُرُونَ } فيه وجهان
: أحدهما : بل لا يشعرون أنه استدراج .
والثاني : بل لا يشعرون أنه اختبار .


إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61)

قوله تعالى : { وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَآ ءَاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ } فيه وجهان
: أحدهما : يعني الزكاء .
الثاني : أعمال البر كلها .
{ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ } أي خائفة
. قال بعض أصحب الخواطر : وجل العارف من طاعته أكثر من وجِلِه من مخالفته لأن المخالفة تمحوها التوبة ، والطاعة تطلب لتصحيح الغرض .
{ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ } فيه وجهان
: أحدهما : يخافون ألا ينجوا من عذابه إذا قدموا عليه .
الثاني : يخافون أن لا تقبل أعمالهم إذا عرضت عليهم . روته عائشة مرفوعاً .
قوله عز وجل : { أُوْلئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ } يحتمل وجهين :
أحدهما : يستكثرون منها لأن المسارع مستكثر .
الثاني : يسابقون إليها لأن المسارع سابق .
{ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ } فيه وجهان
: أحدهما : وهم بها سابقون إلى الجنة .
الثاني : وهم إلى فعلها سابقون .
وفيه وجه ثالث : وهم لمن تقدمهم من الأمم سابقون ، قاله الكلبي .


وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63) حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ (65) قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67)

قوله عز وجل : { بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمرَةٍ مِّنْ هذا } فيه وجهان
: أحدهما : في غطاء ، قاله ابن قتيبة .
والثاني : في غفلة قاله قتادة .
{ مِنْ هذا } فيه وجهان
: أحدهما : من هذا القرآن ، وهو قول مجاهد .
الثاني : من هذا الحق ، وهو قول قتادة .
{ وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِن دُونِ ذلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ } فيه وجهان
: أحدهما : خطايا [ يعملونها ] من دون الحق ، وهو قول قتادة .
الثاني : أعمال [ رديئة ] لم يعملوها وسيعملونها ، حكاه يحيى ابن سلام .
ويحتمل وجهاً ثالثاً : أنه ظلم المخلوقين مع الكفر بالخالق . قوله عز وجل : { حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِم بِالْغَذَابِ } فيهم وجهان :
أحدهما : أنهم الموسع عليهم بالخصب ، قاله ابن قتيبة . والثاني : بالمال والولد ، قاله الكلبي ، فعلى الأول يكون عامّاً وعلى الثاني يكون خاصاً .
{ إذَا هُم يَجْأَرُونَ } فيه أربعة تأويلات
: أحدها : يجزعون ، وهو قول قتادة .
الثاني : يستغيثون ، وهوقول ابن عباس .
والثالث : يصيحون ، وهو قول علي بن عيسى .
والرابع : يصرخون إلى الله تعالى بالتوبة ، فلا تقبل منهم ، وهو قول الحسن . قال قتادة نزلت هذه الآية في قتلى بدر ، وقال ابن جريج { حَتَّى إِذَا أَخذْنَا مُتْرَفِيهِم بِالْعَذَابِ } هم الذين قتلواْ ببدر .
قوله عز وجل : { وَكُنتُم عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : تستأخرون ، وهو قول مجاهد .
والثاني : تكذبون .
والثالث : رجوع القهقرى . ومنه قول الشاعر :
زعموا أنهم على سبل الحق وأنا نكص على الأعقاب .
وهو أي النكوص ، موسع هنا ومعناه ترك القبول .
{ مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ } أي بحرمة الله ، ألا يظهر عليهم فيه أحد ، وهو قول ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، وقتادة .
ويحتمل وجهاً آخر : مستكبرين بمحمد أن يطيعوه ، وبالقرآن أن يقبلوه .
{ سَامِراً تَهْجُرونَ } سامر فاعل من السمر . وفي السمر قولان
: أحدهما : أنه الحديث ليلاً ، قاله الكلبي ، وقيل به : سمراً تهجرون .
والثاني : أنه ظل القمر ، حكاه ابن عيسى ، والعرب تقول حلف بالسمر والقمر أي بالظلمة والضياء ، لأنهم يسمرون في ظلمة الليل وضوء القمر ، والعرب تقول أيضاً : لا أكلمه السمر والقمر ، أي الليل والنهار ، وقال الزجاج ومن السمر أخذت سمرة اللون . وفي { تَهْجُرُونَ } وجهان :
أحدهما : تهجرون الحق بالإِعراض عنه ، قاله ابن عباس .
والثاني : تهجرون في القول بالقبيح من الكلام ، قاله ابن جبير ، ومجاهد .
وقرأ نافع { تُهْجِرُونَ } بضم التاء وكسر الجيم وهو من هجر القول . وفي مخرج هذا الكلام قولان :
أحدهما : إنكار تسامرهم بالإِزراء على الحق مع ظهوره لهم .
الثاني : إنكاراً منهم حتى تسامروا في ليلهم والخوف أحق بهم .


أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (70) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (74) وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75)

قوله : { وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ } في الحق هنا قولان
: أحدهما : أنه الله ، قاله الأكثرون .
الثاني : أنه التنزيل أي لو نزل بما يريدون لفسدت السموات والأرض .
وفي اتباع أهوائهم قولان :
أحدهما : لو اتبع أهواءهم فيما يشتهونه .
الثاني : فيما يعبدونه .
{ لَفَسَدَتِ السَّموَاتُ وَالأَرْضُ } يحتمل وجهين
: أحدهما : لفسد تدبير السموات والأرض ، لأنها مدبرة بالحق لا بالهوى .
الثاني : لفسدت أحوال السموات والأرض لأنها جارية بالحكمة لا على الهوى .
{ وَمَن فِيهِنَّ } أي ولفسد من فيهن ، وذلك إشارة إلى من يعقل من ملائكة السموات وإنس الأرض ، وقال الكلبي : يعني ما بينهم من خلق ، وفي قراءة ابن مسعود لفسدت السموات والأرض وما بينهما ، فتكون على تأويل الكلبي ، وقراءة ابن مسعود ، محمولاً على فساد ما لا يعقل من حيوان وجماد ، وعلى ظاهر التنزيل في قراءة الجمهور يكون محمولاً على فساد ما يعقل وما لا يعقل من الحيوان ، لأن ما لا يعقل تابع لما يعقل في الصلاح والفساد . فعلى هذا يكون من الفساد ما يعود على من في السموات من الملائكة بأن جعلت أرباباً وهي مربوبة ، وعبدت وهي مستعبدة .
وفساد الإِنس يكون على وجهين :
أحدهما : باتباع الهوى . وذلك مهلك .
الثاني : بعبادة غير الله . وذلك كفر .
وأما فساد الجن فيكون بأن يطاعوا فيطغوا .
وأما فساد ما عدا ذلك فيكون على وجه التبع بأنهم مدبرون بذوي العقول .
فعاد فساد المدبرين عليهم .
{ بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ } فيه وجهان
: أحدهما : عنى ببيان الحق لهم ، قاله ابن عباس .
الثاني : بشرفهم لأن الرسول صلى الله عليه وسلم منهم . والقرآن بلسانهم ، قاله السدي ، وسفيان .
ويحتمل ثالثاً : بذكر ما عليهم من طاعة ولهم من جزاء .
{ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعِرِضُونَ } فيه وجهان
: أحدهما : فهم عن القرآن معرضون ، قاله قتادة .
الثاني : عن شرفهم معرضون ، قاله السدي .
قوله : { أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً } يعني أمراً .
{ فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ } فيه وجهان
: أحدهما : فرزق ربك في الدنيا خير منهم ، قاله الكلبي .
الثاني : فأجر ربك في الآخرة خيرٌ منه ، قاله الحسن .
وذكر أبو عمرو بن العلاء الفرق بين الخرج والخراج فقال : الخرج من الرقاب : والخراج من الأرض .
قوله : { عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : لعادلون ، قاله ابن عباس .
الثاني : لحائدون ، قاله قتادة .
الثالث : لتاركون ، قاله الحسن .
الرابع : لمعرضون ، قاله الكلبي ، ومعانيها متقاربة .


وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76) حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (78) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (80) بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (81) قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83)

قوله : { حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً } الآية . فيه ثلاثة أقاويل
: أحدها : أنه دعاء النبي صلى الله عليه وسلم عليه فقال : « اللَّهُمّ اجْعَلْهَا عَلَيهِم سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ فَقَحَطُوا سَبْعَ سِنِينَ حَتَّى أَكَلُوا الْعَلْهَزَ مِنَ الجُوعِ وَهُوَ الوَبَرُ بالدَّمِ » قاله مجاهد
. الثاني : أنه قتلهم بالسيف يوم بدر ، قاله ابن عباس .
الثالث : يعني باباً من عذاب جهنم في الآخرة ، قاله بعض المتأخرين .
{ مُبْلِسُونَ } قد مضى تفسيره
. قوله : { وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأَرْضِ } فيه وجهان :
أحدهما : خلقكم ، قاله الكلبي ويحيى بن سلام .
الثاني : نشركم ، قاله ابن شجرة .
قوله : { وَلَهُ اخْتِلاَفُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ } فيه قولان :
أحدهما : بالزيادة والنقصان .
الثاني : تكررهما يوماً بعد ليلة وليلة بعد يوم .
ويحتمل ثالثاً : اختلاف ما مضى فيهما من سعادة وشقاء وضلال وهدى .


قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90) مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92)

قوله : { مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ } فيه وجهان
: أحدهما : خزائن كل شيء ، قاله مجاهد .
الثاني : ملك كل شيء ، قاله الضحاك . والملكوت من صفات المبالغة كالجبروت والرهبوت .
{ وَهُوَ يُجِيرُ وَلاَ يُجَارُ علَيْهِ } أي يمنع ولا يُمنع منه ، فاحتمل ذلك وجهين
: أحدهما : في الدنيا ممن أراد هلاكه لم يمنعه منه مانع ، ومن أرد نصره لم يدفعه من نصره دافع .
الثاني : في الآخرة لا يمنعه من مستحقي الثواب مانع ولا يدفعه من مستوجب العذاب دافع .
{ فأَنَّى تُسْحَرونَ } فيه وجهان
: أحدهما : فمن أي وجه تصرفون عن التصديق بالبعث .
الثاني : فكيف تكذبون فيخيل لكم الكذب حقاً .


قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ (95) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98)

قوله : { ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أحْسَنُ السَّيِئَةَ } فيه خمسة أقاويل
: أحدها : بالإغضاء والصفح عن إساءة المسيء ، قاله الحسن .
الثاني : ادفع الفحش بالسلام ، قاله عطاء والضحاك .
الثالث : ادفع المنكر بالموعظة ، حكاه ابن عيسى .
الرابع : معناه امسح السيئة بالحسنة هذا قول ابن شجرة .
الخامس : معناه قابل أعداءك بالنصيحة وأولياءك بالموعظة ، وهذا وإن كان خطاباً له عليه السلام فالمراد به جميع الأمة .
قوله : { وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ } فيه أربعة أوجه : أحدها : من نزغات .
الثاني : من إغواء .
الثالث : أذاهم .
الرابع : الجنون .
{ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ } أي يشهدوني ويقاربوني في وجهان
: أحدهما في الصلاة عند تلاوة القرآن . قال الكلبي .
والثاني : في أحواله كلها ، وهذا قول الأكثرين .


حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)

قوله : { وَمِن ورَآئِهِمْ بَرْزَخٌ } الآية . أي من أمامهم برزخٌ ، البرزخ الحاجز ومنه قوله تعالى : { بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ } [ الرحمن : 20 ] وفيه خمسة أقاويل .
أحدها : أنه حاجز بين الموت والبعث ، قاله ابن زيد .
الثاني : حاجز بين الدنيا والآخرة . قاله الضحاك .
الثالث : حاجز بين الميت ورجوعه للدنيا ، قاله مجاهد .
الرابع : أن البرزخ الإِمهال ليوم القيامة ، حكاه ابن عيسى .
الخامس : هو الأجل ما بين النفختين وبينهما أربعون سنة ، قاله الكلبي .


فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104)

قوله : { فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ } فيه وجهان
: أحدهما : أي لا يتعارفون للهول الذي قد أذهلهم .
الثاني : أنهم لا يتواصلون عليها ولا يتقابلون بها مع تعارفهم لقوله تعالى : { يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرءُ مِنْ أَخيهِ } [ عبس : 34 ]
{ وَلاَ يَتَسَاءَلُونَ } فيه وجهان
: أحدهما : لا يتساءلون أن يحمل بعضهم عن بعض ، أو يعين بعضهم بعضاً ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : لا يسأل بعضهم بعضاً عن خبره لانشغال كل واحد بنفسه قاله ابن عيسى .


أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107)

قوله : { قَالُواْ رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا } فيه وجهان
: أحدهما : الهوى .
الثاني : حسن الظن بالنفس وسوء الظن بالخلق .


قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111)

{ قَالَ اخْسَئُواْ فِيهَا } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : معناه اصغروا والخاسىء الصاغر ، قاله الحسن ، والسدي .
الثاني : أن الخاسىء الساكت الذي لا يتكلم ، قاله قتادة .
الثالث : ابعدوا بعد الكلب ، قاله ابن عيسى .
{ وَلاَ تُكَلِّمُونِ } فيه وجهان
: أحدهما : لا تكلمون في دفع العذاب عنكم .
الثاني : أنهم زجروا عن الكلام ، غضباً عليهم ، قاله الحسن ، فهو آخر كلام يتكلم به أهل النار .
{ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً } قرأ بضم السين نافع ، وحمزة ، والكسائي ، وقرأ الباقون بكسرها . واختلف في الضم والكسر على قولين .
أحدهما : أنهما لغتان ، ومعناهما سواء وهما من الهزء .
الثاني : أنها بالضم من السُخرة والاستعباد وبالكسر من السخرية والاستهزاء .


قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113) قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116)

قوله : { قَالَ كَمْ لَبِثْتُم فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ } فيه وجهان
: أحدهما : أنه سؤال لهم من مدة حياتهم في الدنيا ، قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم ، استقلالاً لحياتهم في الدنيا لطول لبثهم في عذاب جهنم .
الثاني : أنه سؤال لهم عن مدة لبثهم في القبور وهي حالة لا يعلمونها فأجابوا بقصرها لهجوم العذاب عليهم ، وليس بكذب منهم لأنه إخبار عما كان عندهم .
{ فَاسْئَلِ الْعَادِّينَ } فيه قولان
: أحدهما : الملائكة ، قاله مجاهد .
الثاني : الحُسّابُ ، قاله قتادة .


وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)

قوله : { وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً ءَآخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ } فيه وجهان
: أحدهما : معناه ليس له برهان ولا صحة بأن مع الله إلهاً آخر .
الثاني : أن هذه صفة الإله الذي يدعى من دون الله أن لا برهان له .
{ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّكَ } فيه وجهان
: أحدهما : يعني أن محاسبته عند ربه يوم القيامة .
الثاني : أن مكافأته على ربه والحساب المكافأة ، ومنه قولهم حسبي الله . أي كفاني الله تعالى ، والله أعلم وأحكم .


سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2)

قوله تعالى : { سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا } أي هذه سورة أنزلناها ويحتمل أن يكون قد خصها بهذا الافتتاح لأمرين :
أحدهما : أن المقصود الزجر والوعيد فافتتحت بالرهبة كسورة التوبة .
الثاني : أن فيها تشريفاً للنبي صلى الله عليه وسلم بطهارة نسائه فافتتحت بذكر والسورة اسم للمنزلة الشريفة ولذلك سميت السورة من القرآن سورة قال الشاعر :
ألم تَرَ أنَّ اللَّهَ أعْطَاكَ سُورةً ... ترى كُلَّ مَلْكٍ دُونَها يَتَذَبْذَبُ
{ وَفَرَضْنَاهَا } فيه قراءتان بالتخفيف وبالتشديد
. فمن قرأ بالتخفيف ففي تأويله وجهان :
أحدهما : فرضنا فيها إباحة الحلال وحظر الحرام ، قاله مجاهد .
الثاني : قدرنا فيها الحدود من قوله تعالى : { فنصف ما فرضتم } [ البقرة : 237 ] أي قدرتم ، قاله عكرمة .
ومن قرأ بالتشديد ففي تأويله وجهان :
أحدهما : معناه تكثير ما فرض فيها من الحلال والحرام ، قاله ابن عيسى .
الثاني : معناه بيناها ، قاله ابن عباس .
{ وَأَنزَلْنَا فِيهآ ءَايَاتٍ بَيِّناتٍ } فيه وجهان
: أحدهما : أنها الحجج الدالة على توحيده ووجوب طاعته .
الثاني : أنها الحدود والأحكام التي شرعها .
قوله تعالى : { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِاْئَةَ جَلْدَةٍ } وإنما قدم ذكر الزانية على الزاني لأمرين :
أحدهما : أن الزنى منها أعَرُّ ، وهو لأجل الحَبَل أضر .
الثاني : أن الشهوة فيها أكثر وعليها أغلب ، وقدر الحد فيه بمائة جلدة من الحرية والبكارة ، وهو أكثر حدود الجلد ، لأن فعل الزنى أغلظ من القذف بالزنى ، وزادت السنة على الجلد بتغريب عام بعده ، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : « خُذُواْ عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً ، البِكْرُ بِالبِكْرِ جَلْدُ مَائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ » ومنع العراقيون من التغريب اقتصاراً على الجلد وحده ، وفيه دفع السنة والأثر .
والجلد مأخوذ من وصول الضرب إلى الجلد . فأما المحصنان فحدهما الرجم بالسنة إما بياناً لقوله تعالى في سورة النساء : { فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً } [ النساء : 15 ] على قول فريق : وإما ابتداء فرض على قول آخرين . وروى زر بن حبيش عن أُبَيٍّ أن في مصحفه من سورة الأحزاب ذكر الرجم : « إِذَا زَنَى الشَّيخُ وَالشَّيخَةُ فَارْجُمَوهُمَا البَتَّةَ نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
» . { وَلاَ تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ } أي في طاعة الله ، وقد يعبر بالدين عن الطاعة .
{ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } أي إن كنتم تقيمون طاعة الله قيام من يؤمن بالله واليوم الآخر ، والرأفة الرحمة ولم ينه عنها لأن الله هو الذي يوقعها في القلوب وإنما نهى عما تدعو الرحمة إليه ، وفيه قولان :
أحدهما : أن تدعوه الرحمة إلى إسقاط الحد حتى لا يقام ، قاله عكرمة .
الثاني : أن تدعوه الرحمة إلى تخفيف الضرب حتى لا يؤلم ، قاله قتادة .
واستنبط هذا المعنى الجنيد فقال : الشفقة على المخالفين كالإِعراض عن المواقعين { وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا } يعني بالعذاب الحد يشهده عند الإِقامة طائفة من المؤمنين ، ليكونوا زيادة في نكاله وبينة على إقامة حده واختلف في عددهم على أربعة أقاويل :
أحدها : أربعة فصاعداً ، قاله مالك والشافعي .
الثاني : ثلاثة فصاعداً ، قاله الزهري .
الثالث : اثنان فصاعداً ، قال عكرمة .
الرابع : واحد فصاعداً ، قاله الحسن ، وإبراهيم .
ولما شرط الله إيمان من يشهد عذابهما ، قال بعض أصحاب الخواطر : لا يشهد مواضع التأديب إلا من لا يستحق التأديب .


الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)

قوله : { الزَّانِي لاَ يَنكِحُ إلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً . . . } الآية . فيه خمسة أوجه :
أحدها : أنها نزلت مخصوصة في رجل من المسلمين استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأة يقال لها أم مهزول كانت من بغايا الجاهلية من ذوات الرايات وشرطت له أن تنفق عليه فأنزل الله هذه الآية فيه وفيها قاله عبد الله بن عمرو ، ومجاهد .
الثاني : أنها نزلت في أهل الصفة ، وكانوا قوماً من المهاجرين فقراء ولم يكن لهم بالمدينة مساكن ولا عشائر ، فنزلوا صفة المسجد ، وكانواْ نحو أربعمائة رجل يلتمسون الرزق بالنهار ويأوون إلى الصفة في الليل ، وكان بالمدينة بغايا متعالنات بالفجور مما يصيب الرجال بالكسوة والطعام ، فهمَّ أهل الصفة أن يتزوجوهن ليأووا إلى مساكنهن وينالوا من طعامهن وكسوتهن فنزلت فيهن هذه الآية ، قاله أبو صالح .
الثالث : معناه أن الزاني لا يزني إلا بزانية والزانية لا يزني بها إلا زان ، قاله ابن عباس .
الرابع : أنه عامٌّ في تحريم نكاح الزانية على العفيف ونكاح العفيفة على الزاني ثم نسخ بقوله تعالى : { فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النَّسَاءِ } [ النساء : 3 ] قاله ابن المسيب
. الخامس : أنها مخصوصة في الزاني المحدود لا ينكح إلا زانية محدودة ولا ينكح غير محدودة ولا عفيفة ، والزانية المحدودة لا ينكحها إلا زان محدود ، ولا ينكحها غير محدود ولا عفيف ، قاله الحسن ، ورواه أبو هريرة مرفوعاً .
{ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } فيه وجهان
: أحدهما : الزنى .
الثاني : نكاح الزوانى .


وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)

قوله : { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ } يعني بالزنى
. { ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدآءِ } يعني ببينة على الزنى
. { فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً } وهذا حد أوجبه الله على القاذف للمقذوفة يجب بطلبها ويسقط بعفوها ، وفيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه من حقوق الآدميين ، لوجوبه بالطلب ، وسقوطه بالعفو ، وهذا مذهب الشافعي .
الثاني : من حقوق الله لأنه لا ينتقل إلى مال ، وهذا مذهب أبي حنيفة .
الثالث : أنه من الحقوق المشتركة بين حق الله وحق الآدميين لتمازج الحقين وهذا مذهب بعض المتأخرين .
ولا يكمل حد القذف بعد البلوغ والعقل إلى بحريتهما وإسلام المقذوف وعفافه ، فإن كان المقذوف كافراً أو عبداً عُزِّر قاذفه ولم يحد ، وإن كان القاذف كافراً حُدّ حدّاً كاملاً ، وإن كان عبداً حُدّ نصف الحد .
{ وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلِئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } وهذا مما غلظ الله به القذف حتى علق به من التغليظ ثلاثة أحكام : وجوب الحد ، والتفسيق وسقوط الشهادة . ولم يجعل في القذف بغير الزنى حَدّاً لما في القذف بالزنى من تعدّي المعرّة إلا الأهل والنسل .
قوله : { إِلاَّ الَّذِينَ تابواْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُواْ } الآية . التوبة من القذف ترفع الفسق ولا تسقط الحدّ . واختلفوا في قبول الشهادة على أربعة أقوال :
أحدها : تقبل شهادته قبل الحد وبعده لارتفاع فسقه وعوده إلى عدالته وهذا مذهب مالك والشافعي وبه قال جمهور المفسرين .
الثاني : لا تقبل شهادته أبداً ، لا قبل الحد ولا بعده ، وهذا مذهب شريح .
الثالث : أنه تقبل شهادته بالتوبة قبل الحد ولا تقبل بعده ، وهذا مذهب أبي حنيفة .
الرابع : تقبل شهادته بعد الحد ولا تقبل قبله ، وهذا مذهب إبراهيم النخعي قال الشعبي : تقبل توبته ولا تقبل شهادته .
وفي صفة التوبة قولان :
أحدهما : أنها بإكذابه نفسه وقد رواه الزهري عن ابن المسيب أن عمر بن الخطاب جلد أبا بكرة وشبل بن معبد ونافع بن الحارث بن كلدة وقال لهم : من أكذب نفسه أحرز شهاته فأكذب نفسه شبل ونافع ، وأبى أبو بكرة أن يفعل ، قال الزهري ، وهو والله السنة فاحفظوه .
الثاني : أن توبته منه تكون بصلاح حاله وندمه على قذفه والاستغفار منه وترك العود إلى مثله ، قاله ابن جرير .


وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)

قوله : { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَآءُ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ } يعني بالزنى .
{ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَآءُ } يعني يشهدون بالزنى إلى أنفسهم وهذا حكم خص الله به الأزواج في قذف نسائهم ليلاعنوا فيذهب حد القذف عنهم .
وفي سبب ذلك قولان :
أحدهما : ما رواه عكرمة عن ابن عباس أن هلال بن أمية أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس مع أصحابه فقال : يا رسول الله إني جئت أهلي عشاء فوجدت رجلاً مع أهلي رأيت بعيني بأذني فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أتاه به وثقل عليه حتى أنزل الله فيه هذه الآية .
الثاني : ما رواه الأوزاعي عن الزهري عن سهل بن سعد عويمر أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله رجل وجد مع امرأته رجلاً أيقتله فتقتلونه أم كيف يصنع؟ فأنزل الله هذه الآية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ القُرْآنَ فِيكَ وَفِي صَاحِبَتِكَ » فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالملاعنة فلاعنها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « انظرواْ فَإِنْ جَاءتْ بِهِ أَسْحَمَ أَدْعَجَ العَينَينِ عَظِيمَ الأَلِيَتِينِ خَدْلَجَ السَّاقِينِ فَلاَ أَحْسَبُ عُوَيمِراً إِلاَّ قَدْ صَدَقَ عَلَيهَا ، وَإنْ جَاءَتْ بِهِ أُحَيمِرَ كَأَنَّهُ وَحْرَةٌ فَلاَ أَرَاهُ إِلاَّ كَاذباً » فجاءت به على النعت الذي نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في تصديق عويمر وكان بعد ينسب إلى أمه ، قال سعيد بن جبير : ولقد صار أميراً بمصر وإنه ينسب إلى غير أب .
فإذا قذف الرجل زوجته بالزنى كان له اللعان منها إن شاء ، وإن لم يكن ذلك لقاذف سواه ، لأن الزوج لنفي نسب ليس منه ورفع فراش قد عرّه مضطر إلى لعانها دون غيره ، فإذا أراد ذلك لاعن بينهما حاكم نافذ الحكم في الجامع على المنبر أو عنده ، ويبدأ بالزوج وهي حاضرة فيقول : أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما قذفت به زوجتي هذه من الزنى بفلان إذا ذكره في قذفه ، وإن لم يذكره في لعانه كان لعانه نافذاً . وإن أراد نفي ولدها قال : إن هذا الولد من زنى ما هو مني فإذا أكمل ما وصفنا أعاده أربعاً كما قال الله تعالى :
{ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِم أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ } والشهادة هنا يمين عبر عنها بلفظ الشهادة في قول مالك والشافعي ، وقال أبو حنيفة هي شهادة فرد بها لعان الكافر والمملوك ولو كانت شهادة ما جاز أن تشهد لنفسها وبلعنها ، والعرب تسمي الحلف بالله تعالى شهادة كما قال قيس بن الملوح :
وأشهَدُ عِنْدَ اللَّه أنِّي أُحِبُّها ... فهذَا لَهَا عِندي فَمَا عِنْدَها لِيا
أي أحلف بالله فيما وصفتها من الزنى ، وهو تأويل قوله : { وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ } فإذا أكمل الخامسة فقد أكمل لعانه ، فتلاعن هي بعده على المنبر أو عنده فتقول وهو حاضر : أشهد بالله أن زوجي فلاناً هذا من الكاذبين فيما رماني به من الزنى وأن هذا - إن كان الزوج قد نفى في لعانه ولده منها - ما هو من زنى ، تقول كذلك أربعاً ، وهو تأويل قوله تعالى :

{ وَيَدْرَؤُاْ عَنْهَا الْعَذَابَ } أي يدفع ، وفي هذا العذاب قولان
: أحدهما : أنه الحد ، وهو مذهب مالك ، والشافعي .
الثاني : أنه الحبس ، وهو مذهب أبي حنيفة .
{ أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ باللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الكَاذِبِينَ } ثم تقول في الخامسة وأن عليّ غضب الله إن كان زوجي من الصادقين فيما رماني به من الزنى وهو تأويل قوله تعالى :
{ وَالْخَامِسَةُ أَنَّ غَضَبَ اللَّه عَلَيَهَا إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ } والغضب في لعانها بدلاً من اللعنة في لعان زوجها ، وإذا تم اللعان وقعت الفرقة المؤبدة بينهما ، وبماذا تقع؟ فيه أربعة أقاويل :
أحدها : بلعان الزوج وحده وهو مذهب الشافعي .
الثاني : بلعانهما معاً ، وهو مذهب مالك .
الثالث : بلعانهما وتفريق الحاكم بينهما ، وهو مذهب أبي حنيفة .
والرابع : بالطلاق الذي يوقعه الزوج بعد اللعان ، وهو مذهب أحمد بن حنبل ثم حرمت عليه أبداً .
واختلفوا في إحلالها له إن أكذب بعد اللعان نفسه على قولين :
أحدهما : تحل ، وهو مذهب أبي حنيفة .
والثاني : لا تحل ، وهو مذهب مالك والشافعي . وإذا نفى الزوج الولد باللعان لحق بها دونه ، فإن أكذب نفسه لحق به الولد حياً أو ميتاً ، وألحقه أبو حنيفة به في الحياة دون الموت .
قوله تعالى : { وَلَولاَ فَضْلُ اللَّه عَلَيكُمْ وَرَحْمَتُهُ } في فضل الله ورحمته هنا وجهان :
أحدهما : أن فضل الله الإسلام ورحمته القرآن ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : أن فضل الله منه ، ورحمته نعمته ، قاله السدي .
وفي الكلام محذوف اختلف فيه على قولين :
أحدهما : أن تقديره : لولا فضل الله عليكم ورحمته بإمهاله حتى تتوبوا لهلكتم .
الثاني : تقديره : لولا فضل الله عليكم ورحمته بكم لنال الكاذب منكم عذابٌ عظيم .
{ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ } فيكون المحذوف على القول الأول الجواب وبعض الشرط ، وعلى الثاني الجواب وحده بعد استيفاء الشرط .


إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11)

قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ جَاءُو بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ } في الإِفك وجهان
: أحدهما : أنه الإِثم ، قاله أبو عبيدة .
الثاني : أنه الكذب . قال الشاعر :
شهيدٌ على الإِفك غَيْرِ الصَّوابِ ... وما شَاهِدُ الإِفك كَالأَحْنَفِ
{ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ } وهم زعماء الإِفك ، حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وعبد الله بن أبي بن سلول وزيد بن رفاعة وحمنة بنت جحش ، وسبب الإفك أن عائشة رضي الله عنها كانت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة المريسيع وهي غزوة بني المصطلق سنة ست فضاع عقد لها من جزع أطفار وقد توجهت لحاجتها فعادت في طلبه ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم من منزله فَرُفِعَ هودجها ولم يُشْعَرْ بها أنها ليست فيه لخفتها وعادت فلم تر في المنزل أحداً فأدركها صفوان بن المعطل فحملها على راحلته وألحقها برسول الله صلى الله عليه وسلم فتكلم فيها وفي صفوان من تكلم وقدمت المدينة وانتشر الإِفك وهي لا تعلم به ثم علمت فأخذها من ذلك شيء عظيم إلى أن أنزل الله براءتها بعد سبعة وثلاثين يوماً من قدوم المدينة هذه الآية .
و { لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } أي لا تحسبواْ ما ذكر من الإِفك شراً لكم بل هو خير لكم لأن الله قد بَرَّاً منه وأبان عليه .
وفي المراد بهذا القول قولان :
أحدهما : أن المقصود به عائشة وصفوان لأنهما قصدا بالإِفك ، قاله يحيى ابن سلام .
الثاني : أن المقصود به النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعائشة رضي الله عنهما ، قاله ابن شجرة .
{ لِكُلِّ امْرِىءٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ } أي له عقاب ما اكتسب من الإِثم بقدر إِثمه .
{ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ } الآية قرىء بكسر الكاف وضمها ، وفي الفرق بينما وجهان :
أحدهما : أن كبره بالضم معظمه وبالكسر مأثمه .
الثاني : أنه بالضم في النسب وبالكسر في النفس .
وفي متولي كبره قولان :
أحدهما : أنه عبد الله بن أبيّ ، والعذاب العظيم جهنم ، وهذا قول عائشة وعروة بن الزبير وابن المسيب .
الثاني : أنه مسطح بن أثاثة ، والعذاب العظيم ذهاب بصره في الدنيا :
حكاه يحيى بن سلام .


لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13)

قوله تعالى : { لَّوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ } هلا إذا سمعتم الإِفك
. { ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً } فيه وجهان
: أحدهما ظن بعضهم ببعض خيراً كما يظنون بأنفسهم .
الثاني : ظنواْ بعائشة عفافاً كظنهم بأنفسهم .
{ إِفْكٌ مُّبِينٌ } أي كذب بيِّن
. قوله تعالى : { لَّوْلاَ جَآءُو عَلَيِهِ } أي هلا جاءُوا عليه لو كانوا صادقين .
{ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءِ } يشهدون بما قالوه
. { فَإِذَا لَمْ يأْتُواْ بِالشُّهَدَآءِ } الآية . .


وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19)

قوله تعالى : { وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ } يحتمل وجهين
: أحدهما : أن يكون وعيداً بما له عند الله من العقاب .
الثاني : أريد به تكذيب المؤمنين الذي يصدقون ما أنزل الله من كتاب .
واختلف هل حد النبي صلى الله عليه وسلم أصحاب الإِفك على قولين :
أحدهما : أنه لم يحدّ أحداً منهم لأن الحدود إنما تقام بإقرار أو بينة ولم يتعبدنا الله أن نقيمها بإخباره عنها كما لم يتعبدنا بقتل المنافقين وإن أخبر بكفرهم .
والقول الثاني : أن النبي صلى الله عليه وسلم حد في الإِفك حسان بن ثابت وعبد الله بن أبي ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت حجش وكانوا ممن أفصح بالفاحشة رواه عروة بن الزبير وابن المسيب عن عائشة رضي الله عنها فقال بعض شعراء المسلمين :
لقد ذاق حسان الذي كان أهله ... وحمنةُ إذ قالا هجيراً ومسطح
وابن سلول ذاق في الحدّ خزيه ... كما خاض في إفك من القول يفصح
تعاطوْا برجم الغيب زوج نبيّهم ... وسخطة ذي العرش العظيم فأبرحوا
وآذواْ رسول الله فيها فجللوا ... مخازي تبقى عمموها وفضحواْ
فصبت عليهم محصدات كأنها ... شآبيب قطر من ذرى المزن تسفح
حكى مسروق أن حسان استأذن على عائشة فقلت أتأذنين له فقالت : أو ليس قد أصابه عذاب عظيم . فمن ذهب إلى أنهم حدوا زعم أنها أرادت بالعذاب بالعظيم الحد ، ومن ذهب إلى أنهم لم يحدّوا زعم أنها أرادت بالعذاب العظيم ذهاب بصره ، قاله سفيان . قال حسان بن ثابت يعتذر من الإفك :
حَصَانٌ رزانٌ ما تُزَنّ بِرِيبَةٍ ... وتُصْبِحُ غَرْثَى من لُحُومِ الغَوَافِلِ
فإن كنتُ قد قلتُ الذي بُلِّغْتُم ... فلا رَفَعَتْ سَوْطِي إليَّ أنامِلِي
فكيفَ ووُدِّي ما حَيِيتُ ونُصْرَتِي ... لآلِ رسُولِ اللَّهِ زَينِ المَحَافِلِ
قوله تعالى : { إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ } فيه وجهان
: أحدهما : هو أن تتحدث به وتلقيه بين الناس حتى ينتشر .
الثاني : أن يتلقاه بالقبول إذا حدث به ولا ينكره . وحكى ابن أبي مليكة أنه سمع عائشة تقرأ إذ تلِقونه بكسر اللام مخففة وفي تأويل هذه القراءة وجهان :
أحدهما : ترددونه ، قاله اليزيدي .
الثاني : تسرعون في الكذب وغيره ، ومنه قول الراجز :
. . . . . . . . . . . . . . . ... جَاءَتْ به عنسٌ من الشام تَلِقْ
أي تسرع .


وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21)

قوله تعالى : { لاَ تَبَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ } فيه أربعة أوجه
: أحدها : خطايا الشيطان ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : آثاره ، قاله ابن شجرة .
الثالث : هو تخطي الشيطان الحلال إلى الحرام والطاعة إلى المعصية ، قاله ابن عيسى .
الرابع : هو النذور في المعاصي ، قاله أبو مجلز .
ويحتمل خامساً : أن تكون خطوات الشيطان الانتقال من معصية إلى أخرى مأخوذ من نقل القدم بالخطو من مكان إلى مكان .


وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22) إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25)

قوله تعالى : { وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ } وقرىء ولا يتأل وفي اختلاف القراءتين وجهان :
أحدهما : أن معناهما متقارب واحد وفيه وجهان :
أحدهما : أي لا يقتصر مأخوذ من قولهم لا ألوت أي لا قصرت ، قاله ابن بحر .
الثاني : لا يحلف مأخوذ من الألية وهي اليمين .
- والقول الثاني : معناهما مختلف فمعنى يأتل أي يألو أو يقصر ، ومعنى يتأل أي يحلف .
{ أَن يُؤْتُواْ أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } أي لا يحلفوا ألاّ يبروّا هؤلاء ، وهذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه كان ينفق على مسطح بن أثاثة فلما خاض في الإِفك ونشره حلف أبو بكر ألا يبره وكان ابن خالته فنهاه الله عن يمينه وندبه إلى بره مع إساءته . وهذا معنى لا يألو جهداً فالمنهى عنه فيها التوقف عن بر من أساء وأن نقابله بالتعطف والإِغضاء ، فقال : { ولْيَعْفُواْ ولْيَصْفَحُواْ } وفيها وجهان
: أحدهما : أن العفو عن الأفعال والصفح عن الأقوال .
الثاني : أن العفو ستر الذنب من غير مؤاخذة والصفح الإِغضاء عن المكروه .
{ أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُم } أي كما تحبون أن يغفر الله لكم ذنوبكم فاغفروا لمن أساء إليكم ، فلما سمع أبو بكر هذا قال : بلى يا رب وعاد إلى برِّه وكفّر عن يمينه .


الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)

قوله تعالى : { الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبيثِينَ } الآية . فيه ثلاثة أقاويل
: أحدها : الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال ، والخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء ، والطيبات من النساء للطيبين من الرجال ، والطيبون من الرجال للطيبات من النساء ، قاله ابن زيد .
الثاني : الخبيثات من الأعمال للخبيثين من الناس والخبيثون من الناس للخبيثات من الأعمال والطيبات من الأعمال للطيبين من الناس ، والطيبون من الناس للطيبات من الأعمال قاله مجاهد وقتادة .
الثالث : الخبيثات من الكلام للخبيثين من الناس ، والخبيثون من الناس للخبيثات من الكلام ، والطيبات من الكلام للطيبين من الناس ، والطيبون من الناس للطيبات من الكلام قاله ابن عباس والضحاك . وتأول بعض أصحاب الخواطر : الخبيثات الدنيا ، والطيبات الآخرة .
{ أُوْلئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ } فيه ثلاثة أقاويل
: أحدها : أن عائشة وصفوان مبرآن من الإِفك المذكور فيهما ، قاله الفراء .
الثاني : أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مبرآت من الفواحش ، قاله ابن عيسى .
الثالث : أن الطيبين والطيبات مبرؤون من الخبيثين والخبيثات ، قاله ابن شجرة .


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (29)

قوله تعالى : { لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْر بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأُنِسُواْ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : حتى تستأذنوا . واختلف من قال بهذا التأويل فقال ابن عباس : أخطأ الكاتب فيه فكتب تستأنسوا وكان يقرأ : حتى تستأذنوا . وقال غيره : لأن الاستئذان مؤنس فعبر عنه بالاستئناس ، وليس فيه خطأ من كاتب ولا قارىء .
الثاني : معناه حتى تؤنسوا أهل البيت بالتنحنح فيعلموا بقدومك عليهم ، قاله مجاهد .
الثالث : أن تستأنسوا يعني أن تعلموا فيها أحداً استأذنوه فتسلموا عليه ومنه قوله تعالى : { فإن آنستم منهم رشداً } [ النساء : 6 ] أي علمتم ، قاله ابن قتيبة . وقال ابن الأعرابي الاستئناس الاستثمار ، والإيناس اليقين . والإذن يكون بالقول والإشارة . فإن جاهر فسؤال ، فقد روى قتادة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « رَسُولُ الرَّجُلِ إِذْنُهُ فَإِنِ اسْتَأَذَنَ ثَلاَثاً وَلَمْ يُؤْذَنْ لَه ولَّى فلم يُراجِعْ فِي الاسْتِئْذَانِ
» روى الحسن البصري أن [ أبا موسى ] الأشعري استأذن على عمر رضي الله عنه ثلاثاً فلم يؤذن له فرجع فأرسل إليه عمر فقال : ما ردّك؟ فقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مَنِ اسْتَأَذَنَ ثلاثاً فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فَلْيَرْجِع » فقال عمر : لتجيئني على بينة أو لأجعلنك نكالاً فأتى طلحة فشهد له قال الحسن : الأولى إذنٌ ، والثانية مؤامرة ، والثالثة : عزمة ، إن شاءواْ أذنوا وإن شاءوا ردوا .
ولا يستأذن وهو مستقبل الباب إن كان مفتوحاً ، وإن أذن لأول القوم فقد أذن لآخرهم ، ولا يقعدوا على الباب بعد الرد فإن للناس حاجات .
{ وَتُسَلِّمُواْ عَلَى أُهْلِهَا } والسلام ندب والاستئذان حتم . وفي السلام قولان :
أحدهما : أنه مسنون بعد الإذن على ما تضمنته الآية من تقديم الإِذن عليه .
الثاني : مسنون قبل الإذن وإن تأخر في التلاوة فهو مقدم في الحكم وتقدير الكلام حتى تسلموا وتستأذنوا لما روى محمد بن سيرين أن رجلاً استأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أأدخل؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لرجل عنده : « قُمْ فَعَلِّمْ هذَا كَيْفَ يَسْتَأْذِنُ فإِنَّهُ لَمْ يُحْسِنْ » فسمعها الرجل فسلم واستأذن .
وأولى من إطلاق هذين القولين أن ينظر فإن وقعت العين على العين قبل الإِذن فالأولى تقديم السلام ، وإن لم تقع العين على العين قبل الإذن فالأولى تقديم الاستئذان على السلام .
فأما الاستئذان على منازل الأهل فإن كانوا غير ذي محارم لزم الاستئذان عليهم كالأجانب وإن كانوا ذوي محارم وكان المنزل مشتركاً هو فيه وهم ساكنون لزم في دخوله إنذارهم إما بوطءٍ . أو نحنحة مفهمة إلا الزوجة فلا يلزم ذلك في حقها بحال لارتفاع العودة بينهما . وإن لم يكن المنزل مشتركاً ففي الاستئذان عليهم وجهان :
أحدهما : أنها النحنحة والحركة .
الثاني : القول كالأجانب . ورى صفوان عن عطاء بن يسار أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم : « أستأذن على أمي » ؟ فقال :

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق